ذكرى الانقطاع وذكريات العودة

يأتي شهر أغسطس كلّ عام ليذكّرنا في مجلة العربي بانقطاعها القسري عن الصدور قبل ثلاثين عامًا، نتيجة الاحتلال العراقي الغاشم لدولة الكويت، ويأتي شهر أغسطس أيضًا ليذكّرنا بأنه شهر التحضير النهائي لعودة «العربي» لقرائها في سبتمبر 1991، بعد انقطاع استمر عامًا كاملًا.
قد لا يعرف الكثيرون أن «العربي» وُلدت ثلاث مرات في تاريخها؛ الأولى في ديسمبر 1958، عندما صدر عددها الأول من الكويت، حتى أغسطس 1990، والولادة الثانية في سبتمبر 1991، عندما انطلقت كطائر الفينيق من أرض الكنانة مصر، واستمرت لأكثر من عام، وأخيرًا عادت لتولد مجددًا من أرض الكويت المحررة في مارس 1993 .
لقد أرّخت صفحة «عزيزي القارئ»، التي تعدّ من الأبواب الثابتة على صفحات «العربي»، محطات كثيرة من تاريخها الطويل، فمن خلالها تخاطب المجلة متابعيها عن الأمور التي تخصّها وتخصّهم وتخصّ الأحداث المهمة التي تقع في الوطن العربي والعالم، وكان من بين تلك الأحداث كارثة احتلال بلد عربي من قِبَل بلد عربي آخر في زمن كان على مشارف نهاية صراع المعسكرين الرأسمالي - الشيوعي، وصعود قطب واحد ستهيمن أفكاره ورؤاه لاحقًا على جميع أرجاء المعمورة.
العودة المظفّرة من القاهرة
لقد اكتسبت صفحة «عزيزي القارئ» في عدد سبتمبر 1991، الذي دشّن عودة مجلة العربي إلى الأسواق أهميّة خاصة، لأنها وثّقت تلك العودة المظفرة بكلمات أطفأت نار الشوق المتبادل بين «العربي» ومتابعيها، بعد انتظار طال أمدُه، كما حمل ذلك العدد المدمج (382 – 394) دلالة بليغة تؤكد أنّ عودة المجلة للصدور، في مقدمة أولويات سياسة إعادة الإعمار التي انتهجتها الحكومة الكويتية، التي لم تنتظر عودة الحياة الاعتيادية في مرافق الدولة ومؤسساتها، وفضّلت عودة «العربي» في أسرع وقت، وهذا ما تم بعد عدة أشهر من تحرير دولة الكويت، عندما صدرت «العربي» من القاهرة بشكل مؤقت.
أما العدد 412 (مارس 1993)، الذي أعلن فيه بصفحة «عزيزي القارئ» عن الميلاد الثالث لمجلة العربي، وأعلن فيه صدورها من قلب الكويت، فكان عددًا مميزًا في توقيته ومحتواه الذي تعامل مع ذلك الحدث النوعي بكثير من الترفُّع والنأي عن التوظيف السياسي له، واكتفى ببثّ ذلك الخبر في تلك الصفحة، ودون أيّة إشارة على غلاف المجلة.
نقلة نوعية تعطّلت
عند الحديث عن ذكرى الانقطاع وذكريات العودة لمجلة العربي، تدور في الذهن أسئلة عن محتويات العدد الأخير للمجلة، الذي صدر في أغسطس 1990، وغابت بعده، هل يوجد فيها ما يلفت النظر أو ما يعدّ مصادفة حملت توقّعات لشيء ما قادم؟
من دون مبالغة، لم أجد سوى التطلعات الواعدة للمستقبل والخطوات العملية لتطوير بيئة العمل الفنية داخل المجلة، ولم تكن صفحة «عزيزي القارئ» سوى المكان الذي أعلنت فيه «العربي» تطلّعاتها.
حملت تلك الصفحة عنوانًا واعدًا هو «مساهمة في النقلة النوعية» وقرارًا مهمًا بمواكبة «العربي» للعصر، عبر استخدام التقنية المتطورة في عمليات ما قبل الطبع.
لا أنكر أن الشعور بالحسرة يتملّكني كلّما قرأت أسطرها، وتذكّرت التاريخ الذي نُشرت فيه، ولا أشكّ للحظة في أن هذا الشعور يخصّني وحدي، فقط يكفينا أن نتذكّر أن تلك الأسطر كُتبت قبل ثلاثين سنة عن عالَم نعيش فيه اليوم في حالة اندماج كامل مع التقنيات الحديثة والسرعات الضوئية في التواصل.
