الشاعر والروائي السوداني فضيلي جمّاع: مَنْ أنا بلا وطن؟

يظل الأديب فضيلي جماع أحد رموز الأدب السوداني، متنقلًا بين جيل وجيل، موزعًا بين الأجناس الإبداعية الأدبية، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم، جاعلًا من إبداعه مفهومًا حياتيًا وإنسانيًا، وصوتًا ناقدًا للأوضاع المائلة وتشققات المجتمع، ومميزًا في مسيرة الأدب النضالي من أجل حريات وقضايا مجتمعه، الأمر الذي أوقع جفوة دائمة بينه والسلطات في بلاده، وساقه إلى المعتقلات والمنافي، لتفتح له مغاليق الإبداع في الشعر والرواية، والدراما، والنقد، والكتابة الصحفية، فضلًا عن تنقّله محاضرًا بمجالات تخصصه في اللغات والترجمة واللسانيات، إذ عمل محاضرًا بجامعة أم درمان الأهلية بالسودان، ومترجمًا أول بجامعة السلطان قابوس (1990 - 1995م)، ثم محاضرًا بجامعة نزوى (2008 - 2012م) بسلطنة عمان.
عقب نزول الأديب جمّاع من سلّم الطائرة التي أقلّته من منفاه في بريطانيا إلى مطار العاصمة الخرطوم - بعد غياب امتد زهاء ثلاثين عامًا - خرّ الكاتب ساجدًا، شاكرًا الله تعالى ومقبّلًا تراب الوطن، وسط استقبال رسمي وشعبي، كان في مقدمته وزير الثقافة والإعلام، ووكيل الوزارة، والأمين العام للمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون. وسرعان ما غادر وسط حشود مستقبليه إلى الساحة التي اعتصمت فيها جماهير ثورة 19 ديسمبر 2018م، قُرب القيادة العامة للجيش، حيث قرأ الفاتحة ترحّمًا على الشهداء الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل حريّة شعبهم وبلادهم، ثم نثر باقة من الورد من أعلى االنفقب المطلّ على الساحة التي شهدت الاعتصام التاريخي للشعب السوداني.
ورغم انخراطه في الحياة العامة، متنقلًا بين بعض المدن، تلبية لدعوات المشاركة في بعض الفعاليات الثقافية والأدبية، وحفلات التكريم، فإنّ االعربيب جلست إليه في فرصة نادرة قبل مغادرته عائدًا إلى بريطانيا حيث يقيم مؤقتًا، وحاورته لأكثر من ساعتين حول نشاطاته الإبداعية، واهتماماته الإنسانية، وبعض قضايا الأدب.
• كيف وجدت السودان بعد الغياب الطويل، وما هو شعوركم حاليًا؟
- حقيقة بعدت عن السودان جسديًا في غربة امتدت لـ 29 عامًا و6 أشهر، لكنّ استخدام الوسائط أتاح لنا أن نكون يوميًا في داخله، إذ كنّا نعرف أدقّ التفاصيل عمّا يجري في بلادنا من مشقة وعَنَت الحياة، أكثر ممّا يعرفه كثيرون في الداخل، كنّا على تواصل دائم مع أناس على مختلف المستويات، وكنتُ أنشر كتاباتي عن الهمّ السوداني على الوسائط الإلكترونية، وتجد ردود الفعل اللحظية والمستمرة، مما جعلني كما لو كنتُ في أي قرية من قرى السودان.
ولما عدت في 25 أكتوبر الماضي، وجدت متغيرات كثيرة، أبرزها على الصعيد الديموغرافي، فثمّة ازدحام في المدن، وخاصة العاصمة الخرطوم، مما يعني تمدّد التنمية الرأسية، وهي ظاهرة غير صحيّة، ضاعفت من آثار التهميش وإفراغ الأطراف. لكنّ أكثر ما بهرني هو وعي الأجيال الجديدة، وما لها من إرادة وقدرة على صناعة التغيير، سعدت بها لدرجة لا تُوصف، كما وجدت عامة الناس فرحين بالحريّة وزوال النظام السابق فرحًا غير عادي، ورغم المكابدة اليومية، فهُم أشد صبرًا وتحمّلًا من ذي قبل، مما يجعلني أطمئن إلى استحالة إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
• هل كانت الغربة أمرًا مفروضًا أم خياريًا؟ وما هي الدواعي؟
< أسميه منفى اختياري، وهو أمر فُرِض عليّ، فما كان يحقّ لي الحضور إلى بلادي، وإن حضرت لتمّ اقتيادي من المطار إلى السجن معتقلًا، فقط لأنّني ظللت أنتقد السلطة، والشاهد عندما تعاقدت مع جامعة السلطان قابوس بعُمان في عام 1990م، لحُسن الحظ غادرت البلاد في الوقت المناسب، إذ أراد الله أن يرِدَ اسمي بحظري من السفر بعد أن أقلعت الطائرة. إذًا كيف يتسنّى لي العودة لأواجه مصيرًا مجهولًا؟ لذا لم أتردّد بعد انتهاء العقد عام 1995م، في الذهاب إلى بريطانيا لأعيش الحريّة التي أنشدها وأقاتل من أجلها.
