الشاعر والروائي السوداني فضيلي جمّاع: مَنْ أنا بلا وطن؟

الشاعر والروائي السوداني  فضيلي جمّاع: مَنْ أنا بلا وطن؟

يظل‭ ‬الأديب‭ ‬فضيلي‭ ‬جماع‭ ‬أحد‭ ‬رموز‭ ‬الأدب‭ ‬السوداني،‭ ‬متنقلًا‭ ‬بين‭ ‬جيل‭ ‬وجيل،‭ ‬موزعًا‭ ‬بين‭ ‬الأجناس‭ ‬الإبداعية‭ ‬الأدبية،‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬جاعلًا‭ ‬من‭ ‬إبداعه‭ ‬مفهومًا‭ ‬حياتيًا‭ ‬وإنسانيًا،‭ ‬وصوتًا‭ ‬ناقدًا‭ ‬للأوضاع‭ ‬المائلة‭ ‬وتشققات‭ ‬المجتمع،‭ ‬ومميزًا‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الأدب‭ ‬النضالي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حريات‭ ‬وقضايا‭ ‬مجتمعه،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أوقع‭ ‬جفوة‭ ‬دائمة‭ ‬بينه‭ ‬والسلطات‭ ‬في‭ ‬بلاده،‭ ‬وساقه‭ ‬إلى‭ ‬المعتقلات‭ ‬والمنافي،‭ ‬لتفتح‭ ‬له‭ ‬مغاليق‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية،‭ ‬والدراما،‭ ‬والنقد،‭ ‬والكتابة‭ ‬الصحفية،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬تنقّله‭ ‬محاضرًا‭ ‬بمجالات‭ ‬تخصصه‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬والترجمة‭ ‬واللسانيات،‭ ‬إذ‭ ‬عمل‭ ‬محاضرًا‭ ‬بجامعة‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬الأهلية‭ ‬بالسودان،‭ ‬ومترجمًا‭ ‬أول‭ ‬بجامعة‭ ‬السلطان‭ ‬قابوس‭ (‬1990‭ - ‬1995م‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬محاضرًا‭ ‬بجامعة‭ ‬نزوى‭ (‬2008‭ - ‬2012م‭) ‬بسلطنة‭ ‬عمان‭.‬

 

عقب‭ ‬نزول‭ ‬الأديب‭ ‬جمّاع‭ ‬من‭ ‬سلّم‭ ‬الطائرة‭ ‬التي‭ ‬أقلّته‭ ‬من‭ ‬منفاه‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬إلى‭ ‬مطار‭ ‬العاصمة‭ ‬الخرطوم‭ - ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬امتد‭ ‬زهاء‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭ - ‬خرّ‭ ‬الكاتب‭ ‬ساجدًا،‭ ‬شاكرًا‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬ومقبّلًا‭ ‬تراب‭ ‬الوطن،‭ ‬وسط‭ ‬استقبال‭ ‬رسمي‭ ‬وشعبي،‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬والإعلام،‭ ‬ووكيل‭ ‬الوزارة،‭ ‬والأمين‭ ‬العام‭ ‬للمجلس‭ ‬القومي‭ ‬لرعاية‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬غادر‭ ‬وسط‭ ‬حشود‭ ‬مستقبليه‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬التي‭ ‬اعتصمت‭ ‬فيها‭ ‬جماهير‭ ‬ثورة‭ ‬19‭ ‬ديسمبر‭ ‬2018م،‭ ‬قُرب‭ ‬القيادة‭ ‬العامة‭ ‬للجيش،‭ ‬حيث‭ ‬قرأ‭ ‬الفاتحة‭ ‬ترحّمًا‭ ‬على‭ ‬الشهداء‭ ‬الذين‭ ‬ضحّوا‭ ‬بأرواحهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حريّة‭ ‬شعبهم‭ ‬وبلادهم،‭ ‬ثم‭ ‬نثر‭ ‬باقة‭ ‬من‭ ‬الورد‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬االنفقب‭ ‬المطلّ‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬الاعتصام‭ ‬التاريخي‭ ‬للشعب‭ ‬السوداني‭. ‬

ورغم‭ ‬انخراطه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة،‭ ‬متنقلًا‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬المدن،‭ ‬تلبية‭ ‬لدعوات‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الفعاليات‭ ‬الثقافية‭ ‬والأدبية،‭ ‬وحفلات‭ ‬التكريم،‭ ‬فإنّ‭ ‬االعربيب‭ ‬جلست‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬فرصة‭ ‬نادرة‭ ‬قبل‭ ‬مغادرته‭ ‬عائدًا‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬حيث‭ ‬يقيم‭ ‬مؤقتًا،‭ ‬وحاورته‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين‭ ‬حول‭ ‬نشاطاته‭ ‬الإبداعية،‭ ‬واهتماماته‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وبعض‭ ‬قضايا‭ ‬الأدب‭.‬

‭• ‬كيف‭ ‬وجدت‭ ‬السودان‭ ‬بعد‭ ‬الغياب‭ ‬الطويل،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬شعوركم‭ ‬حاليًا؟

‭- ‬حقيقة‭ ‬بعدت‭ ‬عن‭ ‬السودان‭ ‬جسديًا‭ ‬في‭ ‬غربة‭ ‬امتدت‭ ‬لـ‭ ‬29‭ ‬عامًا‭ ‬و6‭ ‬أشهر،‭ ‬لكنّ‭ ‬استخدام‭ ‬الوسائط‭ ‬أتاح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬يوميًا‭ ‬في‭ ‬داخله،‭ ‬إذ‭ ‬كنّا‭ ‬نعرف‭ ‬أدقّ‭ ‬التفاصيل‭ ‬عمّا‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬من‭ ‬مشقة‭ ‬وعَنَت‭ ‬الحياة،‭ ‬أكثر‭ ‬ممّا‭ ‬يعرفه‭ ‬كثيرون‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬كنّا‭ ‬على‭ ‬تواصل‭ ‬دائم‭ ‬مع‭ ‬أناس‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات،‭ ‬وكنتُ‭ ‬أنشر‭ ‬كتاباتي‭ ‬عن‭ ‬الهمّ‭ ‬السوداني‭ ‬على‭ ‬الوسائط‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬وتجد‭ ‬ردود‭ ‬الفعل‭ ‬اللحظية‭ ‬والمستمرة،‭ ‬مما‭ ‬جعلني‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬قرية‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬السودان‭.‬

      ‬ولما‭ ‬عدت‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬أكتوبر‭ ‬الماضي،‭ ‬وجدت‭ ‬متغيرات‭ ‬كثيرة،‭ ‬أبرزها‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الديموغرافي،‭ ‬فثمّة‭ ‬ازدحام‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬وخاصة‭ ‬العاصمة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬تمدّد‭ ‬التنمية‭ ‬الرأسية،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬غير‭ ‬صحيّة،‭ ‬ضاعفت‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬التهميش‭ ‬وإفراغ‭ ‬الأطراف‭. ‬لكنّ‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬بهرني‭ ‬هو‭ ‬وعي‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة،‭ ‬وما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬إرادة‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬التغيير،‭ ‬سعدت‭ ‬بها‭ ‬لدرجة‭ ‬لا‭ ‬تُوصف،‭ ‬كما‭ ‬وجدت‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬فرحين‭ ‬بالحريّة‭ ‬وزوال‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬فرحًا‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬ورغم‭ ‬المكابدة‭ ‬اليومية،‭ ‬فهُم‭ ‬أشد‭ ‬صبرًا‭ ‬وتحمّلًا‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل،‭ ‬مما‭ ‬يجعلني‭ ‬أطمئن‭ ‬إلى‭ ‬استحالة‭ ‬إعادة‭ ‬عجلة‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭. ‬

‭• ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬الغربة‭ ‬أمرًا‭ ‬مفروضًا‭ ‬أم‭ ‬خياريًا؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬الدواعي؟

‭< ‬أسميه‭ ‬منفى‭ ‬اختياري،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬فُرِض‭ ‬عليّ،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬يحقّ‭ ‬لي‭ ‬الحضور‭ ‬إلى‭ ‬بلادي،‭ ‬وإن‭ ‬حضرت‭ ‬لتمّ‭ ‬اقتيادي‭ ‬من‭ ‬المطار‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬معتقلًا،‭ ‬فقط‭ ‬لأنّني‭ ‬ظللت‭ ‬أنتقد‭ ‬السلطة،‭ ‬والشاهد‭ ‬عندما‭ ‬تعاقدت‭ ‬مع‭ ‬جامعة‭ ‬السلطان‭ ‬قابوس‭ ‬بعُمان‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1990م،‭ ‬لحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬غادرت‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب،‭ ‬إذ‭ ‬أراد‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يرِدَ‭ ‬اسمي‭ ‬بحظري‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أقلعت‭ ‬الطائرة‭. ‬إذًا‭ ‬كيف‭ ‬يتسنّى‭ ‬لي‭ ‬العودة‭ ‬لأواجه‭ ‬مصيرًا‭ ‬مجهولًا؟‭ ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬أتردّد‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬العقد‭ ‬عام‭ ‬1995م،‭ ‬في‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬لأعيش‭ ‬الحريّة‭ ‬التي‭ ‬أنشدها‭ ‬وأقاتل‭ ‬من‭ ‬أجلها‭.‬

 

حرية‭ ‬المنفى

‭• ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬لكم‭ ‬‮«‬الحريّة‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬وطن،‭ ‬والقهر‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬منفى‮»‬،‭ ‬على‭ ‬نسق‭ ‬قول‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬كرّم‭ ‬الله‭ ‬وجهه‭ ‬‮«‬الغنى‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬وطن،‭ ‬والفقر‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬غربة‮»‬‭.. ‬ما‭ ‬رأيكم؟

‭- ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الإمام‭ ‬علي،‭ ‬كرّم‭ ‬الله‭ ‬وجهه،‭ ‬كان‭ ‬رجلًا‭ ‬حكيمًا،‭ ‬وقولك‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬صحيح،‭ ‬وجاء‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬بـ‭ ‬اأن‭ ‬الدين‭ ‬المعاملةب،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬وجدناه‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬بلادنا،‭ ‬إذ‭ ‬وجدنا‭ ‬رعاية‭ ‬لنا‭ ‬ولأبنائنا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬تتساوى‭ ‬فيها‭ ‬الحقوق‭ ‬والواجبات،‭ ‬مما‭ ‬يُشعِر‭ ‬المرء‭ ‬بأنه‭ ‬مستقر‭ ‬وفي‭ ‬راحة‭ ‬إلى‭ ‬حدّ،‭ ‬خصوصًا‭ ‬فيما‭ ‬يعني‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭.‬

صحيح‭ ‬فقدتُ‭ ‬جغرافية‭ ‬الوطن،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تضحيات،‭ ‬والحق‭ ‬يقال،‭ ‬فإن‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬أو‭ ‬أرض‭ ‬الشتات‭ ‬أتاحت‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُتاح‭ ‬في‭ ‬وطننا،‭ ‬من‭ ‬إعمال‭ ‬للفكر،‭ ‬وحريّة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تكفير‭ ‬أو‭ ‬تخوين،‭ ‬وساهمت‭ ‬في‭ ‬إغناء‭ ‬تجاربي‭ ‬الإنسانية‭ ‬والإبداعية،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالذين‭ ‬بقوا‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬وزُجّ‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬السجون‭ ‬وعُذِبوا‭ ‬لتعبيرهم‭ ‬عن‭ ‬آرائهم‭. 

صدقني‭ ‬أن‭ ‬يُعذَب‭ ‬المرء‭ ‬ويحارَب‭ ‬في‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬داخل‭ ‬بلاده‭ ‬هذا‭ ‬أمرٌ‭ ‬أشد‭ ‬قسوة‭ ‬ومرارة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬منفيًا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬تتوافر‭ ‬فيها‭ ‬قيم‭ ‬الحرية‭ ‬بجميع‭ ‬أبعادها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حتّم‭ ‬عليّ‭ ‬البقاء‭ ‬بعيدًا‭ ‬شأني‭ ‬شأن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬السودانيين‭. ‬

‭• ‬القارئ‭ ‬لأدب‭ ‬المنفى‭ ‬بجنسيه؛‭ ‬الشعري‭ ‬والروائي‭ ‬يلمس‭ ‬في‭ ‬ثناياه‭ ‬حنينًا‭ ‬حادًا‭ ‬وخوفًا‭ ‬حقيقيًا‭ ‬على‭ ‬الوطن،‭ ‬وقصيدة‭ ‬‮«‬تخيّرْ‭ ‬لخطوك‭ ‬إيقاعَها‮»‬‭.. (‬يا‭ ‬وطناً‭ ‬ظلّ‭ ‬يهرب‭ ‬منا‭! ‬فنسعى‭ ‬إليه‭ ‬قطيعًا‭ ‬من‭ ‬الغرباءْ‭) ‬مثال‭.. ‬فما‭ ‬هو‭ ‬تعليقكم؟‭ ‬

‭- ‬هذه‭ ‬حقيقة،‭ ‬لكنّ‭ ‬تفسير‭ ‬موقف‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة‭ ‬فيه‭ ‬ظُلم‭ ‬لموقفي‭ ‬العام،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬بعيدًا‭ ‬عنه،‭ ‬وأجدني‭ ‬لا‭ ‬أنفي‭ ‬أن‭ ‬الشوق‭ ‬والحنين‭ ‬للأرض‭ ‬التي‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مساماتها‭ ‬يحصداني‭ ‬كل‭ ‬لحظة،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬بقاؤنا‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الشتات‭ ‬إلّا‭ ‬لأننا‭ ‬ظللنا‭ ‬نطرح‭ ‬القضايا‭ ‬المهمة،‭ ‬ونصدح‭ ‬لمعالجة‭ ‬التشققات‭ ‬الماثلة‭ ‬في‭ ‬جدار‭ ‬الوطن،‭ ‬فمَنْ‭ ‬أنا‭ ‬بلا‭ ‬وطن؟

إذن‭ ‬لا‭ ‬مشاحة‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬عليه‭ ‬وأنا‭ ‬مدرك‭ ‬بأنّ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيه‭ ‬غير‭ ‬مستقر،‭ ‬ومعتم‭ ‬الملامح،‭ ‬وحتى‭ ‬لمّا‭ ‬اندلعت‭ ‬ثورة‭ ‬19‭ ‬ديسمبر،‭ ‬كانت‭ ‬متأرجحة،‭ ‬وأشفق‭ ‬الكل‭ ‬على‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬الغرق‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬الفتنة‭ ‬والفوضى،‭ ‬مما‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬الضياع،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬لحظة‭ ‬السقوط‭ ‬أو‭ ‬الانتصار‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬2019م،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬أخذت‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬كتبتُها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬شكلًا‭ ‬مختلفًا‭. ‬

