العنصرية... تستطيع التنفس

في لحظة فارقة مشهودة بمنتصف فبراير الماضي، تحول ملعب كرة قدم لمسرح كبير، أدى فيه الجمهور دور «العنصرية»، في عرض حقيقي مقتبس من قصة الحياة التي نعيشها في مرحلة ما بعد العولمة، تلك اللحظة بدأت عندما سجل لاعب فريق بورتو البرتغالي موسى ماريغا هدفًا في مرمى فريقه السابق فيتوريا غيمارايش، ثم تعالت بعدها من المدرجات صيحات متواصلة تحاكي أصوات القردة. ماريغا لم يحتمل هذا الوضع، الذي أشعره بـ«إذلال كبير»، حسب وصفه، ولم يصمد أكثر من عشر دقائق، ثم غادر الملعب غير آبه بما قد يطاله من عقوبات، وقد بذل لاعبو الفريقين جهدًا لإقناع زميلهم بالبقاء ومواصلة اللعب، إلا أنه واصل طريقه نحو غرفة تبديل الملابس، واستمرت الصيحات العنصرية.
لم تكن حادثة اللاعب موسى ماريغا هي الأولى في الملاعب الأوربية، بل هي مجرد حلقة جديدة من حلقات السلوكيات العنصرية، التي تشهدها ملاعب كرة القدم في القارة الأوربية، ضد اللاعبين من ذوي البشرة الداكنة، وقد سبقتها، على سبيل المثال، حادثتان شبيهتان مع اللاعب البلجيكي في نادي إنتر ميلان، روميلو لوكاكو، واللاعب الإيطالي ماريو بالوتيلي، وبنفس الأسلوب إطلاق اصيحات القردةب، ولكن تبقى حالة اللاعب ماريغا هي الأخيرة، حسب علمي، قبل توقف النشاط الرياضي في جميع ملاعب العالم ضمن حالة الشلل العام الناجم عن جائحة كورونا.
وقد قوبلت تلك السلوكيات العنصرية بردود أفعال تعبّر عن حالة الاستياء والرفض لوجودها، تمثلت في اتخاذ الجهات الرياضية المعنية إجراءات تأديبية ضد الأندية والاتحادات، كحرمان جماهيرها من الدخول إلى الملاعب، كما أعلن كبار المسؤولين عن تضامنهم مع اللاعبين الذين تعرضوا للإساءة، كما فعل رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا مع اللاعب موسى ماريغا، أما رئيس الجمهورية مارسيلو ريبيلو دي سوزا فقد حذّر من التبعات المأساوية للعنصرية.
عولمة العنصرية بدلًا من عولمة التسامح
ما سبق قد يوحي بأن ظاهرة العنصرية في عصرنا الحالي محصورة فقط في كرة القدم، أو الملاعب الأوربية، أو أن ضحيتها هم من ذوي البشرة الداكنة. على الإطلاق، فإن تلك الظاهرة مجرد وجه من وجوهها التي تتمثل على هيئة بقع سوداء متناثرة على خريطة العالم، ولكل بقعة حادث وحديث يختلف هنا ويتطابق هناك.
ولقد أخذنا ملاعب كرة القدم كفاتحة لموضوعنا، لكون تلك الرياضة هي الأشهر في العالم، وما يحصل فيها يراه الملايين من المتابعين، عبر النقل الحي لمنافساتها الكثيرة والمتشعبة، وإذا ما أخذنا بالاعتبار وجود وسائل التواصل الاجتماعي، فذلك يعني أن أي حدث سيقع سيلف العالم، لأن لغة كرة القدم عالمية ولا تحتاج إلى أي ترجمة، لذلك يمكن احتساب مجريات أحداث كرة القدم، ضمن المؤشرات المهمة لقياس منسوب العنصرية، خاصة في ملاعب الدول المتقدمة بمجال احترام حقوق الإنسان، واستيعاب المكونات المتباينة في مجتمعاتها.
