بـراغ «أُمّ كلّ المدن» ذات الأبراج الحادّة

بـراغ «أُمّ كلّ المدن» ذات الأبراج الحادّة

هناك مدن كالأحلام، تلوح كطيف قبل أن تشتبك مع ملامحها من خلال نافذة الطائرة، وتبقى كالطيف حتّى وإن عُدت منها، كأنما الأيام لم تُشبع نهمَك لاكتشاف مدينة أوسع من حلم، بكلّ ما تضمّه في كتابها من جمال طبيعة وحكايات تاريخ.

 

دومًا‭ ‬تتلازم‭ ‬لديَّ‭ ‬كلمتا‭ ‬براغ‭ ‬وربيع،‭ ‬فأستعيد‭ ‬ما‭ ‬قرأته‭ ‬قديمًا‭ ‬عن‭ ‬ربيع‭ ‬براغ،‭ ‬مع‭ ‬أنّي‭ ‬زرتها‭ ‬صيفًا،‭ ‬والمطر‭ ‬كان‭ ‬يغسل‭ ‬أرضية‭ ‬مطارها،‭ ‬ويستقبلني‭ ‬ببرد‭ ‬يبدو‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬ربيعها،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تسلّم‭ ‬الراية‭ ‬للصيف،‭ ‬مع‭ ‬أنّه‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬ربيع‭ ‬ممتدّ‭. ‬

ويعيدني‭ ‬‮«‬الربيع‮»‬‭ ‬رغمًا‭ ‬عنّي،‭ ‬وعبر‭ ‬آخر‭ ‬تخوم‭ ‬الذاكرة،‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬القراءات‭ ‬السياسية‭ ‬التصق‭ ‬فيها‭ ‬اسم‭ ‬براغ‭ ‬بذهني،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مسمّى‭ ‬حلف‭ ‬وارسو،‭ ‬ووصولًا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الجلاسنوست‭ ‬مع‭ ‬آخر‭ ‬زعماء‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬جورباتشوف،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسلّمه‭ ‬للانفتاح‭... ‬وللانهيار‭.‬

في‭ ‬‮«‬ربيع‭ ‬براغ‮»‬‭ ‬المحسوب‭ ‬على‭ ‬أغسطس‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬اجتاحت‭ ‬قوات‭ ‬سوفييتية‭ ‬مدعومة‭ ‬بقوات‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬بلدان‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬الفلك‭ ‬الشيوعي‭ (‬بولندا‭ ‬والمجر‭ ‬وبلغاريا‭) ‬العاصمة‭ ‬التشيكية‭ ‬براغ،‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬الحراك‭ ‬الإصلاحي‭ ‬للزعيم‭ ‬التشيكي‭ ‬ألكسندر‭ ‬دوبتشيك‭ ‬خطرًا‭ ‬يجب‭ ‬اجتثاثه‭ ‬في‭ ‬تُربته‭ ‬الأولى‭ ‬بنحو‭ ‬200‭ ‬ألف‭ ‬جندي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬القطب‭ ‬الآخر‭ (‬أمريكا‭) ‬غارقًا‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الفيتنامية،‭ ‬فقتل‭ ‬خلال‭ ‬اجتياح‭ ‬براغ‭ ‬137‭ ‬مدنيًّا،‭ ‬وبقيت‭ ‬الهيمنة‭ ‬السوفييتية‭ ‬مستمرة‭ ‬حتى‭ ‬ثورتها‭ ‬المخملية‭ ‬التي‭ ‬استفادت‭ ‬من‭ ‬تداعي‭ ‬القطب‭ ‬الشيوعي،‭ ‬حينها‭ ‬تنفّست‭ ‬براغ‭ ‬حرّيتها،‭ ‬وخلعت‭ ‬العَلَم‭ ‬الأحمر‭ ‬عن‭ ‬هوّيتها‭.‬