بالمناسبة،‭ ‬عقب‭ ‬انتصار‭ ‬الثورة،‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬عام‭ ‬تقريبًا،‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬سوى‭ ‬ثلاث‭ ‬قصائد،‭ ‬وليست‭ ‬لديّ‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر،‭ ‬لأنني‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأنّ‭ ‬قصائدي‭ ‬لن‭ ‬تأتي‭ ‬بذات‭ ‬الدَّفق‭ ‬الشعري‭ ‬المتعب‭ ‬القاتل‭ ‬الذي‭ ‬كتبتُ‭ ‬به‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬المنفى،‭ ‬وحين‭ ‬كانت‭ ‬الثورة‭ ‬والتغيير‭ ‬حلمًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬لذا‭ ‬كما‭ ‬تلاحظ‭ ‬أنني‭ ‬اتجهت‭ ‬للسّرد‭.‬

‭• ‬نلاحظ‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الإبداعي‭ ‬الراهن‭ ‬طغيان‭ ‬الفن‭ ‬السردي‭ ‬على‭ ‬الشعر‭.‬

‭- ‬نعم‭ ‬هذا‭ ‬صحيح،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬فقط،‭ ‬وإنّما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬وهناك‭ ‬أديب‭ ‬غربي‭ ‬أصاب‭ ‬كبد‭ ‬الحقيقة‭  ‬بقوله‭: ‬االرواية‭ ‬هي‭ ‬قصيدة‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرينب،‭ ‬لأنّ‭ ‬السرد‭ ‬وعاء‭ ‬متمدد‭ ‬وسهل،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬داخله‭ ‬عدة‭ ‬ألوان‭ ‬من‭ ‬الأدب،‭ ‬وهو‭ ‬فنّ‭ ‬شعبي‭ ‬سهل‭ ‬الانتشار‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬بعكس‭ ‬الشعر‭.‬

غير‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬دخلت‭ ‬على‭ ‬السرد‭ ‬وسائل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحوّله‭ ‬إلى‭ ‬أجناس‭ ‬إبداعية‭ ‬أخرى،‭ ‬كمسلسل‭ ‬إذاعي‭/ ‬تلفزيوني‭ ‬أو‭ ‬سينما،‭ ‬وإلى‭ ‬لغة‭ ‬عامية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬تعرضها،‭ ‬مما‭ ‬يدفع‭ ‬المرء‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬المصدر،‭ ‬وثمة‭ ‬روايات‭ ‬وقصص‭ ‬يمكن‭ ‬ترجمتها‭ ‬بعامية‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬تقرأها،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬العمل‭ ‬السردي‭ ‬ميسورًا‭ ‬وسهل‭ ‬الهضم‭.‬

  ‬السرد‭ ‬القصصي‭ ‬هو‭ ‬الأقرب‭ ‬لشعبوية‭ ‬الأدب‭ ‬من‭ ‬القصيدة،‭ ‬والرواية‭ ‬جسم‭ ‬فضفاض‭ ‬قابل‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الحيل‭ ‬التي‭ ‬تمكّنها‭ ‬من‭ ‬إيصال‭ ‬الفكرة‭ ‬للناس‭ ‬بأيسر‭ ‬الطرق،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬موجودة،‭ ‬ولها‭ ‬بريق‭ ‬ومريدون‭ ‬ومحبون،‭ ‬فإنها‭ ‬أقرب‭ ‬للصفوية‭ ‬من‭ ‬المعطى‭ ‬الشعبي‭.‬

‭• ‬تقلّبات‭ ‬الأوضاع‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كثّفت‭ ‬لديكم‭ ‬رؤية‭ ‬إنسانية،‭ ‬انعكست‭ ‬في‭ ‬تجربتكم‭ ‬الإبداعية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فضاءات‭ ‬المنفى‭ ‬ونوستاليجا‭ ‬الوطن‭ ‬لهما‭ ‬تجلياتهما،‭ ‬فإلى‭ ‬أيّ‭ ‬حدّ‭ ‬استفدتم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التداعيات‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إنهاض‭ ‬عالمكم‭ ‬الإبداعي‭ ‬شعرًا،‭ ‬ورواية،‭ ‬ونقدًا،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أبعاده؟

‭- ‬كما‭ ‬تعلم،‭ ‬لقد‭ ‬جربتُ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬إبداعي،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬قيمية،‭ ‬فمنذ‭ ‬احتكاكي‭ ‬بالمجتمع‭ ‬وبداية‭ ‬مشواري‭ ‬الأدبي‭ ‬صدر‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬دواوين‭ ‬افي‭ ‬أودية‭ ‬الغربةب‭ (‬1973‭)‬،‭ ‬واالغناء‭ ‬زمن‭ ‬الخوفب‭ (‬1985‭)‬،‭ ‬واشارع‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬القبةب‭ (‬2010‭)‬،‭ ‬واالمشي‭ ‬على‭ ‬الحبل‭ ‬المشدودب‭ (‬2016‭)‬،‭ ‬مع‭ ‬عشرين‭ ‬قصيدة‭ ‬مترجمة‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬للطبع،‭ ‬وفي‭ ‬الرواية‭ ‬ادموع‭ ‬القريةب‭ (‬1971‭)‬،‭ ‬واهذه‭ ‬الضفاف‭ ‬تعرفنيب‭ ‬صدرت‭ ‬طبعتها‭ ‬الأولى‭ ‬بتونس‭ (‬2019‭)‬،‭ ‬والثانية‭ ‬بالخرطوم،‭ ‬يناير‭ (‬2020‭)‬،‭ ‬وأخرجت‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬مؤلفي‭ ‬اقراءة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬السوداني‭ ‬الحديثب‭ (‬1991‭)‬،‭ ‬واالوجه‭ ‬والقناع‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السودانيةب‭ (‬2020‭).‬

أما‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدراما،‭ ‬فكتبت‭ ‬مسلسلات‭ ‬عدة‭ ‬بثتها‭ ‬الإذاعة‭ ‬السودانية،‭ ‬مثل‭ ‬االعصافير‭ ‬تهاجرب،‭ ‬االشمس‭ ‬والقطارب،

ومسلسل‭ ‬ادموع‭ ‬القريةب‭ ‬عن‭ ‬أولى‭ ‬رواياتي،‭ ‬ولديّ‭ ‬مسلسل‭ ‬جديد‭ ‬احكاية‭ ‬حب‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الصعبب،‭ ‬ستقدمه‭ ‬الإذاعة‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬غير‭ ‬أنّي‭ ‬أعمل‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬المسرحية‭ ‬الشعرية‭ ‬الشهيرة‭ ‬االمهدي‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬الخرطومب،‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬جديد،‭ ‬وكتابة‭ ‬مسرح‭ ‬جديد‭. ‬

هذا‭ ‬كله‭ ‬نتاج‭ ‬واقع‭ ‬عشته‭ ‬داخل‭ ‬بلادي‭ ‬وخارجها،‭ ‬نما‭ ‬وتطوّر‭ ‬بحصيلة‭ ‬ثقافية‭ ‬جيدة،‭ ‬بقراءات‭ ‬لأنماط‭  ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬العالمية‭ ‬والمسرح‭ ‬والفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬العادية‭ ‬والسياسية،‭ ‬وتنقّل‭ ‬بين‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬والغربية،‭ ‬فأصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬انفتاحًا‭ ‬تجاه‭ ‬التيارات‭ ‬الثقافية‭ ‬والأدبية‭ ‬الحديثة،‭ ‬زادت‭ ‬معارفي‭ ‬وخلقت‭ ‬فيّ‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يتحلّى‭ ‬برؤية‭ ‬إنسانية‭ ‬كبيرة،‭ ‬ظهرت‭ ‬تجليّاتها‭ ‬بجلاء‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬المنفى‭. ‬وأجدني‭ ‬أهرُب‭ ‬لهذه‭ ‬الأجناس‭ ‬تقليلًا‭ ‬للتوتر‭ ‬والقلق‭ ‬الوجودي‭ ‬حولي،‭ ‬فأنا‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬العالم،‭ ‬ومع‭ ‬الذات،‭ ‬وأحاول‭ ‬من‭ ‬خلالهم‭ ‬تجريب‭ ‬أجناس‭ ‬إبداعية‭ ‬متعددة‭.‬

