أساتذتي الأجلاء... عبد العزيز الأهواني

أساتذتي الأجلاء... عبد العزيز الأهواني

أظن‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬أساتذتي‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬تأثيرًا‭ ‬على‭ ‬تكويني‭ ‬الفكــــري‭ ‬والعقلي‭- ‬هم‭ ‬ثلاثة؛‭ ‬أولهـــــــم‭: ‬أستاذتي‭ ‬الدكتورة‭ ‬سهيــــــر‭ ‬القلمـــــــاوي،‭ ‬وثانيـــــهــــــم‭: ‬الأستـــاذ‭ ‬الدكتــور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني،‭ ‬وثالثهم‭: ‬أستاذي‭ ‬الدكتور‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭. ‬الطريف‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الثلاثة‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬سمة‭ ‬تمايز‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الآخرين،‭ ‬وتضعه‭ ‬في‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬فريدة،‭ ‬ويصعب‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬أحدد‭ ‬أي‭ ‬الثلاثة‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إليَّ‭ ‬وجدانيًّا‭ ‬وفكريًّا‭. ‬

مؤكد‭ ‬أن‭ ‬الدكتورة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الأقرب،‭ ‬بحكم‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬الأستاذة‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬تلقيت‭ ‬دروس‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ - ‬قديمه‭ ‬وحديثه‭ - ‬على‭ ‬يديها،‭ ‬واستمعت‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرات‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي،‭ ‬الذين‭ ‬تمتعوا‭ ‬مثلي‭ ‬بمحاضراتها،‭ ‬وأعجبوا‭ ‬مثلي‭ ‬بصوتها‭ ‬الرخيم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتلوَّن‭ ‬بحسب‭ ‬درجات‭ ‬المعاني‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تبحر‭ ‬بنا‭ ‬في‭ ‬موضوعاتها‭ ‬طوال‭ ‬الدرس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستمر‭ ‬لساعتين‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الدكتورة‭ ‬سهير‭ ‬تتوقف‭ ‬للراحة‭ ‬بين‭ ‬الساعتين،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬تمضي‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬المحاضرة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الموضوعات‭ ‬الذي‭ ‬اختارته،‭ ‬وتلقي‭ ‬علينا‭ ‬بصوتها‭ ‬العذب‭ ‬كل‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬توصلها‭ ‬إلينا‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬القديم‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬واليونان،‭ ‬وفي‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬العربي‭ ‬والإفرنجي‭. ‬وكانت‭ ‬طبيعتها‭ ‬الهادئة‭ ‬وقوة‭ ‬شخصيتها‭ ‬تفرض‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقابل‭ ‬محاضراتها‭ ‬بالتوقير‭ ‬والإجلال،‭ ‬ونمتنع‭ ‬عن‭ ‬مقاطعتها‭ ‬بالأسئلة،‭ ‬ربما‭ ‬لكي‭ ‬نتمتع‭ ‬بنبرات‭ ‬صوتها‭. ‬وكان‭ ‬الدكتور‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬يشاركها‭ ‬صفات‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تنطوي‭ ‬عليها‭ ‬وتمثلها‭ ‬في‭ ‬وجدانها‭.‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬تربيتها‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فوالدها‭ ‬الطبيب‭ ‬الثري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬المصرية‭ ‬زرع‭ ‬فيها‭ ‬صفات‭ ‬هذه‭ ‬الأرستقراطية،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعترف‭ ‬بما‭ ‬يجاوز‭ ‬الواقعية‭ ‬النقدية‭ ‬إلى‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬مثلًا،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬ترى‭ - ‬وظلت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬طوال‭ ‬حياتها‭ - ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬ليس‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الدعاية‭ ‬الممجوجة‭ ‬للبلاشفة‭ ‬ومن‭ ‬لفَّ‭ ‬لفهم‭ ‬من‭ ‬الشيوعيين‭ ‬المصريين،‭ ‬وكانت‭ ‬تستبدل‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬الأبعاد‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للنص‭ ‬الأدبي،‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الأبعاد‭ ‬الجمالية،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬متوافقة‭ ‬مع‭ ‬موقعها‭ ‬الطبقي،‭ ‬ومع‭ ‬منزعها‭ ‬الفكري‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وأذكر‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تسخر‭ ‬من‭ ‬تلميذها‭ ‬وأستاذي‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬بدر،‭ ‬ومن‭ ‬زميلي‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالمنعم‭ ‬تليمة‭ ‬بسبب‭ ‬يساريتهما‭ ‬الملحوظة،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينكرها‭ ‬أي‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭. ‬ولاأزال‭ ‬أذكر‭ ‬تحذيراتها‭ ‬المرحة‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬للاثنين‭ ‬معًا‭: ‬القد‭ ‬أفسدتكما‭ ‬الاشتراكية‭ ‬والماركسية،‭ ‬فأرجوكما‭ ‬ألا‭ ‬تفسدا‭ ‬عقل‭ ‬هذا‭ ‬الولد‭ ‬الصغير‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يصبح‭ ‬مثلكماب،‭ ‬وكان‭ ‬المقصود‭ ‬بـ‭ ‬االولد‭ ‬الصغيرب‭ ‬هو‭ ‬أنا‭ ‬بالطبع،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أستاذتي‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أحافظ‭ ‬على‭ ‬نقاء‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬أختارها‭ ‬من‭ ‬تحيزات‭ ‬المجتمع‭ ‬والسياسة‭.‬

