فيتنام.. معزوفةُ البَحر والضّباب
قلتُ في نفسي، الأمّارة بالترحال، وقد شغفتها أمكنة أبعد من المعتاد والمكرر: لتكن هانوي هذه المرة.
وكأنّي ذاهب لرؤية آخر جندي أمريكي يغادر هذه البلاد العصيّة على الغرباء، مع أن الزمن يشير إلى عام 2020م لا إلى عام 1975م، حين أسدل الستار على فصل مؤلم من تاريخ الحروب البشرية، حروب احتلال كانت أو استقلال.
كنت مشغوفًا بفيتنام، لأرى هذه التي احتلت نشرات الأخبار سنوات طوالًا، وأدمت البيت الأمريكي، وسمعة الرئيس نيكسون، قبل أن تطيح به فضيحة ووترجيت، ليستقيل في التاسع من أغسطس من عام 1974م، مشغوفًا بالشمال العنيد الذي لم يفرّط في جنوبه، رغم دعم الولايات المتحدة، لحكومة سايجون في الجنوب، إنما التاريخ يكتبه عادة أصحاب الأرض، لأنهم أصحاب قضية.
استعدتُ ذلك التاريخ من سنوات الحرب الثماني، لأجد أن فيتنام قدّمت مليونين من القتلى وثلاثة ملايين جريح عدا 12 مليونًا من اللاجئين، إلا أن الكبرياء الأمريكية خسرت أيضًا 57 ألف قتيل، وأضعاف هذا الرقم من الجرحى والأسرى.
لم يبق من روائح البارود شيء، خسر الأمريكيون المعركة، وخسرها اليابانيون بعد أن استسلموا في نهاية الحرب العالمية عام 1945م، حيث أعلنت استقلالها في الثاني من سبتمبر من عام 1954م، مودّعة آخر المستعمرين الفرنسيين، فتلك فيتنام التي تستيقظ على حياة جديدة، والطائرة التي احتاجت إلى ساعات طوال من الطيران بين مسقط وهانوي حطّت أخيرًا في المدينة التي حسبتها غامضة، فإذا بها تبتسم كأنما سهيلة (المرشدة السياحية) انعكاس جماليّ لها وهي تناولني باقة الورد مرحّبة بي في أرضها، بلغة عربية تحرص على اتفصيحهاب قدر مستطاعها، وتمنح الحرف الأخير مدًّا طويلًا كما تفعل مع لغتها الأم، وسألتها عن اسمها الفيتنامي فقالت فوغ، وبقيت أكرر المحاولة حتى أنطق هذه الحروف الثلاثة كما تفعل تمامًا، علمًا أن والدها اسمه نغ.
على حوافّ الجغرافيا
شعرت أن فيتنام بعيدة جدًا، في الجغرافيا كما كانت في ذهني وأنا أتخيلها عن بُعد، فعلى الخريطة تقع هذه البلاد في جنوب شرق القارة الآسيوية، وعلى شمالها الصين، وغربًا لاوس وتايلند وكمبوديا، وتمتد على نحو 331 ألف كيلومتر مربع، تتحدث اللغة الإنجليزية كلغة ثانية، مع لغات أخرى كالفرنسية والصينية، وكانت مفاجأة لي، شخصيًا، أن عدد سكانها يتجاوز المئة مليون نسمة، والأغرب أن أكثر من 80 في المئة من سكانها لا دين لهم، مع أنّي كنت أظن أن النسبة الأكبر تميل للبوذية، إلا أنّها لا تشكّل إلا أقل من 7 في المئة، وأقل من 1 في المئة من ساكنيها مسلمون، لكنّ السفر اكتشاف حقيقي، خاصة لتلك البلدان البعيدة، القادمة من التاريخ ونشرات الأخبار أكثر مما عليه صورة الواقع والحقائق الحاضرة.
