أي نموذج تنموي لما بعد جائحة كورونا؟

أي نموذج تنموي  لما بعد جائحة كورونا؟

شكلت‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ (‬كوفيد‭ ‬19‭) ‬المستجد،‭ ‬إحدى‭ ‬الجائحات‭ ‬الأكثر‭ ‬خطورة‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬فبعدما‭ ‬تخلصت‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬الآثار‭  ‬السلبية‭ ‬للأوبئة‭ ‬والجائحات‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬كارثة‭ ‬إنسانية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى،‭ ‬فالجائحة‭ ‬لها‭ ‬آثار‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأصعدة،‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬والنفسية،‭ ‬و‭ ‬على‭ ‬التنمية‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬بدأ‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬كون‭ ‬الوباء‭/ ‬الجائحة،‭ ‬سيشكل‭ ‬انعطافة‭ ‬في‭ ‬البراديغمات‭ ‬التنموية‭ ‬السائدة،‭ ‬سواء‭ ‬بمحور‭ ‬الشمال‭ ‬أو‭ ‬محور‭ ‬الجنوب‭. ‬

 

إذا‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬النماذج‭ ‬التنموية‭ ‬والتي‭ ‬تسمى‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية‭ (‬Welfare State‭)‬،‭ ‬قد‭ ‬استطاعت‭ - ‬في‭ ‬حدود‭ ‬معينة‭ - ‬أن‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬الجائحة‭ ‬وتداعياتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بمرونة‭ ‬عالية،‭ ‬بما‭ ‬تتوفر‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وأنظمة‭ ‬ضمان‭ ‬اجتماعي‭ ‬وتغطية‭ ‬صحية‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصنف‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬دولة‭ ‬رعاية‭ (‬إيطاليا‭)‬،‭ ‬نجدها‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬قاصرة‭ ‬عن‭ ‬احتواء‭ ‬تداعيات‭ ‬الوباء،‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬دولا‭ ‬أخرى‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬لتبعات‭ ‬الوباء،‭ ‬وذلك‭ ‬بما‭ ‬خلفته‭ ‬من‭ ‬أضرار‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي،‭ ‬وعلى‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬الدول،‭ ‬نجد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬مما‭ ‬يشكل‭ ‬مفارقة‭ ‬محيرة‭. ‬بينما‭ ‬وجدت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية،‭ ‬نفسها،‭ ‬محاصرة‭ ‬بسبب‭ ‬الجائحة‭ ‬وبمخلفاتها‭ ‬وتبعاتها،‭ ‬إما‭ ‬بسبب‭ ‬النقص‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬بنياتها‭ ‬التحتية،‭ ‬أو‭ ‬نظرا‭ ‬لقلة‭ ‬الكوادر‭ ‬الطبية‭ ‬المؤهلة‭ ‬لمواجهة‭ ‬الوباء،‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬نقص‭ ‬الخبرة‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الجوائح،‭ ‬بينما‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والمالي،‭ ‬فقد‭ ‬لجأت‭ ‬العديد‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الاقتراض،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مستبعدة‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬تدبر‭ ‬أزمته‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭. ‬

انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬نتساءل‭: ‬ألا‭ ‬تشكل‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬لحظة‭ ‬مفصلية‭ ‬للتساؤل‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬بكل‭ ‬أبعاده‭ ‬الحقوقية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والبيئية؟‭ ‬ألا‭ ‬تشكل‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة‭ ‬فرصة‭ ‬للتأمل‭ ‬واستخلاص‭ ‬الدروس‭ ‬والعبر‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬التنموية‭ ‬السابقة،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نموذج‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية‭ ‬أو‭  ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النموذج‭ ‬النيوليبرالي؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬للدول‭ ‬العربية‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬الأزمة،‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬نموذج‭ ‬تنموي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬فلسفة‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬اقتصاديا‭ ‬وتكنولوجيا،‭ ‬وعلى‭ ‬تعزيز‭ ‬منظومة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬القيم،‭ ‬كقيم‭ ‬المواطنة‭ ‬والعدالة‭ ‬والحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬والتضامن‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬البيئة؟‭ 

 

أولًا‭: ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬لمفهوم‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬الرعاية‮»‬

