«آن بألف ممدودة» رواية كلاسيكية برؤية إخراجية معاصرة

«آن بألف ممدودة» رواية كلاسيكية برؤية إخراجية معاصرة

«آن في المرتفعات الخضراء» هي الرواية الأولى للكندية لوسي مونتغمري، والتي مازالت تُقرأ وتحظى بالإعجاب، رغم مرور أكثر من مئة عام على صدورها، وذلك لروعة تفاصيلها وسحر كلماتها.
 ولأنها تحمل نظرة تفاؤلية بحياة أفضل، فقد قامت شبكة سي بي سي الكندية بإحياء الرواية من جديد في دراما تلفزيونية «Anne Within E»، برؤية إخراجية جديدة حققت بها اندماجًا بين التكيّف المعاصر وكلمات مونتغمري. 

تتحدث القصة عن فتاة يتيمة ذات شَعر أحمر ووجه منمّش، هي آن شيرلي (13 عامًا)، التي تمتلك شخصية غريبة الأطوار لها نظرة مختلفة للعالم.
أمضت آن غالبية طفولتها وهي تتنقل بين العيش في دار للأيتام، ومنازل مختلفة تعمل بها خادمة، ثم أرسلتها دار الأيتام عن طريق الخطأ إلى شقيقين مسنين، كانا ينويان في الأصل تبنّي صبي لمساعدتهما في مزرعتهما ببلدة أفونليا في جزيرة الأمير إدوارد بكندا، لكنهما قررا الاحتفاظ بها تعاطفًا معها كفرد في العائلة، لا كعاملة لديهم، وذلك لروحها الفريدة وذكائها الحاد وخيالها الواسع. 
المسلسل مليء بتفاصيل رائعة حول العلاقات الإنسانية مع الأشخاص الذين لا تجمعهم روابط الدم، وإعطاء الانتماء والحب بلا حدود للأيتام، ويثير الكثير من القضايا الحقيقية التي لا تزال تعيش إلى هذه اللحظة، وبالرغم من مرور قرن على الرواية، فإنها مازالت حاضرة ونابضة بالحياة، والموضوعات المهمة هي ذاتها في مجتمع اليوم، ولأنّ هذه الحقائق البسيطة تتحدث عنها فتاة صغيرة كان لها تأثير أشد. 
«اعقد العزم على شيء وسوف تحققه حتى لو كان أسوأ يوم في حياتك، فعقلك يعمل بطريقة غامضة، وإن لم تحققه الآن فستحققه لاحقًا». أفكار ملهمة وكلمات كبيرة تخرج من عقل طفلة صغيرة، وبالرغم من طفولتها القاسية، فإنّ لديها خيالًا مثيرًا.
تمتلك آن مفرداتها الخاصة من وحي قراءتها وسردها للروايات والقصص العالمية، التي تجد فيها عالَمًا سحريًا لطالما حلمت بالعيش فيه، وفي بعض الأحيان تردّ على من يحدثها بعبارات مقتبسة من هذه القصص وبلسان شخصياتها، واستطاعت أن تكون راضية عمّا لديها وتستمتع به كما لو كان كل ما تحتاج إليه، لأنّ لديها مرونة غريبة قادرة على التكيف مع أي بيئة تعيش بها. 
ومع تلاحق الأحداث في القصة، تمرّ آن بخبرات ومصاعب من نوع آخر، بسبب علاقاتها الجديدة في البلدة، لكن بشخصيتها الملهمة تستطيع أن تغيّر بلدة بأكملها، وتفتح أعين الناس على إمكانات جديدة، وتدافع عن الأشخاص الذين تشعر أنهم تعرّضوا للظلم، وتطالب بأحقيتها هي وصديقاتها في الحب والتعليم، وتقدّم الدعم لصديقها الذي اكتشف أنه مختلف جنسيًا وتعذّب باختلافه. وعلى الدوام تذكّرنا بأنّه «دائمًا سيكون هناك منعطف في الطريق». 

