الجامع العتيق في مالي دُرّة العمارة التقليدية بإفريقيا

الجامع العتيق في مالي دُرّة العمارة التقليدية بإفريقيا

يعدّ الجامع العتيق بمدينة جينيه في جمهورية مالي؛ إحدى عجائب إفريقيا، وواحدًا من أكثر العمائر الدينية ذات النمط التقليدي في العالم، إنه أعظم إنجاز للعمارة الساحلية، وأضخم بناء من الطين في العالم؛ يُتوصل إليه عبر أزقّة وحواري مدينة جينيه المبنية من الطوب اللّبِن، وهي مادة البناء الأساسية في المدينة. أسست مدينة جينيه بين عامي 800 و1250م، وازدهرت كمركز كبير للتجارة، وتعاليم الإسلام، وأصبح المسجد العتيق بالمدينة رمزًا للسكان المحليين بالمدينة، ومركزًا للحياة الدينية والثقافية في مُجتمع جينيه؛ كما أنها موقع لمهرجان سنوي يُعقد هناك يُطلق عليه بالفرنسية Crepissage de la Grand Mosquée؛ وبالإنجليزية Plastering of the Great Mosque. وتعني «طلاء الجامع الكبير بطبقة المِلاط» أو كسوته بالطين.

الراجح أنَّ جامع جينيه قد أنشئ في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي خلال فترة حكم الملك كوي كونبور (الحاكم السادس والعشرون لـ «جينيه»، وأول حاكم مسلم)؛ وهو الذي قرَّرَ استخدام المواد المحلية؛ وتقنيات التصميم التقليدية لبناء مكان للعبادة الإسلامية بالمدينة. وقد أضاف خلفاء كونبور بُرجين إلى المسجد، وأحاطوا المبنى الرئيسي بجدار، واستمر التوسع في المسجد على مرّ العصور.

كايلي يكتب عن مسجد جينيه
 كتب المستكشف الفرنسي رينيه كايلي عن هذا المسجد بالتفصيل خلال زيارته للمدينة سنة 1827م، وهو الأوربي الوحيد الذي شاهد النقش التذكاري قبل أن يتداعى؛ وكتب أنَّ المبنى في حالة سيئة لعدم العناية به، وعدم ترميمه، وذلك بسبب تعرّض المنطقة للسيول والأمطار، والرطوبة، وتضرّر المبنى المنشأ من الطوب اللبن والطين؛ والذي يحتاج إلى إعادة طلاء وكسوة بطبقة الملاط، حيث ذابت كسوته الخارجية من جرَّاء الأمطار (حسب وصف كايلي).
ومن المُحتمل أن تكون زيارته خلال فترة لم يكن قد تمَّ فيها تلبيس المسجد بالكسوة الطينية عدّة سنوات، وربما كانت مواسم الأمطار قد جرفت كل كسوته الطينية، وتآكلت من على الطوب اللبن.
 تَّم إعادة بناء المسجد بين عامي 1834 و1836م ليَحِلّ محل البناء الأصلي الذي تضرر؛ والذي جاء في كتابات كايلي عام 1827م. وظهر هذا البناء في رسوم الصحفي الفرنسي فليكس ديبوي عام 1896م بعد 3 سنوات من الاحتلال الفرنسي للمدينة.


   وكان الجامع الذي ظهر في رسوم ديبوي أكبر من سابقه؛ ويتضمن مجموعة من أبراج المآذن المنخفضة، ودعامات الأعمدة المتساوية، وقد اكتمل بناء المسجد عام 1907م، ويرى البعض أن الفرنسيين قاموا ببنائه خلال فترة احتلالهم للمدينة بدءًا من عام 1893م؛ ومع ذلك لا تُوجد وثائق تُعضّد هذه الدعاية.