يصعب‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المنهجية‭ ‬تحديد‭ ‬تاريخ‭ ‬لميلاد‭ ‬نموذج‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية،‭ ‬لكن‭ ‬وبنوع‭ ‬من‭ ‬التعميم‭ ‬المجازف،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬شكلت‭ ‬الانطلاقة‭ ‬الفعلية‭ ‬لهذا‭ ‬النموذج‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬تحديدًا،‭ ‬والتي‭ ‬أمنت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والصحية‭ ‬والتعليمية‭ ‬والبنيات‭ ‬التحتية‭ ‬لمدة‭ ‬تجاوزت‭ ‬الثلاثين‭ ‬سنة،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬1945‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬1973‭ ‬والتي‭ ‬تصادفت‭ ‬مع‭ ‬الأزمة‭ ‬الأولى‭ ‬النفطية‭. ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية‭ (‬الثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬الذهبية‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬تميزت‭ ‬ببناء‭ ‬أوربا‭ ‬التنموية‭ ‬وفي‭ ‬قلبها‭ ‬بناء‭ ‬الإنسان،‭ ‬وبناء‭ ‬قيم‭ ‬المواطنة‭ ‬والكرامة‭ ‬والحرية‭ ‬والمساواة‭ ‬والإنصاف‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬عرفت‭ ‬مرحلة‭ ‬بناء‭ ‬منظومة‭ ‬سياسية‭ ‬وبيروقراطية‭ ‬تمتح‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والعقلنة‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير،‭ ‬مما‭ ‬ساعد‭ ‬أغلب‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية،‭ ‬باستثناء‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تابعة‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬السابق،‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬أعطاب‭ ‬التحكم‭ ‬الاستبدادي‭ ‬والاستفراد‭ ‬بالقرار‭ ‬والرشوة‭ ‬والمحسوبية‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬الذهبية‭ ‬ستتأثر‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1973‭ (‬أزمة‭ ‬النفط‭ ‬الأولى‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬ستخلف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الصعوبات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية،‭ ‬والتي‭ ‬ستضع‭ ‬عدة‭ ‬تحديات‭ ‬أمام‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية‭. ‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬عمليا‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬الدعم‭ ‬الحكومي‭ ‬للقطاعات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والحمائية‭ ‬والبنيات‭ ‬التحتية،‭ ‬والارتماء‭ ‬في‭ ‬لهيب‭ ‬السوق‭ ‬والخصخصة‭ ‬والشركات‭ ‬المتعددة‭ ‬الجنسيات،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يهمها‭ ‬سوى‭ ‬الربح‭ ‬والإنتاج‭ ‬وفتح‭ ‬الأسواق‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬الاستهلاك‭. ‬ويشير‭ (‬آلان‭ ‬تورين،‭ ‬2016‭) ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تاريخ‭ ‬1973‭ ‬يمثل‭ ‬انعطافة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬أوربا،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬مزاحمة‭ ‬النموذج‭ ‬النيوليبيرالي‭ ‬للأسواق‭ ‬الأوربية،‭ ‬بل‭ ‬وخلخلة‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬التنمية‭. ‬لعل‭ ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬يمكن‭ ‬بسطه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬هو‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬اإمانويل‭ ‬ماكرونب،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬بحكم‭ ‬توجهه‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬وبحكم‭ ‬تشبعه‭ ‬بأفكار‭ ‬المقاولة‭ ‬والبعيد‭ ‬عن‭ ‬الحس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الاشتراكي‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬سابقوه،‭ ‬فإنه‭ ‬قرر‭ ‬مجموعة‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تجهز‭ ‬على‭ ‬القدرة‭ ‬الشرائية‭ ‬وعلى‭ ‬سحب‭ ‬دعم‭ ‬الدولة‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬القطاعات،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬القطاع‭ ‬الصحي،‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الإضرابات‭ ‬والتوقف‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬بسبب‭ ‬غياب‭ ‬التجهيزات‭ ‬الطبية‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬ضعف‭ ‬التعويضات‭ ‬التي‭ ‬يتقاضاها‭ ‬العاملون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القطاع،‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬النقص‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬الأطر‭ ‬البشرية‭ ‬للتكفل‭ ‬بالعلاجات‭ ‬الضرورية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬مداهمة‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬لفرنسا،‭ ‬اعترف‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬بضرورة‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لدولة‭ ‬الرعاية،‭ ‬قائلا‭: ‬اما‭ ‬يكشفه‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬بالفعل‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬المجانية،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الدخل‭ ‬أو‭ ‬المكانة‭ ‬أو‭ ‬المهنة‭ ‬أو‭ ‬المسار‭ ‬المهني،‭ ‬فإن‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية‭ ‬لدينا،‭ ‬ومهما‭ ‬كانت‭ ‬تكاليفها‭ ‬أو‭ ‬أعباؤها،‭ ‬فإنها‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭  ‬أصولنا‭ ‬الثمينة‭  ‬و‭ ‬الأساسية،‭ ‬خصوصا‭ ‬عندما‭ ‬يصبح‭ ‬مصيرنا‭ ‬معرضًا‭ ‬للهجومب‭ (‬MARILZA DE MELO FOUCHER‭,‬2020،‭). ‬وتجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأوربية‭ ‬أقرت‭ ‬بدور‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الحماية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والصحية،‭ ‬بدليل‭ ‬أنها‭ ‬قامت‭ ‬بإجراءات‭ ‬مماثلة‭ ‬لفرنسا،‭ ‬أو‭ ‬تفوقها،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬ألمانيا‭ ‬والنمسا،‭ ‬والدول‭ ‬الاسكندنافية‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬نتوقع‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لجائحة‭ ‬كورونا‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬وإعادة‭ ‬النقاش‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬بل‭ ‬وجدلية‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي؟‭ ‬والتنموي‭ ‬والسياسي؟‭ ‬

