القصة القصيرة في لبنان
القصة القصيرة أو الأقصوصة (Short Story) بالإنجليزية، فن أدبي حديث في الأدب العربي يعود إلى مطلع القرن العشرين، وهو ظهر تقليدًا للأدب الغربي، خاصة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
تجدر الإشارة إلى أن أوّل من كتب القصة القصيرة من أدباء لبنان كان أدباء المهجر: أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، الذي بلغت عنده نضجها.
في لبنان ساهمت الصحف والمجلات الأدبية، بعد الربع الأول من القرن العشرين، في نشر القصة التي باتت تخصّص لها صفحات أو زوايا خاصة أمثال صحيفتي الأحرار والنداء، اللتين كان توفيق يوسف عواد ينشر فيهما بعض قصصه. ومجلة المَعْرَض (1921 - 1936) لميشال زكور (1893-1937)، ومجلة ألف ليلة وليلة (1928 - 1956) لكرم ملحم كرم.
ثم جاءت االمكشوفب (1934 - 1949) لصاحبها فؤاد حبيش (1904 - 1973)، فاهتمت كسالفتها االمَعْرَضب بالقصة القصيرة ومنحت الجوائز لكتّابها. وقد نشرت ادار المكشوفب مجموعات قصصية أمثال: االصبي الأعرجب واقميص الصوفب لتوفيق يوسف عوّاد. واعشر قصص من صميم الحياةب لخليل تقي الدين، واكان ياما كانب لميخائيل نعيمة وسواها. كما أفسحت بالمجال لنقد هذه المؤلفات القصصية. ثم مجلة الجمهور (1936 - 1982) لميشال أبو شهلا (1898 - 1959). فمجلة الطريق (1941 - 2003) مجلة الحزب الشيوعي. ثم مجلة الأديب (1942-1983) لصاحبها ألبير أديب (1908 - 1985)، والتي اهتمت بنشر القصص القصيرة على صفحاتها. وتلتها مجلة الحكمة التابعة لجامعة الحكمة (1951 - 2000)، ثم مجلة الثقافة الوطنية (1952 - 1959) التي أسَّسها الحزب الشيوعي، فمجلة الآداب (1953) للدكتور سهيل إدريس (1925 - 2008).
إن عناصر القصة القصيرة هي: الشخصيات، الأحداث، الزمان، المكان، الحبكة، النهاية.
ومن المعروف أن القصة القصيرة يجب أن تراعي المبادئ التالية:
٪ الحبكة، أي مجرى القصة القصيرة وسير حوادثها.
٪ الذروة، وهي النقطة القصوى في القصة القصيرة.
٪ الحل أو الخاتمة، وهو آخر ما تصل إليه القصة القصيرة.
مميزات القصة القصيرة
من مميزات القصة القصيرة الإيجاز والابتكار ووحدة التأثير والمفاجأة. وتُقرأ في جلسة واحدة، لكي لا ينقطع السياق ويضيع التأثير. وهي قطعة أدبيّة فنية تشفّ عن نفس كاتبها وشخصيته، وتروي بجلاء حادثًا مؤثرًا في إحدى نواحي الحياة اليومية، فتأتي بأسلوب موجز متين، ومبتكر، وبليغ وتترك في نفس القارئ أثرًا لا يُمحى.
ولا شكّ في أن القصة القصيرة في لبنان قد مرّت بفترات ازدهار وتطور، بحيث أبدع بعض كتّابها وكاتباتها في رسم شخصيات قصصهم، وامتازوا ببراعة السرد. وامتلكوا ناصية الحبكة والتقنية وجمال الأسلوب ونسج الحوار المُشوّق وتصوير البيئة المحلّية التي تجري فيها أحداث الأقصوصة، أي ما يُعرف باللون المحليّ، وكذلك البيئة الاجتماعية.
ومهما يكن، فإن من أهم ما يجب أن تتّسم به القصة القصيرة هو أن تكون ذات قيمة أدبية فنية، وأن تتمتع بروعة السرد والإخراج، قادرة على انتزاع إعجاب القراء وإدهاشهم وحتى صدمهم.