حرية المنفى
• إذا قلت لكم «الحريّة في المنفى وطن، والقهر في الوطن منفى»، على نسق قول الإمام علي كرّم الله وجهه «الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة».. ما رأيكم؟
- لا ريب في أن الإمام علي، كرّم الله وجهه، كان رجلًا حكيمًا، وقولك في السياق صحيح، وجاء في الإسلام بـ اأن الدين المعاملةب، هذا ما وجدناه خارج حدود بلادنا، إذ وجدنا رعاية لنا ولأبنائنا في بلاد تتساوى فيها الحقوق والواجبات، مما يُشعِر المرء بأنه مستقر وفي راحة إلى حدّ، خصوصًا فيما يعني حقوق الإنسان.
صحيح فقدتُ جغرافية الوطن، لكن لا بدّ من تضحيات، والحق يقال، فإن الحرية في المنفى أو أرض الشتات أتاحت لنا ما لا يمكن أن يُتاح في وطننا، من إعمال للفكر، وحريّة في التعبير من غير تكفير أو تخوين، وساهمت في إغناء تجاربي الإنسانية والإبداعية، مقارنة بالذين بقوا في الداخل وزُجّ بهم في السجون وعُذِبوا لتعبيرهم عن آرائهم.
صدقني أن يُعذَب المرء ويحارَب في لقمة العيش داخل بلاده هذا أمرٌ أشد قسوة ومرارة من أن يبقى منفيًا في بلاد تتوافر فيها قيم الحرية بجميع أبعادها، وهذا ما حتّم عليّ البقاء بعيدًا شأني شأن كثير من السودانيين.
• القارئ لأدب المنفى بجنسيه؛ الشعري والروائي يلمس في ثناياه حنينًا حادًا وخوفًا حقيقيًا على الوطن، وقصيدة «تخيّرْ لخطوك إيقاعَها».. (يا وطناً ظلّ يهرب منا! فنسعى إليه قطيعًا من الغرباءْ) مثال.. فما هو تعليقكم؟
- هذه حقيقة، لكنّ تفسير موقف الخوف على الوطن من قصيدة واحدة فيه ظُلم لموقفي العام، لا سيما عندما يكون المرء بعيدًا عنه، وأجدني لا أنفي أن الشوق والحنين للأرض التي خرجنا من بين مساماتها يحصداني كل لحظة، وما كان بقاؤنا في أرض الشتات إلّا لأننا ظللنا نطرح القضايا المهمة، ونصدح لمعالجة التشققات الماثلة في جدار الوطن، فمَنْ أنا بلا وطن؟
إذن لا مشاحة من الخوف عليه وأنا مدرك بأنّ كل شيء فيه غير مستقر، ومعتم الملامح، وحتى لمّا اندلعت ثورة 19 ديسمبر، كانت متأرجحة، وأشفق الكل على السودان من الغرق في أتون الفتنة والفوضى، مما يفضي إلى الضياع، إلى أن جاءت لحظة السقوط أو الانتصار الكبير في أبريل 2019م، ومن ثمّ أخذت القصائد التي كتبتُها بعد ذلك شكلًا مختلفًا.
بالمناسبة، عقب انتصار الثورة، وعلى مدى عام تقريبًا، لم أكتب سوى ثلاث قصائد، وليست لديّ الرغبة في كتابة الشعر، لأنني على يقين بأنّ قصائدي لن تأتي بذات الدَّفق الشعري المتعب القاتل الذي كتبتُ به وأنا في المنفى، وحين كانت الثورة والتغيير حلمًا بالنسبة لنا، لذا كما تلاحظ أنني اتجهت للسّرد.