وفي‭ ‬اعتقادي‭ ‬هي‭ ‬محاولات‭ ‬لتجسير‭ ‬العلاقة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭ ‬القلقة‭ ‬المتوترة،‭ ‬ويُحمد‭ ‬للقلق‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬هذا‭ ‬الإبداع‭ ‬المتعدد،‭ ‬لكن،‭ ‬هل‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬محاولاتي‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬هذا‭ ‬التقييم‭  ‬شأن‭ ‬أتركه‭ ‬للنقّاد‭ ‬المتابعين‭ ‬لها‭.‬

‭• ‬رغم‭ ‬أنك‭ ‬دارس‭ ‬وتمارس‭ ‬النقد؟‭! ‬

‭- ‬نعم‭... ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يخول‭ ‬لي‭ ‬نزع‭ ‬شخصيتي‭ ‬عن‭ ‬المواطن‭ ‬السوداني‭ ‬العادي،‭ ‬الهارب‭ ‬من‭ ‬عسف‭ ‬السلطة،‭ ‬ليحاصرها‭ ‬بالكتابة‭ ‬ويحرّض‭ ‬عليها‭ ‬بشتى‭ ‬السُّبل،‭ ‬ليأتي‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬لتقييم‭ ‬تجربته‭!.. ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفعله‭.‬

‭• ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬المهدي‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬الخرطوم‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أثارت‭ ‬جدلًا‭ ‬واسعًا‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية،‭ ‬ثمّة‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أنها‭ ‬إعادة‭ ‬كتابة‭ ‬لتاريخ‭ ‬المهدية،‭ ‬وآخرون‭ ‬يعتبرونها‭ ‬عملًا‭ ‬مناوئًا‭ ‬لحكومة‭ ‬مايو‭... ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الالتباس‭ ‬قائمًا‭ ‬عند‭ ‬الكثيرين،‭ ‬فهلّا‭ ‬أمطت‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬حقيقتها؟

‭- ‬هذه‭ ‬المسرحية‭ ‬الشعرية‭ ‬أرى‭ ‬ضرورة‭ ‬عرضها‭ ‬ثانية،‭ ‬بعد‭ ‬إكمال‭ ‬إعادة‭ ‬كتابتها،‭ ‬وعودة‭ ‬المسرح‭ ‬إلى‭ ‬عهده‭ ‬السابق،‭ ‬لأنّها‭ ‬بكل‭ ‬ذاك‭ ‬الزخم‭ ‬والضجة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬صاحبتها‭ ‬لم‭ ‬تُعرض‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬القومي‭ ‬سوى‭ ‬17‭ ‬يومًا‭ ‬فقط،‭ ‬إذ‭ ‬تم‭ ‬إيقافها‭ ‬رغم‭ ‬رواجها‭ ‬بحجّة‭ ‬انتهاء‭ ‬الموسم‭ ‬المسرحي‭ ‬لعام‭ ‬1980م‭. ‬لكنّنا‭ ‬كنّا‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬السلطات‭ ‬لا‭ ‬تودّ‭ ‬عرضها‭.‬

والحقيقة‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬المسرحية‭ ‬إشارة‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬المهدية،‭ ‬ولا‭ ‬شخوص‭ ‬المهدية،‭ ‬ولا‭ ‬المهدي‭ ‬نفسه،‭ ‬بل‭ ‬استخدمت‭ ‬التاريخ‭ ‬كإطار‭ ‬فقط،‭ ‬والمهدي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬حلم،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ثورة‭. ‬وهي‭ ‬تتحدث‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬عاميّة‭ ‬سودانية،‭ ‬تتشكّل‭ ‬بنيتها‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬راقصة‭ ‬لتحريك‭ ‬ثورة‭ ‬شعبية،‭ ‬ما‭ ‬يدلّل‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬لديها‭ ‬علاقة‭ ‬بالمهدية‭ ‬إطلاقًا،‭ ‬وإنما‭ ‬أخذت‭ ‬شكل‭ ‬المقاومة‭ ‬لنظام‭ ‬الجنرال‭ ‬جعفر‭ ‬النميري‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬أزمة‭ ‬حُكم‭ ‬ماثلة،‭ ‬وتوتّر‭ ‬ناجم‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬

والمسرحية‭ ‬في‭ ‬معناها‭ ‬العام‭ ‬زحف‭ ‬الجمهور‭- ‬البطل‭ ‬الحقيقي‭ - ‬لدكّ‭ ‬مواقع‭ ‬السلطة،‭ ‬واعتمدت‭ ‬الرمز،‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أكتبه،‭ ‬لكنّني‭ ‬استخدمته‭ ‬للترميز‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المواطن‭ ‬للإيحاء‭ ‬بدنوّ‭ ‬أجل‭ ‬النظام‭ ‬الـ‭ ‬امايويب‭.‬

 

موقف‭ ‬شرس

‭• ‬القارئ‭ ‬لأعمالك‭ ‬الأدبية‭ ‬يلاحظ‭ ‬اصطباغها‭ ‬بالصبغة‭ ‬السياسية،‭ ‬علمًا‭ ‬بأنك‭ ‬لست‭ ‬سياسيًا‭ ‬بالمعنى‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه،‭ ‬ما‭ ‬تعليقكم؟

‭- ‬هذا‭ ‬صحيح،‭ ‬فعلى‭ ‬صعيد‭ ‬ممارسة‭ ‬السياسة،‭ ‬فأنا‭ ‬لست‭ ‬بذلك،‭ ‬لكن‭ ‬لديّ‭ ‬موقف‭ ‬شرس‭ ‬جدًا‭ ‬تجاه‭ ‬تركيبة‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية،‭ ‬وأكون‭ ‬أكثر‭ ‬صراحة‭ ‬إن‭ ‬قلت‭ ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يطيقون‭ ‬وجودي،‭ ‬وكذلك‭ ‬لديّ‭ ‬مواقف‭ ‬صارمة‭ ‬تجاه‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر‭ ‬والسلطة‭ ‬المتجبّرة،‭ ‬ولأنّي‭ ‬لا‭ ‬أكتب‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬فقد‭ ‬وسمت‭ ‬كتاباتي‭ ‬بالصبغة‭ ‬السياسية‭.‬

‭• ‬ومتى‭ ‬تجلّت‭ ‬صبغة‭ ‬السياسة‭ ‬بين‭ ‬ثنايا‭ ‬إبداعكم؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬الدواعي؟

‭- ‬تمظهرت‭ ‬لغة‭ ‬السياسة‭ ‬بوضوح‭ ‬بعد‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬1976م،‭ ‬بديوان‭ ‬االغناء‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الخوفب،‭ ‬وهو‭ ‬مجموعة‭ ‬قصائد‭ ‬كتبُتها‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬تصور‭ ‬الذات‭ ‬المطارَدة‭ ‬التي‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الحرية،‭ ‬وتعبّر‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬التوتر‭ ‬والشد‭ ‬والجذب‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬لمدة‭ ‬سنتين‭ (‬76‭ - ‬1978م‭) ‬في‭ ‬معتقلات‭ ‬نظام‭ ‬مايو،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬سجنَي‭ ‬كوبر‭ ‬بالخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬وشالا‭ ‬بدارفور،‭ ‬ثم‭ ‬تضافرت‭ ‬معها‭ ‬مسرحية‭ ‬االمهدي‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬الخرطومب،‭ ‬وبعض‭ ‬الأعمال‭ ‬الدرامية‭ ‬التي‭ ‬ذكرتُها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولأنّ‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬هي‭ ‬بداية‭ ‬فوران‭ ‬الشباب‭ ‬وتوهّج‭ ‬العاطفة،‭ ‬وإسقاطات‭ ‬المُعطى‭ ‬السياسي،‭ ‬خرج‭ ‬ديوان‭ ‬اشارع‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬القبةب‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬العاطفي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬ولعلّ‭ ‬المنجز‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬تمحور‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬فن‭.‬

ثم‭ ‬بلغت‭ ‬لغة‭ ‬السياسة‭ ‬ذروتها‭ ‬بقدوم‭ ‬نظام‭ ‬30‭ ‬يونيو،‭ ‬فخرج‭ ‬أدب‭ ‬المنفى‭ ‬الذي‭ ‬أشرت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬السابق‭. ‬وحتى‭ ‬روايتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬صُنفت‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أدب‭ ‬سياسي‭. ‬

والإسقاط‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬الشعرية‭ ‬والنثرية‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬الإنسان‭ ‬السوداني‭ ‬العادي،‭ ‬ومن‭ ‬واقع‭ ‬تجاربي‭ ‬ومعايشتي‭ ‬للناس،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ضروريات‭ ‬الحياة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬عصب‭ ‬الحياة‭ ‬السودانية،‭ ‬لأنّ‭ ‬أزمة‭ ‬بلادنا‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬هي‭ ‬سياسية،‭ ‬لغياب‭ ‬الرؤية‭ ‬السياسية‭ ‬الوطنية‭ ‬الحقيقية‭ ‬للنهوض‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭. ‬وقناعتي‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬خرج‭ ‬الأدب‭ ‬عن‭ ‬عرض‭ ‬ومعالجة‭ ‬قضايا‭ ‬وهموم‭ ‬المجتمع‭ ‬يكون‭ ‬أدبًا‭ ‬بلا‭ ‬قيمة،‭ ‬وليس‭ ‬ذا‭ ‬جدوى،‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الشعوب‭ ‬والأقطار‭. ‬نعم‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬ترتكز‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الجمالي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المتعة‭ ‬والتشويق،‭ ‬لكنّ‭ ‬ثمة‭ ‬قضية‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬الحياة،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يطرحها‭ ‬الكاتب‭ ‬للمعالجة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يعالجها‭.‬

‭ ‬‭ • ‬ألا‭ ‬تخشى‭ ‬أن‭ ‬يأخذكم‭ ‬شيطان‭ ‬السياسة‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬عن‭ ‬سلطان‭ ‬الأدب؟

‭- ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬هذا،‭ ‬لأنّ‭ ‬ثمة‭ ‬حوارًا‭ ‬بينهما،‭ ‬وتناسق‭ ‬جيد‭ ‬ماضٍ‭ ‬بنحو‭ ‬مميز‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬دواخلي،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬المبدع،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يتلبّسني‭ ‬غير‭ ‬معنيّ‭ ‬بالتنظيمات‭ ‬السياسية،‭ ‬إنّما‭ ‬ضد‭ ‬القهر‭ ‬والحكومات‭ ‬الجائرة،‭ ‬وتكمن‭ ‬خطورة‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المبدع‭ ‬السياسي‭ ‬اللا‭ ‬منتمي‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬غير‭ ‬مُرحّب‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭.‬

وفي‭ ‬السياق،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬كلاهما‭ ‬ظاهرًا‭ ‬وباطنًا‭ ‬بانسجام‭ ‬تام‭ ‬وصدق،‭ ‬لكي‭ ‬لا‭ ‬يجرف‭ ‬أحدهما‭ ‬الآخر‭ ‬وتختلّ‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية،‭ ‬وحتى‭ ‬يتمكّن‭ ‬السياسي‭ ‬القابع‭ ‬في‭ ‬الدواخل‭ ‬من‭ ‬توظيف‭ ‬المبدع‭ ‬لخدمة‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويتسنّى‭ ‬للمبدع‭ ‬تبصيره‭ ‬بالرؤية‭ ‬العميقة،‭ ‬والقراءة‭ ‬الصحيحة‭ ‬للواقع‭ ‬الراهن،‭ ‬وقد‭ ‬يُنتِج‭ ‬هذا‭ ‬التوافق‭ ‬عملًا‭ ‬إبداعيًا‭ ‬متقدمًا،‭ ‬كما‭ ‬لمسنا‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬الكاتب‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬منيف،‭ ‬وهو‭ ‬أديب‭ ‬يستحق‭ - ‬في‭ ‬اعتقادي‭ - ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭.‬

‭• ‬بدأ‭ ‬ظهوركم‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الإبداعي‭ ‬برواية‭ ‬‮«‬دموع‭ ‬القرية‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬في‭ ‬أودية‭ ‬الغربة‮»‬،‭ ‬خلافًا‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬سائد،‭ ‬ثم‭ ‬المسرح‭... ‬هل‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الانتقال‭ ‬والتمدد‭ ‬قدريًا‭ ‬أم‭ ‬اختياريًا؟‭ ‬

‭- ‬ديوان‭ ‬افي‭ ‬أودية‭ ‬الغربةب،‭ ‬هو‭ ‬مجموعة‭ ‬أشعار‭ ‬بدأتُ‭ ‬كتابتها‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬عام‭ ‬1965م،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬سن‭ ‬16‭ ‬و18،‭ ‬فيها‭ ‬تغيّرات‭ ‬فسيولوجية‭ ‬وانفعالية‭ ‬واجتماعية،‭ ‬وما‭ ‬يطرأ‭ ‬من‭ ‬نزوع‭ ‬عاطفي‭ ‬نحو‭ ‬العنصر‭ ‬الآخر،‭ ‬لذا‭ ‬جاءت‭ ‬بعض‭ ‬قصائده‭ ‬رومانسية‭ ‬محضة‭ ‬فيها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الغزل،‭ ‬وأخرى‭ ‬كتبتُها‭ ‬بعد‭ ‬انتقالي‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم‭ ‬عام‭ ‬1969م،‭ ‬وهي‭ ‬تحكي‭ ‬أزمة‭ ‬الصبي‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬العاصمة،‭ ‬فيها‭ ‬احتجاج‭ ‬لتغوُّل‭ ‬المركز‭ ‬على‭ ‬الهامش،‭ ‬خاصة‭ ‬قصيدة‭ ‬اكردفان‭ ‬تصحوب،‭ ‬التي‭ ‬فازت‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬السبعينيات‭ ‬بجائزة‭ ‬مهرجان‭ ‬الشعراء‭ ‬الشباب،‭ ‬بجانب‭ ‬قصائد‭ ‬غنائية‭ ‬بالعامية‭ ‬غنّاها‭ ‬المطرب‭ ‬اللامع‭ ‬عبدالقادر‭ ‬سالم،‭ ‬وفيها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النوستاليجيا‭ ‬للقرية،‭ ‬ومجتمع‭ ‬البداوة‭ ‬الذي‭ ‬عشته‭ ‬في‭ ‬منطقتي‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬التنقل‭ ‬تدريجيًا‭ ‬وعفويًا‭ ‬تلقائيًا‭. ‬أما‭ ‬الترتيب‭ ‬بالشكل‭ ‬التاريخي‭ ‬فهو‭ ‬ترتيب‭ ‬مطبعي،‭ ‬فالأصل‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬سبق‭ ‬الرواية،‭ ‬وهي‭ ‬كُتِبتْ‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬1970م،‭ ‬في‭ ‬سنتي‭ ‬الأولى‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭.‬

