في الظلام وميض البرق أشدّ سطوعًا

في الظلام  وميض البرق أشدّ سطوعًا

أوّل‭ ‬ملاحظتي‭ ‬للمطاردة‭ ‬لما‭ ‬سألت‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬وأصول‭ ‬الحكم‮»‬‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬دار‭ ‬المعارف‭ ‬بميدان‭ ‬المنشية،‭ ‬تكررت‭ ‬المطاردة‭ ‬في‭ ‬وقفاتي‭ ‬أمام‭ ‬الفاترينات‭ ‬وفرشات‭ ‬الكتب‭ ‬القديمة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬النبي‭ ‬دانيال‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الإسكندرية‭ ‬تنبّهت‭ ‬إلى‭ ‬النظرات‭ ‬التي‭ ‬كأنها‭ ‬تخترقني‭. ‬تضايقني‭ ‬النظرات‭ ‬المرتابة،‭ ‬يرمقني‭ ‬بها‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬الترام،‭ ‬كأنه‭ ‬يحاول‭ ‬تبيّن‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬يدي‭.‬

حاولت‭ ‬أن‭ ‬أرتّب‭ ‬أفكاري،‭ ‬أستعيد‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬بداياته‭: ‬

لماذا‭ ‬المطاردة؟‭ ‬متى‭ ‬بدأت؟‭ ‬كيف‭ ‬تنتهي؟

كنت‭ ‬أتردد‭ ‬على‭ ‬مكتبة‭ ‬البلدية‭ ‬وقت‭ ‬فسحة‭ ‬المدرسة‭ ‬الملاصقة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الحصص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يحضرها‭ ‬المدرس،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬اليوم‭. ‬

أذكر‭ ‬الكتب‭ ‬ذات‭ ‬الرسوم‭ ‬الملونة،‭ ‬والحروف‭ ‬الكبيرة،‭ ‬والحكايات‭ ‬المسلية‭ ‬عن‭ ‬عقلة‭ ‬الإصبع‭ ‬والساحرات،‭ ‬والعجوز‭ ‬ذات‭ ‬المكنسة،‭ ‬والأسقف‭ ‬المغطاة‭ ‬بالثلوج،‭ ‬والذئب‭ ‬والعنزات‭ ‬الثلاث،‭ ‬وذات‭ ‬الرداء‭ ‬الأحمر،‭ ‬والعفاريت‭ ‬والغيلان‭ ‬والمَرَدة،‭ ‬وغيرها‭.‬

ما‭ ‬كان‭ ‬يضايقني‭ ‬أن‭ ‬المكتبة‭ ‬لها‭ ‬موعد‭ ‬للإغلاق‭.‬

أترك‭ ‬الكتاب،‭ ‬وأتهيأ‭ ‬للانصراف‭. ‬ربما‭ ‬اجتذبتني‭ ‬الأحداث،‭ ‬فأقلّب‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬الصفحات،‭ ‬أحاول‭ ‬الاستباق،‭ ‬فأتبين‭ ‬ما‭ ‬انتهت‭ ‬إليه‭. ‬

رأيت‭ ‬من‭ ‬موضعي‭ ‬روّادًا‭ ‬يدفعون‭ ‬إلى‭ ‬الموظف‭ ‬كتبًا،‭ ‬ويحصلون‭ ‬على‭ ‬كتب‭ ‬أخرى‭. ‬عرفتُ‭ ‬أن‭ ‬الاستعارة‭ ‬ممكنة،‭ ‬أحمل‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬أقرأه،‭ ‬وأعيده،‭ ‬بلا‭ ‬موعد‭ ‬إغلاق‭.‬

صارت‭ ‬القراءة‭ ‬عالَمي‭ ‬البديل،‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬أعيشه‭. ‬أقرأ‭ ‬ما‭ ‬أصادفه،‭ ‬لا‭ ‬أفاضل،‭ ‬ولا‭ ‬أختار،‭ ‬حتى‭ ‬نوعية‭ ‬ما‭ ‬أقرأه‭ ‬لا‭ ‬تشغلني،‭ ‬كتاب‭ ‬أو‭ ‬مجلة‭ ‬أو‭ ‬قصاصة‭ ‬جريدة،‭ ‬تستغرقني‭ ‬القراءة،‭ ‬حتى‭ ‬ألتفت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الانتباه‭: ‬النداء‭ ‬باسمي،‭ ‬رفع‭ ‬الأذان‭ ‬من‭ ‬مئذنة‭ ‬قريبة،‭ ‬أغنية‭ ‬في‭ ‬الإذاعة‭. ‬أدسُّ‭ ‬ورقة‭ ‬صغيرة‭ ‬بين‭ ‬الصفحات‭ ‬التي‭ ‬قرأتها‭ ‬والصفحات‭ ‬التالية،‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حولي‭. ‬