كانت‭ ‬على‭ ‬أجندة‭ ‬السفر‭ ‬التشيك،‭ ‬وسلوفاكيا،‭ ‬الجارتان‭ ‬اللتان‭ ‬كانتا‭ ‬دولة‭ ‬واحدة‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬جمهورية‭ ‬تشيكوسلوفاكيا‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حرّرها‭ ‬الجيش‭ ‬السوفييتي‭ ‬من‭ ‬الألمان‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬عام‭ ‬1945م،‭ ‬وبقيت‭ ‬تحت‭ ‬زعامة‭ ‬‮«‬الكرملين‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬‮«‬الكتلة‭ ‬الشرقية‮»‬،‭ ‬هذه‭ ‬التوأمة‭ ‬بين‭ ‬الجارتين‭ ‬انتفت‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬الخلافات‭ ‬إثر‭ ‬انهيار‭ ‬سور‭ ‬برلين‭ ‬مطلع‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وربما‭ ‬من‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الانفصال‭ ‬وديًّا،‭ ‬لتعود‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬دولتين‭ ‬كما‭ ‬السابق‭.‬

يقال‭ ‬إن‭ ‬التشيك‭ ‬دولة‭ ‬تحبسها‭ ‬اليابسة،‭ ‬سهول‭ ‬تحيطها‭ ‬جبال،‭ ‬ومساحتها‭ ‬المقدّرة‭ ‬بنحو‭ ‬80‭ ‬ألف‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع،‭ ‬لا‭ ‬تطلّ‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬أو‭ ‬محيط،‭ ‬تتوسط‭ ‬أوربا‭ ‬ليحدّها‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬سلوفاكيا‭ ‬ومن‭ ‬الغرب‭ ‬ألمانيا‭ ‬ومن‭ ‬الشمال‭ ‬بولندا‭ ‬ومن‭ ‬الجنوب‭ ‬النمسا،‭ ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬رؤيته‭ ‬من‭ ‬كنائس،‭ ‬فإن‭ ‬معلومة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نحو‭ ‬59‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬رسميًّا‭ ‬بلا‭ ‬ديانة،‭ ‬سكانها‭ ‬الذين‭ ‬تتناقص‭ ‬أعدادهم‭ ‬بسبب‭ ‬ثقافة‭ ‬الإنجاب،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬المعلومات‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬التشيك‭ ‬فيها‭ ‬90‭ ‬في‭ ‬المئة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تتوزع‭ ‬الـ10‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬الأخرى‭ ‬على‭ ‬جنسيات‭ ‬أخرى‭ ‬كالبولنديين‭ ‬والسلوفاك‭ ‬والألمان‭ ‬وغيرهم‭.‬

 

إطلالة‭ ‬ساحرة

التقيت‭ ‬براغ‭ ‬كنافذة‭ ‬أعبر‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬شقيقتها‭ ‬السابقة‭ (‬سلوفاكيا‭) ‬وجارتهما‭ ‬الأخرى‭ ‬المجر،‭ ‬وفي‭ ‬أوّل‭ ‬صباحاتي‭ ‬معها‭ ‬كنت‭ ‬أهرع‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬محلّ‭ ‬لأقتني‭ ‬مظلة‭ ‬تحميني‭ ‬من‭ ‬المطر،‭ ‬وبما‭ ‬تيسّر‭ ‬من‭ ‬ملابس‭ ‬ثقيلة‭ ‬أتقّي‭ ‬بها‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬بردها،‭ ‬تمنيت،‭ ‬سريعًا،‭ ‬لو‭ ‬أعيد‭ ‬المظلة‭ ‬إلى‭ ‬البائع،‭ ‬فقد‭ ‬اختفى‭ ‬ذلك‭ ‬الانهمار‭ ‬الصباحي،‭ ‬وكأنما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬ممطر‭ ‬لتأتي‭ ‬الشمس‭ ‬متوهجة‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬احتمال‭ ‬سقوط‭ ‬أشعتها‭ ‬بانتقام‭ ‬مُبالغ‭ ‬فيه‭.‬