سألت سهيلة عن معنى كلمة فيتنام، فقالت إنها من مقطعين، هما افيتب وانامب، وترجع التسمية إلى آلاف السنين، حيث كلمة نام تعني الجنوب، وفيت اسم قبيلة كانت تعيش في جنوب الصين، أي إنها قبيلة من الجنوب، واهذه القبيلة هي أجدادناب.
أمام الصرّاف كانت الملايين في جيبي، حيث عُملتهم ادونغب تحب الأصفار بجانبها كثيرًا، لكنّها في المطعم الهندي خلف فندق الإقامة في هانوي لم تكن تعني للمحاسب الكثير، ربما لأنّه يدرك كم نحن منحازون لـ االبريانيب واالبهاراتب، فلا تتحمّل مِعَدُنا تلك الخلطات الغريبة لوجباتهم المتناثرة على الطاولات بثقافة مختلفة، حيث الكراسي الصغيرة أمام الطاولات التي لا ترتفع إلّا قليلا عن سطح الأرض، وعليها الخضراوات والأرز، والآنية الجامعة لتلك الطبخة فوق النار، فالزبون يعدّ طبخته كما يحبّ، وأمام المارة، كما يتناولها مع عائلته، وكأن الشارع مُلغى من حساب تلك اللحظات، هي البساطة، والحياة الفقيرة التي يعيش فيها الأغلبية.
«جوك مونغ نام موي»
شعرت أن في الفضاء احتفالًا بمناسبة ما، الأعلام والبالونات، قالوا إنه عيد رأس السنة القمرية في فيتنام، يسمونه اتيتب بمعنى ابدايةب، ومرجعيته إلى أن ثقافات آسيا الشرقية معروفة بالزراعة، خاصة الأرز، هذا الغذاء الشهير منذ الأزمنة القديمة، ويعتمد المزارعون على المواسم والفصول الزمنية القمرية من خلال تقسيم السنة إلى 24 وحدة زمنية مختلفة، وهناك استراحة بين كل فترة لعدم وجود أعمال بعد موسم الحصاد، ومنذ القِدم كان الناس يحتفلون بتلك الفترة الفاصلة، خاصة بين عامين زراعيين من خلال تنظيم فعاليات عامة تجمع أبناء المجتمع، ومع تكوّن المجتمعات الحديثة أصبح الأمر رسميًّا، ويُطلق الفيتناميون عليه ازاو ثواب، أي اللحظة الفاصلة بين موسمين.
واللافت هو تلك العادات والتقاليد المرتبطة بهذه المناسبة، فيختلف أسلوب الفيتناميين في استقبال السنة القمرية الجديدة حسب المناطق، لكنّهم يعدون العيد هو الأيام الثلاثة الأولى، ويرون أن ما يفعله البشر في تلك الأيام الثلاثة مؤثّر على مصائرهم، ويقال إن بعض الأشخاص يغلقون بيوتهم في وجوه الآخرين عدا الأهل الأقارب، وتكاد الشوارع والأماكن العامة تخلو من البشر، خصوصًا صباح اليوم الأول، ويبتعد السكان عن الكلام غير اللائق، أو تلك الكلمات ذات المدلول الجالب للنحس.
ويختلف الشمال عن الجنوب في بعض تفاصيل العيد، فقبل العيد بأسبوع يعمل جميع أفراد الأسرة بمن فيهم الأطفال لصنع كعك العيد، في الشمال يسمّى اجونغب وفي الجنوب اتيتب، كما يختلفون في أهم الزهور التي يزيّنون بها البيت، فزهرة اداوب شمالًا، وامايب جنوًبا، وتبقى التمنيّات واحدة بين سائر الفيتناميين، فهي اجوك مونغ نام مويب، وتعني اكلّ عام وأنتم بخيرب.