في‭ ‬أحيان،‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬الفقرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أفهمها‭. ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬في‭ ‬قراءتي‭ ‬لكتاب‭ ‬االأيامب،‭ ‬حيرة‭ ‬الصبي‭ ‬أمام‭ ‬تصوُّر‭ ‬السياج‭ ‬نهاية‭ ‬للعالم،‭ ‬تألُّمه‭ ‬من‭ ‬سخرية‭ ‬إخوته‭ ‬لانسكاب‭ ‬العدس‭ ‬على‭ ‬بدنه،‭ ‬كلمات‭ ‬الإعزاز‭ ‬للزوجة‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭ ‬بحنوها‭ ‬أسرة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭. ‬تأخذني‭ ‬القراءة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يشغلني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أخلو‭ ‬إلى‭ ‬الكتاب‭. ‬أشرد‭ ‬في‭ ‬التسابيح‭ ‬والقراءات‭ ‬من‭ ‬مئذنة‭ ‬اأبو‭ ‬العباسب‭ ‬قبل‭ ‬أذان‭ ‬الفجر،‭ ‬أنصت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أحبّ‭ ‬سماعه‭ ‬من‭ ‬الموسيقى‭ ‬والأغنيات،‭ ‬ربما‭ ‬أدرت‭ - ‬وقت‭ ‬القراءة‭ - ‬مؤشر‭ ‬الراديو‭ ‬على‭ ‬إذاعة‭ ‬الأغاني‭.‬

حدثني‭ ‬أبي‭ ‬عن‭ ‬مئات‭ ‬العلماء‭ ‬المغاربة،‭ ‬وفدوا‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬توزعوا‭ ‬في‭ ‬أحيائها،‭ ‬واصلوا‭ ‬السير‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬الداخل،‭ ‬وإلى‭ ‬خارج‭ ‬البلاد،‭ ‬يحملون‭ ‬المِخْلات‭ ‬فيها‭ ‬الزاد‭ ‬القليل،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الكتب‭. ‬صارت‭ ‬المكتبات‭ ‬جزءًا‭ ‬مما‭ ‬خلّفوه‭ ‬في‭ ‬المساجد‭ ‬والزوايا‭.‬

يغمرني‭ ‬الشعور‭ ‬بالنشوة‭ ‬عندما‭ ‬يدفع‭ ‬لي‭ ‬صديق‭ ‬كتابًا‭: ‬خذه،‭ ‬اقرأه‭. ‬

أتحسسه‭ ‬في‭ ‬العودة،‭ ‬أقلّب‭ ‬الصفحات،‭ ‬ألتقط‭ ‬المفردات‭ ‬والجُمل،‭ ‬أحاول‭ ‬تبيُّن‭ ‬ما‭ ‬تتخلله‭ ‬الأسطر،‭ ‬أطويه‭ ‬وأنا‭ ‬أمنّي‭ ‬النفس‭ ‬بأن‭ ‬أخلو‭ ‬إليه،‭ ‬لأقرأه‭.‬

اعتدت‭ ‬بسط‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬وأنا‭ ‬أخترق‭ ‬الشوارع،‭ ‬أهز‭ ‬رأسي‭ ‬في‭ ‬امتنان‭ ‬للتحذيرات‭ ‬المُشفقة‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬الطريق‭.‬

 

القراءة‭ ‬زاد‭ ‬الطريق

إذا‭ ‬وجدت‭ ‬موضعًا‭ ‬خاليًا‭ ‬في‭ ‬الترام‭ ‬أو‭ ‬الباص،‭ ‬فإني‭ ‬ألزمه،‭ ‬تتجه‭ ‬نظراتي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بيدي،‭ ‬كتاب،‭ ‬أو‭ ‬صحيفة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬ورقات‭ ‬محاضرة‭ ‬استمعت‭ ‬إليها‭.‬

أعطي‭ ‬القراءة‭ ‬وقتًا‭ ‬بتصوّر‭ ‬المدة‭ ‬التي‭ ‬سأخلو‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الكتاب،‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬مدن‭ ‬قريبة‭ ‬أو‭ ‬بعيدة،‭ ‬القعود‭ - ‬بين‭ ‬صلاتي‭ ‬العصر‭ ‬والمغرب‭ ‬ذ‭ ‬لصق‭ ‬الجدار‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬اأبو‭ ‬العباسب،‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أفق‭ ‬البحر،‭ ‬السير‭ ‬تحت‭ ‬أعمدة‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬الطرق‭ ‬الخالية‭.‬

حين‭ ‬أعارني‭ ‬أيمن‭ ‬عبدالعظيم‭ - ‬وأنا‭ ‬أعد‭ ‬حقيبتي‭ ‬للسفر‭ - ‬كتابًا،‭ ‬لأقرأه‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الرحلة،‭ ‬اعتبرتُ‭ ‬ذلك‭ ‬تصرفًا‭ ‬جميلًا‭.‬

