الشيخ رشيد رضا وتحولاته الفكرية والسياسية
عندما نتحدث عن الشيخ محمد رشيد رضا، فإننا نتحدث، في الواقع، عن شخصية فكرية إسلامية مثلت اتجاهين لا اتجاهًا واحدًا ضمن التيار الإسلامي الإصلاحي العريض، الذي انتمى إليه في حياته (1865-1935). كان الاتجاه الأول هو الذي جمعه مع الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وهو الذي كان يعرف عند كثير من الأكاديميين العرب والأجانب بالاتجاه «السلفي الإصلاحي»، أو «السلفي التحديثي». أما الاتجاه الثاني الذي ظهر واضحًا عند رشيد رضا بمفرده بعد الحرب العالمية الأولى، فكان الاتجاه السلفي المحض.
كان مصطلح االسلفية الإصلاحيةب يحمل معه بذور محاولة التوفيق بين فكرتين، وهما السلفية التي تشدد على العودة إلى أخلاقيات الإسلام ونقائه الأول الذي يمثله السلف الصالح من ناحية، والتحديث الضروري على الطريقة الغربية للدخول في العصر الحديث من ناحية أخرى. فقد كان ممثلو هذا الاتجاه يعتقدون أن الأمة الإسلامية تشكو من التأخر من وجهتين لا من وجهة واحدة: الأولى، تأخرها عن أخلاقيات وممارسات الماضي الإسلامي الأول، والوجهة الثانية تأخرها عن الحاضر الأوربي الذي طوّر حضارة حديثة متقدمة عن الحضارات التي سادت قبلها. وكان الهم الأساس لهذا الاتجاه هو الحفاظ على الإسلام كدين وثقافة في مواجهة حملات فكرية غربية معادية، وردم الهوة الحضارية التي تسمح بالعودة إلى نوع من توازن القوى على كل الأصعدة بين العالمين الإسلامي والغربي، من خلال تفعيل االاجتهادب الذي يسمح بتطوير بعض الأحكام الشرعية. ولما تغيرت أمور الاتجاهات الإسلامية والاتجاهات المعادية لها في العقد الثاني من القرن العشرين وما بعده، أصبح من الصعوبة بمكان مزاوجة السلفية والإصلاحية معًا، لأن طلاقًا فكريًا حدث بينهما، فأخذنا نقول إما بالاتجاه الإصلاحي التغريبي الذي اتخذ صفة علمانية، وإما بالإصلاح الإسلامي السلفي الذي لم يعد يهتم كثيرًا بالأطروحات الفكرية الغربية غير المتصلة بالدين (وإن ظل متحمسًا للأخذ بالتكنولوجيا الغربية)، والذي تبناه أكثر من تيار في مجتمعاتنا حاليًا، وإن بتلاوين مختلفة.
بين الأفغاني ومحمد عبده
من الناحية السياسية اختلفت مشارب الإصلاحيين الثلاثة (الأفغاني، عبده، رضا). فقد كان جمال الدين الأفغانيّ من الداعين إلى العمل السياسيّ المباشر، لاعتقاده بأنَّ الإصلاح يبدأ من قمة الهرم، أي من عند الحاكم ثم ينتشر بين الناس، ربما على الأساس القائل: االناس على دين ملوكهمب. أما الشيخ محمد عبده فاختار، بعد فترة تعاون مع الأفغاني إثر احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، أن يسير على مبدأ الإصلاح التربوي والتعليميّ البطيء الذي يبدأ من القاعدة ويصعد بعد ذلك إلى القمة وكأنه يردد اكما تكونوا يولّى عليكمب. لهذا قام الشيخ الإمام محمد عبده بمهادنة الاحتلال البريطاني وعاد إلى مصر، حيث أصبح مفتي الديار المصرية. أما الشيخ رشيد فبدأ حياته السياسية مهادنًا كمحمد عبده وانتهى مجابهًا للاستعمار كالأفغانيّ.
لما انتقل الشيخ رشيد رضا من بلدته، القلمون، الواقعة إلى الجنوب القريب من مدينة طرابلس الشام، على الساحل اللبناني اليوم، إلى القاهرة، وأنشأ مجلة االمنارب عام 1898، فإنه سار سير الإمام محمد عبده وتجنب الخوض في المواضيع السياسية في البداية. وظل على هذا الموقف حتى في الفترة التي أعقبت وفاة محمد عبده (1905)، بل لعله بالغ فيه إذ لم يتردد في دعوة المصريين إلى عدم إظهار مشاعر التنديد بالبريطانيين إثر حادثة دنشواي الشهيرة في 1906، التي أدت إلى شنق أربعة فلاحين، وإيقاع عقوبة الجلد والسجن بعدد أكبر ظلمًا وعدوانًا. كذلك فإنه ألقى في 1912 خطابًا أثناء زيارة له إلى الهند، التي كانت مستعمرة بريطانية، دعا فيه المسلمين بها إلى التعاون مع حاكميهم، لأن بريطانيا لا تتدخل في الشؤون الدينية كما تفعل فرنسا في الجزائر. وبالطبع، لم يؤدِ هذا إلى جعل الشيخ رشيد محبوبًا لدى الذين سمعوا خطابه.