هانوي... الفن والتأمُّل
تحت مطر هانوي، وتعني اجانب من النهر، أو مدينة داخل النهرب، سرت بمتعة الاستكشاف، عيون ترى، وعقل يستعيد الأمس ويستوعب الحاضر في محاولات عدّة ومتتابعة، في الشوارع المتشابهة أستكشف ملامح المكان، أحاول أن أقرأ في الوجوه، الأكثر تشابهًا، ملامح الإنسان وعلاقتها بالأرض السائر عليها، الأجسام الضئيلة، خلف مناضد البيع في المحالّ التجارية، أو عربات الفواكه والملابس، أو فوق مقاعد الدرّاجات على اختلافها بين نارية وهوائية، قطع المانجو الأخضر المرشوش بالملح والفلفل الأحمر ذكّرتني بقريتي، حيث يحلو لنا ذلك، فعدتُ للطفولة أمازجُ بينها والرجل الخمسيني الذي يستكشف عواصم الدنيا، متخذًا من بحيرة وانج يامي متكئًا لتأمُّل الجسر المشتعل بالضوء، ملقيًا انعكاساته على الماء المتراقص على وقع الهواء البارد.
كانت الأكياس مليئة بأنواع الفواكه الأخرى المعروضة، كأنما بلدان ذلك الشرق الآسيوي تجتمع على هكذا عادات، قطع الأناناس والجوافة والفواكه الاستوائية المعروفة، إنّما شعرت بأن السعر يتناسب مع محفظة السائح، لا مع أهل الديار.
قادتني سهيلة إلى سكة الحديد الشهيرة في المدينة، تسير بين ضفّتي منازل ومقاه، حيث بالكاد تتسع لمرور قطار، منذ عام 1902م تسير القطارات هنا، زمن الحرب الفيتنامية، ناقلة البضائع بين الشمال والجنوب، وهانوي هي العاصمة منذ عام 1976م، وسابقًا (منذ عام 1946م) كانت عاصمة لفيتنام الشمالية، وهي أكبر مدن البلاد مساحة، تتمدد على الضفة اليُمنى للنهر الأحمر، والثانية من حيث عدد السكان، إذ يبلغ نحو 8 ملايين نسمة، ولا يجد زائرها مشكلة في اللغة، حيث الحديث باللغة الإنجليزية سائد مع الانفتاح على السياحة، وفي كل جولة تمتلئ الحافلات بالسيّاح القادمين من شتى بقاع الأرض، خاصة من كندا وأستراليا.
محالّ الفنون... والقهوة
ما شدّني أكثر هو تلك المعارض الفنية المتكاثرة، حيث لا يُوجد شارع، مهما بدا صغيرًا، خالياً من محلّ لبيع اللوحات الفنية، بعضها متشابه، يميل إلى التناسُخ في لوحات كثيرة، وبينها الذي يحتفي بالطبيعة، لكنّ الأسلوب يكاد يكون واحدًا، إلا في استثناءات قليلة، وهو استخدام السكين لألوان الإكريلك.
أغرتني اللوحات كثيرًا بالتأمل، وعدتُ بعدد منها، مستفيدًا من أسعارها الرخيصة، وطزاجة ألوانها التي تكاد تنطق برائحتها لتكون حاضرة بروح المكان الذي جاءت منه، ومضيت في الشوارع الصغيرة، مع المطر والضباب الذي يكاد يكسو المكان بحلّة بيضاء، خطوات تتنفس فيها أرواح السائرين، وهم يضعون ما أمكنهم من واقيات للمطر المتعلّق بهذه المدينة بشدة.
ما ينافس محالّ الفنون هي محالّ القهوة، حيث النوع الفيتنامي الأخّاذ، وإبريقه الصغير الذي يمنح الكوب قطرات منه على مهل، كأنما هو في لحظة كتابة قصيدة، لا يمكن أن تكون مكتملة دون الكلمة الأخيرة، في حين تبقى السُّلافة عالقة في الإبريق الصغير الذي يعلو الكوب، قطرة فقطرة كأنه يحاكي المطر في الشارع أمامه، فتفوح الرائحة كرائحة الماء المنسكب على الأرض بردًا وسلامًا.