مسارات تتشابك لتتساند
إن العالم يشهد أخيرًا تصاعدًا لخطاب الكراهية، وتناميًا غريبًا في عولمة العنصرية التي تضرب موجاتها بكل الاتجاهات، بدلًا من انتشار عولمة التسامح، ونحن هنا نتحدث عن حوادث عنصرية متعددة الخلفيات، عرقية ودينية وإثنية، آخذة في التمدد والتأجج، وكأن الشرائع والقوانين الرادعة عاجزة عن كبح جماحها، ولقد أخذت تلك الموجات مسارات عدة لافتة، أولها تسلسل مفردات الخطاب العنصري إلى الخطاب السياسي، الذي وجدت فيه بعض الأحزاب اليمينية والشعبوية ضالتها للصعود في الانتخابات (برلمانية/رئاسية/محلية... إلخ)، كما حصل في أكثر من دولة أوربية، وكان العامل المشترك فيها هو مناهضة المهاجرين والخشية على هوية الدولة منهم، وقد جرت العادة أن يحرص السياسيون على الإكثار من خطوط الرجعة في خطاباتهم، لتكون بمنزلة طوق النجاة وقت الحاجة، إلا أنهم في موضوع المهاجرين نجدهم يميلون ــ بلا تردد ــ إلى تبني خطاب يسير باتجاه واحد لا رجعة فيه.
المسار الثاني هو الحوادث الدموية التي ينفذها أشخاص أو مجموعات متطرفة ضد أقليات دينية أو مهاجرين بصورة علنية وموثقة، كما حصل في أوائل عام 2019م في نيوزلندا، عندما قام شاب أسترالي مسلح بتصوير وبث عملية اقتحام وقتل 49 مسلمًا في مسجدين بمنطقة كرايست تشيرتش على الهواء، عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، واستمر في البث الحي لمدة ربع ساعة تقريبًا.
وينطلق المسار الثالث من الحقل الإعلامي بشقّيه التقليدي والرقمي، وفي حين يتحرر الثاني من الكثير من القيود الأخلاقية، نجد أن الإعلام التقليدي يعيش حالة من الصراع المتواصل، بين المحافظة على الحد المقبول من العمل المهني، وبين السير في طريق القضايا المثيرة للجدل، لكسب انتباه الجمهور، والإعلانات التجارية، وهنا تكمن المعضلة، عندما تعمل قنوات وصحف على تبني خط عنصري واضح، يساهم في تشكيل اتجاهات الرأي العام، ويأتي الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي للسير في الاتجاه نفسه.
أخيرًا، يتمثل المسار الرابع في القرارات التي تصدر، والتشريعات التي تسن وتحمل في جوفها نفسًا عنصريًا يصعب إخفاؤه، وفي حين يمكن التراجع عن القرارات التي يصدرها عادة مسؤول واحد، فإنه يصعب إلغاء أو تعديل التشريعات التي تصدر عن البرلمان بالسرعة نفسها، وهناك تتجلى الخطورة، لأن التشريعات واجبة النفاذ بعد إقرارها، وباقية بعد ذهاب من وضعوها.
في أواخر عام 2019م، اندلعت في الهند مواجهات عنيفة بين مؤيدي ومعارضي قانون الجنسية المثير للجدل، والذي يتلخص في السماح بقبول المهاجرين من ثلاث دول ملاصقة للهند، هي باكستان وأفغانستان وبنجلاديش، بشرط ألا يكونوا مسلمين!!، هذا التشريع الملغوم صدر في دولة تعد مثالًا في احترام التعددية، ودستورها يجرم المس بالمشاعر الدينية لأي فئة من المواطنين، سواء بالكلمة المكتوبة أو المنطوقة.