اعتدت‭ - ‬عند‭ ‬السفر‭ - ‬أن‭ ‬أحمل‭ ‬للقراءة‭ ‬ما‭ ‬يسدّ‭ ‬مسافة‭ ‬الطريق،‭ ‬كتابًا‭ ‬أو‭ ‬اثنين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة،‭ ‬ما‭ ‬أتصور‭ ‬أني‭ ‬سأنهي‭ - ‬قبل‭ ‬محطة‭ ‬الوصول‭ - ‬قراءته‭. ‬ربما‭ ‬تنتهي‭ ‬الرحلة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أفضّ‭ ‬كتابًا،‭ ‬يضيع‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬الدردشات‭ ‬الجانبية‭ ‬والحكايات،‭ ‬يأخذنا‭ ‬الكلام‭ ‬حتى‭ ‬محطة‭ ‬الوصول‭.‬

تأخذني‭ ‬المكتبات‭ ‬من‭ ‬المقاهي‭ ‬والمطاعم‭ ‬ومحالّ‭ ‬الأزياء‭. ‬أطرد‭ ‬الإحساس‭ ‬بالوحدة،‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬الشخصيات‭ ‬داخل‭ ‬الكتب،‭ ‬وعلى‭ ‬الأرفف،‭ ‬ما‭ ‬يملأ‭ ‬حياتي‭. ‬أحرص‭ - ‬عند‭ ‬زيارتي‭ ‬بلدًا‭ ‬ما‭ - ‬أن‭ ‬أتردد‭ ‬على‭ ‬أماكن‭ ‬بيع‭ ‬الكتب،‭ ‬المكتبات،‭ ‬والأسواق،‭ ‬والأرصفة،‭ ‬والأكشاك،‭ ‬والأسوار‭.‬

للمكتبة‭ ‬رائحة‭ ‬أحبها،‭ ‬خليط‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬والأحبار‭ ‬والألوان‭ ‬والمادة‭ ‬اللاصقة،‭ ‬الرائحة‭ - ‬في‭ ‬عمومها‭ - ‬لمكتبة،‭ ‬تعلو،‭ ‬أو‭ ‬تشحب،‭ ‬بقدر‭ ‬السعة،‭ ‬وفتح‭ ‬النوافذ‭ ‬وإغلاقها،‭ ‬الكتمة‭ ‬أو‭ ‬برودة‭ ‬التكييف،‭ ‬قِدَم‭ ‬الكتب،‭ ‬نسخها‭ ‬باليد‭ ‬أحيانًا،‭ ‬أو‭ ‬حديثة‭ ‬الطباعة،‭ ‬نوعية‭ ‬الأرفف،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬أو‭ ‬المعدن،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬الرصّات‭ ‬الملاصقة‭ ‬للجدران‭.‬

لتهب‭ ‬قلبكَ‭ ‬للكتب،‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬قالها‭ ‬الحكيم‭ ‬المصري‭ ‬القديم‭ ‬بادويست،‭ ‬كأنها‭ ‬وصية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أنفّذها‭. ‬حفظت‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفه‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬والتعبيرات‭ ‬والاصطلاحات‭ ‬والمعاني‭ ‬الحقيقية،‭ ‬ميّزت‭ ‬بين‭ ‬أنواع‭ ‬الورق‭: ‬الكوشيه‭ ‬والأبيض‭ ‬والستانيه‭ ‬وورق‭ ‬الصحف‭.‬

أودعت‭ ‬حقيبتي‭ ‬كتبًا‭ ‬اقتنيتها‭ ‬من‭ ‬سور‭ ‬الأزبكية،‭ ‬رصيف‭ ‬النبي‭ ‬دانيال،‭ ‬لصق‭ ‬جدار‭ ‬أبو‭ ‬العباس،‭ ‬شارع‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬ضفة‭ ‬نهر‭ ‬السين،‭ ‬المكتبة‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬نابلس،‭ ‬مكتبات‭ ‬الزيتونة،‭ ‬مكتبة‭ ‬أثينا‭ ‬الشعبية،‭ ‬مكتبة‭ ‬قسنطينة،‭ ‬أكشاك‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬برلين،‭ ‬السور‭ ‬الحديدي‭ ‬المحيط‭ ‬بساحة‭ ‬دار‭ ‬القضاء‭ ‬العالي،‭ ‬مكتبات‭ ‬سور‭ ‬الصين‭ ‬للكتب‭ ‬القديمة‭. ‬أذكر‭ ‬قول‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬أذكره‭: ‬على‭ ‬أيام‭ ‬أفلاطون،‭ ‬كان‭ ‬الأشخاص‭ ‬الموهوبون‭ ‬المُلهمون،‭ ‬يحيون‭ - ‬غالبًا‭ - ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد،‭ ‬هو‭ ‬أثينا‭. ‬أما‭ ‬الآن،‭ ‬فإننا‭ ‬قد‭ ‬نجدهم‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬أو‭ ‬لندن‭ ‬أو‭ ‬روما‭ ‬أو‭ ‬نيويورك،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬دلهي،‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لمقابلتهم‭ ‬هو‭ ‬الكتب‭.‬