العطاء بلا حدود
يشير المسلسل إلى قضايا أخرى ما زالت تواجه الإنسان المعاصر، بغضّ النظر عن الزمن الذي تدور فيه الأحداث، مثل الطبقية والعنصرية ورهاب المثلية، وهي قضايا تتعدى حدود المسلسل، لترتبط بما نراه في عالمنا من صراعات عنصرية وطائفية تقتل أرواحًا وتدمر مجتمعًا، استطاع المسلسل أن يناقش كل ذلك بانسيابية وبساطة.
من الشخصيات الرئيسية في المسلسل ماريلا كثبرت، وهي امرأة جادة وعملية، قادرة على أن تحافظ على برودة أعصابها وإخفاء عواطفها.
في البداية شعرت ماريلا بصعوبة بالغة في التكيف مع آن، وفي مشهد متناقض لها يكشف جوانب من شخصيتها الصارمة عندما شكّت في سرقة آن لقطعة من مجوهراتها، قررت فورًا عودتها إلى دار الأيتام، وحين اكتشفت الحقيقة ووجدت المجوهرات طلبت من شقيقها ماثيو السفر سريعًا للبحث عن الفتاة وإرجاعها. 
ماثيو كثبرت من الشخصيات التي طالها التغيير في القصة، وهو فلاح كندي يمتلك طبيعة لطيفة وطيبة للغاية تحت وجهه الخجول، لم يكن متعلمًا ولا يتواصل مع الناس كثيرًا، لأنه يعمل طوال الوقت في المزرعة وحيدًا، في البداية شعر بالصدمة عندما رأى آن تنتظره في محطة القطار، حيث كان يتوقّع ولدًا، لكنه لم يتردد في أخذها معه، وأقنع ماريلا بالسماح لها بالبقاء وعاملها بحنان. وعلى الرغم من أن ماثيو لم يكن يفهم كل ما تقوله آن، فإنه كان يستمع إليها جيدًا مع إيماءاته اللطيفة التي تعبّر عن سعادته بها، وكأَن هناك روحًا أخرى تشابهه. 
العديد من الشخصيات الرئيسية في المسلسل من الأطفال، إضافة إلى عدد من الممثلين الموهوبين الذين كان أداؤهم مذهلًا.  أدت آميبيث ماكولتي الدور الرئيسي لآن شيرلي كثبرت، وقد أتقنت الدور ببراعة ومشاعر صادقة منذ أول ظهور لها على الشاشة. 
وكانت جيرالدين جيمس (ماريلا) رائعة، كما هي الحال مع بقية الممثلين آر إتش طومسون (ماثيو) وكورين كوسلو (راشيل ليندي) ولوكاس زومان (جيلبرت بليث). كل شخصية تشعر بأنها مكتوبة بدقّة بالغة وبملامح واقعية وصادقة، وتجد نفسك تشعر بكل شيء تشعر به هذه الشخصيات.
 
الأميرة كورديليا
 وإضافة إلى كون العمل مهمًّا، فهو أيضًا مسلٍّ بشكل مثير للعواطف، ويملك كميّة هائلة من المشاعر المتدفقة مع الأفكار المختلفة، ويجعلك تشعر بعلاقة عاطفية مع العديد من الشخصيات المثيرة للاهتمام بسبب اختلاف حياتهم وشخصياتهم وخبراتهم. لا يوجد شخصية واحدة لديها الموقف نفسه تجاه أي شيء، والأكثر سحرًا هي آن حتى في أكثر لحظاتها المأسوية، لا تفارقها الفكاهة، كيف يمكنك ألّا تحب شخصًا نشأ من دون الاستفادة من البيئة التي عاش بها حتى وإن كانت مفجعة؟
«حياتي هي مقبرة مثالية لأحلامي وآمالي المدفونة»، كما تقول آن، لكن خيالها الواسع هو الذي ساعدها على النجاة من الوحدة والظروف السيئة المحيطة بها، وهو لا يحميها فحسب، بل يثري الآخرين ويجذب الناس إليها.
  والأكثر من ذلك يبدو العالم مكانًا أكثر جاذبية عند رؤيته من خلال عيون آن، خيالها الواسع جعلها تخترع صديقة وهمية أسمتها الأميرة كورديليا، تحكي لها عن مشاكلها كلما خذلتها الحياة من حولها، وكلما وصفها أحدهم بالساحرة ذات الوجه المنمش والشعر الأحمر. لكنها لا تغرق في هذه الأوهام، فهي مدركة تمامًا وتميز بين الحقيقة والخيال.
 
