فيلم Centigrade في مواجهة الثلج والصقيع

فيلم Centigrade في مواجهة الثلج والصقيع

ماذا ستفعل إذا أحاطكَ الثلج من كل اتجاه، وغَلَّفَكَ من جميع جوانبك؟! لا يحميك من إحاطته سوى سيارة مدفونة لا تظهر في بياض الثلج وأنت داخلها، هذه السيارة هي إطار الدفء الذي يعزلك عن الصقيع وجبروت لسعته المُهِينة.

أنت في الداخل ستكون معك زوجتك، تتحمَّل كل عصبيّتها وفرط توترها؛ فهي حامل توشك على الوَضْع، أنت مدفون داخل الثلج والصقيع والبرودة، لا تستطيع الفكاك من هذا الماء المتجمد الذي يسبب الحياة، وهو الآن عدوك الأول، هو الذي ينبغي عليك مقاومته والنجاة من حضنه، فأنت ذرّة داخل كومة من ثلج، برودته تحمل كل الرغبة في أن تجعل عروقك تتجمَّد، وأنت بكل الإرادة ستقاوم محاولًا النجاة من برودة الموت، وستقاوم الانفجار من الضغط على أعصابك من توتر زوجتك الحامل.
ستدخل تجربة الحياة داخل الثلج حين تعايش فيلم Centigrade (مئوي) المنتج في أغسطس الماضي من إخراج بريندان والش، كتابة دالي نيكسون، بطولة فنسنت بيازا في دور الزوج، وجينيسيس رودريغيز في دور الزوجة. 
منذ البدء، سيجعلك الفيلم داخله، ستكون أنت المشاهد والبطل حين تندمج مع الحالة التي وضعك فيها صُنَّاع الفيلم، ساعتها سترى المعاناة من السيارة التي تحبسك وترفض خروجك، ستعاني البرودة والقسوة، وستعاني حين تريد زوجتك أن تتبوَّل، ستكون تلك مشكلتك أنت، تضغط على أعصابك فتوتّرك من الداخل، لأنّ دورك أن تلبي طلبات الحامل الضعيفة، أنت تحمل هَمّ روحك وروحها وروح الجنين الذي داخل بطنها، وتحمل هَمّ الثلج المحيط بكم جميعًا، وفي لحظة رغبة زوجتك في التبوُّل تتذكر ما فعلته أمك وهي طريحة الفراش حين حوَّلت قطعة القماش لكُرة، فيرتد بنا الفيلم في لحظة قاسية لاستخدام كل ما يحيط بنا، يضعنا داخل مأزق ويطلب منا الخروج منه، فلكي ننجو بحياتنا ينبغي أن نستخدم كل ما يحيط بنا.
تتقلَّص حياتك ومنزلك لمساحة سيارة، حتى أنك لا تستطيع أن تقف على قدميك، ويصبح الوقوف والحركة متعة غير متاحة، تصبح الشمس أمنية، ويكون المشروب الدافئ أمنية، يصبح كل ما كنت تعيشه ببساطة وإهمال في حياتك قبل أن تدخل السيارة رغبة آنية، ويكون لديك كَمّ بسيط من الطعام هو كل ما لديك لتعيش عليه حتى تنجو بحياتك من هذه المساحة الضيقة داخل الصقيع والبرودة.
يدعوك الفيلم إلى التكيف مع وضعك الذي أجبرتك الظروف على الحياة فيه، أن تصارع من أجل البقاء حيًّا حتى لو كنت مدفونًا داخل سيارة في الثلج.