الوصف المعماري للمسجد
أمَّا الجامع العتيق الذي نراه اليوم فهو عبارة عن مساحة مستطيلة مُحاطة جزئيًا بجدار خارجي، وجدرانه مُدعمة بأعمدة ضخمة مخروطية الشكل لزيادة التدعيم والصلابة للمسجد، وسقفه مفروش بالتراب لحماية المصلين من حرارة الشمس.
  ويبرز من سقف المسجد عدة فتحات أسطوانية الشكل مغطاة بأغطية خزفية، وظيفتها إدخال تيارات هواء باردة للمسجد لتلطيف درجة الحرارة داخل ظلّة القبلة.
وتنتهي قمم الأعمدة الداعمة لجدران المسجد بامتدادات مخروطية الشكل تنتهي بقمم تحمل بيض النعام (رمز الخصوبة والنقاء في مالي، ويُذكر أن الحشرات ومنها العقارب، تكره بيض النعام، وربّما يكون ذلك لمنعها والهوام من المسجد).
  كما تُوجد العديد من العوارض الخشبية لزيادة التدعيم والصلابة للمسجد، وتُستخدم كسقالات لإعادة طلاء المسجد بالكسوة الطينية وقت الاحتفال السنوي الذي يُعقد كل عام لهذا الغرض. ويضم المسجد قاعة مُخصصة للنساء، ومدخلًا يُفضي إلى قبور اثنين من القادة المحليين.
  وشُيدت جدران الجامع العتيق من الطوب اللبن الذي يُسمى محليًا «فيري»، وغُطيت بالطين المخلوط بالتبن، مما أضفى على الشكل العام نعومة واضحة. ويتراوح سُمك الجدران بين 40 و60 سم، حسب ارتفاعها، فكلما عَلا ارتفاعها، زاد سُمك الحوائط من أسفل، حتى يتسنّى لأساساته تحمّل هذا الثقل، وهذه الجدران الطينية تقي الداخل من الحرارة طول اليوم؛ وعندما يَحلّ المساء تكون الجدران قد امتصت من الحرارة ما يكفي لتدفئته.
وللمسجد ثلاث مآذن مربعة الشكل، كما تدعم الجدران 18 دعامة كل منها ينتهي بمخروط تقليدي، وللمبنى فناء أوسط كشقّ سماوي تُعادل مساحته مساحة بيت الصلاة، الذي يقوم على 90 عمودًا من الخشب، وتتخلل سقفه نوافذ تُفتح إذا ارتفعت درجة الحرارة فيه، والمسجد مُشيّد على دكة مساحتها 5625 مترًا (لذا يعدّ من المساجد المُعلّقة)، ويُصعد إليه بسلالم لتفادي الفيضانات في البلاد، ويعود إليها الفضل في حماية المبنى من الغرق حتى في أسوأ الفيضانات. 

مهرجان إعادة كسوة الجامع
يتم هذا الأمر خلال المهرجان السنوي الكبير الذي يُعقد كل عام لهذا الأمر، ويُطلق عليه بالفرنسية Crepissage de la Grand Mosquée، وفي هذا المهرجان تُساهم المدينة بكاملها في إعادة كسوة الجدار الخارجي للجامع، وذلك عن طريق خلط الطين المصنوع من التربة الغرينية التي يتم جلبها من النيجر، ومن نهر الباني، ويتَّولى الرجال من أهل المدينة هذه المهمة، ويقوم الموسيقيون بعملهم خلال الاحتفال؛ كما تُساهم النساء في توفير الماء اللازم لخلط الطين وعجنه، ويوجد كبار السن في موقع الاحتفال مبتهجين بهذا العرس والكرنفال السنوي، وتُقام لهم منصة شرف خاصة بهم في السوق التي يُطلّ عليها المسجد، ويُغني الصبية الصغار ويركضون ويلعبون في كل مكان، وهم يخلطون الطين بأقدامهم.
وقد صمد أهل جينيه أمام المحاولات المُتكررة لتغيير طابع الجامع العتيق بالمدينة، وطبيعة المهرجان السنوي؛ فحاول البعض قمع عزف الموسيقى أثناء الاحتفال؛ كما عرض المستثمرون المسلمون الأجانب إعادة بناء المسجد بالخرسانة المسلحة، إلّا أنَّ أهل المدينة رفضوا، وقد سعى مُجتمع جينيه للحفاظ على التراث الثقافي والطابع الفريد للجامع العتيق.
وفي عام 1988م، تم تحديد بلدة جينيه بأكملها موقعًا للتراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو، لأنها عُدت من أكبر المراكز التعليمية في إفريقيا، وواحدة من أبرز مكونات التراث الثقافي والمعماري في إفريقيا ■

الجامع من الداخل

العمال يقومون باستبدال وتغطية واجهات الجامع بالطين المخلوط بالتبن مما يضفي على الشكل العام نعومة واضحة 

مدخل الباب الرئيسي للجامع العتيق