 

الأهواني‭ ‬مستفز‭ ‬العقول

الطريف‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬أستاذي‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬كان‭ ‬ذ‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدري‭- ‬يدعم‭ ‬هذا‭ ‬البُعد‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬ويبدو‭ ‬من‭ ‬السطح‭ ‬أنه‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬جماليات‭ ‬النقد‭ ‬الجديد،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬يساري‭ ‬الاتجاه‭ ‬والنزعة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يخفي‭ ‬هذه‭ ‬اليسارية‭ ‬بأقنعة‭ ‬مراوغة‭ ‬تؤكد‭ ‬شخصيته‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الحذر‭ ‬والتقية‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬أما‭ ‬الأستاذ‭ ‬الأخير‭ ‬فهو‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬قارب‭ ‬ما‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬النزعات‭ ‬العقلانية‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬والنقد‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أستاذي‭ ‬مثلهما،‭ ‬ولكنه‭ ‬تميز‭ ‬عنهما‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بتدريس‭ ‬الأدب‭ ‬الأندلسي‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والموشحات‭ ‬والأزجال‭ ‬الأندلسية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬موازية‭. ‬وكانت‭ ‬ميزته‭ ‬التي‭ ‬تمايزه‭ ‬عن‭ ‬زميليه‭: ‬الدكتور‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬والدكتورة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي،‭ ‬هي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬محاضرة‭ ‬يستفز‭ ‬عقولنا‭ ‬ويدفعنا‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬السؤال،‭ ‬ولعل‭ ‬منه‭ ‬ومن‭ ‬طريقته‭ ‬في‭ ‬الدرس‭ ‬والتفكير‭ ‬أخذت‭ ‬مصطلح‭ ‬االمساءلةب‭ ‬الذي‭ ‬أكرره‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬كتاباتي‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يستخدم‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬أو‭ ‬محاضراته،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تفعله‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬عقولنا‭ ‬وتثيره‭ ‬محاضراته‭ ‬في‭ ‬نفوسنا‭ ‬هي‭ ‬آلية‭ ‬المساءلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬دائمًا‭ ‬تجعلنا‭ ‬نضع‭ ‬ذ‭ ‬مثله‭ - ‬الموضوع‭ ‬المدروس‭ ‬موضع‭ ‬المساءلة‭. ‬لقد‭ ‬غرس‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬جرثومة‭ ‬السؤال،‭ ‬وتركها‭ ‬تنمو‭ ‬ذاتيًّا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبحتُ‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬النزعة‭ ‬العقلانية،‭ ‬ولا‭ ‬أكتفي‭ ‬بها‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أجاوزها‭ ‬إلى‭ ‬نزعة‭ ‬من‭ ‬الشك‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وعدم‭ ‬قبول‭ ‬أي‭ ‬فكر‭ ‬أو‭ ‬موضوع‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أطرح‭ ‬عليه‭ ‬عشرات‭ ‬الأسئلة،‭ ‬ولا‭ ‬أقبل‭ ‬موضوعًا‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬والسلامة‭ ‬البنائية‭ ‬ما‭ ‬يتيح‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تصمد‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬أية‭ ‬مساءلة‭ ‬شاكة،‭ ‬أو‭ ‬تستعين‭ ‬بالشك‭ ‬كي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬اليقين‭.‬