بيت داخل الثلج
نجح صُنَّاع الفيلم في إشعارنا بأننا داخل مساحة ضيقة من سيارة مدفونة داخل الثلج، وكدنا نرتجف مع الزوج والزوجة أثناء فترة عرض الفيلم، وإلى جانب ذلك، شعرنا بمساحة السيارة الضيِّقة والكاميرا تتجوَّل تتفحص مكوناتها وهي تتابع الحدث، وكأننا داخل مكان فسيح له خصوصيته، يسعُ زوجًا وزوجة في محبَّة متفاهمة، ساعات التفاهم بينهما أحالت مساحة السيارة إلى بيت واسع كبير حرّ نتفقده براحة ومتعة.
كان خروج الكاميرا من داخل السيارة المدفونة للمحيط الثلجي خروجًا حُرًا ناعمًا، ثم تدخل الكاميرا للسيارة بالنعومة نفسها، لقد أراد صناع الفيلم ألّا ننسى من خلال الحوار الساخن الذي يحدث بين الزوجين أنهما داخل ثلوج قاسية.
ففي لحظات بعينها يكاد الحوار يشتعل حتى كأننا داخل بيتهما، ويمارسان شخصيتيهما الطبيعيتين بعيدًا عن ضغوط الصقيع، نجحت الكاميرا في تواصلنا مع الثلج ونحن في الداخل للنهاية، هذه النقلات من الداخل للخارج مع بعض الظلام، ساعدت في إدراك البعد الزمني الذي كان يمرّ في هذا الحيّز الضيق.
جاءت النقلات المتناغمة بين الدخول والخروج من السيارة لتكسر الإحساس بالاختناق داخل الحيز الضيق والزمن الميت، فأنت محصور بين البياض والصقيع، بين الثلج ووخز البرد السامّ.

كاشف الروح
ينكشف كل ما هو مدفون داخل شخصيات الفيلم المحدَّدة في الزوج والزوجة داخل هذه المساحة الضيقة، السيارة، تظهر الطبائع الحقيقة لهما وسط الصقيع، فالزوجة بتوترها تريد أن تخرج بأي طريقة حتى لو كَسَرَت زجاج السيارة، ومن ثم سيهجم الصقيع عليهما، لكنها تعتقد أن محاولة الخروج من الدفن هي الأولى، فربما يقابلان مَن ينقذهما، وهنا تظهر شخصية الزوج الذي يفضِّل المكوث مدفونًا بحجة أن المكان هنا آمن حتى لو كانا مدفونين داخل الصقيع، فعلى الأقل لدينا بعض الدفء، فما الذي يعرّضنا لمواجهة الصقيع والثلج في الخارج؟ وربما كسرنا زجاج السيارة ولم يصبح أمامنا سوى أن نوجد في الصقيع مدفونين، ورجَّح الزوج المكوث داخل الثلج، ورأى أن المكان هنا آمن وفي الخارج خطر على امرأة حامل، سيطيح بها الثلج والبرودة من كل اتجاه.
منذ البدء ظهر الخلاف في التكوين النفسي والعصابي لكلّ من الزوج الهادئ المتحمل والزوجة العصبية التي كانت هذه الرحلة من أجلها كي توقِّع كتابًا، وفي الطريق اختلفا بين الاستمرار في العاصفة الثلجية، كما قالت الزوجة، كانت الزوجة العصبية أسرع للانهيار من الزوج الذي حافظ على رباطة جأشه حتى نهاية الفيلم، مما جعل الزوجة تتماسك في النهاية بشدة وتعرف قيمة هدوء الزوج في الوقت العصيب.