 

ثانيًا‭: ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬النموذج‭ ‬النيوليبرالي‭ ‬

وحدوده‭ ‬التنموية

يصعب‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المنهجية،‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬تأريخ‭ ‬بداية‭ ‬النموذج‭ ‬النيوليبرالي،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ (‬بورديو،‭ ‬1999‭)‬،‭ ‬توصل‭ ‬في‭ ‬مقالة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬البدايات‭ ‬الأولى‭ ‬ارتبطت‭ ‬مع‭ ‬نشوء‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬والتأثر‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬حملته‭ ‬القيم‭ ‬البروتستانتية‭ ‬الكالفينية‭ ‬تحديدًا،‭ ‬و‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تزرع‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬أتباعها‭ ‬مبدأ‭ ‬اأن‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يساعد‭ ‬إلا‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يساعدون‭ ‬أنفسهمب‭. ‬و‭ ‬لعل‭ ‬أهم‭ ‬مبدأ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النموذج،‭ ‬هو‭ ‬تقديس‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ (‬دعه‭ ‬يمر‭ ‬دعه‭ ‬يعمل‭)‬،‭ ‬وأن‭ ‬تحقيق‭ ‬السعادة‭ ‬الفردية‭ ‬مقدم‭ ‬على‭ ‬السعادة‭ ‬الجماعية‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬االتنمويب‭ ‬والذي‭ ‬تخلق،‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الأمريكية‭ ‬الحديثة،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القول‭ ‬بكون‭ ‬االعقلية‭ ‬الأمريكيةب‭ ‬هي‭ ‬عقلية‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬سوى‭ ‬الحسابات‭ ‬المادية‭ ‬والعقلانية‭ ‬المفرطة،‭ ‬وتشكل‭ ‬رؤية‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬و‭ ‬قد‭ ‬تساوق‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬سياق‭ ‬تاريخي‭ ‬لهذا‭ ‬البلد،‭ ‬كان‭ ‬مهيئًا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬تجربة‭ ‬أخرى‭ ‬لتطوير‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭. ‬وهذا‭ ‬النموذج‭ ‬يقوم‭  - ‬حسب‭ ‬بورديو‭ - ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬مبادئ‭: ‬أولًا،‭ ‬فصل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬عن‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬القوانين‭ ‬المتحكمة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬هي‭ ‬قوانين‭ ‬كونية‭ ‬وطبيعية‭ ‬ولا‭ ‬دخل‭ ‬فيها‭ ‬للحسابات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ولتكاليفها‭ ‬ولإكراهاتها‭. ‬المبدأ‭ ‬الثاني،‭ ‬هو‭ ‬فلسفة‭ ‬السوق،‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬قوانين‭ ‬النموذج‭ ‬النيوليبرالي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬كون‭ ‬السوق‭ ‬هو‭ ‬مجال‭ ‬التبادل‭ ‬وفق‭ ‬نظرية‭ ‬العرض‭ ‬والطلب‭ ‬بدون‭ ‬تدخل‭ ‬أي‭ ‬أحد‭. ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نصور‭ ‬مشهد‭ ‬تحول‭ ‬الخدمات‭ ‬العمومية‭ ‬كالصحة‭ ‬والتعليم‭ ‬والثقافة‭ ‬إلى‭ ‬خدمات‭ ‬تجارية‭ ‬تخضع‭ ‬لقوانين‭ ‬العرض‭ ‬والطلب،‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬السوق،‭ ‬والنتيجة‭ ‬من‭ ‬يدفع‭ ‬يستفيد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الخدمات‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يدفع‭ ‬يموت‭. ‬