وأما المطرزات التراثية فما أجملها، كأنما هي خيوط المكان تجتمع إلى بعضها بعضًا لتصنع رونقها من تنوّع فيتنام، السهول الخضراء والجبال والنهر والبحر والخلجان، تتجاور مع جمال التذكارات، العابقة بروائح المكان وخبرة الإنسان، حرف يدوية ومنسوجات حريرية، حيث يمكن للشال أن تضعه في لوحة دالة على مهارة اليد التي غزلت خيوطه.
خليج هالانج يتنفّس دهشة
لم يكن بوسعي إلا أن أختار خليج هالانج، لا أعرفه، لكن نصائح المجرّبين دسّته بين اهتماماتي، فسعيت إليه.
كانت الحافلة تسير لساعات بُغية الوصول إلى المرفأ، وبعدها في قارب يشبه عبّارة صغيرة لا تحتاج إلى ريح عاتية لتعبث بها، ومعها. لكنّ السفينة التي وصلنا إليها أخذتنا إلى غرف مريحة، ومطعم يتفنّن في رسم لوحات الطعام على صحونه أكثر مما يشبع البطون، خاصة مع الذين يتحسسون من اللحوم والدواجن، لكونها لم تُذبح على الطريقة الإسلامية.
ألسنة عدة التقت على سطح السفينة، كل منّا يتحدث عن بلاده، خصوصًا نحن القادمين من شرق لا يعرفه الغربيون إلا من خلال نشرات الأخبار والصحافة السياسية، وسعر برميل النفط، وكان صديقي المصور عبدالله العبري يفتح حسابه على اإنستجرامب ليحدّثهم عن تنوّع الطبيعة في بلاده عمان، بما يُدهش المتحلّقين حوله، كأنما يتقمّص دور مرشد سياحي، لكنّها محبّة الوطن تقود دوما إلى الحديث عن الوطن... بمحبة.
ولأنّه المساء في سفينة صغيرة، فلم يكن بوسع المرشد السياحي إلّا أن يتقمص دور الطباخ ليشرح لنا عمليًا طبخة شهيرة في بلاده، ويجرّب السياح معه طريقة التحضير، فتناولناها قطعًا صغيرة تقاسمتها الأفواه، لكن حينما كانت شمس اليوم التالي على وشك الصعود من عمق الماء تحوّل إلى مدرب يمنحنا بعض الرياضة الصباحية، فعلى ضوء الشمس التي تشرقُ بخجل من وراء تلك الجبال الصغيرة المتناثرة بالمئات على سطح الماء كنّا نحاول بحركات الـ اكونغ فوب التخفيف من حدّة البرد، بانتظار الإشارة لأخذ القارب الذي يقلّنا نحو مرفأ غير بعيد.
بين «هالانج»... و«لها»
كأن السفينة مصوّبة تجاه قرص الشمس الذي يخرج من الماء فنتبلل بيوم جديد، حيث البحر والكتل الصخرية الصاعدة من حولنا بتعدُّد أشكالها.
سرنا بين خليجين؛ اهالانجب والهاب، والشاب الذي يجدف كان يغنّي بما جعلنا نعيش سحر اللحظة، لا يصلنا المعنى، لكن يلامس شيئًا فينا يُشعرنا بأنه يغني بقلبه، العبّارات الصغيرة تتسع لسبعة أشخاص، وفي الوقت الذي كان يجدف ويغنّي يتوقف قليلًا لُيعيد توزيعنا على جوانب العبّارة خشية انقلاب الخشبة التي نسير عليها، وكنّا لا نأبه بحركتنا للتنقل مأخوذين بسحر المشاهد للتصوير من هذه الزاوية وتلك.