أما‭ ‬المسرح،‭ ‬فعندما‭ ‬كنت‭ ‬طالبًا‭ ‬في‭ ‬اخورطقت‭ ‬الثانويةب‭ ‬كتبتُ‭ ‬وأخرجتُ‭ ‬لمسرح‭ ‬المدرسة‭ ‬بعض‭ ‬المسرحيات،‭ ‬كما‭ ‬حاولت‭ ‬مع‭ ‬زملاء‭ ‬الجامعة‭ ‬تأسيس‭ ‬مسرح‭ ‬الشارع،‭ ‬إلّا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يستمر،‭ ‬لكنّني‭ ‬استفدت‭ ‬كثيراً‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬تكنيك‭ ‬المسرح‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬نواته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬حيث‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬العالمي،‭ ‬والتعرف‭ ‬إليه‭ ‬وماهيته،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابات‭ ‬المسرحيين‭ ‬العالميين،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬بنفس‭ ‬العفوية‭ ‬والتلقائية،‭ ‬تم‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬كتابات‭ ‬الشعر‭ ‬الأخرى‭ ‬والكتابات‭ ‬النقدية‭.‬

 

واقع‭ ‬مؤسف

‭• ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬دموع‭ ‬القرية‮»‬‭ ‬شكلًا‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬الجذور،‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الأسى‭ ‬على‭ ‬ماضٍ‭ ‬تولّى؟

‭- ‬كانت‭ ‬ادموع‭ ‬القريةب‭ ‬محاولة‭ ‬لقراءة‭ ‬واقع‭ ‬مؤسف،‭ ‬فيه‭ ‬ظلم‭ ‬من‭ ‬الإدارة‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬عمّرت‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وظلم‭ ‬التاجر‭ ‬وناظر‭ ‬القبيلة،‭ ‬وإذا‭ ‬طرحتها‭ ‬حاليًا،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬سذاجة،‭ ‬لأنّ‭ ‬القرية‭ (‬رويانة‭) ‬الآن‭ ‬ليست‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الرواية‭. ‬فالقرية‭ ‬في‭ ‬اهذه‭ ‬الضفاف‭ ‬تعرفنيب‭ ‬تجدها‭ ‬اتخذت‭ ‬بُعدًا‭ ‬قوميًا‭ ‬ورؤية‭ ‬أخرى،‭ ‬وتجدني‭ ‬استخدمتها‭ ‬كمعطى‭ ‬إنساني‭ ‬كبير‭. ‬

‭• ‬يقودنا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬القرية‭ ‬إلى‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬نشأتم‭ ‬فيها،‭ ‬وحقيقة‭ ‬التنوع‭ ‬الديموغرافي‭ ‬والثقافي،‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬رؤيتكم‭ ‬وثقافتكم،‭ ‬لتُنتج‭ ‬منها‭ ‬شعرًا،‭ ‬رواية،‭ ‬وأغاني،‭ ‬ومسرحًا؟

‭- ‬هذا‭ ‬سؤال‭ ‬مهم‭. ‬تأكد‭ - ‬يا‭ ‬أخي‭ ‬عصمت‭ - ‬مهما‭ ‬طرحت‭ ‬نفسي‭ ‬ككاتب‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬السودان،‭ ‬وأطمح‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬رؤيتي‭ ‬الإنسانية‭ ‬ليراها‭ ‬العالم،‭ ‬فأنا‭ ‬قد‭ ‬جئت‭ ‬من‭ ‬بيئة‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬قصيّ‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬السودان،‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬بين‭ ‬المجلد‭ ‬وأبيي،‭ ‬وهي‭ ‬منطقة‭ ‬واسعة‭ ‬جدًا‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬غرب‭ ‬النوير،‭ ‬إلى‭ ‬شرق‭ ‬دارفور،‭ ‬يوجد‭ ‬فيها‭ ‬تمازج‭ ‬عرقي‭ ‬كبير،‭ ‬وذو‭ ‬خصوصية‭ ‬نادرة‭. ‬أما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الطبيعة‭ ‬وجمالياتها‭ ‬فهي‭ ‬مناطق‭ ‬سافنا‭ ‬غنية،‭ ‬لا‭ ‬تملّ‭ ‬العين‭ ‬رؤيتها‭. ‬لقد‭ ‬ولدت‭ ‬وترعرعت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البيئة‭ ‬في‭ ‬ضاحية‭ ‬االلّوب‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬أبيي‭. ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬اثنية،‭ ‬فأنا‭ ‬خليط‭ ‬للحرف‭ ‬العربي،‭ ‬واللون‭ ‬الإفريقي،‭ ‬والبيئة‭ ‬الإفريقية‭. ‬ويجري‭ ‬في‭ ‬شراييني‭ ‬دم‭ ‬دينكاوي،‭ ‬لأنّ‭ ‬إحدى‭ ‬جدّاتي‭ ‬من‭ ‬قبائل‭ ‬الدينكا‭ ‬بجنوب‭ ‬السودان،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬أسرتي‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬العربية،‭ ‬لأنهم‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬قبائل‭ ‬عربية‭ ‬نزحت‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وحلّت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ - ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬هندرسون،‭ ‬والتونسي‭ ‬عام‭ ‬1774م‭ - ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬اختلطت‭ ‬مع‭ ‬قبائل‭ ‬مجاورة‭ ‬غير‭ ‬المسيرية‭ ‬والدينكا،‭ ‬مثل‭ ‬الداجو‭ ‬والنوبة‭ ‬والزغاوة‭ ‬والتنجر‭. ‬ويعيش‭ ‬هذا‭ ‬الخليط‭ ‬العجيب‭ ‬مشتركًا‭ ‬في‭ ‬المرعى‭ ‬والكلأ‭ ‬وسبل‭ ‬كسب‭ ‬العيش‭ ‬الأخرى‭. ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬اندماج‭ ‬وتزاوج‭ ‬ومصاهرة،‭ ‬وتلاقح‭ ‬وعلائق‭ ‬إثنية،‭ ‬ليتولّد‭ ‬مجتمع‭ ‬فريد‭ ‬نسيج‭ ‬وحده،‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬الجنوب‭ ‬100‭ ‬في‭ ‬المئة،‭ ‬وبذات‭ ‬القدر‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬الشمال‭. ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬فيه‭ ‬التنوع‭ ‬السكاني‭ ‬والثقافي‭ ‬بشتّى‭ ‬أشكاله‭ ‬وألوانه،‭ ‬حتى‭ ‬شمل‭ ‬الرقص‭ ‬والإيقاعات‭ ‬الموسيقية،‭ ‬ولعلّها‭ ‬المنطقة‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬التي‭ ‬يسود‭ ‬فيها‭ ‬السِّلم‭ ‬السباعي‭. 