وثالثًا‭ ‬المبدأ‭ ‬المتعلق‭ ‬بموضوع‭ ‬ورقتنا،‭ ‬هو‭ ‬الكوكبة‭ ‬أو‭ ‬العولمة‭ (‬Globalization‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬تخلي‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬دعمها‭ ‬للقطاعات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والصحية‭ ‬والحمائية‭ ‬وتوفير‭ ‬الشغل‭ ‬ودعم‭ ‬الفئات‭ ‬الهشة‭ ‬والمهمشة‭ ‬والفقيرة‭ (‬بوردو،‭ ‬1999،‭ ‬بتصرف‭ ‬كبير‭). ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نضيف‭ ‬مبدأً‭ ‬رابعًا‭ ‬تولد‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المبادئ،‭ ‬وهو‭  ‬مجتمع‭  ‬الاستهلاك،‭ ‬والذي‭ ‬يعني‭ ‬استهلاك‭ ‬وتسليع‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬القيم‭ ‬الثقافية،‭ ‬فعند‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬قيمة‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬والتي‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬الاستهلاك‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سائدًا‭ ‬في‭ ‬الماضي‭-‬،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هدف‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬معنى‭, ‬الأن‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬يفعل‭ ‬طاقات‭ ‬أعضائه‭ ‬باعتبارهم‭ ‬مستهلكين‭ ‬لا‭ ‬منتجينب‭ (‬زيغموند‭ ‬باومان،‭ ‬2016‭)‬،‭ ‬بالطبع‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬المتوحش‭ ‬في‭ ‬التنمية،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأدبيات‭ (‬النيو‭-‬دوينية‭ ‬Néo-darwenisme‭)‬،‭ ‬أفرز‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المظاهر‭  ‬الاقتصادية،‭ ‬أن‭ ‬20‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬يستهلكون‭ ‬وينتجون‭ ‬82.7‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬الثروة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬الباقي،‭ ‬أي‭ ‬حوالي‭ ‬80‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬سكان‭ ‬العالم،‭ ‬لا‭ ‬ينتج‭ ‬ولا‭ ‬يستهلك‭ ‬سوى‭ ‬17.3‭ ‬في‭ ‬المئة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعمق‭ ‬اللامساواة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ويزيد‭ ‬الأغنياء‭ ‬غنى‭ ‬والفقراء‭ ‬فقرًا،‭ ‬هذا‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬تقلص‭ ‬دور‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين،‭ ‬وتراجع‭ ‬التزامات‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وابتلاع‭ ‬الشركات‭ ‬المتعددة‭ ‬الجنسيات‭ ‬للسيادة‭ ‬الوطنية،‭ ‬بما‭ ‬يهدد‭ ‬سيادة‭ ‬الدول‭ ‬واستقلالها‭. ‬

إن‭ ‬سياق‭ ‬هذا‭ ‬التحليل‭ ‬يجعلنا‭ ‬نفهم‭ ‬كيف‭ ‬تعاملت‭ ‬اأقوىب‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬مع‭ ‬تبعات‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬حيث‭ ‬تشير‭ ‬الإحصائيات‭ ‬المؤقتة‭ ‬وغير‭ ‬النهائية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬الوفيات‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬70‭ ‬ألف‭ ‬وفاة،‭ ‬هذا‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬تفاقم‭ ‬عدد‭ ‬الفقراء‭ ‬والذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬أزيد‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬مليون‭ ‬مواطن،‭ ‬والذي‭ ‬يمس‭ ‬الأقليات‭ ‬الأفرو‭ - ‬أمريكية،‭ ‬والمهمشة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوفر‭  ‬على‭ ‬مهن‭ ‬عليا‭ ‬ومهن‭ ‬مستقرة‭. ‬