وأنا‭ ‬أرقى‭ ‬سلالم‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬الخلق‭ ‬تلفتُّ‭ ‬حولي،‭ ‬بإدراك‭ ‬أن‭ ‬رجالًا‭ ‬مهمين‭ ‬سبقوني‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭: ‬لطفي‭ ‬السيد،‭ ‬منصور‭ ‬فهمي،‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬يحيى‭ ‬حقي،‭ ‬فريد‭ ‬عبدالخالق،‭ ‬عبدالناصر‭ ‬حسن،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬عبروا‭ ‬المدخل‭ ‬المكسوّ‭ ‬بالرخام‭ ‬الملوّن،‭ ‬رقوا‭ ‬السلالم،‭ ‬ساروا‭ ‬في‭ ‬الردهات‭ ‬الطويلة،‭ ‬تحيطها‭ ‬الفجوات‭ ‬المقوسة‭ ‬التي‭ ‬تزين‭ ‬الجدران،‭ ‬مضوا‭ ‬في‭ ‬القاعات‭ ‬المغطاة‭ ‬بالرخام‭ ‬المشجّر‭ ‬بتعاريج‭ ‬الصدف،‭ ‬وبالمقرنصات‭ ‬الجصية،‭ ‬تصل‭ ‬بينها‭ ‬نقوش‭ ‬صغيرة‭. ‬أخذوا‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬الأرفف،‭ ‬وأعادوها‭. ‬أشم‭ ‬الرائحة‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬المبنى‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الأمكنة‭.‬

ألجأ‭ ‬إلى‭ ‬موظفي‭ ‬الدار،‭ ‬يدلّونني‭ ‬على‭ ‬قاعة‭ ‬القراءة،‭ ‬أو‭ ‬الحجرات‭ ‬التي‭ ‬أقصدها‭.‬

جالت‭ ‬نظراتي‭ ‬في‭ ‬المجلدات‭ ‬والكتب‭ ‬والدوريات‭ ‬والوثائق،‭ ‬أشعر‭ ‬أني‭ ‬أعيش‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬بداياته‭.‬

اختزلت‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬الساعات‭ ‬الثلاث‭ ‬التي‭ ‬أمضيتها‭ ‬في‭ ‬المكتبة‭. ‬ذهبت‭ ‬بي‭ ‬القراءة‭ ‬إلى‭ ‬عوالِم‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفها،‭ ‬رحلت‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬الأماكن،‭ ‬وإلى‭ ‬مساحات‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬الأزمنة،‭ ‬الكلمات‭ ‬دليلي‭ ‬إلى‭ ‬المدن‭ ‬والوقائع‭ ‬التاريخية،‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬الملاحم‭ ‬والسِّير‭ ‬والتراجم‭ ‬وحكايات‭ ‬المحبين‭ ‬والحروب‭ ‬والمعارك‭ ‬والدماء‭ ‬والدسائس‭ ‬والمؤامرات‭ ‬والملاعب‭ ‬والشعارات‭ ‬والجوامع‭ ‬والحدائق،‭ ‬والتعذيب‭ ‬والندوات‭ ‬والهتافات‭ ‬والمذابح‭ ‬والجرائم‭ ‬والمغامرات،‭ ‬والعائشين‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬والسواحل‭ ‬والجزر‭ ‬والخلاء‭. ‬قرأت‭ ‬تراجم‭ ‬الأولياء‭ ‬والصالحين،‭ ‬ومسائل‭ ‬الحديث‭ ‬والفقه،‭ ‬وكتبًا‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬السحر،‭ ‬وفك‭ ‬الطلاسم،‭ ‬وكتابة‭ ‬التعاويذ،‭ ‬واستحضار‭ ‬الأرواح،‭ ‬ومخاطبة‭ ‬الجانّ‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬مأذونًا‭ ‬لي‭ ‬بالاستعارة‭ ‬من‭ ‬المكتبة‭. ‬

لاحظ‭ ‬الموظف‭ ‬اتساخًا‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬آخر‭ ‬كتاب‭ ‬استعرته‭. ‬لم‭ ‬أقصد‭ ‬ما‭ ‬أغضبه،‭ ‬ربّما‭ ‬تأثّرت‭ ‬الأوراق‭ ‬بالانفعال،‭ ‬لما‭ ‬أطبقت‭ ‬أصابعي‭ ‬على‭ ‬أوراق‭ ‬الكتاب‭ ‬وأنا‭ ‬أتصور‭ ‬معاناة‭ ‬سليمان‭ ‬الحلبي‭ ‬حتى‭ ‬اخترق‭ ‬الخازوق‭ ‬جسده‭ ‬حتى‭ ‬الكتف‭. ‬