هذا‭ ‬يشكّل‭ ‬إضافة‭ ‬أخرى‭ ‬للبيئة‭ ‬وللقومية‭ ‬والهوية‭ ‬السودانية‭ ‬المتعددة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬تعددها‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬المعطى‭ ‬الثقافي‭ ‬تشكّلت‭ ‬أحاسيسنا‭ ‬ورؤانا‭ ‬للحياة،‭ ‬ونوع‭ ‬اللغات‭ ‬التي‭ ‬نتحدثها‭. ‬

تجدني‭ ‬فخورًا‭ ‬بالانطلاق‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬البيئة‭ ‬وذاك‭ ‬المكان،‭ ‬لكونهما‭ ‬أعطياني‭ ‬رؤية‭ ‬مختلفة‭ ‬لبلادي‭ ‬وللعالم‭. ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬كتاباتي‭ ‬تشبه‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬أنجبتني‭. ‬وإذا‭ ‬غدت‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬عند‭ ‬الآخرين‭ ‬خارج‭ ‬الوطن،‭ ‬فهي‭ ‬بالتأكيد‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬المكان‭ ‬القصيّ‭ ‬البسيط،‭ ‬الذي‭ ‬رأيت‭ ‬فيه‭ ‬الشمس‭ ‬والقمر‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭. ‬

‭• ‬ما‭ ‬هي‭ ‬رؤيتك‭ ‬للمشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬ككل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التنوع‭ ‬الماثل؟

‭- ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬أوضحته‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬االوجه‭ ‬والقناع‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السودانيةب،‭ ‬الصادر‭ ‬حديثًا‭ ‬من‭ ‬دار‭ ‬رفيقي‭ ‬للنشر‭. ‬فالوجه‭ ‬الكائن‭ ‬حاليًا‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السودانية‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬الوجه‭ ‬الحقيقي‭ ‬لها،‭ ‬وإنّما‭ ‬قناع‭ ‬متى‭ ‬انتزعناه‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬فستظهر‭ ‬الثقافة‭ ‬السودانية‭ ‬الحقيقية،‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬غنيّ‭ ‬بالتنوع،‭ ‬ومليء‭ ‬بالثقافات‭ ‬المختلفة،‭ ‬ومجموعة‭ ‬من‭ ‬الإثنيات‭ ‬والقوميات‭ ‬كانت‭ ‬تتحدث‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬الموحّد‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬250‭ ‬لغة‭ - ‬حسب‭ ‬دراسة‭ ‬علماء‭ ‬الاجتماع‭ - ‬وليس‭ ‬لهجة،‭ ‬لكنّها‭ ‬لغات‭ ‬غير‭ ‬العربية‭. ‬بقي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬بعد‭ ‬انفصال‭ ‬الجنوب‭ ‬120‭ ‬لغة،‭ ‬لها‭ ‬لهجاتها‭ ‬العديدة‭ ‬المختلفة‭. ‬وفي‭ ‬اعتقادي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬الثرّ‭ ‬فرصته‭ ‬في‭ ‬التلاقح‭ ‬والتعايش،‭ ‬وأن‭ ‬نغذيه‭ ‬ونحرسه‭ ‬قدر‭ ‬المستطاع‭. 

‭• ‬كدارس‭ ‬للّسانيات،‭ ‬ألا‭ ‬تلاحظ‭ ‬أن‭ ‬استخدام‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصيحة‭ ‬صار‭ ‬ضعيفًا،‭ ‬كأنها‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬الأجناس‭ ‬الإبداعية‭. ‬ولولا‭ ‬وجود‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬والشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬وبعض‭ ‬الممسكات‭ ‬الأخرى‭ ‬لسادت‭ ‬العامية‭/ ‬الدارجة‭ ‬تمامًا‭... ‬ما‭ ‬رأيك؟

‭- ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬صحيحاً‭ ‬إلى‭ ‬حدٍّ‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬ينبغي‭ ‬ألّا‭ ‬نجزع،‭ ‬لأنّ‭ ‬اللغة‭ ‬معطى‭ ‬اجتماعي،‭ ‬وأداة‭ ‬تواصل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭. ‬واللغة‭ ‬الرسمية‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬دواوين‭ ‬الحكومة‭ ‬والصحف‭ ‬وتأليف‭ ‬الكتب‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬التخاطب‭. ‬وهذه‭ ‬الازدواجية‭ ‬سمة‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬منذ‭ ‬القِدَم‭.‬

وإذا‭ ‬رجعنا‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬قبل‭ ‬نزول‭ ‬الرسالة،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتحدث‭ ‬العربية‭ ‬الفصحى‭ ‬في‭ ‬دأبها‭ ‬اليومي،‭ ‬وإنّما‭ ‬كانت‭ ‬تتحدث‭ ‬بلهجات‭ ‬جنوب‭ ‬عمان‭ ‬واليمن،‭ ‬وبلاد‭ ‬الرافدين،‭ ‬وبلاد‭ ‬الشام‭. ‬وكانت‭ ‬لغة‭ ‬شعر‭ ‬المعلّقات‭ ‬التي‭ ‬يعبّر‭ ‬بها‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬قصائدهم‭ ‬هي‭ ‬أعظم‭ ‬وأرقى‭ ‬منزلة،‭ ‬ولم‭ ‬تُعلّق‭ ‬في‭ ‬الكعبة‭ ‬إلّا‭ ‬لكونها‭ ‬نمطًا‭ ‬بديعًا‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬والفصاحة‭ ‬والرصانة‭ ‬اللغوية‭. ‬فلمّا‭ ‬نزل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وسمع‭ ‬أهل‭ ‬الجزيرة‭ ‬آياته،‭ ‬رموا‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬بأنّه‭ ‬ساحر‭. ‬وحتى‭ ‬الذين‭ ‬اختلفوا‭ ‬معه‭ [ ‬لم‭ ‬ينكروا‭ ‬اختلاف‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭ ‬وسحرها،‭ ‬واختلاف‭ ‬حديثه‭. ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الخلافات‭ ‬الإسلامية‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭. ‬

إذن‭ ‬يوجد‭ ‬هذا‭ ‬الازدواج‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬القِدم‭. ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى،‭ ‬وإذا‭ ‬أخذنا‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬مثالًا،‭ ‬فالإنجليز‭ ‬أنفسهم‭ ‬لا‭ ‬يستخدمون‭ ‬في‭ ‬حوارهم‭ ‬اليومي‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الفصيحة،‭ ‬أو‭ ‬لغة‭ ‬الـ‭ ‬ابي‭ ‬بي‭ ‬سيب،‭ ‬أو‭ ‬الصحافة‭ ‬والرواية‭ ‬والمسرح،‭ ‬بل‭ ‬اللغة‭ ‬العامية‭ ‬الدارجة،‭ ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬وجود‭ ‬الازدواجية‭ ‬اللغوية‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬الشعوب‭. ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬بعدت‭ ‬عن‭ ‬االعربيةب‭ ‬الفصحى،‭ ‬ماداموا‭ ‬لن‭ ‬يستغنوا‭ ‬عن‭ ‬العامية،‭ ‬لكونها‭ ‬أداة‭ ‬التواصل‭ ‬اليومي‭ ‬الأيسر‭ ‬والأكثر‭ ‬استخدامًا‭. ‬

  ‬لكن‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يترك‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬عواهنه،‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬حماية‭ ‬العربية‭ ‬والمحافظة‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬والنصوص‭ ‬الدينية،‭ ‬والشعر‭ ‬العربي،‭ ‬والشكل‭ ‬الرسمي‭ ‬لخطاب‭ ‬الدولة‭. ‬كما‭ ‬ينبغي‭ ‬النهوض‭ ‬بها‭ ‬بوجود‭ ‬مناهج‭ ‬ومقررات‭ ‬دراسية‭ ‬قوية‭ ‬تضبط‭ ‬شكل‭ ‬العلاقة‭ ‬أو‭ ‬التقارب‭ ‬بين‭ ‬العامية‭ ‬والفصحى،‭ ‬لأنّها‭ ‬بقواعدها‭ ‬الصارمة‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تحفظ‭ ‬شكل‭ ‬اللغة‭.‬

‭• ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ممارستك‭ ‬للنقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬رؤيتك‭ ‬للمشهد‭ ‬النقدي‭ ‬في‭ ‬السودان؟