من رحم الأم للثلوج
ظهرت بجلاء شخصية المرأة وعاطفتها الحساسة حين جاءت الفرصة الوحيدة لهما للخروج من قلب الثلج، والتي كانت كَفيلة بإنقاذهما، حين ردَّ عليها والدها في الهاتف المحمول، فإذا بها يجرفها الحنين والشوق في المحادثة، وتبكي بشدة وتوتّر، متدفقة ومتناسية أزمة الدفن في الثلج، ونفدت بطارية الهاتف وانقطع الاتصال للأبد؛ ولم تخبر والدها عمَّا حدث لها، وظل الزوج متماسكًا كي يعطينا الأمل في الخروج من هذا المدفن الثلجي.
ظهرت عصبية الزوجة حين كانت تريد أن تكسر النافذة، وقال الزوج: «هل تعرفين ما يوجد هناك؟ بمجرد كسرها لا تراجُع»، كان يعتمد في تصوّره على قصة الإفريقي الذي انقلب قاربه وظل لأسابيع في مركب هوائي بلا طعام، بقي الإفريقي في مكانه حتى تم إنقاذه.
كان واضحًا أنها تعاني بتوتّر من أجل الحياة التي تنمو داخل بطنها وتوشك على الخروج، كانت هي أيضًا تعاني من داخلها ومن خارجها، فالطفلة التي داخلها ستخرج من حياة رحمها لاستقبال الموت في الصقيع، ربما فكرت في أن طفلتها الحية ستموت داخلها إذا ماتت هي؛ فكان إصرارها الشديد على الحياة من أجل الطفلة يدفعها للتوتر، وهذا ما حدث بقوة في نهاية الفيلم، فقد تحمَّلت الأم أمورًا قاسية من أجل الحفاظ على حياة الطفلة، بعد أن مات الزوج من جراء تضحيته بكل الطعام والدفء لهما، كي تحافظ هي على حياتها وتحتفظ بطاقتها من أجل الطفلة.

الصقيع يأتي من الداخل
في لحظة مشادة بين الزوجين، قال الزوج كلمة الفيلم المبتغاة: «من المفترض أن نكون شريكين»، وكانت هي على النقيض تردد: «لا يمكننا التدخل في شؤون بعضنا البعض طوال الوقت»، وبدأت العلاقة بينهما تتوتر، تقول الزوجة: «الكل لديه أسرار»، وهو يردد: «ماذا يعني ذلك بحقّ الجحيم؟» أي أسرار؟ وكأن شرخًا بدأ بينهما قد حدث، وظهر عمق النفس وتكشَّف في هذا الحيّز الضيق.
رأينا مشهدًا معبرًا عن شرخ العلاقة بحقّ حين قالت الزوجة إن لكلّ منهما أسراره، مشهد بديع يكشف الهُوّة التي حدث في العلاقة دون الحاجة إلى كلمات، فقد جلس كل منهما ووجهه تجاه المُشاهد، وبينهما ظهر مقعد السيارة يفصل بينهما كعلاقتهما المفصولة.
ويتوتر المشاهد، كيف ستتم العلاقة المقطوعة بينهما وهما عالقان في الضيق والصقيع والبرد والثلج؟! ماذا سيفعلان وهما منفصلان متصلان، ليس بينهما سوى ظهر مقعد سيارة؟! 
حين ينفصلان في الداخل، نشعر كمشاهدين بالصقيع الداخلي للمرة الأولى، لقد انتقل البرد للداخل في لحظة، فالزوج يبدو عليه الإرهاق، وهي لم تكن تستطيع النوم من التوتر والترقُّب، الانفصال والانقسام كانا ظاهرين على لون المشهد بالكامل، صار لون السيارة من الداخل ثلجيًا كالصقيع، وبدأ البرد والثلج يدخل عن طريق فتحة في الزجاج، وكان البرد يهجم من الداخل والخارج، والموسيقى المصاحبة لحالة الانفصال متناسبة تمامًا مع الموقف، الزوجة تنظر له في انكسار من الخلف، وبدا لنا للمرة الأولى حين انفصلت عنه أنها ضعيفة وتحتاج إلى المساعدة، وقلنا: متى يعود الدفء إلى قلب السيارة، فقد انتقل البرد إلينا؟ وصارت لحظات الصمت بينهما رهيبة، وظل البرد قائمًا للحظات على الشاشة حتى كأنّ برد السيارة من الداخل يتفوق على صقيع الثلوج في الخارج!