هكذا‭ ‬جذبني‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬إلى‭ ‬منهجه‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬والدرس‭ ‬الأدبي‭. ‬وأذكر‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬طلابًا‭ ‬لانزال‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬عام‭ ‬1963‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وكان‭ ‬كتاب‭: ‬اابن‭ ‬سناء‭ ‬الملك‭ ‬ومشكلة‭ ‬العقم‭ ‬والابتكار‭ ‬في‭ ‬الشعرب‭ ‬قد‭ ‬صدر‭ ‬وأخذ‭ ‬يثير‭ ‬حوله‭ ‬ألوانًا‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬القبول‭ ‬والرفض،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الجدال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬ذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬الإنجلو‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬محمد‭ ‬فريد‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬البلد،‭ ‬واشتريت‭ ‬منها‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬كتاب‭: ‬اابن‭ ‬سناء‭ ‬الملكب‭ ‬وذهبتُ‭ ‬فرحًا‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬لكي‭ ‬أقرأها،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬تدريس‭ ‬الأهواني‭ ‬لنا‭ ‬بشكل‭ ‬رسمي‭. ‬وقد‭ ‬تركني‭ ‬كتاب‭ ‬ابن‭ ‬سناء‭ ‬الملك‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬ودوامات‭ ‬الأسئلة،‭ ‬فهو‭ ‬كتاب‭ ‬يخرج‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬كتب‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬التي‭ ‬اعتدنا‭ ‬عليها،‭ ‬ولا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬وعصره‭ ‬أو‭ ‬الشاعر‭ ‬وبيئته،‭ ‬وإنما‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬االعقم‭ ‬والابتكارب،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬يطرح‭ ‬على‭ ‬قارئه‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭: ‬متى‭ ‬يكون‭ ‬الشعر‭ ‬مُبتكَــرًا‭ ‬أصيلًا‭ ‬جميلًا؟‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬السؤال‭: ‬ومتى‭ ‬يكون‭ - ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬عقيمًا‭ ‬رديئًا،‭ ‬تكرارًا‭ ‬للأصوات‭ ‬التي‭ ‬عاصرت‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬سبقته‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬آن؟‭ ‬وقد‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬طيات‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬وحاولت‭ ‬الإجابة‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬قدس‭ ‬أقداس‭ ‬الشعر،‭ ‬وهو‭ ‬اللغة،‭ ‬تلك‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬بها‭ ‬الشعر‭ ‬شعرًا‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يكون‭. ‬ووجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬أتذكر‭ ‬كلمات‭ ‬استيفان‭ ‬مالارميهب‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬لصديقه‭ ‬الرسام‭ ‬اديجاب‭: ‬االشعر‭ ‬يا‭ ‬عزيزي‭ ‬ديجا‭ ‬يكتب‭ ‬بالكلمات‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬آخرب‭. ‬لكن‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬كان‭ ‬يقصد‭ ‬مالارميه؟‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬يقصد‭ ‬إلى‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬أكل‭ ‬عليها‭ ‬الدهر‭ ‬وشرب،‭ ‬أم‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬محا‭ ‬علاماتها‭ ‬الخاصة‭ ‬التكرار‭ ‬والتقليد‭ ‬والنسخ،‭ ‬أم‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬تتضوء‭ ‬بالعاطفة‭ ‬وتغتني‭ ‬بالإحساس‭ ‬وتثمر‭ ‬بالمشاعر‭ ‬والانفعالات‭ ‬التي‭ ‬تسترجع‭ ‬في‭ ‬هدوء؟‭ ‬ألم‭ ‬يصف‭ ‬لنا‭ ‬الشاعر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الشهير‭ ‬اصامويل‭ ‬تايلر‭ ‬كولريدجب‭ ‬الشعر‭ ‬بأنه‭ ‬مشاعر‭ ‬وانفعالات‭ ‬تُستعاد‭ ‬في‭ ‬هدوء‭. ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬فارق‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬الوصف‭ ‬وعبارة‭ ‬مالارميه‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬الرسام‭ ‬ديجا؟‭ ‬نعم‭ ‬هناك‭ ‬فارق‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الفارق‭ ‬يقودنا‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬الشعرية،‭ ‬وهو‭ ‬حيوية‭ ‬اللغة‭ ‬وتوهجها‭ ‬بحرارة‭ ‬الانفعال‭ ‬الفردي‭ ‬وتفرد‭ ‬العاطفة‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬يختار‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ملايين‭ ‬الكلمات،‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬توازي‭ ‬مشاعر‭ ‬بعينها‭ ‬ولا‭ ‬تخرج‭ ‬عليها‭ ‬فتكون‭ ‬أكبر‭ ‬منها‭ ‬أو‭ ‬تتضاءل‭ ‬فتكون‭ ‬أصغر‭ ‬منها‭.‬