والواقع أن الشيخ رشيد رضا بدأ حياته الفكرية وفيها شيء من الازدواجية منذ البداية، فهو كان لصيقًا بأستاذه الإمام محمد عبده، الذي جاهر في كتابه االإسلام والنصرانية مع العلم والمدنيةب في بداية القرن العشرين، برفضه للدعوات السلفية المحضة، معتبرًا أن القائمين بها الم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية الحديثة أحباءب. أما الشيخ رشيد رضا فوجد في بعض هذه الدعوات من الإيجابيات أكثر من السلبيات، وقد خالف رأيه رأي محمد عبده حتى قبل وفاة مفتي الديار المصرية آنذاك. فقد كتب الشيخ رشيد في المجلد الخامس من االمنارب، أي في 1902، يدافع عن الاتجاه السلفي المحض وإن لم يسترسل في ذلك.
الأوربيون... منافع بلا أضرار
ومع هذا، فعندما نقرأ االمنارب في سنواته الأولى نلاحظ إعجابًا واضحًا بالغرب، أشار إليه أكثر من باحث، خاصة عند التوقف عند مقالات الشيخ رشيد المسلسلة احول منافع الأوربيين ومضارهم في الشرقب، التي نشرها عام 1325 هـ/ 1907 م.
وهو يقول في هذا المجال إنّ الفائدة الأولى التي استفدناها بمحالفة الأوربيين والاتصال بهم هي ااستقلال الفكرب... وهو يكون حسب كلام الشيخ رشيد ا... ببلوغ العقل أشدّه وارتقائه إلى مستوى رشده؛ فإنّ العقل القاصر هو الذي يتبع مذهب التقليد في كل ما يلقى إليه كما نرى الأطفال ومن هم في حكم الأطفال من الرجال. فالمستقل في فكره هو الذي يستعمل عقله في البحث عن الحق والصواب في معارفه، والتمييز بين النافع والضار من مصالحه أو مصالح أمته عندما يبحث فيها، فلا يقبل من هذا ولا ذاك قول من هو مثله إلا إذا ظهر له أنه الحق والصوابب. وينهي المؤلف كلامه قائلًا بالحرف وتاركًا القارئ مدهوشًا افهذه فائدة كبرى قد استفدناها من الأوربيين ينبغي أن نشكرها لهم ونحمد لأجلها معرفتهم. وليس للمسلم أن ينكر ذلك محتجًا بأنّ القرآن الحكيم قد أرشد إلى هدم التقليد وقام على أساس الاستقلال في الاستدلال؛ فإن هذا، وإن كان حقًا يعترف به المنصف من العلماء في أوربا لم يكن هو المنبه في هذا العصر للشرق وللمسلمين خاصة، ودليلنا على هذا أن رجال الدين منّا لا يزالون في الأكثر أسرى التقليد وأعداء الاستقلال، فيجب أن ننصف من أنفسنا ونشكر لمن نبهنا إلى مصلحتناب.
ويتابع الشيخ رشيد حول الموضوع نفسه في الحلقة الثانية قائلًا: اإن الفائدة الثانية التي استفدناها من الأوربيين هي الخروج من الاستبدادب، وهو يهاجم أهل السياسة في اسطنبول، عاصمة السلطنة العثمانية، قائلًا إن أعظم افائدة استفادها أهل الشرق من الأوربيين معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة وانطباع نفوسهم بها، حتى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيد والشريعة بالحكم المطلق الموكول إلى إدارة الأفراد؛ فمنهم من نال أمله على وجه الكمال كاليابان، ومنهم من بدأ بذلك كإيران، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان كمصر وتركياب.
وينهي شيخنا كلامه بشيء من الحزم وهو يشير إلى القارئ الذي قد تعتريه الدهشة أن هذه المبادئ هي غير مبادئ االشُّورىب الإسلامية: الا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم أصل من أصول ديننا فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوربيين، والوقوف من حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين في الآستانة وفي مصر ومراكش، وهم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية ويعد من أكبر أعوانها، ولما كان أكثر طلاب حكم الشوُّرى المقيدين الذين عرفوا أوربا والأوربيين... ألم تر بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوربيين كيف تتخبط بظلمات استبدادها ولا تسمع من أحد كلمة اشُورىب، مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشُّورى ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر المشاورة وفرض حكم السياسة إلى جماعة أولي الأمر والرأي...ب.
الملاحظة المهمة في سلسلة مقالات الشيخ رضا امنافع الأوربيين ومضارهم في الشرقب أنه لم يشر إلى أية مضار للأوربيين وركز على منافعهم فحسب.