امتزاج بخار الروح
في عنف الانفصال اشتدت أعصاب الزوجة، وشدت أعلى مقعد السيارة فظهرت حديدة المقعد، أخذتها ورشقتها في الزجاج فانكسر، وكانت بها رغبه عنيفة في مغادرة هذا الاختناق، وأمسكها الزوج ليمنعها من التصرف الأحمق، وكانت هذه الاحتكاكات بداية عودة العلاقة، وتجوَّلت الكاميرا داخل السيارة كأننا داخل براح شقة، وبدأت آلام المخاض، هل ستلد هنا في السيارة داخل الثلج؟! 
ويتوتر الفيلم أكثر، ماذا سيحدث لرضيع في هذه الظروف؟ وتبدأ آلام المخاض، مع الاختناق والثلج والضيق والجوع: «هيا ادفعي دفعة أخرى، تحمّلي»، وتخرج طفلة تبكي بشدة محاطة بالدم، ويحتضن الزوج زوجته وسط بكاء الطفلة وسعادة المشاهد المتوتر المتابع بقلق على الطفلة، والأسرة بكاملها.
في مشهد في غاية البراعة وسط هذا الضيق والإنجاب، نرى الزوجة تتنفس البخار والزوج يتنفسه في الوقت نفسه، وفي صورة بديعة يمتزج بخار الزوج ببخار الزوجة، وكأنه بخار واحد لروحين امتزجتا، لقد قالت الصورة إن تمازجًا حدث بين الزوجين دون كلمة، عبَّرت الصورة عن تعمُّق العلاقة، وتحولت الحالة لنعومة رقيقة ورغبة في الهدوء والسكينة، وظهر حب مدفون داخل الزوجين مع وجود الطفلة، واحتضناها معًا ثم همس لها: «أنا أحبك كثيرًا»، وقالت: «أنا أحبك»، وصارا في اتحاد عجيب بهذا الضيق، ورأينا الشمس تشرق، وشعرنا أن أملًا قادمًا في اليوم السابع عشر داخل السيارة.

اجتماع الموت والحياة
مات الزوج، فتوتر الفيلم بقلق، وظهرت مشاعر الزوجة والأم الحقيقية، وظهر المشهد البارع، فالزوج ميت، والزوجة تبكي، والطفلة تصرخ كأنها تعلم أن راعيها قد مات مضحيًا من أجل والدتها، حين ظل طوال الفيلم يطعمها ولا يأكل إلا الفتات.
حالة غريبة في نهاية الفيلم من الزوج الميت والطفلة التي تحتاج إلى الحياة، الموت والحياة اجتمعا في لحظة واحدة داخل السيارة، اختلط بكاء الطفلة ببكاء الأم التي ظلت تردد: «آسفة»، فلم تكن تدري أنه ضحَّى بالطعام والغطاء من أجل أن تستمر حياتها هي وطفلتها، أعطاها كل الدفء ومات من الجوع والبرد، وبدأت هي تـأكل أوراق الأجندة من أجل أن تستمر حياتها وحياة الرضيعة.
كان صراخ الطفلة يمزق الأذن، ويجعلنا في حالة من التوتر الشديدة مع الأم، وثدي الأم ليس به حليب، وكاد المشاهد يصرخ: يا رب!
لما دفعت الأم الثلج بقوّة اكتشفت أنه هشّ، فقد مرّت جرافة وأزالت الثلج من جانب السيارة وبقيت مساحة صغير من الثلج تغطيها.
وخرجت المرأة من السيارة وقبَّلت زوجها وعيونها تشكره لأنه حافظ على حياتها وحياة طفلتهما، حتى لو كان الثمن حياته، خرجت للنور والثلج يحيطها من كل مكان والطفلة تبكي، خرجت للحياة، للثلج الحقيقي، والهواء العنيف.
ستقاوم من أجل طفلتها كما فعل زوجها، ومع السير والجهد وتحمُّل عذابات الثلج ننظر في وجهها فنرى أول ابتسامة رائقة حقيقية، وننظر حيث نظرت فنجد بيتًا في عمق الثلوج مضاء، وأظلمت الشاشة واستراحت نفوسنا وتطهَّرنا من الحبسة والضيق والثلج والبرودة، وكأن مستقبل الصغيرة لمع أمام أعيننا منفتحًا على الضوء والدفء والحرارة ■

الزوج يحاول إيجاد فتحة في السيارة

الزوج والزوجة داخل السيارة