المرتفعات الخضراء
   يحتوي المسلسل على مشاهد مذهلة بصريًا، فرؤية المناظر الطبيعية الخضراء الواسعة الجميلة التي تسمّيها آن بأسماء رائعة، مثل درب الفرح الأبيض، وبحيرة المياه المتلألئة، تمنحك شعورًا تامًا بالهدوء والسكينة. 
في الكتاب أيضًا، تصف مونتغمري المنطقة بنثر سردي ممتع: «تجولت آن عبر الغابات في شهر نوفمبر، شهر غروب الشمس القرمزي، والطيور العابرة، وترانيم البحر العميقة والحزينة، وأغاني الرياح المختبئة في أشجار الصنوبر».
  وتقول أيضًا: «دع تلك الرياح العاتية تنفث الضباب من روحها»، وتتحدث كذلك عن «السماء الزرقاء الجميلة التي تبدو كما لو لم يكن هناك نهاية لزرقتها». كتبت مونتغمري النص بشكل مبدع وعبقري، هي ببساطة جعلتنا ندخل عالم آن، بدلًا من عالم خلقته هي لنا. 
الإخراج كان مبدعًا وجميلًا بالقدر الذي يتناسب مع حجم العمل، لم يكن هنالك ابتكار أو لقطات إخراجية غير تقليدية، لكن أعجبتني الصورة الجميلة، والموسيقى المنتقاة وتصوير حقبة القرن التاسع عشر بأدق تفاصيلها، من المنازل الخشبية وإنارة الشموع، وسكب الماء من البئر، وإعداد الأطباق، وصناعة الأكل، والأعمال المنزلية اليدويّة وتطريز الملابس، كذلك البساطة البالغة في منزل ماريلا وماثيو ومظهرهما، والأزياء المتقنة جدًا.
 كانت الكاميرا رائعة في نقل الصورة والمشاعر، والكشف عن اللحظات التي تكون فيها شخصيات العمل في أصعب مراحلها. وقد شارك في إخراج المسلسل بمواسمه الثلاثة بول فوكس مع 10 مخرجين آخرين، وقد نجحوا في تقديم رؤية جديدة لرواية كلاسيكية. 
بدأ إنتاج وعرض الموسم الأول من المسلسل في عام 2017 على شبكة تلفزيون سي بي سي الكندية، ثم عرض عبر منصة نتفلكس العالمية، وانتهى إنتاج وعرض الموسم الثالث والأخير من المسلسل في عام 2019، وما زال هناك تفاوض بين جميع الأطراف من شركة الإنتاج وكاتبة السيناريو لإنتاج الجزء الرابع.

50 مليون نسخة
ترجمت الرواية الأصلية «آن في المرتفعات الخضراء» «Anne of Green Gables»، التي نشرت في عام 1908 إلى 36 لغة وباعت أكثر من 50 مليون نسخة، وهي أول أجزاء السلسلة التي تتكون من سبع روايات، وواحدة من أفضل الكتب مبيعًا في جميع أنحاء العالم، وتعتبر من كلاسيكيات الرواية الكندية. 
وقد نجحت كاتبة السيناريو والحوار الحائزة على جائزة إيمي، مويرا واللي بيكيت، في الحفاظ على جميع أجزاء الرواية، لكنها أحدثت بعض التغييرات البسيطة باستغنائها عن الفصول الأولى التي تروي معاناة آن في دار الأيتام وفي البيوت التي عملت بها خادمة، واكتفت بوضع مشاهد استرجاعية، توضح تحوُّل شخصية آن من فتاة حالمة إلى شخصية غريبة الأطوار، وأضافت بعض التفاصيل الصغيرة التي حققت بها اندماجًا سلسًا بين هذا التكيف المعاصر وكلمات مونتغمري، حيث إنه بحلول الوقت الذي تصل فيه إلى النهاية، لا يمكنك معرفة ما كان موجودًا في الرواية وما لم يكن. وقد شاركها 7 كتّاب آخرين في كتابة السيناريو والحوار.
آن شيرلي شخصية ملهمة لكل الأجيال، وإحياؤها من جديد عبر مسلسل «آن بألف ممدودة» هي فرصة للعودة إليها مرة أخرى لإلقاء الضوء عليها، لما تتمتع به من إيجابية وتفاؤل كبير، رغم كل الظروف القاسية التي تعرّضت لها. ومن أجمل اقتباساتها التي تبعث على الأمل في هذه الرواية «أليس من الجميل أن أعتقد أن غدًا هو يوم جديد، على الأقل، لأنّه لا يوجد فيه أخطاء حتى الآن»؟ ■