أنجذبُ‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬يضم‭ ‬كتبًا،‭ ‬لا‭ ‬أملّ‭ ‬البقاء‭ ‬بين‭ ‬جدرانه،‭ ‬التحديق‭ ‬في‭ ‬الأرفف،‭ ‬تقليب‭ ‬الصفحات،‭ ‬أو‭ ‬العكوف‭ ‬على‭ ‬القراءة،‭ ‬ربما‭ ‬سجلت‭ ‬الملاحظات‭ ‬على‭ ‬الهوامش،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬نوتة‭ ‬صغيرة‭ ‬بيدي‭. ‬أجيد‭ ‬عزل‭ ‬نفسي‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حولي،‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬أسوار‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭ ‬بين‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬حولي،‭ ‬فأفرغ‭ ‬للقراءة،‭ ‬أو‭ ‬التأمل،‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭. ‬أعيش‭ ‬وسط‭ ‬الصخب،‭ ‬أتناساه،‭ ‬فأنساه‭. ‬أقلّب‭ ‬صفحات‭ ‬الكتاب،‭ ‬أقرأ‭ ‬سطوره،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ألتفت‭ ‬حولي،‭ ‬إذا‭ ‬توقفتُ‭ ‬عن‭ ‬القراءة،‭ ‬تنبهت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشغلني‭ ‬عن‭ ‬المتابعة،‭ ‬وضعت‭ ‬الورقة‭ ‬الصغيرة‭ ‬بين‭ ‬الصفحات‭. ‬أكره‭ ‬طيّ‭ ‬الأوراق،‭ ‬أو‭ ‬وضع‭ ‬علامة‭ ‬بالقلم‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬ما‭ ‬قرأت،‭ ‬أكره‭ ‬أن‭ ‬أسيء‭ ‬إلى‭ ‬الكتاب‭. ‬تخايلني‭ ‬مقولة‭ ‬الأرجنتيني‭ ‬بورخيس‭ ‬اليتني‭ ‬أجد‭ ‬مكتبة‭ ‬في‭ ‬الجنةب‭. ‬

لاحظت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الغلاف،‭ ‬الجري‭ ‬بأصابعي‭ ‬على‭ ‬الأتربة‭ ‬العالقة،‭ ‬تسوية‭ ‬الصفحات‭ ‬المطوية،‭ ‬ترتيب‭ ‬الكتب،‭ ‬نفض‭ ‬الأتربة‭ ‬من‭ ‬الأرفف،‭ ‬كنس‭ ‬الأرضية‭. ‬جعلت‭ ‬للقواميس‭ ‬ركنًا‭ ‬في‭ ‬الأرفف،‭ ‬أعود‭ ‬إليها‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬معلومة،‭ ‬أو‭ ‬معنى،‭ ‬أو‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬اسم‭. ‬ربما‭ ‬أحطت‭ ‬الكتاب‭ ‬بغلاف‭ ‬قديم‭ ‬حتى‭ ‬يظل‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬جيدة‭.‬

 

إغراء‭ ‬الكتب

ثمة‭ ‬كتب‭ ‬أغرتني‭ ‬عناوينها،‭ ‬ظلت‭ ‬في‭ ‬موضعها‭ ‬على‭ ‬الرف،‭ ‬أهمل‭ ‬التحذير‭ ‬من‭ ‬سذاجتها،‭ ‬أو‭ ‬تفاهة‭ ‬ما‭ ‬تقدّمه‭. ‬ربما‭ ‬أزمعت‭ ‬الاستغناء‭ ‬عنها،‭ ‬لكن‭ ‬الشواغل‭ ‬توقف‭ ‬ما‭ ‬اعتزمته‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬القرار‭. ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬أستغني‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬أغراني‭ - ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬ما‭ - ‬بقراءته‭.‬

زادت‭ ‬الكتب،‭ ‬ضاقت‭ ‬الأرفف‭ ‬عن‭ ‬استيعابها‭. ‬اكتفيت‭ ‬بتكويمها‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬الحجرة‭. ‬وعدت‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬أراجعها‭ - ‬ذات‭ ‬يوم‭ - ‬لا‭ ‬أبقي‭ ‬إلا‭ ‬الضروري،‭ ‬أعيد‭ ‬التصنيف،‭ ‬والترتيب،‭ ‬بما‭ ‬تتيحه‭ ‬الأرفف‭. ‬ظلت‭ ‬الكومات‭ ‬بلا‭ ‬تنسيق،‭ ‬وإن‭ ‬عرفتُ‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬كعب‭ ‬الغلاف،‭ ‬عنوانه‭ ‬واضح،‭ ‬أو‭ ‬مطموس‭ ‬الكلمات‭.‬