• نلاحظ في المشهد الإبداعي الراهن طغيان الفن السردي على الشعر.
- نعم هذا صحيح، ليس في العالم العربي فقط، وإنّما على مستوى العالم، وهناك أديب غربي أصاب كبد الحقيقة بقوله: االرواية هي قصيدة القرن الحادي والعشرينب، لأنّ السرد وعاء متمدد وسهل، يمكن أن تضع داخله عدة ألوان من الأدب، وهو فنّ شعبي سهل الانتشار بين الناس بعكس الشعر.
غير هذا فقد دخلت على السرد وسائل يمكن أن تحوّله إلى أجناس إبداعية أخرى، كمسلسل إذاعي/ تلفزيوني أو سينما، وإلى لغة عامية في البلاد التي تعرضها، مما يدفع المرء للبحث عن المصدر، وثمة روايات وقصص يمكن ترجمتها بعامية البلاد التي تقرأها، مما يجعل العمل السردي ميسورًا وسهل الهضم.
السرد القصصي هو الأقرب لشعبوية الأدب من القصيدة، والرواية جسم فضفاض قابل لكثير من الحيل التي تمكّنها من إيصال الفكرة للناس بأيسر الطرق، ورغم أن القصيدة ما زالت موجودة، ولها بريق ومريدون ومحبون، فإنها أقرب للصفوية من المعطى الشعبي.
• تقلّبات الأوضاع في السودان كثّفت لديكم رؤية إنسانية، انعكست في تجربتكم الإبداعية، كما أن فضاءات المنفى ونوستاليجا الوطن لهما تجلياتهما، فإلى أيّ حدّ استفدتم من هذه التداعيات في سبيل إنهاض عالمكم الإبداعي شعرًا، ورواية، ونقدًا، وما هي أبعاده؟
- كما تعلم، لقد جربتُ أكثر من جنس إبداعي، ومن ناحية قيمية، فمنذ احتكاكي بالمجتمع وبداية مشواري الأدبي صدر لي في الشعر دواوين افي أودية الغربةب (1973)، واالغناء زمن الخوفب (1985)، واشارع في حي القبةب (2010)، واالمشي على الحبل المشدودب (2016)، مع عشرين قصيدة مترجمة في طريقها للطبع، وفي الرواية ادموع القريةب (1971)، واهذه الضفاف تعرفنيب صدرت طبعتها الأولى بتونس (2019)، والثانية بالخرطوم، يناير (2020)، وأخرجت في النقد مؤلفي اقراءة في الأدب السوداني الحديثب (1991)، واالوجه والقناع في الثقافة السودانيةب (2020).
أما في مجال الدراما، فكتبت مسلسلات عدة بثتها الإذاعة السودانية، مثل االعصافير تهاجرب، االشمس والقطارب،
ومسلسل ادموع القريةب عن أولى رواياتي، ولديّ مسلسل جديد احكاية حب في الزمن الصعبب، ستقدمه الإذاعة خلال شهر رمضان، غير أنّي أعمل على إعادة كتابة المسرحية الشعرية الشهيرة االمهدي في ضواحي الخرطومب، في ثوب جديد، وكتابة مسرح جديد.
هذا كله نتاج واقع عشته داخل بلادي وخارجها، نما وتطوّر بحصيلة ثقافية جيدة، بقراءات لأنماط من الرواية العالمية والمسرح والفكر والثقافة العادية والسياسية، وتنقّل بين العديد من الدول العربية والغربية، فأصبحت أكثر انفتاحًا تجاه التيارات الثقافية والأدبية الحديثة، زادت معارفي وخلقت فيّ الإنسان الذي يتحلّى برؤية إنسانية كبيرة، ظهرت تجليّاتها بجلاء في أدب المنفى. وأجدني أهرُب لهذه الأجناس تقليلًا للتوتر والقلق الوجودي حولي، فأنا دائمًا في حوار مع العالم، ومع الذات، وأحاول من خلالهم تجريب أجناس إبداعية متعددة.
وفي اعتقادي هي محاولات لتجسير العلاقة بيني وبين نفسي القلقة المتوترة، ويُحمد للقلق أنه هو الذي يصنع هذا الإبداع المتعدد، لكن، هل نجحت في محاولاتي أم لا؟ هذا التقييم شأن أتركه للنقّاد المتابعين لها.