وللهند التي يتجاوز تعداد سكانها المليار نسمة، مسيرة طويلة في التعايش بين ملايين المكونات، وعندما تتعرض لأي انتكاسة يكون النقد والعتب عليها بقدر سمعتها، وهي ليست مثل الكيان الصهيوني، الذي صدر فيه اقانون القوميةب في منتصف عام 2018م، ونص على أن ادولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي، يحقق فيها تطلعاته بتقرير مصيره وفقًا للتقاليد الثقافية والتاريخيةب، وأن احق تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل يعود حصرًا للشعب اليهوديب، فمثل ذلك القانون وغيره عندما يصدر في كيان قائم على العنصرية والتمييز، حتى بين مكوناته، هو أمر غير مستغرب.
وإذا تمعّنا في المسارات الأربعة لموجات العنصرية (الخطاب السياسي/الحوادث الدموية/ الخطاب الإعلامي/القوانين)، بنظرة شاملة، سنجد أنها تتشابك مع بعضها البعض، وكل منها يسند ويغذي الآخر، وطالما أن الرأي العام يتقبل ويُقبل على الخطاب العنصري، فسوف يجد كل العنصريين الغطاء اللازم للاستمرار، وهو ما يعني صعود المزيد من أصحاب القرار العنصريين، وصدور المزيد من القوانين العنصرية، فمن يقرع جرس الإنذار قبل أن تتبدل بنية المجتمعات المتسامحة إلى نقيضها؟
تجربة جنوب إفريقيا
عند الحديث عن العنصرية، غالبًا ما تحضرني مشاهد من رحلة سابقة قمت بها لجنوب إفريقيا عام 2010م، للاطلاع على تجربتها في الانتقال من مرحلة الفصل العنصري إلى مرحلة الاندماج والخروج من العزلة الدولية، بسبب سياساتها العنصرية ضد السود، ولأن السفر يغني عن عشرات الكتب فقد عشت تجربتي الخاصة وكتبت ما رأيته، ومن بينه اأن بلدًا مثل جنوب إفريقيا، لا يمكن اختصار معضلة العنصرية فيها باللون فقط، فداخل كل لون توجد هناك اختلافات فرعية عميقة. على سبيل المثال، فإن البيض من أصول هولندية يتحدثون لغة االأفريكانزب، وهؤلاء يشكلون غالبية البيض، والباقي من أصول إنجليزية، ويتحدثون الإنجليزية بطبيعة الحال، أما السود فعلينا أن نفهم أنهم عدة قبائل، والقبائل الكبيرة تحتضن لهجات متعددة، فمثلاً قبيلة االزولوب لديها لغتها الخاصة التي يتحدث بها أكثر من سبعة ملايين نسمة، وهناك لغة اإكسوزوب واتسونجاب وافينداب... إلخ. وبين هؤلاء وهؤلاء نجد أمامنا الأقلية الهندية المسلمة، التي جلبها المستعمر الإنجليزي للعمل في الزراعة، وهؤلاء إن كانوا لا يجدون غضاضة في التعامل باللغة الإنجليزية، فإنهم سيحرصون على ضرورة احترام خصوصيتهم الثقافية والدينية، ومن يعرف الهنود جيدًا يعرف أنهم يتركون بصمات واضحة في الأماكن التي يتواجدون فيها بغض النظر عن الديانة التي يعتنقونها.
هذا الخليط العرقي والثقافي يحتاج إلى زمن ورغبة مشتركة في الاندماج، خاصة إذا ما عرفنا أن فلسفة النظام التعليمي لغير الأسياد في السابق كانت تقوم على تلقين السود أنهم خلقوا لكي يكونوا عمالًا عند السيد الأبيض، الأمر الثاني كانت مدارس السود تعاني من نقص شديد في التمويل، لكي تصبح مدارس حقيقية، وبينما كان على التلاميذ السود يعانون في التزود بكل مستلزمات الدراسة كان التلاميذ البيض يحصلون على كل شيء بالمجان، إنه بؤس يومي تراكم طوال زمن الفصل العنصري، وسيحتاج إلى زمن مضاعف كي يتغيرب.