نرفع أيادينا بالتحية والضحكات للعابرين أمثالنا بين تلك اللوحات الصخرية، السكون لغة المكان، مناورين تلك الجبال الصغيرة المزروعة على الماء، حيث على البحر أن يتخذ مسالك ودروبًا ليصل إلى الساحل الصغير والمبعثر خلف تلال صخرية أخرى، وفي كل زاوية حفيف ماء يقول أسراره، وعلى سقف الممرات الجبلية التي نعبر تحتها نتأمل ماذا أرادت الطبيعة قوله من خلال منحوتاتها الجميلة، عين على الماء، وعلى الصخر، وعلى الرجل القابض على مجدافين يغنّي أو يصرخ لزملائه أو يحاول أن يكون معنا رفيقًا وصاحبًا.
سابا... انسياب الحقول
حافلات أنيقة، نظيفة، ومرشدون سياحيون يجيدون كسب العقول والقلوب، بحديثهم الهادئ، والتعليقات الطريفة التي يجيدون تمريرها، قالت فرح، مسؤولة مكتب سياحي في هانوي، بلغة عربية جيدة إنني عبر الرحلة إلى سابا سوف أتعرّف إلى الناس أكثر، اسوف تفهم الحياة الصعبة هنا، الحقول الخاوية لولا كفاح الناس الفقراء الذين يزيّنونها بعرقهم لتنبت تلك المحاصيل الذهبيةب، قلت لها عن المفارقة بين أولئك الذين يزرعون فيحصدون القليل، ويتركون لنا الجمال والغذاء، فلا يغنيهم الجمال المتكرر أمام أعينهم ليل نهار، ولا الحصاد الذي لم يغيّر من أحوالهم.
على امتداد أكثر من 4 ساعات، كانت الطريق تحتفي على ضفّتيها بالحقول والجسور، ولوحات اعتناق الطبيعة والحياة والبشر، كان مزارعو الأرز يقطفون أول أشعة الشمس فجرًا، وهم يحرثون أراضيهم التي تشبه أحواض ماء ضخمة، فيما تتحرّك ثيران الحراثة على أرض موحلة، وكان اللافت مشهد بعض القبور المغروسة في الحقل كشجرة لا يمكن اجتثاثها، حيث الموت ترويه مياه الحياة، وتظلّه خضرتها... في أشد حالات العناق مدعاة للتأمل.
الضباب الذي بدا يخفي الحقول فيما تنعكس السماء ببياضها على سطح الماء فوق حقول الأرز، طريق يسير لعدة ساعات بين الحقول فقط، حيث لا قرى ولا مدن ولا لوحات شوارع ولا حتى محالّ تجارية. عدا استراحة يأنس إليها العابرون نحو ثلث ساعة، ثم يمضون بأحلام الاكتشاف، يتأملون خلال عبورهم السريع أولئك المكافحين بدأب وصبر ليأكل العالم، كأنّما لو اغتنوا لتركوا الحقول، فيجوع العالم.
هضبة ساحرة
السير عبر الحافلة أسرع، حيث يحتاج القطار إلى نحو 9 ساعات لقطع تلك المسافة البالغة 380 كيلومترًا.
وصلنا إلى سابا بعد مزيد من الساعات أنفقناها في الطريق صعودًا إلى الأعلى، وكلما وصلنا قمّة قلنا: هنا مقصدنا، فإذا بسحابة أخرى تجذب الحافلة إلى الصعود نحوها، هكذا شعرت، فنحن على ارتفاع 1500 متر فوق سطح البحر، ولم تبق غيمة في الأفق إلا وصلنا إليها، حتى أننا لم نكد نرى البنايات على الشارع، ما أدهشك أيتها الأرض الفيتنامية، سهولك وجبالك وبحرك، درجة الحرارة تشير إلى 8 درجات، تنخفض قليلًا، لكنّها لا تزيد كثيرًا.