وهناك‭ ‬بعض‭ ‬الإحصائيات‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬كون‭ ‬الأمريكيين‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬إفريقية‭ ‬هم‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للوفاة‭ ‬من‭ ‬البيض،‭ ‬فمثلًا‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬ميشتغان،‭ ‬تجاوزت‭ ‬نسبة‭ ‬الوفيات‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الأمريكيين‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬إفريقية‭ ‬40‭ ‬في‭ ‬المئة،‭ ‬رغم‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يشكلون‭ ‬سوى‭ ‬14‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬السكان‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬المثال،‭ ‬يصدق‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬تشومسكي‭: ‬العبة‭ ‬النيوليبرالية‭... ‬حيث‭ ‬تضع‭ ‬الربح‭ ‬فوق‭ ‬الشعبب‭. ‬ربما‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬المثال،‭ - ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يشكل‭ ‬سوى‭ ‬عينة‭ ‬بسيطة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬مركب‭ -‬،‭ ‬نفهم‭ ‬كيف‭ ‬تسابق‭ ‬الأمريكيون‭ ‬لشراء‭ ‬الأسلحة‭ ‬والتموين،‭ ‬فالتموين‭ ‬الغذائي‭ ‬يبدو‭ ‬معقولًا‭ ‬ومقبولًا،‭ ‬ولأنه‭ ‬يعكس‭ ‬تخوفات‭ ‬السكان‭ ‬من‭ ‬فقدانها،‭ ‬بينما‭ ‬التهافت‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬الأسلحة‭ ‬يبدو‭ ‬مفارقًا،‭ ‬ففي‭ ‬دراسة‭ (‬بورديو‭  ‬السابقة‭: ‬THE SOCIAL PHILOSOPHY OF NEO-LIBERALISM،1999‭)‬،‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬الأمريكيين‭ ‬الذين‭ ‬يتوفرون‭ ‬على‭ ‬أسلحة‭ (‬70‭ ‬مليونًا‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬رقم‭ ‬مقلل‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬أوجه،‭ ‬لكنه‭ ‬مخيف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أنه‭ ‬ينزع‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬صفتها‭ ‬الاحتكارية‭  ‬للعنف‭.‬

اعتبارًا‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬فإن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬ومن‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬فلكها‭ ‬ومن‭ ‬يتشبث‭ ‬بالنظام‭ ‬النيوليبيرالي‭ ‬في‭ ‬التنمية،‭ ‬سيجد‭ ‬نفسه‭ ‬أمام‭ ‬عدة‭ ‬مفارقات‭ ‬بل‭ ‬وإشكالات‭ ‬ستؤثر‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬الانتخابات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬تحديدًا،‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬توقع‭ ‬أن‭ ‬تجربة‭ ‬اترامبب‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬بينت‭ ‬وجهًا‭ ‬متوحشًا‭ ‬لهذه‭ ‬الدولة،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬ملفات‭ ‬أخرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬بروز‭ ‬حركات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وفاعلين‭ ‬سياسيين‭ ‬معارضين‭ ‬لهذا‭ ‬النموذج‭ ‬اللاتنموي‭ ‬والمدمر‭ ‬للإنسان‭ ‬والبيئة‭ ‬والجميع‭. ‬

 

ثالثًا‭: ‬أي‭ ‬نموذج‭ ‬تنموي‭ ‬للمنطقة‭ ‬

العربية‭ ‬لمواجهة‭ ‬تداعيات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬كورونا»؟

كاختيار‭ ‬منهجي‭ ‬إجرائي،‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيف‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬مستويات‭ ‬من‭ ‬التنمية،‭ ‬ليس‭ ‬حسب‭ ‬مؤشرات‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭ ‬الرسمية،‭ ‬بل‭ ‬حسب‭ ‬تصنيفي‭ ‬الخاص‭ ‬والشخصي،‭ ‬هناك‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬التي‭ ‬تستفيد‭ ‬من‭ ‬عائدات‭ ‬النفط،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬العموم‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬اأحسنب‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬دول‭ ‬المنطقة،‭ ‬وهناك‭ ‬دول‭ ‬المتوسطة،‭ ‬كالمغرب‭ ‬وتونس‭ ‬ومصر‭ ‬والجزائر‭ (‬هناك‭ ‬مفارقة‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬المصدرة‭ ‬للنفط‭ ‬والغاز‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تتمتع‭ ‬بمستوى‭ ‬تنموي‭ ‬رائد‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬حروب‭ ‬ومجاعات‭ ‬كالسودان‭ ‬واليمن‭ ‬وسورية،‭ ‬والتي‭ ‬تعيش‭ ‬ظروفًا‭ ‬صعبة‭ ‬جدًا،‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬الوباء‭ ‬المستجد‭ ‬كوفيد‭ ‬19،‭ ‬ولكن‭ ‬بسبب‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬أو‭ ‬الإقليمية‭. ‬على‭ ‬أي‭ ‬فكل‭ ‬صنف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأصناف‭ ‬له‭ ‬نموذجه‭ ‬التنموي‭ ‬الخاص‭ ‬به،‭ ‬قد‭ ‬يقترب‭ ‬أو‭ ‬يبتعد‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬النيوليبرالية،‭ ‬مما‭ ‬يدفع‭ ‬بالقول‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬ضبابية‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬التنموي‭ ‬حتى‭ ‬الساعة‭. ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬التجارب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬جربت‭ ‬صيغة‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬تدخل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وأدى‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬تداعيات‭ ‬كارثية‭ ‬على‭ ‬مؤشراتها‭ ‬التنموية‭ (‬مثلًا‭ ‬المغرب،‭ ‬123‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭). ‬ولفهم‭ ‬ذلك‭ ‬نجد‭ ‬المقولة‭ ‬التالية‭: ‬اكلما‭ ‬كان‭ ‬حضور‭ ‬الدولة‭ ‬أقل،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬أحسن‭ (‬Moins dصEtat mieux dصEtat‭)‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬النهوض‭ ‬بأعباء‭ ‬ومتطلبات‭ ‬التنمية،‭ ‬وربما‭ ‬بسبب‭ ‬ذلك‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬لدور‭ ‬الدولة،‭ ‬باعتباره‭ ‬محوريًا‭ ‬لتحقيق‭ ‬النمو‭ ‬المستديم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بنظريات‭ ‬النمو‭ ‬الداخلي،‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬ميكانيزمات‭ ‬اقتصادية‭ ‬لتفسير‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬الأمد‭ ‬الطويلب‭ (‬الغوث‭ ‬ولد‭ ‬الطالب،‭ ‬2010‭). ‬

لكن‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬الدول‭ ‬ستكون‭ ‬بعد‭ ‬أزمة‭ ‬اكوروناب‭ ‬مدعوة‭  ‬للبحث‭ ‬والتساؤل‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬نموذج‭ ‬تنموي‭ ‬تواجه‭ ‬به‭ ‬التحديات‭ ‬والتطلعات‭ ‬الكثيرة‭ ‬لشعوبها‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬تقرير‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭ ‬الصادر‭ ‬سنة‭ ‬2013،‭ ‬نموذجًا‭ ‬عمليًا‭ ‬وأكاديميًا‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬جديد‭ ‬للدولة،‭ ‬حيث‭ ‬يتحدث‭ ‬التقرير‭ ‬عن‭ ‬التجارب‭ ‬الناجحة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬التنمية،‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الجنوب،‭ ‬معززًا‭ ‬معطياته‭ ‬بإطار‭ ‬نظري‭ ‬ونموذج‭ ‬تفسيري،‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬فلسفة‭ ‬الدولة‭ ‬الإنمائية،‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬عملية‭ ‬التحول‭ ‬التنموي‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬التقرير‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬اظهرت‭ ‬الأدبيات‭ ‬الحديثة‭ ‬حول‭ ‬الدولة‭ ‬الإنمائية،‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬تجارب‭ ‬اقتصادات‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬التي‭ ‬حققت‭ ‬المعجزات،‭ ‬اليابان‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ومقاطعة‭ ‬تايوان‭ ‬الصينية‭ ‬وسنغافورة‭ ‬وجمهورية‭ ‬كوريا‭ ‬ومنطقة‭ ‬هونغ‭ ‬كونغ‭ - ‬الصين‭ (‬منطقة‭ ‬إدارية‭) ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وأخيرًا‭ ‬تعتبر‭ ‬الصين‭ ‬وفيتنام‭ (‬وكذلك‭ ‬كمبوديا‭ ‬وجمهورية‭ ‬لاو‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الشعبية‭) ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الإنمائيةب‭ (‬تقرير‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية،‭ ‬2013‭). ‬