الفندق‭ ‬له‭ ‬إطلالته‭ ‬الساحرة،‭ ‬لا‭ ‬يبعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬وسط‭ ‬المدينة‮»‬،‭ ‬بغية‭ ‬السائح‭ ‬الأولى،‭ ‬كانت‭ ‬محطة‭ ‬سائر‭ ‬وسائل‭ ‬المواصلات‭ ‬قريبة،‭ ‬المدينة‭ ‬استيقظت‭ ‬من‭ ‬سباتها‭ ‬‮«‬الشيوعي‮»‬‭ ‬سريعًا،‭ ‬فبدت‭ ‬ضاجّة‭ ‬بالانفتاح‭ ‬والاعتياد‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الغرباء،‭ ‬شعب‭ ‬يسير‭ ‬بهدوء،‭ ‬لا‭ ‬صوت‭ ‬عاليًا‭ ‬له،‭ ‬وكان‭ ‬الوقت‭ ‬متأخرًا‭ ‬إلا‭ ‬بما‭ ‬يتيح‭ ‬التجوال‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬مكان‭ ‬الإقامة،‭ ‬والبحث‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬منه‭ ‬عن‭ ‬مطعم‭ ‬يحمل‭ ‬لافتة‭ ‬‮«‬حلال‮»‬‭ ‬كعادة‭ ‬السيّاح‭ ‬الآتين‭ ‬من‭ ‬بلادنا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬المبتغى‭ ‬بعيدًا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬المطعم‭ ‬الباكستاني‭ ‬قريبًا‭ ‬جدًّا،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مذاق‭ ‬البرياني‭... ‬مفخخ‭ ‬بالفلفل‭... ‬جدًا‭.‬

  ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬وما‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬ساحات‭ ‬تبعد‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ثلاث‭ ‬محطات‭ ‬عبر‭ ‬إحدى‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬العام،‭ ‬بحثت‭ ‬عن‭ ‬بائع‭ ‬التذاكر‭ ‬أو‭ ‬البطاقات‭ ‬فلم‭ ‬أجد،‭ ‬نزلت‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسألني‭ ‬أحد‭ ‬عن‭ ‬التذكرة،‭ ‬درس‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬براغ،‭ ‬الثقة‭ ‬بالبشر،‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬يؤدي‭ ‬ما‭ ‬عليه،‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعدّد‭ ‬الرقباء‭.‬

 

الحذر‭ ‬واجب

نصحني‭ ‬موظف‭ ‬الاستقبال‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬أن‭ ‬أنتبه،‭ ‬براغ‭ ‬مدينة‭ ‬مسالمة،‭ ‬وآمنة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الحذر‭ ‬واجب،‭ ‬حملت‭ ‬مقولته‭ ‬معي،‭ ‬وبدت‭ ‬لي‭ ‬هذه‭ ‬النصيحة‭ ‬استثنائية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬توصف‭ ‬بالأمان،‭ ‬وقد‭ ‬تكررت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موضع،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬عليك‭ ‬الحذَر،‭ ‬ربّما‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يخدش‭ ‬بهاء‭ ‬المدينة‭ ‬شيء،‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬جمالها،‭ ‬وتعامل‭ ‬أهلها،‭ ‬إنما‭ ‬يمكن‭ ‬السير‭ ‬والتجوال‭ ‬مهما‭ ‬بالغ‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬فرد‭ ‬مساحة‭ ‬وحشته،‭ ‬وبرده‭.‬

يحقّ‭ ‬لبراغ‭ ‬الاعتداد‭ ‬بأنها‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬مدن‭ ‬العالم،‭ ‬العاصمة‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مركز‭ ‬جمال‭ ‬يليق‭ ‬بفاتنة‭ ‬أوربية‭ ‬أخذت‭ ‬من‭ ‬الشرق‭ ‬بعضًا‭ ‬منه،‭ ‬وهي‭ ‬مركز‭ ‬اقتصادي‭ ‬وصناعي‭ ‬رغم‭ ‬عدد‭ ‬سكانها‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬صغيرًا‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمدن‭ ‬الكبرى،‭ ‬فسكانها‭ ‬حسب‭ ‬معلومات‭ ‬‮«‬ويكيبيديا‮»‬‭ ‬نحو‭ ‬1‭.‬2‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭ ‬يتوزعون‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬حضرية‭ ‬تقدر‭ ‬بنحو‭ ‬6800‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع،‭ ‬جميلة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لتستحق‭ ‬الألقاب‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬عليها،‭ ‬كالمدينة‭ ‬‮«‬ذات‭ ‬الأبراج‭ ‬الحادة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المدينة‭ ‬الذهبية‮»‬،‭ ‬و«أم‭ ‬كلّ‭ ‬المدن‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬أوربا‮»‬‭ ‬أيضًا‭. ‬