قاومنا البرد من أجل الاكتشاف، ذلك المساء بقي فرصة رائعة للتمتّع بتلك الهضبة الساحرة، كانت البائعة في موقع محل متهدّم تعرض منتجاتها من حِرَف يدوية شدتني ألوانها، أردنا التصوير فقط، فاشترطت أن نشتري منها.
سرنا في تلك المنعرجات والمنحدرات، إطلالات جمالية آسرة، فتيات يرتدين الأزياء التقليدية بابتسامات تنقش روعة المكان بمسارات من الضوء، جمال على جمال، تعرّفنا على أنماط ثقافات مختلفة ونحن نسير من منحدر جبلي إلى آخر، مختلطًا عليّ المسار، حيث أخبرونا بالسير مسافة 6 كيلومترات، لولا أن المرشد نبّهني بأن ذلك سيكون غدًا، وعليك أن تستعد أيها الراغب بالاكتشاف، فوق قدرتك على استيعاب المستوى الحلمي لما يحدث.
اختبار حقيقي
مررنا بقرية كات كات، المكان السياحي المفضل في سابا، هناك يمكن رؤية المحيط بها من بين السحاب، تقع هذه القرية بين سلسلة تلك الجبال الشاهقة، وتعدّ فرصة للتعرف إلى الحياة الثقافية للسكان المحليين، علما بأنها أنشئت في القرن العشرين مع توجّه الفرنسيين لإنشاء سدّ فيها، فاختاروها لإنشاء المنتجعات الخاصة لموظفي الحكومة.
في الصباح التالي، قادنا المرشد السياحي للمرور على عدة فنادق، يخرج منها سياح يحملون سحنات مختلفة، والهدف ذلك الممشى الجبلي الذي بدأنا بصعوده، وكدنا نظن أن الصعود صعب، لولا أننا أدركنا متأخرين ما معنى النزول لاحقًا، سرنا بجانب وادي مونغ هوا، بنيّة زيارة قرية إي لينه هو، التي تعد موطنًا لمجموعة همونغ الأسود، ثم سرنا نحو كيلومترين عبورًا لحقول الأرز المتدرجة للوصول إلى قرية تافان، وهي موطن مجموعة زي.
في القمم التي وصلنا إليها بعد أكثر من ساعتين من السير، كان مرافقنا يمنحنا فرصة لالتقاط الصور بجمالية المكان حولنا، وكنّا لا نرى إلا آثار خطواتنا، محاذرين الوقوع، قدر المستطاع، وبيننا مَن تخطّى السبعين، لكنّهم في الغرب يهرمون (وينهزمون) متأخرين جدًا، بيد أن الاختبار الحقيقي كان حينما أخذنا الطريق هبوطًا، حيث السير بحذَرٍ شديد مخافة السقوط في أرض موحلة، وعبر ممرّ ضيق على حافة هاوية، وما خشيتُ منه حدث... ووصلت إلى الهضبة المستوية بأقلّ الضرر، كتل طينية غطت الحذاء والملابس واليدين، فمشهد الفيلم الهندي في حالات السقوط حدث لي.. أو لأقُل معي.
يا لروعةَ المَشهد!
كانت مجموعة من النساء من السكان المحليين يسرنَ معنا، يساعدننا في عبور المنزلقات الصعبة، خبيرات بالأرض وتماوجها تحت الأقدام التي لم تعتد تلك الأمكنة، وفي كل مسافة يتبدّى المشهد أروع فأروع، وصلنا إلى تلك القرى الطازجة، حيث الأمهات يجلسن بأريحية مع أطفالهن في الطرقات كأنهن داخل حارة صغيرة، ملامح مدهشة، ثقافة غنيّة تكتسب ثراءها من ذلك الاختلاف الرائع في خلق الله على هذا الكون، أقليّات تتوزع هنا وهناك، حتى أن المرشد قال إن أهل القرى يكادون لا يعرفون مَن هم في القرى الأخرى، قال لنا أيضًا إن المشهد الآن ليس آسرًا تمامًا، فحقول الأرز التي ترونها لا تزال في مرحلتها الأولى، وستتحول في الأيام المشمسة مرايا ضخمة، حيث تنعكس الشمس على الحقول المغمورة بالماء.