‭- ‬كمتابع‭ ‬للحركة‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬منفاي،‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬النقد‭ ‬يخطو‭ ‬بصورة‭ ‬جيدة‭. ‬وخلال‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬حضرت‭ ‬عدة‭ ‬فعاليات‭ ‬ثقافية،‭ ‬وقرأت‭ ‬بعض‭ ‬الدراسات‭ ‬والمقالات‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬لشباب‭ ‬وكهول،‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬مستقبل‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬سيكون‭ ‬جيدًا،‭ ‬فما‭ ‬زال‭ ‬بيننا‭ ‬نقاد‭ ‬يمارسون‭ ‬النقد‭ ‬بشكل‭ ‬موضوعي‭ ‬جيد‭ ‬وعلمي‭ ‬دقيق،‭ ‬مع‭ ‬أنهم‭ ‬قلّة‭ ‬ويعملون‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬تنقصه‭ ‬الصحافة‭ ‬والمنابر‭ ‬الثقافية‭ ‬الجادة‭.‬

‭• ‬كيف‭ ‬ترى‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي؟

‭- ‬من‭ ‬خلال‭ ‬متابعاتي‭ ‬للنشاط‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬أرى‭ ‬أنّ‭ ‬ثمة‭ ‬كتابات‭ ‬جيدة‭ ‬في‭ ‬النقد،‭ ‬بالذات‭ ‬في‭ ‬المجلات‭ ‬المتخصصة،‭ ‬مثل‭ ‬انزوىب‭ ‬في‭ ‬سلطنة‭ ‬عمان،‭ ‬فهي‭ ‬تنشر‭ ‬كتابات‭ ‬نوعية‭ ‬ممتازة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬للمنجز‭ ‬الثقافي‭ ‬العماني‭ ‬والعربي‭ ‬عامة،‭ ‬وكذلك‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬الكويتية،‭ ‬فدائماً‭ ‬ما‭ ‬أقرأ‭ ‬فيها‭ ‬أشكالًا‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬القراءات‭ ‬النقدية‭ ‬المتقدمة،‭ ‬ثم‭ ‬مجلتي‭ ‬الهلال،‭ ‬وأدب‭ ‬ونقد‭ ‬المصريتين،‭ ‬فهما‭ ‬أيضًا‭ ‬تقدّمان‭ ‬كتابات‭ ‬جيدة‭. ‬وحسب‭ ‬متابعاتي،‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬يمضي‭ ‬بصورة‭ ‬جيدة‭. ‬

لكن‭ ‬المُحزن‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬ضمورًا‭ ‬في‭ ‬التبادل‭ ‬المعرفي‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وعدم‭ ‬انتشار‭ ‬المطبوعات‭ ‬العربية‭. ‬وأنا‭ ‬أستغرب‭ ‬وجود‭ ‬أزمة‭ ‬انتشار‭ ‬في‭ ‬المطبوعات‭ ‬الأدبية‭ ‬والثقافية‭ ‬المتخصصة‭ ‬بالعالم‭ ‬العربي،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تبادل‭ ‬المعارف‭ ‬والتواصل‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مجلة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تنقل‭ ‬هذا‭ ‬الإرث‭ ‬الضخم‭. ‬

يكفي‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬أنها‭ ‬خلقت‭ ‬شكلًا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التواصل‭ ‬الجميل‭ ‬لكتّاب‭ ‬من‭ ‬شتى‭ ‬الدول‭. ‬ويُحمد‭ ‬لها‭ ‬أنها‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طياتها‭ ‬عبء‭ ‬نشر‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬والتبشير‭ ‬بالحرف‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬القصيدة،‭ ‬والقصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬والرواية،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬النقد،‭ ‬والحوار‭ ‬الثقافي،‭ ‬والاستطلاعات‭ ‬عن‭ ‬أماكن‭ ‬ومواقع‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬هذه‭ ‬المطبوعة‭ ‬حملت‭ ‬الكثير‭ ‬الجيد‭ ‬منذ‭ ‬صدورها‭  ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬سنة‭. ‬إننا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مجلات‭ ‬ثقافية‭ ‬متخصصة،‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬لكل‭ ‬جنس‭ ‬إبداعي‭ ‬مطبوعته‭ ‬الخاصة‭. ‬عدا‭ ‬هذا‭ ‬فإنّ‭ ‬النقد‭ ‬ماضٍ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬بصورة‭ ‬جيدة،‭ ‬ولا‭ ‬أظلم‭ ‬النقاد‭.‬

أما‭ ‬مأخذي‭ ‬الثاني،‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬النقد‭ ‬كجنس‭ ‬إبداعي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يُمارس‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬ضيق‭. ‬الكل‭ ‬متعصب‭ ‬لما‭ ‬ينتج‭. ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الصناعي‭ ‬الذي‭ ‬تمدد‭ ‬واستطاع‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬قاسمًا‭ ‬مشتركًا‭ ‬بين‭ ‬ثقافاته‭ ‬الإقليمية‭ ‬العديدة‭.‬

 

حالة‭ ‬فرح

‭• ‬لاحظنا‭ ‬عند‭ ‬استقبالكم‭ ‬الكبير‭ ‬حشودًا‭ ‬من‭ ‬الجماهير‭. ‬ألا‭ ‬تخشى‭ ‬أن‭ ‬يحوّلك‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬إلي‭ ‬بطل‭ ‬ثوري،‭ ‬أو‭ ‬مناضل،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يؤثر‭ ‬سلبًا‭ ‬على‭ ‬مشواركم‭ ‬الفني؟‭ ‬

‭- ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬في‭ ‬مجمله‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الفرح،‭ ‬والناس‭ ‬يحيطونني‭ ‬بحبّ‭ ‬غامر،‭ ‬لكنّي‭ ‬أعتبره‭ ‬احتفاءً‭ ‬بالكلمة‭ ‬وتكريمًا‭ ‬للحرف‭ ‬السوداني،‭ ‬ولمبدعي‭ ‬بلادي،‭ ‬وهو‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬وممارسة‭ ‬الحريّة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوح‭ ‬أنجزته‭ ‬ثورة‭ ‬ديسمبر‭. ‬كما‭ ‬ينبئ‭ ‬بأنّ‭ ‬علاقتي‭ ‬مع‭ ‬جيل‭ ‬صناعة‭ ‬الثورة‭ ‬بلغت‭ ‬مستوى‭ ‬رفيعًا،‭ ‬تنامت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬ومقالات‭ ‬محفزة،‭ ‬ولأنّي‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬بشّرتُ‭ ‬عبر‭ ‬شعري‭ ‬ومقالاتي‭ ‬بهذا‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬أنجز‭ ‬ما‭ ‬عجز‭ ‬سابقوه‭ ‬عن‭ ‬إنجازه‭.‬

لكنّي‭ ‬أومن‭ ‬بأن‭ ‬البطولة‭ ‬المطلقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬هي‭ ‬للشعوب‭. ‬إنّ‭ ‬ثورة‭  ‬ديسمبر‭ ‬كانت‭ ‬وستظل‭ ‬إنجازًا‭ ‬ضخمًا،‭ ‬في‭ ‬سعينا‭ ‬للحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬والمساواة،‭ ‬لكنّ‭ ‬البطولة‭ ‬فيه‭ ‬للشعب،‭ ‬للإنسان‭ ‬البسيط‭ ‬صانع‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭. ‬

في‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬أيّ‭ ‬كاتب‭ ‬يعتقد‭ ‬بأنّ‭ ‬كتاباته‭ ‬ستحوله‭ ‬إلى‭ ‬بطل،‭ ‬فإنه‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬جُبِّ‭ ‬الوهم،‭ ‬وينبغي‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يراجع‭ ‬نفسه‭. ‬بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬فإنني‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الاستقبال‭ ‬الشعبي‭ ‬والرسمي‭ ‬الذي‭ ‬شرّفني‭ ‬به‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬بلدي‭ ‬عند‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬المنفى‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬تكريم‭ ‬للكلمة‭ ‬عمومًا‭ ‬حين‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬صفّ‭ ‬الوطن‭ ‬ونصرة‭ ‬قضاياه‭■.‬