مدينة‭ ‬عبرتها‭ ‬جحافل‭ ‬السياح‭ ‬لتستعيد‭ ‬حياتها‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الذكريات‭ ‬المؤلمة‭ ‬لصور‭ ‬عبور‭ ‬جحافل‭ ‬الجيوش،‭ ‬عبرها‭ ‬النازيون‭ ‬والشيوعيون‭ ‬وغيرهم،‭ ‬لكنّها‭ ‬بقيت‭ ‬تحتفظ‭ ‬بذكرى‭ ‬مَن‭ ‬مرّوا‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬الحرب،‭ ‬لتعرضها‭ ‬على‭ ‬الزوار‭ ‬الذين‭ ‬يأتون‭ ‬في‭ ‬فسحات‭ ‬السلام‭... ‬المباني‭ ‬القديمة‭ ‬المطلة‭ ‬بأناقة،‭ ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬منها‭ ‬الزمن،‭ ‬بل‭ ‬وضع‭ ‬عليها‭ ‬بصمته‭ ‬الأثيرة،‭ ‬بحيث‭ ‬يلتقي‭ ‬بهاء‭ ‬الجمال‭ ‬بعمق‭ ‬التاريخ،‭ ‬بنايات‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬المعمارية‭ ‬المختلفة،‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬الباروك‭ ‬والفن‭ ‬القوطي،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سمّي‭ ‬بالـ‭ ‬‮«‬نيوكلاسيكية‮»‬،‭ ‬ووصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬المتمسكة‭ ‬بهويّة‭ ‬المكان‭ ‬ورح‭ ‬المدينة،‭ ‬مما‭ ‬حدا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1992‭ ‬لتعتبر‭ ‬مركز‭ ‬براغ‭ ‬التاريخي‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬التراث‭ ‬العالمي‭.‬

كان‭ ‬التجوال‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬مبهرًا،‭ ‬يستحق‭ ‬ذلك‭ ‬الاعتناء‭ ‬من‭ ‬‮«‬اليونسكو‮»‬،‭ ‬براغ‭ ‬تعتد‭ ‬بأنها‭ ‬بلد‭ ‬الكاتب‭ ‬المعروف‭ ‬فرانز‭ ‬كافكا،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الألمانية‭ ‬لغته‭ ‬الأم،‭ ‬ويشير‭ ‬أحد‭ ‬المرشدين‭ ‬السياحيين‭ ‬إلى‭ ‬شهرة‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬الفنون،‭ ‬فالمدينة‭ ‬مركز‭ ‬ثقافي‭ ‬مهم‭ ‬تكثر‭ ‬فيها‭ ‬المسارح‭ ‬والعروض‭ ‬الموسيقية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬شهرتها‭ ‬العلمية،‭ ‬حيث‭ ‬يوجد‭ ‬بها‭ ‬نحو‭ ‬8‭ ‬جامعات‭ ‬وكليات‭ ‬ذات‭ ‬صَيت‭ ‬كبير‭.‬

 

ساحات‭ ‬السلام

السّير‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬ممتع،‭ ‬كأنما‭ ‬المدينة‭ ‬صممت‭ ‬لتلائم‭ ‬المشاة‭ ‬أكثر،‭ ‬وما‭ ‬حولك‭ ‬يدعوك‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬المعمار،‭ ‬في‭ ‬السكون‭ ‬الدافئ‭ ‬لمدينة‭ ‬تعبت‭ ‬من‭ ‬الركض‭ ‬في‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار‭ ‬طويلًا‭ ‬وآن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تستريح،‭ ‬تجلس‭ ‬إلى‭ ‬مقاهيها‭ ‬لتشعر‭ ‬أيّ‭ ‬مدينة‭ ‬أصبحت،‭ ‬تحلم‭ ‬مع‭ ‬الموسيقى،‭ ‬وتنثرها‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬ليسمعها‭ ‬المارّة،‭ ‬فتكتسب‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬السياح،‭ ‬يتأملون‭ ‬ساحات‭ ‬السلام‭ ‬والهدوء،‭ ‬وينثرون‭ ‬الحبوب‭ ‬للحمام،‭ ‬ويتأملون‭ ‬كيف‭ ‬تختلط‭ ‬اللغات‭ ‬في‭ ‬الألسن،‭ ‬فلا‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مدينة‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬جميعًا‭. ‬

أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يُنعت‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬القديمة‮»‬،‭ ‬هناك‭ ‬ستجد‭ ‬ضالتك‭ ‬من‭ ‬الحيوية‭ ‬وثراء‭ ‬القديم‭ ‬متجاورًا‭ ‬مع‭ ‬حياة‭ ‬الناس،‭ ‬المقاهي‭ ‬والأسواق‭ ‬والساحات،‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭ ‬تنبض‭ ‬بالجمال‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬دؤوبة‭ ‬متوارثة‭ ‬عبر‭ ‬مئات‭ ‬السنين‭ ‬ربّما،‭ ‬بشر‭ ‬ينطلقون‭ ‬مبتهجين‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬تاريخية‭ ‬داخل‭ ‬البلدة‭ ‬القديمة،‭ ‬يعود‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر،‭ ‬وتقع‭ ‬بين‭ ‬ساحة‭ ‬فاتسلاف‭ ‬وجسر‭ ‬تشارلز‭. ‬

تمتاز‭ ‬بمبانيها‭ ‬القديمة‭ ‬وكنائسها‭ ‬الرائعة،‭ ‬وتعتبر‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬المعالم‭ ‬التاريخية‭ ‬الأكثر‭ ‬جمالًا‭ ‬في‭ ‬أوربا‭. ‬تحتوي‭ ‬الساحة‭ ‬على‭ ‬ساعة‭ ‬فلكية،‭ ‬وبرج‭ ‬يوفّر‭ ‬مشهدًا‭ ‬بانوراميًّا‭ ‬لمدينة‭ ‬براغ،‭ ‬وكنيسة‭ ‬القديس‭ ‬نيكولاس،‭ ‬وتمثال‭ ‬المصلح‭ ‬الديني‭ ‬جان‭ ‬هوس،‭ ‬وتتوافر‭ ‬فيها‭ ‬مجموعة‭ ‬متنوعة‭ ‬من‭ ‬المطاعم‭ ‬والمقاهي‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬لك‭ ‬فرصة‭ ‬التمتع‭ ‬بالأجواء‭ ‬التاريخية‭ ‬الأخّاذة‭.‬‮ ‬

يتوسّط‭ ‬ساحة‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬تمثال‭ ‬جان‭ ‬هوس،‭ ‬الذي‭ ‬قادته‭ ‬معتقداته‭ ‬الدينية‭ ‬إلى‭ ‬إعدامه‭ ‬أيام‭ ‬الحرب‭ ‬البوهيمية،‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬معلومات‭ ‬الشبكة‭ ‬العنكبوتية،‭ ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬التمثال‭ ‬نصب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1951‭ ‬في‭ ‬الذكرى‭ ‬الـ500‭ ‬لوفاته‭.‬

أختار‭ ‬‮«‬الباص‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬المفتوح‭ ‬ليعرّفني‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬المدينة،‭ ‬أو‭ ‬وجوهها‭ ‬المتعددة،‭ ‬يروقني‭ ‬النظر‭ ‬من‭ ‬طابقه‭ ‬الأعلى‭ ‬لتكون‭ ‬الصورة‭ ‬أمامي‭ ‬أشمل‭ ‬وأجمل،‭ ‬يخيّرني‭ ‬الشاب‭ ‬العربي‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬أدفع‭ ‬تذكرة‭ ‬‮«‬الطواف‮»‬‭ ‬الجمالي‭ ‬باليورو‭ ‬أو‭ ‬الكورنا،‭ ‬أختار‭ ‬البطاقة‭ ‬البنكية‭ ‬لأنّها‭ ‬مقبولة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان،‭ ‬لذا‭ ‬تبعته‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬المكتب‭ ‬السياحي‭ ‬لشركته،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬تلك‭ ‬المكاتب‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تتنفس‭ ‬سياحة‭... ‬وحُسنًا‭.‬