• رغم أنك دارس وتمارس النقد؟!
- نعم... لكن هذا لا يخول لي نزع شخصيتي عن المواطن السوداني العادي، الهارب من عسف السلطة، ليحاصرها بالكتابة ويحرّض عليها بشتى السُّبل، ليأتي من بعد لتقييم تجربته!.. فهذا ما لا أستطيع أن أفعله.
• على ذكر مسرحية «المهدي في ضواحي الخرطوم»، التي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية، ثمّة من يرى أنها إعادة كتابة لتاريخ المهدية، وآخرون يعتبرونها عملًا مناوئًا لحكومة مايو... ظل هذا الالتباس قائمًا عند الكثيرين، فهلّا أمطت اللثام عن حقيقتها؟
- هذه المسرحية الشعرية أرى ضرورة عرضها ثانية، بعد إكمال إعادة كتابتها، وعودة المسرح إلى عهده السابق، لأنّها بكل ذاك الزخم والضجة الكبيرة التي صاحبتها لم تُعرض على خشبة المسرح القومي سوى 17 يومًا فقط، إذ تم إيقافها رغم رواجها بحجّة انتهاء الموسم المسرحي لعام 1980م. لكنّنا كنّا نعلم أن السلطات لا تودّ عرضها.
والحقيقة ليس في المسرحية إشارة واحدة إلى تاريخ المهدية، ولا شخوص المهدية، ولا المهدي نفسه، بل استخدمت التاريخ كإطار فقط، والمهدي عبارة عن حلم، عبارة عن ثورة. وهي تتحدث بأكثر من لغة عاميّة سودانية، تتشكّل بنيتها من لوحات راقصة لتحريك ثورة شعبية، ما يدلّل على أنها ليست لديها علاقة بالمهدية إطلاقًا، وإنما أخذت شكل المقاومة لنظام الجنرال جعفر النميري على وقع أزمة حُكم ماثلة، وتوتّر ناجم في البلاد.
والمسرحية في معناها العام زحف الجمهور- البطل الحقيقي - لدكّ مواقع السلطة، واعتمدت الرمز، رغم أنني لا أكتبه، لكنّني استخدمته للترميز في كثير من المواطن للإيحاء بدنوّ أجل النظام الـ امايويب.
موقف شرس
• القارئ لأعمالك الأدبية يلاحظ اصطباغها بالصبغة السياسية، علمًا بأنك لست سياسيًا بالمعنى المتعارف عليه، ما تعليقكم؟
- هذا صحيح، فعلى صعيد ممارسة السياسة، فأنا لست بذلك، لكن لديّ موقف شرس جدًا تجاه تركيبة الأحزاب السياسية، وأكون أكثر صراحة إن قلت إنهم لا يطيقون وجودي، وكذلك لديّ مواقف صارمة تجاه الظلم والقهر والسلطة المتجبّرة، ولأنّي لا أكتب من فراغ، فقد وسمت كتاباتي بالصبغة السياسية.
• ومتى تجلّت صبغة السياسة بين ثنايا إبداعكم؟ وما هي الدواعي؟
- تمظهرت لغة السياسة بوضوح بعد شهر مايو 1976م، بديوان االغناء في زمن الخوفب، وهو مجموعة قصائد كتبُتها وأنا طالب في جامعة الخرطوم، تصور الذات المطارَدة التي تبحث عن الحرية، وتعبّر عن حالة التوتر والشد والجذب التي عشتها لمدة سنتين (76 - 1978م) في معتقلات نظام مايو، ما بين سجنَي كوبر بالخرطوم بحري وشالا بدارفور، ثم تضافرت معها مسرحية االمهدي في ضواحي الخرطومب، وبعض الأعمال الدرامية التي ذكرتُها من قبل، ولأنّ تلك الفترة هي بداية فوران الشباب وتوهّج العاطفة، وإسقاطات المُعطى السياسي، خرج ديوان اشارع في حي القبةب يجمع بين العاطفي والاجتماعي والسياسي، ولعلّ المنجز في هذه الفترة تمحور مثله مثل أي فن.
ثم بلغت لغة السياسة ذروتها بقدوم نظام 30 يونيو، فخرج أدب المنفى الذي أشرت إليه في السابق. وحتى روايتي الأخيرة صُنفت على أنها أدب سياسي.