إذًا كان الزمن والتعليم وتوافر إرادة التغيير والقادة العظام هم مسار جنوب إفريقيا نحو التخلص من رواسب مرحلة الفصل العنصري، وبنبرة متفائلة قال زعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا: اأبدًا، أبدًا، أبدًا لن تشهد هذه الأرض الجميلة مرة أخرى اضطهاد البعض للآخرينب.
يولد جميع الناس أحرارًا
في وقت يفترض أن يتعلم البشر من تجاربهم المريرة، في الحروب والنزاعات، ويورثوا لأبنائهم ما ينفعهم لتجنب الوقوع في الأخطاء نفسها، نجد أن تلك الأخطاء تتكرر بلا توقف، ولقد تضمنت ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صدر في الأمم المتحدة عام 1948م، الكثير من العبارات، التي تكتسي بآلام وآمال من عانوا من أهوال الحرب العالمية الثانية والحروب التي سبقتها.
ومن بين تلك العبارات: اولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقةب.
ونصت المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: ايولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاءب، أما المادة الثانية، فنصها: الكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلًا عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلًا أو موضوعًا تحت الوصاية، أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي، أو خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادتهب.
ونلاحظ في تلك الديباجة الحرص على تحديد أنواع التمييز، بهدف محاصرة أسباب النزاعات، وسد أبواب الحروب التي قد تنشب في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ستسود ثقافة المواثيق والقوانين الدولية، التي اصطدمت أول الأمر بالحرب الباردة بين القطبين، الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، وحروب متلاحقة في كوريا وفيتنام ومناطق أخرى كثيرة، وحروب أهلية مفزعة نشبت لأسباب عنصرية كما حصل في رواندا.
ورغم ذلك استمرت حركة الدفاع عن حقوق الإنسان ومنظمات مكافحة العنصرية بكل أشكالها، وتعزز حضورها وانتشارها في مناطق جديدة بعد سقوط المعسكر الشيوعي، وظهرت مصطلحات جديدة، مثل الجيل الثاني والثالث لحقوق الإنسان، في دلالة على تطور نوعية المطالبات والحقوق الجديدة التي ظهرت.
من هنا نعود إلى البداية، كيف ولماذا انتكست أوضاع الدول الديمقراطية، والمجتمعات المتسامحة، لتظهر فيها أصوات وأحزاب يمينية متطرفة؟
نهاية فرضت نفسها
في الأيام الأخيرة من الشهر الفائت، وفي خضم انشغال أمريكا بارتفاع أعداد الوفيات والمصابين فيها، بوباء كورونا، قُتل مواطن أمريكي من أصول إفريقية، في مدينة مينيابولس بولاية مينيسوتا، بعد اعتقاله على يد شرطيين، قام أحدهما بالضغط بركبته على عنق الضحية جورج فلويد، حتى فارق الحياة، وقبل وفاته كان فلويد يصرخ بالعبارة التي أصبحت حديث العالم الا أستطيع التنفسب، وقد صور المارة ذلك المشهد لحظة بلحظة بهواتفهم النقالة.
لقد أشعل حادث واحد المدن الأمريكية بالمظاهرات الصاخبة، وأعمال العنف والتخريب، وأيقظ كل فصول العبودية والتفرقة، التي عاشها السود لعقود في بلد أبهر العالم، عندما تولى الرئاسة بها أول رئيس أسود ولفترتين متتاليتين، ولكن يبدو أن التراكمات وتفاعل مسارات العنصرية التي تحدثنا عنها وجدت اللحظة المناسبة للانفجار.
في الختام، من الواضح أن العنصرية بكل أشكالها هي مَن يستطيع التنفس بحرية في عالم اليوم، مع الأسف، والقوى المناهضة لها هي من تحتاج إلى الأكسجين ما لم تتدارك نفسها قبل االضغطب على رقبتها ■