 

النهر‭ ‬الساحر

كان‭ ‬نهر‭ ‬فلتافا‭ ‬ساحرًا،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجمّل‭ ‬الجسور‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تضع‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬البهاء‭ ‬على‭ ‬مائه‭ ‬المنساب‭ ‬جمالًا‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬براغ،‭ ‬والأضواء‭ ‬تتراقص‭ ‬فوق‭ ‬المياه‭ ‬زهوًا؟

على‭ ‬جسر‭ ‬كارل‭ ‬أسير،‭ ‬مفتتنًا‭ ‬بالتاريخ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الحاضر،‭ ‬المدن‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬رائحة‭ ‬أمسها،‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬العتيقة،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تقرأ‭ ‬المدينة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تلتقيها،‭ ‬ففرصتك‭ ‬في‭ ‬اكتشافها‭ ‬تبقى‭ ‬محدودة،‭ ‬للأمس‭ ‬رائحة،‭ ‬تأتيك‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تدري،‭ ‬تلامس‭ ‬روحك‭ ‬ربّما،‭ ‬فلا‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬إلّاك،‭ ‬ذلك‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يحب‭ ‬مدينة‭ ‬حد‭ ‬إدمانها،‭ ‬وآخر‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬البقاء‭ ‬فيها‭ ‬يومًا‭ ‬واحدًا‭.‬

هناك‭ ‬جسر‭ ‬كارل،‭ ‬أيقونة‭ ‬تربط‭ ‬ضفتي‭ ‬نهر‭ ‬فلتافيا،‭ ‬بدأ‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬إنشائه‭ ‬عام‭ ‬1357م‭ ‬بأمر‭ ‬من‭ ‬الملك‭ ‬كارل‭ ‬الرابع،‭ ‬واستمر‭ ‬بناؤه‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1400‭ ‬م،‭ ‬ولذلك‭ ‬سمّي‭ ‬باسم‭ ‬الملك،‭ ‬ليصبح‭ ‬معلمًا‭ ‬سياحيًا‭ ‬شهيرًا،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬جمهورية‭ ‬التشيك‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الوسطى،‭ ‬نحو‭ ‬نصف‭ ‬كيلومتر،‭ ‬وبعرض‭ ‬عشرة‭ ‬أمتار‭ ‬كافية‭ ‬لتصنع‭ ‬ثقافة‭ ‬المتعة‭ ‬إلى‭ ‬الجسر‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬النهر،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬الجسر،‭ ‬نظرات‭ ‬في‭ ‬اتجاهين،‭ ‬ولكلّ‭ ‬منها‭ ‬متعة‭ ‬التأمل‭.‬

جسر‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ضمن‭ ‬حسابات‭ ‬السائح،‭ ‬فبراغ‭ ‬هي‭ ‬مدينة‭ ‬الجسور،‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬عنها‭ ‬العاصمة‭ ‬المجرية‭ ‬بودابست،‭ ‬جسر‭ ‬تشارلز،‭ ‬قِبلة‭ ‬السياح‭ ‬الذين‭ ‬يفدون‭ ‬إليه‭ ‬بالآلاف،‭ ‬وكان‭ ‬أعلى‭ ‬عدد‭ ‬للسياح‭ ‬عليه‭ ‬قد‭ ‬سجّل‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬عندما‭ ‬وقف‭ ‬عليه‭ ‬نحو‭ ‬1562‭ ‬شخصًا،‭ ‬بمعدل‭ ‬تسعة‭ ‬أشخاص‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬متر‭ ‬مربع،‭ ‬ولأنّ‭ ‬التماثيل‭ ‬الأصلية‭ ‬نقلت‭ ‬إلى‭ ‬المتحف‭ ‬الوطني،‭ ‬فإن‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬يصل‭ ‬عددها‭ ‬إلى‭ ‬30‭ ‬تمثالًا‭ ‬تبدو‭ ‬جميلة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لتبدو‭ ‬كأنها‭ ‬الأصل،‭ ‬حيث‭ ‬استبدلت‭ ‬عام‭ ‬1965،‭ ‬ولا‭ ‬يفطن‭ ‬السائح‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬نسخ‭ ‬طبق‭ ‬الأصل‭!‬