والإسقاط السياسي في هذه التجارب الشعرية والنثرية هو جزء من معاناة الإنسان السوداني العادي، ومن واقع تجاربي ومعايشتي للناس، لا سيما أن السياسة دخلت في سياق ضروريات الحياة، بل في عصب الحياة السودانية، لأنّ أزمة بلادنا في المقام الأول هي سياسية، لغياب الرؤية السياسية الوطنية الحقيقية للنهوض بها إلى الأمام. وقناعتي أنه إذا خرج الأدب عن عرض ومعالجة قضايا وهموم المجتمع يكون أدبًا بلا قيمة، وليس ذا جدوى، ونحن في عصر الشعوب والأقطار. نعم لا بدّ أن ترتكز الكتابة الأدبية على المستوى الجمالي من أجل المتعة والتشويق، لكنّ ثمة قضية أساسية في صميم الحياة، لا بدّ أن يطرحها الكاتب للمعالجة إن لم يعالجها.
• ألا تخشى أن يأخذكم شيطان السياسة شيئًا فشيئًا عن سلطان الأدب؟
- لا أعتقد هذا، لأنّ ثمة حوارًا بينهما، وتناسق جيد ماضٍ بنحو مميز ما بين السياسي في دواخلي، وما بين المبدع، لا سيما أن السياسي الذي يتلبّسني غير معنيّ بالتنظيمات السياسية، إنّما ضد القهر والحكومات الجائرة، وتكمن خطورة مثل هذا المبدع السياسي اللا منتمي في كونه غير مُرحّب به في كثير من الدول.
وفي السياق، ينبغي أن يعمل كلاهما ظاهرًا وباطنًا بانسجام تام وصدق، لكي لا يجرف أحدهما الآخر وتختلّ العملية الإبداعية، وحتى يتمكّن السياسي القابع في الدواخل من توظيف المبدع لخدمة المجتمع، ويتسنّى للمبدع تبصيره بالرؤية العميقة، والقراءة الصحيحة للواقع الراهن، وقد يُنتِج هذا التوافق عملًا إبداعيًا متقدمًا، كما لمسنا في روايات الكاتب عبدالرحمن منيف، وهو أديب يستحق - في اعتقادي - أن ينال جائزة نوبل للآداب.
• بدأ ظهوركم في المشهد الإبداعي برواية «دموع القرية»، ثم ديوان «في أودية الغربة»، خلافًا لما هو سائد، ثم المسرح... هل كان هذا الانتقال والتمدد قدريًا أم اختياريًا؟
- ديوان افي أودية الغربةب، هو مجموعة أشعار بدأتُ كتابتها في المرحلة الثانوية عام 1965م، وهي مرحلة تتراوح بين سن 16 و18، فيها تغيّرات فسيولوجية وانفعالية واجتماعية، وما يطرأ من نزوع عاطفي نحو العنصر الآخر، لذا جاءت بعض قصائده رومانسية محضة فيها كثير من الغزل، وأخرى كتبتُها بعد انتقالي للدراسة في جامعة الخرطوم عام 1969م، وهي تحكي أزمة الصبي القادم من القرية إلى قلب العاصمة، فيها احتجاج لتغوُّل المركز على الهامش، خاصة قصيدة اكردفان تصحوب، التي فازت في مطلع السبعينيات بجائزة مهرجان الشعراء الشباب، بجانب قصائد غنائية بالعامية غنّاها المطرب اللامع عبدالقادر سالم، وفيها نوع من النوستاليجيا للقرية، ومجتمع البداوة الذي عشته في منطقتي.
كان هذا التنقل تدريجيًا وعفويًا تلقائيًا. أما الترتيب بالشكل التاريخي فهو ترتيب مطبعي، فالأصل أن الشعر سبق الرواية، وهي كُتِبتْ في صيف 1970م، في سنتي الأولى بكلية الآداب.
أما المسرح، فعندما كنت طالبًا في اخورطقت الثانويةب كتبتُ وأخرجتُ لمسرح المدرسة بعض المسرحيات، كما حاولت مع زملاء الجامعة تأسيس مسرح الشارع، إلّا أنه لم يستمر، لكنّني استفدت كثيراً جدًا من تكنيك المسرح الحديث الذي بدأت نواته الأولى في جامعة الخرطوم، حيث الانفتاح على المسرح العالمي، والتعرف إليه وماهيته، من خلال كتابات المسرحيين العالميين، وأعتقد أنه بنفس العفوية والتلقائية، تم الانتقال إلى كتابات الشعر الأخرى والكتابات النقدية.