 

الفارق‭ ‬بين‭ ‬الأهواني‭ ‬وغيره

هذا‭ ‬ما‭ ‬خرجتُ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬المقدمات‭ ‬الخاصة‭ ‬بابن‭ ‬سناء‭ ‬الملك،‭ ‬فوجدت‭ ‬فيها‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬الأصالة‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬ومتى‭ ‬يكون‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭ ‬شاعر‭ ‬أصيلًا‭ ‬أو‭ ‬زائفًا‭. ‬وهي‭ ‬إجابة‭ ‬حسمت‭ ‬لي‭ ‬سبيل‭ ‬الإجابة‭ ‬إلى‭ ‬أسئلة‭ ‬أهم،‭ ‬منها‭ ‬مثلًا‭: ‬ما‭ ‬دور‭ ‬التقليد‭ ‬في‭ ‬الشعر؟‭ ‬وهل‭ ‬نطلب‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يبرع‭ ‬في‭ ‬تقليد‭ ‬السابقين‭ ‬عليه،‭ ‬أم‭ ‬يبرع‭ ‬في‭ ‬توصيل‭ ‬مشاعره‭ ‬الخاصة‭ ‬الفريدة‭ ‬إلينا‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬بعينها‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬الزمن؟‭ ‬وقد‭ ‬قادني‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬ومثلها‭ ‬من‭ ‬الأجوبة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬يشفي‭ ‬غليل‭ ‬نهم‭ ‬المعرفة‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬الباحث‭ ‬المُشوق‭ ‬في‭ ‬الغوص‭ ‬عميقًا‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الشعر‭ ‬وخصوصيته‭ ‬وتفرده‭ ‬في‭ ‬آن‭.‬

وهذا‭ ‬هو‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬الأهواني‭ ‬وغيره،‭ ‬لقد‭ ‬قادني‭ ‬إلى‭ ‬عقدة‭ ‬الكتاب‭ ‬مباشرة،‭ ‬ووضعني‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬الإشكال‭ ‬الجوهري‭ ‬الذي‭ ‬يدور‭ ‬حوله‭ ‬الكتاب،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أنجح‭ ‬في‭ ‬الأولى‭ ‬أو‭ ‬الثانية‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬التفلسف‭ ‬وعلى‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬أفكار‭ ‬الآخرين‭ ‬ومبادئهم‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬أفكار‭ ‬الأهواني‭ ‬نفسه‭ ‬موضع‭ ‬المساءلة‭. ‬هكذا‭ ‬اقتربتُ‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬االدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬وكانت‭ ‬قراءة‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬اابن‭ ‬سناء‭ ‬الملك‭ ‬ومشكلة‭ ‬العقم‭ ‬والابتكار‭ ‬في‭ ‬الشعرب،‭ ‬هي‭ ‬المدخل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الأدب‭ ‬بعامة‭ ‬والشعر‭ ‬بخاصة‭. ‬ويغني‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الأهواني‭ ‬لا‭ ‬يهتم‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬المعلوماتية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يهتم‭ ‬بالأسئلة‭ ‬الكلية،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬سؤال‭ ‬المنهج‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الأصل‭ ‬الذي‭ ‬تعوِّل‭ ‬عليه‭ ‬الدراسة‭ ‬الأدبية‭ ‬والنقدية‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أنني‭ ‬أصبحت‭ ‬معجبًا‭ ‬بالرجل‭ ‬وكتاباته‭. ‬وعندما‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬السنة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بالتدريس‭ ‬لنا‭ ‬فيها،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أقرب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬غيري‭ ‬من‭ ‬تلامذة‭ ‬الصف،‭ ‬وأميل‭ ‬إلى‭ ‬السجال‭ ‬معه‭ ‬بالأسئلة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أسعى‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الفهم‭ ‬وإلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التعمق‭ ‬في‭ ‬أفكاره‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

وشيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬أدركتُ‭ ‬أن‭ ‬عقلي‭ ‬قد‭ ‬أسلم‭ ‬نفسه‭ ‬بالكلية‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أساتذة‭: ‬شكري‭ ‬عياد،‭ ‬وسهير‭ ‬القلماوي،‭ ‬وعبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭. ‬وبقدر‭ ‬قربي‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفرسان‭ ‬الثلاثة‭ ‬كانت‭ ‬حماستي‭ ‬لهم‭ ‬ولطرائق‭ ‬تفكيرهم‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تباعد‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬طريقة‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬في‭ ‬التأريخ‭ ‬الأدبي،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تتبع‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يأخذه‭ ‬عن‭ ‬أستاذه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬الفن‭ ‬ومذاهبه‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬استبدل‭ ‬بالفن‭ ‬التأريخ،‭ ‬وهجر‭ ‬المذاهب‭ ‬إلى‭ ‬المراحل‭ ‬التاريخية،‭ ‬وتحول‭ ‬من‭ ‬دارس‭ ‬للأدب‭ ‬إلى‭ ‬مؤرخ‭ ‬للأدب‭. ‬والفارق‭ ‬بين‭ ‬الدارس‭ ‬والمؤرخ‭ ‬فارق‭ ‬كبير‭ ‬جدًّا‭ ‬وعظيم‭. ‬ولذلك‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أغوص‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬التخرج،‭ ‬كنت‭ ‬أتباعد‭ ‬عن‭ ‬كتابات‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أقرأها‭ ‬بعين‭ ‬المتسائل‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مناط‭ ‬الأسئلة‭ ‬الجوهرية‭ ‬التي‭ ‬يبني‭ ‬بها‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬وتلاميذه‭ ‬عالمًا‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬بامتداد‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬كله‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬إلى‭ ‬عصرنا‭ ‬اليوم‭. ‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬كرهتُ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتردد‭ ‬عند‭ ‬أبناء‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬تجلياتها‭ ‬اللاحقة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬شعر‭ ‬تاريخًا‭ ‬خاصًّا‭ ‬به‭ ‬وحضارة‭ ‬يرتبط‭ ‬بها‭. ‬فقد‭ ‬رأيتُ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التاريخانية‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الإفقار‭ ‬لخصوصية‭ ‬الأدب‭ ‬وتمزيقه‭ ‬إلى‭ ‬لحم‭ ‬سائغ‭ ‬سهل‭ ‬الهضم‭ ‬في‭ ‬عصور،‭ ‬ولحم‭ ‬آخر‭ ‬مضاد‭ ‬عسير‭ ‬الهضم‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬أخرى‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬مدخلي‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬أن‭ ‬االمنهجب‭ ‬هو‭ ‬العربة‭ ‬الذهبية‭ ‬التي‭ ‬تخترق‭ ‬كل‭ ‬العصور‭ ‬ولن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر‭. ‬ولماذا‭ ‬نتجاهل‭ ‬الأمثلة‭ ‬وعندنا‭ ‬دراسات‭ ‬كمال‭ ‬أبوديب‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬فإن‭ ‬تركيبته‭ ‬المنهجية‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬البنيوية،‭ ‬تدرس‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ (‬راجع‭ ‬كتابه‭: ‬االرؤى‭ ‬المقنعة‭ ‬نحو‭ ‬منهج‭ ‬بنيوي‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهليب‭ ‬1986‭) ‬بالبراعة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬يدرس‭ ‬بها‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي‭ ‬فى‭ ‬كتابه‭: ‬اجدلية‭ ‬الخفاء‭ ‬والتجلي‭... ‬دراسات‭ ‬بنيوية‭ ‬في‭ ‬الشعرب‭. ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬االمنهجب‭ ‬قضية‭ ‬تجاوز‭ ‬الزمن‭ ‬بمعناه‭ ‬الضيق،‭ ‬وتعبر‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الأدب‭ ‬وأنواعه‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬عصوره‭ ‬وأزمنته‭. ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬الفهم‭ ‬هي‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬بها‭ ‬أمثال‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني،‭ ‬وأكملتها‭ ‬تطبيقات‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬وشكري‭ ‬عياد‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬ذهني،‭ ‬ويفصل‭ ‬ما‭ ‬بينهم‭ ‬وأمثال‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬ويوسف‭ ‬خليف‭ ‬وأشباههما‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬مبدأ‭ ‬المساءلة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يربطني‭ ‬بالدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المنهجي‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬يربطني‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الذاتية‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬عندما‭ ‬فرغت‭ ‬من‭ ‬كتابي‭: ‬امفهوم‭ ‬الشعر،‭ ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬النقديب‭ (‬1978‭) ‬ودُعيت‭ ‬إلى‭ ‬مناقشته‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬الثاني‭ ‬بالإذاعة‭ ‬المصرية،‭ ‬وطُلب‭ ‬مِني‭ ‬أن‭ ‬أختار‭ ‬من‭ ‬يناقشه‭ ‬من‭ ‬أساتذتي،‭ ‬فاخترت‭ ‬الأساتذة‭ ‬الثلاثة،‭ ‬وللأسف‭ ‬كان‭ ‬الدكتور‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬خارج‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬فحضر‭ ‬إلى‭ ‬المناقشة،‭ ‬الدكتورة‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬والدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬معًا،‭ ‬وكان‭ ‬كلاهما‭ ‬موضوعيًا‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬المناقشة،‭ ‬واختلفا‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬الحرية‭ ‬المتاحة‭ ‬للقارئ‭ ‬المعاصر‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬النصوص‭ ‬القديمة‭. ‬وكنت‭ ‬مزودًا‭ ‬بالمعارف‭ ‬الأحدث‭ ‬عن‭ ‬مناهج‭ ‬التأويل‭ ‬والتفسير‭ ‬التي‭ ‬استخدمتها‭ ‬في‭ ‬كتابي،‭ ‬واختلفنا‭ ‬وحاولتُ‭ ‬شرح‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬في‭ ‬أدب،‭ ‬وتقبلها‭ ‬كلاهما‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحذر‭ ‬والتحذير‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬

 

اقتناعه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المرايا‭ ‬المتجاورة‮»‬

مرت‭ ‬الأعوام‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬خَطَر‭ ‬لي‭ ‬خاطر‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬البناء‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬عن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬جعلت‭ ‬عنوانه‭: ‬االمرايا‭ ‬المتجاورةب‭. ‬وكان‭ ‬سر‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬أنني‭ ‬اشتركت‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ ‬دراسية‭ ‬خاصة‭ ‬عن‭ ‬فكر‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬ونقده‭ ‬الأدبي‭ ‬وإبداعه‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ولاحظت‭ ‬تكرار‭ ‬كلمة‭ ‬االمراياب‭ ‬أو‭ ‬االمرآةب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬عنها‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬فقررت‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬كتابًا‭ ‬عنه‭ ‬بعنوان‭: ‬االمراياب،‭ ‬وكنت‭ ‬أتصور‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬االمراياب‭ ‬هي‭ ‬الكلمة‭ ‬المفتاح‭ ‬لأدب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬ونقده‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ونقده‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وأظن‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬جمعني‭ ‬بأستاذى‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني،‭ ‬وسألني‭ ‬عن‭ ‬نشاطي‭ ‬العلمي‭ ‬فشرحت‭ ‬له‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقيم‭ ‬عليها‭ ‬كتابي‭ ‬عن‭ ‬مرايا‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وضحك‭ ‬أستاذي‭ ‬الأهواني‭ ‬ضحكة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬مشاكسة،‭ ‬قائلًا‭ ‬لي‭: ‬ايبدو‭ ‬أنك‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تصنع‭ ‬من‭ ‬الفسيخ‭ ‬شرباتب‭ ‬فرددت‭ ‬عليه‭ ‬متحمسًا‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لإقناعه‭ ‬بصواب‭ ‬الفكرة،‭ ‬فاستمع‭ ‬إليَّ‭ ‬هادئًا‭ ‬على‭ ‬عادته‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭: ‬اهات‭ ‬لنا‭ ‬كتاب‭ (‬حديث‭ ‬الأربعاء‭) ‬بأجزائه‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬مراحل‭ ‬زمنية‭ ‬متعددة‭ ‬ومتباعدة‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬واجعلنا‭ ‬نرى‭ ‬الحقول‭ ‬الدلالية‭ ‬التي‭ ‬ترد‭ ‬فيها‭ ‬لفظة‭ ‬المرآة‭ ‬ودلالاتهاب‭. ‬وبالفعل‭ ‬أمضينا‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬أمسك‭ ‬أنا‭ ‬بكتاب‭ ‬احديث‭ ‬الأربعاءب‭ ‬بأجزائه‭ ‬الثلاثة‭ ‬وأقرأ‭ ‬جزءًا‭ ‬جزءًا،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬يأخذ‭ ‬جزءًا‭ ‬واحدًا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التقريب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتهينا‭ ‬من‭ ‬الأجزاء‭ ‬الثلاثة،‭ ‬ولاحظ‭ ‬هو‭ ‬التكرار‭ ‬للفظة‭ ‬االمرآةب‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬ذهني‭. ‬وعندئذ‭ ‬أظهر‭ ‬لي‭ ‬اقتناعه‭ ‬بالفكرة‭. ‬وبالفعل‭ ‬عندما‭ ‬تأكدت‭ ‬من‭ ‬اقتناعه‭ ‬بدأت‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬حماس‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬لعامين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬فيما‭ ‬أذكر،‭ ‬ولم‭ ‬أنتهِ‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أنهيت‭ ‬الكتاب‭.‬