صعدنا‭ ‬إلى‭ ‬قلعة‭ ‬براغ،‭ ‬نتبع‭ ‬المرشدة‭ ‬بتلك‭ ‬الحيوية‭ ‬الأخّاذة،‭ ‬تقول‭ ‬إنها‭ ‬فرنسية،‭ ‬تتحدث‭ ‬الإنجليزية‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬الطلقات‭ ‬السريعة،‭ ‬مع‭ ‬رشاقة‭ ‬في‭ ‬الجسم‭ ‬واللسان،‭ ‬وخفّة‭ ‬دم‭ ‬تسكبها‭ ‬على‭ ‬العشرات‭ ‬الذين‭ ‬كنّا‭ ‬نتجمع‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬وهي‭ ‬تكاد‭ ‬تركض‭ ‬من‭ ‬فناء‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬بين‭ ‬الكاتدرائية‭ ‬والقصر‭ ‬والمحيط‭ ‬المسوّر‭ ‬على‭ ‬آثار‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬هنا،‭ ‬وكانت‭ ‬تغلّف‭ ‬المعلومات‭ ‬الجادّة‭ ‬بالضحكة‭.‬

 

لحظات‭ ‬وادعة‭ ‬في‭ ‬تخوم‭ ‬الجمال

اختارت‭ ‬لنا‭ ‬إطلالة‭ ‬لنرى‭ ‬كيف‭ ‬يتغيّر‭ ‬الحرس‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬القصر،‭ ‬كنا‭ ‬نكاد‭ ‬نحبس‭ ‬أنفاسنا‭ ‬بانتظار‭ ‬ما‭ ‬سيحصل،‭ ‬والجموع‭ ‬تتكاثر،‭ ‬والوقت‭ ‬يمرّ،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ما‭ ‬رأيناه‭ ‬استثنائيًا،‭ ‬بل‭ ‬لحظات‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬حارسان‭ ‬مكان‭ ‬زميليهما،‭ ‬مع‭ ‬موسيقى‭ ‬تكمل‭ ‬المشهد‭... ‬وبعدها‭ ‬اندفع‭ ‬الجميع‭ ‬إلى‭ ‬الساحات‭ ‬الواسعة‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬القلعة‭.‬

ومع‭ ‬اتساع‭ ‬المكان‭ ‬وتشابُه‭ ‬الوجوه‭ ‬ضاعت‭ ‬الجهات‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يدي،‭ ‬لأخرج‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬لا‭ ‬أدرك‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬ستكون،‭ ‬باحثًا‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬عن‭ ‬حافلات‭ ‬السياحة‭ ‬التي‭ ‬تشابهت‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بالإمكان‭ ‬معرفة‭ ‬أيّ‭ ‬البوابات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توصلنا‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الصواب‭.‬

لكن‭ ‬براغ‭ ‬تمنحنا‭ ‬المصادفات‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬توقّع،‭ ‬وعدنا‭ ‬محمّلين‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يُحصى‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬وضحكات،‭ ‬وما‭ ‬تيسّر‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬وادعة‭ ‬في‭ ‬تخوم‭ ‬جمالها‭.‬