أما‭ ‬عن‭ ‬مميزات‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬فهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬قراءته‭ ‬في‭ ‬التفسير‭ ‬التالي‭: ‬اوسمات‭ ‬الدول‭ ‬الإنمائية‭: ‬تعزيز‭ ‬التنمية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المعاملة‭ ‬التفضيلية‭ ‬الواضحة‭ ‬لبعض‭ ‬القطاعات،‭ ‬ووجود‭ ‬قيادة‭ ‬ذات‭ ‬كفاءة،‭ ‬ووضع‭ ‬المؤسسات‭ ‬العامة‭ ‬والقوية‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬الإنمائية،‭ ‬ووضوح‭ ‬الأهداف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬واكتساب‭ ‬الشرعية‭ ‬السياسية‭ ‬من‭ ‬الأداء‭ ‬في‭ ‬التنميةب‭. ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬الإنمائية‭ ‬دولة‭ ‬تقليدية‭ ‬ـــــــ‭ ‬عندما‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬المحوري‭ ‬ــــــ‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تسلطية‭ (‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬التجارب‭ ‬الآسيوية‭ ‬التي‭ ‬حققت‭ ‬نواتج‭ ‬تنموية‭ ‬مقدرة‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬دولة‭ ‬الرعاية‭ ‬اlصÉtat-providenceب،‭ ‬فإن‭ ‬الدولة‭ ‬الإنمائية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬فلسفة‭ ‬للتنمية‭ ‬واضحة‭ ‬تستحضر‭ ‬كل‭ ‬الأبعاد،‭ ‬سواء‭ ‬المادية‭ ‬أو‭ ‬اللامادية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالرأسمال‭ ‬اللامادي‭. ‬

وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬التوضيح‭ ‬التالي‭ ‬ما‭ ‬يزيل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التشويش‭: ‬اففي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬النامية‭ ‬ذات‭ ‬الأداء‭ ‬المتميز،‭ ‬تضطلع‭ ‬الدولة‭ ‬بدور‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬دول‭ ‬الرعاية‭ ‬التقليدية،‭ ‬التي‭ ‬تكتفي‭ ‬بتصحيح‭ ‬إخفاقات‭ ‬السوق‭ ‬وبناء‭ ‬شبكات‭ ‬أمان‭ ‬اجتماعي،‭ ‬بينما‭ ‬تشجع‭ ‬النمو‭ ‬بفعل‭ ‬قوى‭ ‬السوق‭. ‬أما‭ ‬الدولة‭ ‬الإنمائية‭ ‬الفاعلة،‭ ‬فهي‭ ‬المعنية‭ ‬بإطلاق‭ ‬عملية‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المواطنين‭ ‬وبرصدها،‭ ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكــون‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬صديقة‭ ‬للسوق‭ ‬فحسب،‭ ‬تكون‭ ‬صديقة‭ ‬للتنمية،‭ ‬والبلدان‭ ‬التي‭ ‬لديها‭ ‬برامج‭ ‬اجتماعية‭ ‬مبتكرة‭ ‬وقوية،‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬صديقة‭ ‬للمواطن‭ ‬أيضًا‭. ‬وهذا‭ ‬التطور‭ ‬ضروري‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬للانتقال‭ ‬من‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬إلى‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬التنمية‭ ‬البشريةب‭. ‬

لذا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬درس‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستفيد‭ ‬منه‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬هو‭ ‬بلورة‭ ‬نموذج‭ ‬تنموي‭ ‬يقيم‭ ‬توازنًا‭ ‬خلاقًا‭ ‬بين‭ ‬السوق‭ ‬وبين‭ ‬التنمية،‭ ‬بين‭ ‬مجتمع‭ ‬الوفرة‭ ‬وفلسفة‭ ‬التقشف،‭ ‬بين‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وبناء‭ ‬القدرات‭ ‬الذاتية،‭ ‬بين‭ ‬تعزيز‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية‭ ‬وضمان‭ ‬الحريات‭ ‬الجماعية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬ترسيخ‭ ‬قيم‭ ‬التضامن،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬تنمية‭ ‬مستدامة‭ ‬لا‭ ‬تهلك‭ ‬لا‭ ‬الحرث‭ ‬ولا‭ ‬النسل،‭ ‬أي‭ ‬تنمية‭ ‬محافظة‭ ‬على‭ ‬البيئة ■

 

دول‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬أمنت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الخدمات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والصحية‭ ‬والتعليمية‭ ‬والبنيات‭ ‬التحتية