والطريف‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬فُصلت‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭ ‬عام‭ ‬1981‭ ‬وذهبت‭ ‬أستاذًا‭ ‬زائرًا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬استكهولم‭ ‬حيث‭ ‬قضيت‭ ‬عامًا‭ ‬كاملًا،‭ ‬لم‭ ‬أتوقف‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬إكمال‭ ‬الكتاب‭ ‬والعمل‭ ‬فيه‭. ‬وكان‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭: ‬االمرايا‭ ‬المتجاورة‭: ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬طه‭ ‬حسينب‭. ‬وعدت‭ ‬من‭ ‬السويد‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬استكهولم‭ ‬وفي‭ ‬حقيبتي‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أعطيته‭ ‬لأستاذي‭ ‬المرحوم‭ ‬الدكتور‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬إسماعيل‭ ‬ذ‭ ‬وكان‭ ‬رئيس‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬للكتاب‭ - ‬فأمر‭ ‬بطباعته‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬جاعلًا‭ ‬منه‭ ‬استهلالًا‭ ‬لسلسلة‭ ‬جديدة‭ ‬بعنوان‭: ‬ادراسات‭ ‬أدبيةب،‭ ‬وحقق‭ ‬الكتاب‭ ‬نجاحًا‭ ‬بارزًا،‭ ‬وأسهم‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬مكانته‭ ‬النقدية‭. ‬وكنت‭ ‬أشعر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناقشة‭ ‬للكتاب،‭ ‬بدين‭ ‬العلم‭ ‬العميق‭ ‬لأستاذي‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني،‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬استبدل‭ ‬بالحماسة‭ ‬في‭ ‬التشجيع‭ ‬المساءلة‭ ‬الممتحنة‭ ‬في‭ ‬الفكرة‭. ‬

وهأنذا‭ ‬بعد‭ ‬تلك‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬مضت‭ ‬على‭ ‬كتابي‭ ‬أسترجع‭ ‬ذكرى‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬الخشوع‭ ‬والعرفان‭ ‬بمعنى‭ ‬الأستاذية‭ ‬الحقة،‭ ‬فلولا‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬أصر‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬معه‭ ‬عينة‭ ‬دالة‭ ‬من‭ ‬كتابات‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬متوقفًا‭ ‬معي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬عند‭ ‬كلمة‭ ‬امرآةب،‭ ‬لما‭ ‬تأكدت‭ ‬من‭ ‬سلامة‭ ‬الفرض‭ ‬الذي‭ ‬انتهيت‭ ‬إليه‭ ‬أوليًّا،‭ ‬وما‭ ‬انتابتني‭ ‬الشجاعة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أحيل‭ ‬الفرض‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬علمية‭ ‬حقيقية،‭ ‬وما‭ ‬مضيت‭ ‬في‭ ‬حماسة‭ ‬لإنهائها‭ ‬حتى‭ ‬أخذت‭ ‬مكانها‭ ‬بين‭ ‬الدراسات‭ ‬الجادة‭ ‬عن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭.‬

والحق‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أدين‭ ‬للدكتور‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬العلمي‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬في‭ ‬سياقه‭ ‬العقلاني‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أدين‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭ ‬خارج‭ ‬النطاق‭ ‬العلمي‭ ‬والدرس‭ ‬الأدبي‭ ‬بما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ذكرته‭ ‬في‭ ‬مقالات‭ ‬أخرى‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الذاتية‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الموضوعية‭ ■

د‭. ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الأهواني