كانت‭ ‬محطة‭ ‬القطارات‭ ‬ضاجّة‭ ‬بالبشر،‭ ‬وأسأل‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬رصيف‭ ‬أتّجه‭ ‬لينقلني‭ ‬إلى‭ ‬جارتها‭ ‬وشقيقتها‭ ‬السابقة‭ ‬سلوفاكيا؟‭! ‬لكنّ‭ ‬الأصابع‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أمكنة‭ ‬مختلفة،‭ ‬والأرقام‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬الأرصفة‭ ‬لا‭ ‬تخبر‭ ‬بالمزيد،‭ ‬والخشية‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬القطار‭ ‬قد‭ ‬أزف‭ ‬موعده‭ ‬فيغادر،‭ ‬وأنا‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أصدّق‭ ‬أن‭ ‬نصف‭ ‬التذاكر‭ ‬التي‭ ‬ضيعتها‭ (‬مما‭ ‬تخصّ‭ ‬عائلتي‭) ‬سوف‭ ‬أستخرج‭ ‬‮«‬بدل‭ ‬فاقد‮»‬‭ ‬عنها‭ ‬بكل‭ ‬سهولة،‭ ‬لكنّها‭ ‬طيبة‭ ‬المرأة‭ ‬التشيكية‭ ‬التي‭ ‬قارنت‭ ‬بين‭ ‬أرقام‭ ‬الثلاث‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬يدي،‭ ‬مع‭ ‬الأربع‭ ‬الضائعة،‭ ‬وخلال‭ ‬دقيقتين‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬في‭ ‬الزحام‭ ‬عن‭ ‬الرصيف‭ ‬المطلوب‭.‬

أعود‭ ‬إلى‭ ‬براغ‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬أخيرة‭ ‬قبل‭ ‬السفر،‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عبر‭ ‬القطار‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬سبع‭ ‬ساعات‭ ‬تفصلها‭ ‬عن‭ ‬بودابست،‭ ‬لأنحاز‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬فاتسلافسكي،‭ ‬ولأكتشف‭ ‬في‭ ‬البناية‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬يشغلها‭ ‬الفندق‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬الكتب‮»‬،‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬كأنها‭ ‬مغارة‭ ‬علي‭ ‬بابا،‭ ‬تمتد‭ ‬طولًا‭ ‬في‭ ‬العمق،‭ ‬ولتزيد‭ ‬دهشتي‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬طابقًا‭ ‬أرضيًّا،‭ ‬وآخر‭ ‬علويًّا،‭ ‬ينضمان‭ ‬إلى‭ ‬الأرضي‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬ملامح‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الثريّ‭ ‬من‭ ‬الكتب‭... ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬يحدثني‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬حضرتها‭ ‬يغدو‭ ‬الصمت‭ ‬والتأمل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬بُد‭ ‬ّمنه‭ ‬

التقاطة‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬لتبدي‭ ‬لك‭ ‬المدينة‭ ‬حسنها،‭ ‬حيث‭ ‬امتزاج‭ ‬الألوان،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭.‬

مدخل‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭ ‬يمر‭ ‬من‭ ‬هنا‭.. ‬ومن‭ ‬أمكنة‭ ‬عدة‭ ‬كأنها‭ ‬تفتح‭ ‬أبوابها‭ ‬لكل‭ ‬زوارها‭ ‬ليستعيدوا‭ ‬أزمنة‭ ‬شتى

 

تحرص‭ ‬المدينة‭ ‬على‭ ‬إدهاش‭ ‬زوارها،‭ ‬وتوضيح‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬معنية‭ ‬بتراث‭ ‬الأمس

العراقة‭ ‬تتجلى‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬الكنائس‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬مستقطبة‭ ‬لآلاف‭ ‬السياح‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة

المتحف‭ ‬الوطني،‭ ‬قبلة‭ ‬مهمة‭ ‬للسياح

الدخول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الهويس‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬قناة‭ ‬ضيقة

كرسي‭ ‬وإشارات‭ ‬مع‭ ‬الحد‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬مستويين‭ ‬للنهر

محطة‭ ‬القطارات‭ ‬في‭ ‬براغ‭... ‬نافذتنا‭ ‬السهلة‭ ‬للعبور‭ ‬إلى‭ ‬جيرانها

على‭ ‬امتداد‭ ‬الرحلة‭ ‬النهرية‭ ‬تستمتع‭ ‬بالمناظر‭ ‬على‭ ‬الضفتين

المتحف‭ ‬الوطني‭ ‬يستقبل‭ ‬زواره،‭ ‬للدخول‭ ‬إليه‭ ‬أو‭ ‬التصوير‭ ‬أمام‭ ‬واجهته‭ ‬الجميلة،‭ ‬ومنها‭ ‬يمكن‭ ‬التقاط‭ ‬صور‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬لساحة‭ ‬فاتسلافسكي