ومن خصائها أيضًا الإيجاز، بحيث يستطيع القارئ إنجاز قراءتها في جلسة واحدة، ويكتفي بما تقدّمه له من تسلية ومعلومات وأحداث فيها متعة وفائدة. وقد تتوخّى تقديم العِبرة أو الموعظة، وقد يكون هدفها التسلية لا غير.
بعض كتّاب القصة القصيرة يتقنون تقنيات القَصّ التي تزيد في قيمة قصصهم الفنية، ومنهم من يعتمد الخيال أو يلجأ إلى استيحاء الخرافة أو الأسطورة أو الموعظة أو الحكاية الشعبية. وهناك من يكتب الأقصوصة القصيرة جدًا، فهي أقرب إلى االمينيب أو االماكروب أقصوصة التي لا تزيد على صفحة أو صفحتين، أو حتى تتألف من بضعة أسطر.
خصائص القصة اللبنانية
ولعل أبرز خصائص القصة القصيرة اللبنانية أنها تتناول موضوع الأرض والطبيعة والمدينة والقرية الجبلية والهجرة ورجال الدين ورجال الإقطاع والعادات والتقاليد، وتصوّر اللون المحلي للمجتمع اللبناني والحرب في لبنان (1975-1990)، والفساد والظلم الاجتماعي والمقاومة.
بعض هؤلاء القصّاصين انتقدوا رجال الدين أمثال: جبران خليل جبران ومارون عبود وفؤاد كنعان وجواد صيداوي. بعضهم كانوا جريئين بتناول موضوع الجنس في كتاباتهم أمثال: فؤاد كنعان وليلى بعلبكي وحنان الشيخ... وبعضهم تناول شخصيات من القرية اللبنانية أمثال: مارون عبود وخليل تقي الدين وتوفيق يوسف عواد وإملي نصر الله. والبعض تخصّص في الكتابة عن المرأة، كما فعلت حنان الشيخ.
وبعضهم ركَّز على المقاومة في الجنوب اللبناني، مثل د. علي حجازي وبعض الكتّاب الجنوبيّين، مع ندرة القصص البوليسية المثيرة.إن أغلب القصص القصيرة تدور حول موضوع الأرض، الريف، الفقر، حياة الإنسان الاجتماعية وكفاحه للبقاء، المرأة والزواج، الحرب، الاستعمار، المقاومة، الظلم، فساد الحكم، وانتقاد رجال الدين الذين يستغلّون الدين. وبعض هذه القصص تناولت المجاعة في الحرب العالمية الأولى، كما في قصص توفيق عوّاد. كما أن صورة المرأة تنوّعت عندهم، فمنهم من يحترم المرأة وينظر إليها كأمّ وزوجة مناضلة في سبيل عائلتها ووطنها. ومنهم من يرى فيها شيطانًا وشهوة، وكذلك عند تناول العلاقة بين الرجل والمرأة والخيانة الزوجية.
محمد عيتاني
ولا شك في أن محمد عيتاني في كتابه اأشياء لا تموت وقصص أخرىب (1973) كان الأكثر إبداعًا في تصوير حياة الناس بالمدينة (محلة رأس بيروت) قبل أن تتغير، يروي قصصهم وأخبارهم ويصور عاداتهم وسذاجتهم، مثل صيادي الأسماك، كما يتناول العلاقات الأسرية والعلاقة بين الرجل والمرأة. كما يسجل بعض المشاهد الحية من أنماط العيش التي كان يحياها بسطاء الناس وتصوير أحاسيسهم وآمالهم وطموحاتهم وكفاحهم وعاداتهم وحتى لغتهم الخاصة بهم.