واقع مؤسف
• هل كانت «دموع القرية» شكلًا من الحنين إلى الجذور، أم من أشكال الأسى على ماضٍ تولّى؟
- كانت ادموع القريةب محاولة لقراءة واقع مؤسف، فيه ظلم من الإدارة الأهلية التي عمّرت تلك الفترة، وظلم التاجر وناظر القبيلة، وإذا طرحتها حاليًا، فهي لا تخلو من سذاجة، لأنّ القرية (رويانة) الآن ليست التي كانت في الرواية. فالقرية في اهذه الضفاف تعرفنيب تجدها اتخذت بُعدًا قوميًا ورؤية أخرى، وتجدني استخدمتها كمعطى إنساني كبير.
• يقودنا الحديث عن القرية إلى البيئة التي نشأتم فيها، وحقيقة التنوع الديموغرافي والثقافي، الذي شكّل رؤيتكم وثقافتكم، لتُنتج منها شعرًا، رواية، وأغاني، ومسرحًا؟
- هذا سؤال مهم. تأكد - يا أخي عصمت - مهما طرحت نفسي ككاتب على نطاق السودان، وأطمح في تقديم رؤيتي الإنسانية ليراها العالم، فأنا قد جئت من بيئة في ركن قصيّ من أركان السودان، من منطقة بين المجلد وأبيي، وهي منطقة واسعة جدًا تمتد من غرب النوير، إلى شرق دارفور، يوجد فيها تمازج عرقي كبير، وذو خصوصية نادرة. أما من حيث الطبيعة وجمالياتها فهي مناطق سافنا غنية، لا تملّ العين رؤيتها. لقد ولدت وترعرعت في تلك البيئة في ضاحية االلّوب شمال شرق أبيي. ومن ناحية اثنية، فأنا خليط للحرف العربي، واللون الإفريقي، والبيئة الإفريقية. ويجري في شراييني دم دينكاوي، لأنّ إحدى جدّاتي من قبائل الدينكا بجنوب السودان، لكن ليس في أسرتي مَن لا يتحدث العربية، لأنهم كذلك من قبائل عربية نزحت من شمال إفريقيا، وحلّت في تلك المنطقة - كما ورد في كتابات هندرسون، والتونسي عام 1774م - ومن ثمّ اختلطت مع قبائل مجاورة غير المسيرية والدينكا، مثل الداجو والنوبة والزغاوة والتنجر. ويعيش هذا الخليط العجيب مشتركًا في المرعى والكلأ وسبل كسب العيش الأخرى. لذا فإن من الطبيعي أن يحدث اندماج وتزاوج ومصاهرة، وتلاقح وعلائق إثنية، ليتولّد مجتمع فريد نسيج وحده، لا يشبه الجنوب 100 في المئة، وبذات القدر لا يشبه الشمال. كما نرى فيه التنوع السكاني والثقافي بشتّى أشكاله وألوانه، حتى شمل الرقص والإيقاعات الموسيقية، ولعلّها المنطقة الوحيدة في السودان التي يسود فيها السِّلم السباعي.
هذا يشكّل إضافة أخرى للبيئة وللقومية والهوية السودانية المتعددة حتى في داخل تعددها. ومن هذا الاشتراك في المعطى الثقافي تشكّلت أحاسيسنا ورؤانا للحياة، ونوع اللغات التي نتحدثها.
تجدني فخورًا بالانطلاق من تلك البيئة وذاك المكان، لكونهما أعطياني رؤية مختلفة لبلادي وللعالم. وأعتقد أن كتاباتي تشبه البيئة التي أنجبتني. وإذا غدت في يوم ما ذات قيمة عند الآخرين خارج الوطن، فهي بالتأكيد انطلقت من ذاك المكان القصيّ البسيط، الذي رأيت فيه الشمس والقمر لأول مرة.