الحرب العالمية الأولى تنتج التحول
هذا الإعجاب بأوربا في بداية نشاط الشيخ رشيد الفكري يتحول إلى هجوم حاد عليها وعلى سياستها وعلى ما أسماه ابالمتفرنجينب المسلمين المتأثرين بها، وقد حصل ذلك التحول في اتجاه شيخنا لأسباب عدة، تراكمت الواحد تلو الآخر أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى. ربما كان أول الأسباب فرض نظام الانتداب الفرنسي والبريطاني على بلاد الشام والعراق وإصدار وعد بلفور للحركة الصهيونية في فلسطين، وتشديد رقابة بريطانيا على الجزيرة العربية كمنطقة نفوذ تستأثر بها، وهو الذي كان كغيره من أئمة المسلمين يرون أن الدين الإسلامي يستلزم بقاء سلطة سياسية مستقلة تدافع عنه وتمثله وتبقي على أهم شعائره. أما السبب الثاني فهو فشل محاولة التقارب العربي - التركي، بعد أن استطاع مصطفى كمال هزيمة الحلفاء والفوز باستقلال تركيا، على العكس من سورية والعراق اللتين أصبحتا تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني. وبينما كان معظم العرب والمسلمين يؤيدون الغازي التركي المنتصر إذا به يحول تركيا وجهة أخرى ويلغي السلطنة ثمّ الخلافة في 1924 ويأخذ تركيا وجهة علمانية تغريبية بحتة. أضف إلى ذلك أن بعض المثقفين العرب أيدوا هذا المنحى التغريبي الذي اتخذته تركيا، فكتب علي عبدالرازق في 1925 كتابه االإسلام وأصول الحكمب الذي نفى فيه أي سمة إسلامية للسلطة السياسية منذ بداية الإسلام، ثم كتب طه حسين في 1926 افي الشعر الجاهليب، الذي شكك فيه بمصادر ذلك الشعر، وبالتالي بمصادر جميع المصادر الإسلامية المبكرة بصورة أحدثت هزة ثقافية كبيرة. وكان الشيخ رشيد من أشد الذين هاجموا الكاتبين اللذين اعتبرهما من االمتفرنجينب أو من االملاحدةب.
من مجاهد ضد الجمود إلى مجاهد للجحود
حصلت كل هذه التطورات بينما كانت تجري في أوربا نفسها مصالحة أو شبه مصالحة، أو اعتراف متبادل من خلال العلمانية المعتدلة بين الدولة والدين في الحياة الأوربية. لذا نجد الشيخ رشيد يكتب في نهاية عام 1929 مقارنًا بين ما يعتبره اتجديد ملاحدتنا وتجديد الإفرنجب، أن المسلمين الذين يدعون التجديد يقصدون به هدم كل ما يربط الأمة ويشد أزرها ويجمع كلمتها ويهذب أخلاقها من روابط الدين ويسمون ذلك تقدمًا ورقيًا. أما الأوربيون أو الإفرنج كما كان يسميهم، فقد أعادوا العلاقات الودية بين دولهم ومؤسساتهم الدينية في الوقت نفسه الذي تعهدوا فيه بمحاربة الإسلام. وأعطى أمثلة على ذلك, من بينها: 1 - إعادة الدولة الفرنسية للجمعيات الكاثوليكية ما كانت صادرته من أموالها وأوقافها. 2 - تصالح الدولة الإيطالية ودولة الفاتيكان الكاثوليكية، وأعادت للبابا سلطانه السياسي في دائرته ومئات الملايين مما كانت أخذته من أموال دولته، فتجدد للكنيسة الرومانية بعض سيادتها.
3 - تبارت الأمتان الإيطالية والإنجليزية في الرجوع إلى آداب الدين في أزياء النساء وعاداتهن، ومقاومة ما أحدثن من الإسراف في التبرج، والخلاعة، المفضية إلى الإباحة،... أما إيطاليا فقد منع ارجلها المجدد ووزيرها الأكبرب (يقصد برأينا هنا موسوليني) كثيرًا من هذا الإسراف في الأزياء والرقص والسباحة, تجديدًا للدين والأخلاق لتجديد قوة الأمة وعظمتها.
ومع أن الشيخ رشيد ظلّ يحن للاتجاه الذي يدافع عنه كاتجاه التجديد الإصلاحي الذي لا يقع بين الجمود أو الجحود والتفرنج المقابل له، إلا أن تشديده على ضرورة إنقاذ الإسلام من أعدائه الكثر جعله يبني، ربما دون أن يدري، اللبنة الأولى باتجاه السلفية المحضة، وإذا بكل ما كتب سابقًا من مدح لقيم أوربا الليبرالية ينقلب إلى هجاء لها، وقد تحولت أوربا عندنا إلى ما يمثل الهيمنة والاستعمار والاستغلال، فكانت تحولات رشيد رضا الفكرية مقابلة لتحولات علاقة أوربا مع الإسلام والعالم الإسلامي، خاصة الإسلام العربي ■