الممر‭ ‬الضيق،‭ ‬المسقوف،‭ ‬أرضيته‭ ‬من‭ ‬الأسمنت،‭ ‬وفي‭ ‬الجانبين‭ ‬أكشاك‭ ‬متلاصقة،‭ ‬غطت‭ ‬جدرانها‭ ‬الكتب‭. ‬داخلني‭ ‬شعور‭ ‬بالتعب،‭ ‬ربما‭ ‬لطول‭ ‬وقفتي‭ ‬المتأملة‭ ‬أمام‭ ‬رصات‭ ‬الكتب،‭ ‬أقرأ‭ ‬العناوين،‭ ‬أقلب‭ ‬الصفحات،‭ ‬أعيد‭ ‬التقليب،‭ ‬أسجل‭ ‬الملاحظات‭ ‬في‭ ‬نوتتي‭ ‬الصغيرة،‭ ‬أحاكي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يفعله‭ ‬الفرنسي‭ ‬بلزاك،‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬تستهويني،‭ ‬المعاني‭ ‬المضمرة،‭ ‬الأقوال‭ ‬التي‭ ‬تضيء‭ ‬الحنايا‭ ‬المظلمة‭. ‬أجد‭ ‬في‭ ‬الكراسي‭ ‬المتناثرة‭ ‬أول‭ ‬الممر‭ ‬ما‭ ‬يغريني‭ ‬بالقعود،‭ ‬أقلّب‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬يدي،‭ ‬أو‭ ‬أتأمل‭ ‬سِحَن‭ ‬الزائرين‭ ‬لمكتبات‭ ‬الممر‭. ‬

رفعت‭ ‬البنت‭ ‬عينيها‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المفتوح‭ ‬بين‭ ‬ساعديها،‭ ‬حدجتني‭ ‬بنظرة‭ ‬كالشرود‭. ‬تلفتُّ‭ ‬حولي،‭ ‬أتأكد‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تتجه‭ ‬بنظرتها‭ ‬إلى‭ ‬غيري‭.‬

وأنا‭ ‬أومئ‭ ‬بذقني‭ ‬إلى‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬يدها‭:‬

‭- ‬رواية؟

هزّت‭ ‬رأسها‭:‬

‭- ‬لا،‭ ‬هي‭ ‬ذكريات‭ ‬كاسترو‭ ‬عن‭ ‬الثورة‭ ‬الكوبية‭.‬

النظرة‭ ‬الخاطفة‭ ‬التي‭ ‬عبرتني‭ ‬بها،‭ ‬أيقظت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬مشاعر‭ ‬لم‭ ‬أتبينها‭ ‬جيدًا‭.‬

همس‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬أذني‭:‬

‭- ‬قعدات‭ ‬القراءة‭ ‬تُعرّضك‭ ‬للمساءلة‭!‬

قبل‭ ‬أن‭ ‬أنتبه‭ ‬إلى‭ ‬الكلمات،‭ ‬وألتفت‭ ‬ناحيته،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬واصل‭ ‬السير،‭ ‬ومال‭ ‬في‭ ‬الانحناءة‭ ‬القريبة‭. ‬لفت‭ ‬الأمر‭ ‬اهتمامي‭ ‬متأخرًا،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬لاحظته،‭ ‬ولا‭ ‬تصوّرت‭ ‬حدوثه‭.‬

القراءة‭ ‬تبدّل‭ ‬نظرتي‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حولي‭. ‬رفضت‭ ‬أن‭ ‬تقتصر‭ ‬صلتي‭ ‬بالقراءة‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬أقرأه،‭ ‬كنت‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أفعالي‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عما‭ ‬تعلّمته،‭ ‬وأفدت‭ ‬منه‭. ‬تواتيني‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬ما‭ ‬يجتذب‭ ‬انتباه‭ ‬الآخرين،‭ ‬أثير‭ ‬قلقهم،‭ ‬أو‭ ‬سخطهم،‭ ‬أو‭ ‬أدفعهم‭ ‬إلى‭ ‬الضحك،‭ ‬أفعل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتوقّعونه‭.‬

أزمعت‭ ‬أن‭ ‬أدعو‭ ‬أصدقاء‭ ‬إلى‭ ‬جلسات‭ ‬القراءة‭ ‬في‭ ‬قهوة‭ ‬رأس‭ ‬التين‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬خليج‭ ‬الأنفوشي،‭ ‬ما‭ ‬نقتنيه‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬ونستعيره،‭ ‬ما‭ ‬قرأناه،‭ ‬نعرضه،‭ ‬ونناقشه،‭ ‬فتعمّ‭ ‬الفائدة‭.‬

لامست‭ ‬يدٌ‭ ‬كتفي،‭ ‬ضغطت‭ ‬بما‭ ‬دفعني‭ ‬للاستدارة‭: ‬

اصطدمت‭ ‬نظرتي‭ ‬بعيني‭ ‬الرجل‭ ‬المقتحمتين،‭ ‬غلبني‭ ‬الارتباك‭. ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬ساقيّ‭ ‬ثقيلتان،‭ ‬مشدودتان‭ ‬إلى‭ ‬الأرض،‭ ‬وأني‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقعد‭.‬

وهو‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الحواجز‭ ‬الخشبية‭ ‬بعرض‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬قصر‭ ‬رأس‭ ‬التين‭:‬

‭- ‬هنا‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬يصل‭ ‬إليه‭ ‬المشاة‭.‬