• ما هي رؤيتك للمشهد الثقافي ككل في ظل التنوع الماثل؟
- هذا ما أوضحته في كتابي االوجه والقناع في الثقافة السودانيةب، الصادر حديثًا من دار رفيقي للنشر. فالوجه الكائن حاليًا في الثقافة السودانية ليس هو الوجه الحقيقي لها، وإنّما قناع متى انتزعناه في يوم ما فستظهر الثقافة السودانية الحقيقية، في بلد غنيّ بالتنوع، ومليء بالثقافات المختلفة، ومجموعة من الإثنيات والقوميات كانت تتحدث في السودان الموحّد بأكثر من 250 لغة - حسب دراسة علماء الاجتماع - وليس لهجة، لكنّها لغات غير العربية. بقي من هذه اللغات بعد انفصال الجنوب 120 لغة، لها لهجاتها العديدة المختلفة. وفي اعتقادي ينبغي أن يجد هذا التنوع الثرّ فرصته في التلاقح والتعايش، وأن نغذيه ونحرسه قدر المستطاع.
• كدارس للّسانيات، ألا تلاحظ أن استخدام اللغة العربية الفصيحة صار ضعيفًا، كأنها تهرب من الأجناس الإبداعية. ولولا وجود القرآن الكريم، والشعر العربي القديم وبعض الممسكات الأخرى لسادت العامية/ الدارجة تمامًا... ما رأيك؟
- قد يكون هذا صحيحاً إلى حدٍّ ما، لكن ينبغي ألّا نجزع، لأنّ اللغة معطى اجتماعي، وأداة تواصل بين الناس. واللغة الرسمية المستخدمة في دواوين الحكومة والصحف وتأليف الكتب ليست هي لغة التخاطب. وهذه الازدواجية سمة معروفة في كثير من اللغات منذ القِدَم.
وإذا رجعنا إلى الوراء قبل نزول الرسالة، نجد أن المجتمعات العربية لم تكن تتحدث العربية الفصحى في دأبها اليومي، وإنّما كانت تتحدث بلهجات جنوب عمان واليمن، وبلاد الرافدين، وبلاد الشام. وكانت لغة شعر المعلّقات التي يعبّر بها الشعراء في قصائدهم هي أعظم وأرقى منزلة، ولم تُعلّق في الكعبة إلّا لكونها نمطًا بديعًا في التعبير والفصاحة والرصانة اللغوية. فلمّا نزل القرآن الكريم، وسمع أهل الجزيرة آياته، رموا الرسول الكريم بأنّه ساحر. وحتى الذين اختلفوا معه [ لم ينكروا اختلاف لغة القرآن وسحرها، واختلاف حديثه. وكذلك الحال في عصر الخلافات الإسلامية وما بعدها.
إذن يوجد هذا الازدواج في العربية منذ القِدم. وكذلك في اللغات الأخرى، وإذا أخذنا اللغة الإنجليزية مثالًا، فالإنجليز أنفسهم لا يستخدمون في حوارهم اليومي الإنجليزية الفصيحة، أو لغة الـ ابي بي سيب، أو الصحافة والرواية والمسرح، بل اللغة العامية الدارجة، مما يؤكد وجود الازدواجية اللغوية بين كل الشعوب. وهذا لا يعني أن الناس بعدت عن االعربيةب الفصحى، ماداموا لن يستغنوا عن العامية، لكونها أداة التواصل اليومي الأيسر والأكثر استخدامًا.
لكن يجب ألا يترك الأمر على عواهنه، فلا بدّ من حماية العربية والمحافظة عليها من خلال القرآن الكريم، والنصوص الدينية، والشعر العربي، والشكل الرسمي لخطاب الدولة. كما ينبغي النهوض بها بوجود مناهج ومقررات دراسية قوية تضبط شكل العلاقة أو التقارب بين العامية والفصحى، لأنّها بقواعدها الصارمة تستطيع أن تحفظ شكل اللغة.
• من خلال ممارستك للنقد الأدبي، ماذا عن رؤيتك للمشهد النقدي في السودان؟
- كمتابع للحركة النقدية في السودان من منفاي، أعتقد أن النقد يخطو بصورة جيدة. وخلال الفترة التي قضيتها في السودان حضرت عدة فعاليات ثقافية، وقرأت بعض الدراسات والمقالات النقدية في الصحف لشباب وكهول، تؤكد أن مستقبل النقد في السودان سيكون جيدًا، فما زال بيننا نقاد يمارسون النقد بشكل موضوعي جيد وعلمي دقيق، مع أنهم قلّة ويعملون في مناخ تنقصه الصحافة والمنابر الثقافية الجادة.