دانانغ... جسرٌ ذهبيّ للسياحة
أخذتنا الطائرة إلى دا نانغ، مدينة تقع في وسط فيتنام، ورابع مدنها من حيث عدد السكان، يزيد عدد سكانها على مليون شخص بقليل، وهي الميناء الرئيسي في وسط البلاد، حيث تقع على ساحل بحر الصين الجنوبي، عند مصب نهر هان، وتتوسط أهم مدينتين في فيتنام: هانوي شمالًا وهوتشي منه جنوبًا.
حولنا كانت مطاعم المأكولات البحرية العنوان الأبرز للمدينة، مطاعم واسعة تعرض أحواض كائنات البحر بكثرة، كأنما تسير في معرض حيّ، مدهش في جمالياته، حيث ألوان المعروضات وأشكالها قابلة للتأمل كأيّة لوحة فنية، والفارق تلك الحياة المتدفقة في كائنات الماء، تتدافع فيما بينها.
في دانانغ مساحة هائلة للمتعة الذهنية أكثر من البصرية، سرنا إلى جبل الرخام، صعودًا أكثر من 150 درجة، مفضّلين الحركة على خيار آخر للوصول إلى أعلى المكان، بين أشجار وزهور، وبين إطلالات بانورامية أطلت الصور مدهشة لتصنع روعتها، وفي الأعلى كان المكان أشبه بمتنزّه، وكادت شجرة يوسفي صغيرة تخفي أوراقها لفرط ما حملته من ثمار، وخلفها الكهوف التي تضم تماثيل بوذية وهندوسية، وفي كل زاوية تلتمع فكرة صورة، أو مساحة للكلمات.
بين «المشاوي» والتماثيل
حملنا المساء إلى مدينة هوي آن، أسواق ومطاعم، وبحيرة تشتعل بالضوء، حيث يضع الناس شموعًا في علب كرتونية صغيرة لتسير فوق الماء ما سمح لها الوقت، فيلتقي وهج الشموع مع ضوء المصابيح على الجسور الواصلة بين الضفتين، تأملنا الأحياء القديمة والجسر الياباني ودار فوك كين الصيني.
تركنا مشرف الرحلة لمزيد من التسكّع في سوق تقليدي يعجّ بالمارة، مفتوح على أكشاك متجاورة ولمسافة بضع مئات من الأمتار، كل شيء معروض، من التذكارات إلى المشاوي المنبعثة رائحتها في كل مكان، شبيهة بطريقتنا في شويها من خلال اأسياخب أو أعواد خشبية، بما يغري المارة للتوقف، لكنّ الزحام والأضواء المتكاثفة من الأكشاك وحولها تعطي المكان مشهدًا احتفاليًا.
في مصنع للأحجار الكريمة توقّفت أمام مئات التماثيل المصنوعة من الرخام، بياض يكاد ينعكس جمالًا، وكأنما الفاتنة المنحوتة من الحجر تكاد تتنفس وفي عينيها ما فيهما من سحر، وفي الجسد الصخري جاذبية لا تستطيعها كُثر من النساء.
حملنا التلفريك في اليوم التالي إلى قمة جبل بانا، يقال إن هذا التلفريك مسجّل لأربعة أرقام قياسية، فينقل عرباته أطول سلك كابل وأطول المسافات بين المحطات، وأطول الكابلات من دون الاتصال بغيرها، وأثقل الكابلات على المستوى العالمي.