سرَت‭ ‬رجفةٌ‭ ‬في‭ ‬عمودي‭ ‬الفقري،‭ ‬وتحرّك‭ ‬في‭ ‬بشرتي‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬النمل‭. ‬حرصت‭ ‬ألا‭ ‬يرى‭ ‬الرجل‭ ‬خوفي‭ ‬في‭ ‬نظرة‭ ‬عيني،‭ ‬وأنا‭ ‬أمضي‭ ‬إلى‭ ‬الناحية‭ ‬المقابلة‭.‬

ألقي‭ ‬حولي‭ ‬نظرات‭ ‬متوجسة،‭ ‬أسير‭ ‬متلفتًا‭ ‬كأن‭ ‬أحدًا‭ ‬يلاحقني،‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬الأعين‭ ‬تراقبني‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬ظهري‭. ‬تحيط‭ ‬بي‭ ‬دوامات‭ ‬القلق‭ ‬والخوف‭ ‬والأحلام‭ ‬والكوابيس‭ ‬والقهر،‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أفلت‭ ‬من‭ ‬دوامة‭ ‬حتى‭ ‬تلحقني‭ ‬أخرى‭. ‬

تيقنت‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أقوله،‭ ‬أو‭ ‬أفعله،‭ ‬تحاصره،‭ ‬تراقبه،‭ ‬قوى‭ ‬هائلة،‭ ‬مسيطرة،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬محددًا‭ ‬يقودني‭ ‬إلى‭ ‬المعنى،‭ ‬لكنني‭ ‬ألامسه‭ ‬فيما‭ ‬ألاحظه‭ ‬من‭ ‬الأقوال‭ ‬والتصرفات‭ ‬والإيماءات‭ ‬المعبّرة‭. ‬

أحرص‭ ‬أن‭ ‬تملأ‭ ‬البسمة‭ ‬وجهي،‭ ‬فلا‭ ‬يفطن‭ ‬أحد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أعانيه،‭ ‬أغلق‭ ‬فمي،‭ ‬ولا‭ ‬أتلفتُ‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬تنبّه‭ ‬الأعين‭ ‬والآذان‭. ‬خيالي‭ - ‬باستغراقي‭ ‬في‭ ‬الشرود‭ - ‬يصنع‭ ‬أشباحًا‭ ‬وأطيافًا‭ ‬ورؤى،‭ ‬تبدو‭ ‬حقيقية،‭ ‬وأخاف‭ ‬منها‭.‬

قال‭ ‬لى‭ ‬أيمن‭ ‬عبدالعظيم‭: ‬

‭- ‬الخوف‭ ‬عدْوى‭ .. ‬إذا‭ ‬ظللت‭ ‬خائفًا‭ ‬فأنت‭ ‬تخيف‭ ‬من‭ ‬حولك‭!‬

رمقته‭ ‬بارتياب،‭ ‬خمّنت‭ ‬أنه‭ ‬يضمر‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقله‭.‬

أخرج‭ ‬عم‭ ‬حجازي‭ - ‬من‭ ‬رصات‭ ‬الكتب‭ ‬فوق‭ ‬الأرفف‭ - ‬كراسة‭ ‬صغيرة،‭ ‬فردها‭ ‬أمامه‭. ‬أعاد‭ ‬قراءة‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب،‭ ‬وسجّله‭:‬

‭- ‬طلبوا‭ ‬أن‭ ‬أدوّن‭ ‬أسماء‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تشتريها‭.‬

وافتعل‭ ‬ضحكة‭ ‬قصيرة‭:‬

‭- ‬هل‭ ‬هي‭ ‬خصومة؟‭!‬

 

المكتبة‭ ‬الحجازية

اعتدت‭ ‬التردد‭ ‬على‭ ‬المكتبة‭ ‬الحجازية،‭ ‬في‭ ‬التقاء‭ ‬شارعي‭ ‬الميدان‭ ‬وإسماعيل‭ ‬صبري،‭ ‬أحاول‭ - ‬برفع‭ ‬صوتي‭ - ‬أن‭ ‬أنفذ‭ ‬من‭ ‬زحام‭ ‬المترددين‭ ‬على‭ ‬المكتبة،‭ ‬وتلاغط‭ ‬أصوات‭ ‬الطريق‭. ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أريده،‭ ‬فإني‭ ‬أنصرف‭ ‬بوعد‭ ‬تسلّمه‭ ‬في‭ ‬الزيارة‭ ‬التالية‭.‬

لم‭ ‬أناقش‭ ‬عم‭ ‬حجازي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الكلمات‭. ‬إضمار‭ ‬المعنى‭ ‬باب‭ ‬موارب‭ ‬إلى‭ ‬الأسماء‭ ‬المخفية،‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعبره‭.‬

لما‭ ‬فتحت‭ ‬باب‭ ‬الشقة‭ ‬للطرقات‭ ‬العنيفة،‭ ‬المتوالية،‭ ‬طالعني‭ ‬الرجل،‭ ‬يتبعه‭ ‬آخرون‭. ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬بريق‭ ‬حرّك‭ ‬الخوف‭ ‬داخلي‭.‬