• كيف ترى النقد في العالم العربي؟
- من خلال متابعاتي للنشاط الأدبي والثقافي في العالم العربي، أرى أنّ ثمة كتابات جيدة في النقد، بالذات في المجلات المتخصصة، مثل انزوىب في سلطنة عمان، فهي تنشر كتابات نوعية ممتازة في قراءة للمنجز الثقافي العماني والعربي عامة، وكذلك مجلة العربي الكويتية، فدائماً ما أقرأ فيها أشكالًا عدة من القراءات النقدية المتقدمة، ثم مجلتي الهلال، وأدب ونقد المصريتين، فهما أيضًا تقدّمان كتابات جيدة. وحسب متابعاتي، أعتقد أن النقد في دول المغرب العربي يمضي بصورة جيدة.
لكن المُحزن أنّ هناك ضمورًا في التبادل المعرفي بين دول العالم العربي، وعدم انتشار المطبوعات العربية. وأنا أستغرب وجود أزمة انتشار في المطبوعات الأدبية والثقافية المتخصصة بالعالم العربي، في زمن تبادل المعارف والتواصل الإلكتروني، فلا يمكن أن تكون مجلة واحدة هي التي تنقل هذا الإرث الضخم.
يكفي مجلة العربي أنها خلقت شكلًا من أشكال التواصل الجميل لكتّاب من شتى الدول. ويُحمد لها أنها ما زالت تحمل في طياتها عبء نشر الثقافة العربية والتبشير بالحرف العربي من خلال القصيدة، والقصة القصيرة، والرواية، ومن خلال النقد، والحوار الثقافي، والاستطلاعات عن أماكن ومواقع كثيرة في العالم. هذه المطبوعة حملت الكثير الجيد منذ صدورها قبل أكثر من ستين سنة. إننا نحتاج إلى مجلات ثقافية متخصصة، بحيث يكون لكل جنس إبداعي مطبوعته الخاصة. عدا هذا فإنّ النقد ماضٍ في كل الاتجاهات بصورة جيدة، ولا أظلم النقاد.
أما مأخذي الثاني، فهو أن النقد كجنس إبداعي في العالم العربي ما زال يُمارس على نطاق ضيق. الكل متعصب لما ينتج. هذا لا يشبه التعاطي مع الدراسات النقدية في الغرب الصناعي الذي تمدد واستطاع أن يخلق قاسمًا مشتركًا بين ثقافاته الإقليمية العديدة.
حالة فرح
• لاحظنا عند استقبالكم الكبير حشودًا من الجماهير. ألا تخشى أن يحوّلك هذا الأمر إلي بطل ثوري، أو مناضل، الأمر الذي قد يؤثر سلبًا على مشواركم الفني؟
- كان المشهد في مجمله حالة من الفرح، والناس يحيطونني بحبّ غامر، لكنّي أعتبره احتفاءً بالكلمة وتكريمًا للحرف السوداني، ولمبدعي بلادي، وهو ضرب من الوعي وممارسة الحريّة في فضاء مفتوح أنجزته ثورة ديسمبر. كما ينبئ بأنّ علاقتي مع جيل صناعة الثورة بلغت مستوى رفيعًا، تنامت من خلال ما كتبته من أشعار ومقالات محفزة، ولأنّي كنت قد بشّرتُ عبر شعري ومقالاتي بهذا الجيل الذي أنجز ما عجز سابقوه عن إنجازه.
لكنّي أومن بأن البطولة المطلقة في هذا العصر هي للشعوب. إنّ ثورة ديسمبر كانت وستظل إنجازًا ضخمًا، في سعينا للحرية والعدالة والمساواة، لكنّ البطولة فيه للشعب، للإنسان البسيط صانع التحول في عصرنا.
في رأيي أن أيّ كاتب يعتقد بأنّ كتاباته ستحوله إلى بطل، فإنه يكون قد دخل في جُبِّ الوهم، وينبغي عليه أن يراجع نفسه. بالنسبة إليّ، فإنني أنظر إلى الاستقبال الشعبي والرسمي الذي شرّفني به أبناء وبنات بلدي عند عودتي من المنفى على أنه تكريم للكلمة عمومًا حين تقف في صفّ الوطن ونصرة قضاياه■.