الجسر الذهبي
حينما شاهدت الجسر الذهبي عبر الصور لم أضعه في حسابات الوصول إليه، حتى أنّي نسيت في أيّ البلاد يقع، لكن أن أصل إلى فيتنام، وأن أضع قدمي في المدينة التي يوجد بها، فهذا محض خيال أحسبه على الذهن الروائي أكثر من الصحفي، لأنّ رؤيته غير مخطط لها، إنمّا حملتني عربة التلفريك فوق هامات الجبال، وقريبًا من السحب، رافعة إياي نحو تلك الذرى، فهناك مدينة تتحرك، والجسر أمامي، بدهشته المفرطة، حيث إن راحتي اليد الحجريتين اللتين تحملانه من طرفيه، تبدوان من حجر لإضافة الدهشة عليهما، إلا أنهما من خرسانة وحديد وألياف زجاجية، تصميم تنتشر تفاصيله على بقية المكان، فعلى مقربة منه أجزاء مجسّمة بضخامة لجسد إنسان، ويبدو الجسر فكرة عبقرية لتفعيل الحركة السياحية من خلال 150 مترًا طولًا، و12.8 عرضًا، العشرات يمرّون عليه كل بضع دقائق، فالحركة عليه لا تهدأ، والهواتف وآلات التصوير تعمل بدأب لنقل حدث الوصول إليه عبر منصات التواصل الاجتماعي، على سائر تنوّعها، والوجوه قادمة من كل حدب وصوب، بتعدّدها وتنوّعها، وتجانسها، حيث الابتسامات والسعادة هما العنوان الأبرز للجميع.
جمال آسر من فوقك وأسفل منك، هي حقًا منطقة اعالَم الشمسب، على ذلك الارتفاع المدهش، تسير قليلًا لتكتشف حديقة الزهور، نحو مليون زهرة تصنع ذلك الجمال البديع، من بعيد يلوح تمثال ضخم لبوذا، أمام مجسّم جميل كأنه (دوّار) تحار إلى أين تيمّم وجهك، فعلى يمينك القرية الفرنسية، لوحات تضم معارك وصور نابليون وجنوده... وهناك مطاعم لها إطلالات على السفوح الخضراء الممتدة، ومتحف الشمع، حيث يمكنك تأمّل وجوه المشاهير التي تكاد تنطق، تلتقط (سيلفي) معها، وتعود لتأمّل حركتها، كأنما على وشك أن تمدّ يدها نحوك لتصافحك.
وكان لا بدّ أن نقول وداعًا فيتنام، عائدين إلى هانوي، متّخذين اليوم التالي طريقنا الطويل إلى ديارنا، الصور التي بقيت في الذاكرة أوسع جمالًا من تلك التي حملتها ذاكرات الكاميرات والهواتف المحمولة، فبعض الدهشة لا يمكن أن تحتويه الصورة مهما أوتيت من قُدر■
ابتسامات فيتنامية دالّة على بساطة الشعب ومدى اللطف الذي يبديه للغرباء
بالورد استقبلتنا سهيلة، وكانت أغنية فيتنامية تقول حروفها باللغة العربية، مفتتحة طموحها عبر بوابة السياحة
مطاعم بطاولات صغيرة تكشف عن ثقافة البساطة، حيث يمكن تناول الطعام على الشارع، كما لو أنّك في البيت
باعة الفواكه سمة عامة في شوارع هانوي، والسعر للأجنبي يبدو أنّه مختلف بما حيّر المرشدة السياحية وأوقعها في حرج
كانت الفتاة تجدف، عينها على الماء والبشر معاً، وعلى القارب ليحافظ على توازنه
يأبى اللون الأصفر إلا أن يكون له حضور في مشهد فرحة الألوان، فالبلاد تمنح المتعة لزوارها
التقطنا صورة جماعية، ربما كان ذلك قبل أن نبدأ بالتساقط على الطريق الجبلي الموحل
تأوي إلى جبينها تعب السنين، وكأنّها تود لو تروي للعابرين حكايات مخزونة لا يفترض أن تُحكى
كانتا تراقباننا ونحن فوق تخوم تلك الجبال نكاد نتوقع في كل خطوة... سقوطًا