وإليكم هذا المقطع الذي يظهر السخرية في أسلوبه القصصي (ص 48):
اأهالي رأس بيروت يصنعون فزاعات لتخويف الطيور، وذودها عن الثمار والحقول. وهي عبارة عن صليب من قصبتين، يكسونهما بسترة عتيقة، ويفضّل أن تكون زاهية اللون، يعلوها طربوش أحمر. ويخيل إليك أن رجلًا يقف في وسط البستان لحراسته.
الرجال، كانوا أحيانًا يأخذون الفزّاعة للشهادة في المحكمة. وترى نساء رأس بيروت، المحجبات المحافظات، إذا مررن في الصيف من قرب الفزاعة، المعلّقة أعلى شجرات التين، أو على الأرض بين مساكب الخضار، أنزلن حجاباتهن بسرعة، فهنَّ ايغطينَب على الغرباء. بل إن النساء عندنا كنّ يغطين رؤوسهن عند مرور طائرة في السماء. أليس فيها طيار أجنبي؟ب.
وعبود عطية في احكايات من كورنيش المنارةب التي تتناول حياة كورنيش المنارة غربي بيروت أثناء الحرب الأهلية.
بين الواقع والخرافة
بعض هؤلاء القصاصين عرفوا بثوريّتهم وواقعيتهم وبعضهم مزج بين الواقع والخرافة والخيال. وبعض هذه القصص القصيرة تثير في ذهن القارئ مواقف مثيرة للجدل. بعضها تناولت نساء ساقطات، وبعضها تناولت نساء شريفات. وبعض هذه القصص تناولت قضايا سياسية وقومية، مثل قضية فلسطين وثورة الجزائر والثورة المصرية وهزيمة حرب 1967 والحرب اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي... وكذلك موضوع الهجرة التي بدأت منذ قرن ونصف القرن، وتزايدت أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي يمثّلها سعيد تقي الدين. والهجرة من القرية إلى المدينة المتمثلة في قصص إملي نصر الله. ثم الحرب الأهلية التي تناولها د. جورج شامي في عدد من مجموعاته القصصية بكتابه افي قفص الاتهامب دار نلسن 2015 (ص 301) يقول:
افي قصصي ورواياتي ناديت بالثورة ضد الظلم وضد الفقر والجوع، ضد الدكتاتورية والتوتاليتارية وضد الاضطهاد، وتمنيت لو أن الحرب في لبنان قامت لتحقيق العدالة الاجتماعية لا للقتل والتدمير وزرع البغضاء في النفوسب. والأزمة الاقتصادية والسياسية التي اجتاحت لبنان ومازال اللبنانيون يعانون تداعياتها وويلاتها. هناك قصص تدعو إلى عمل الخير وتعظ بالمعروف وتكرّس للأخلاق واعتناق المُثل العليا. وهناك قصص لا تهتم بذلك ولا ترى غير السواد. بينما قصص أخرى تدعو إلى الأمل والتفاؤل.
لقد أحصيت عدد اللبنانيين واللبنانيات الذين كتبوا القصة القصيرة ونشروا ولو مؤلفًا واحدًا، بحيث يبلغ حوالي المئة ثلثهم من النساء، وثلثهم ولدوا في ثلاثينيات القرن العشرين، هذا لا يعني أن جميع الذين ألّفوا القصة القصيرة من المجيدين في هذا الفن؛ فالمبرزون منهم لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين.
وتجدر الإشارة إلى أن أغلب الذين كتبوا القصة القصيرة من اللبنانيين كتبوا كذلك الرواية، وهي حديثة في الأدب. والكلمة تعني االجديدب، والتي باتت في ازدهار مطّرد. ومما تجدر ملاحظته أن القصة القصيرة في العالم العربي في الآونة الأخيرة أخذت تتراجع أمام الرواية التي باتت تلقى اهتمام الكتّاب والنقّاد بفضل أفلام السينما والمسلسلات التلفزيونية - وما أكثرها - والتي تتعدد شخصياتها وتتصارع وتتشابك أحداثها، وقد باتت تنافس الشعر الذي هو ديوان العرب■
أمين الريحاني