تحسست‭ - ‬وأنا‭ ‬أفتح‭ ‬عيني‭ - ‬موضع‭ ‬فتاحة‭ ‬الكتب‭ ‬على‭ ‬الكومودينو‭ ‬إلى‭ ‬جواري،‭ ‬أزمعت‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أداتي‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬اقترابه‭. ‬

أغمضت‭ ‬عينيّ‭ ‬وفتحتهما،‭ ‬أتبيّن‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬نائمًا‭ ‬وصحوت،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الحلم‭ ‬استغرقني‭. ‬اختفى‭ ‬من‭ ‬ذهني‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قرأته،‭ ‬وشاهدته،‭ ‬واستمعت‭ ‬إليه‭. ‬خلت‭ ‬الصفحات‭ ‬تمامًا‭. ‬اتجهت‭ - ‬بجانب‭ ‬عيني‭ - ‬نحو‭ ‬النافذة،‭ ‬إن‭ ‬حاصرني‭ ‬الخطر‭ ‬قفزت‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭.‬

بعثرة‭ ‬مكتبتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬حرصوا‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مداهمتهم‭ ‬الشقة،‭ ‬مختلفي‭ ‬السّحَن‭ ‬والقامات‭ ‬والأعمار،‭ ‬وإن‭ ‬علت‭ ‬الجهامة‭ ‬الوجوه،‭ ‬على‭ ‬أجسادهم‭ ‬بدل‭ ‬صيفية،‭ ‬أو‭ ‬بنطلونات‭ ‬جينز‭ ‬تعلوها‭ ‬قمصان‭ ‬قصيرة‭ ‬الأكمام‭. ‬تصرفوا‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬كأنهم‭ ‬يمتلكونه،‭ ‬سحبوا‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬الأرفف،‭ ‬قلبوا‭ ‬صفحاتها،‭ ‬قذفوا‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬فتحوا‭ ‬الأدراج،‭ ‬فتشوها،‭ ‬قلبوا‭ ‬ما‭ ‬فيها،‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬الدولاب‭. ‬

غالبت‭ ‬الحزن‭ ‬لتعثّرهم‭ ‬في‭ ‬كومات‭ ‬الكتب،‭ ‬لا‭ ‬يحاذرون‭ ‬فتطؤها‭ ‬أقدامهم‭.‬

قال‭ ‬ذو‭ ‬الشارب‭ ‬المتدلّي‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬فمه‭: ‬

‭- ‬ماذا‭ ‬تفعل‭ ‬بهذه‭ ‬الكتب؟

تملكتني‭ ‬حيرة،‭ ‬فظللت‭ ‬صامتًا‭. ‬أدركت‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬قدرة‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬المقاومة،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬الهرب،‭ ‬جمدت‭ ‬ساقاي‭ ‬في‭ ‬مكانهما،‭ ‬والتصق‭ ‬اللسان‭ ‬بحلقي،‭ ‬ففقدت‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬النطق‭.‬

فحّ‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أسنانه‭:‬

‭- ‬أصابك‭ ‬الخرس؟‭!‬

أشعلت‭ ‬الصفعة‭ ‬في‭ ‬خدي‭ ‬نيران‭ ‬الألم،‭ ‬تلتها‭ ‬ركلات‭ ‬بالقدمين،‭ ‬وضربات‭ ‬موجعة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تصل‭ ‬إليه‭ ‬يداه‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬وجسدي،‭ ‬اهتزت‭ ‬وقفتي‭ ‬وأنا‭ ‬أضع‭ ‬أصابعي‭ ‬أمام‭ ‬وجهي‭ ‬أتقي‭ ‬الضرب‭. ‬أحسست‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬تميد‭ ‬بي،‭ ‬والمرئيات‭ ‬تشحب،‭ ‬أكاد‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬أو‭ ‬أسمع‭ ‬شيئًا،‭ ‬وإن‭ ‬اختلطت‭ - ‬في‭ ‬رأسي‭ - ‬أصداء‭ ‬الكتب‭ ‬والدوريات‭ ‬والصحف‭ ‬والوثائق‭ ‬والرسائل‭ ‬والمخطوطات،‭ ‬استدعيتُ‭ ‬ما‭ ‬أذكره،‭ ‬وما‭ ‬كنت‭ ‬نسيته‭ ‬من‭ ‬الأقوال‭ ‬والمواقف‭ ‬والتصرّفات،‭ ‬وصلْتُه‭ ‬بمعاودة‭ ‬التذكّر‭.‬

تحرّك‭ ‬في‭ ‬عافيتي‭ ‬ما‭ ‬صار‭ ‬هامدًا،‭ ‬حاولت‭ ‬الزحف‭ ‬إلى‭ ‬الجدار،‭ ‬أتساند‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬النهوض‭ ‬من‭ ‬موضعي‭ ■