أترككم قليلاً لنقرأ أهم ما جاء في «عزيزي القارئ»، وتذكّروا أنه نُشر في أغسطس 1990م.
«دخلت التقنية الحديثة عالَم النشر بقوّة، وباتّساع لم يكن متخيلًا حتى منذ سنوات قليلة، ونحن - المخضرمين في «العربي» - درجنا على النمط القديم في تحضير المادة للنشر من طباعة وتصحيح، ثم إعادة طباعة وتجهيز عن طريق القصّ واللصق، ثم إخراج الصفحات وخطّها من قبل الخطاطين، وإرسالها أخيرًا للمطبعة.
كل هذه الخطوات الطويلة التي تحتاج إلى مجموعة من البشَر ووقت طويل، أنهتها التقنية الحديثة بضغطة أصبع، إن صحّ التعبير، وذلك بوجود جهاز حاسوب متعدّد البرامج وبثمن، أيضًا، ليس كبيرًا، وعندما حاولنا التعرُّف إلى هذا المجال الجديد، وجدنا أنّ التطور فيه يكاد لا يُصدّق.
ومن خلال الإنتاج العربي ونظيره الغربي، هنا لا نقصد به ما يُسمّى بـ «هارد وير»، ولكن الـ «سوفت وير»، أي إنتاج البرامج العربية، فأنت تستطيع أن تُدخل النص من خلال الحاسوب، ويقوم هو بتصحيحه عربيًا، حسب رغبة المصحح المبرمج، إن كان ثمّة خطأ، ويعطيك خيارات في المفردات، ثم تستطيع أن تُخرج الصفحات وأنت تشاهدها على شاشة الحاسوب، وتحدّد أنواع الخطوط التي تريدها، والمساحات المتروكة للصور. وبسرعة تختصر الزمن، أي أنّ خطوات ما قبل الطبع تختصر الوقت والجهد اختصارًا شديدًا، وتقدّم نتيجة أفضل في ضبط الصفحات.
لماذا نقول هذا الكلام الآن؟ لأننا في «العربي» قرّرنا - بمشيئة الله – مواكبةَ العصر، واستخدام التقنية المتطورة في عمليات ما قبل الطبع، وسيجد القارئ، بدءًا من مطلع العام القادم، نتيجة هذا الاستخدام التقني ظاهرة بيّنة أمامه، لتقديم طباعة وإخراج أفضل.
هذه خطوة بسيطة صغيرة، من ضمن خطوات أكبر وأعظم تنتهجها دولة الكويت، تنفيذًا لرغبة أميرها المنفتح على العصر، والعارف بأهمية العلم والمعرفة، فدعوته لنقلة حضارية متميّزة في التسعينيات شملت أركانًا ومشروعات عدّة في الكويت، وأهم من ذلك أن روحها قد سرَت لدى الجيل الطالع، الطامح إلى أن تحتّل بلاده مكانًا أفضل في جميع المجالات».
انتهت الأسطر المتعلّقة بالنقلة النوعية وإعلان «العربي» لمشروعها الطموح لمواكبة العصر، وفي الشهر نفسه وقع الغزو العراقي الغاشم لدولة الكويت، وتعطل مشروع «العربي».
المستقبل همّنا المشترك
بعد الانقطاع القسري، أتى العدد الأول لمجلة العربي في سبتمبر 1991، مازجًا بين فرحة العودة وألم البُعاد، بين ضرورة توثيق الحدث العربي الدامي، ومواصلة الرسالة الثقافية الجامعة لكل العرب، لقد أجاب ذلك العدد التاريخي الذي صدر من القاهرة عن سؤال ثقيل لا مفرّ من طرحه، وهو هل ستكون «العربي» بعد عودتها مثل «العربي» قبل الاحتلال العراقي الغاشم لدولة الكويت؟
لقد كان جواب «العربي» مباشرًا في عنوان حديث الشهر لرئيس التحرير د. محمد الرميحي «نتسامح.. ولا ننسى»، وعمليًا في محتويات ذلك العدد وأبوابه التي واصلت تقديم مواضيعها ومقالاتها الأدبية والثقافية وغيرها، مع حضور واضح للمواضيع المتعلّقة بجريمة احتلال الكويت.
أما صفحة «عزيزي القارئ» فتضمّنت ما يعدّ جوهر سياسة التحرير في المرحلة التي ستأتي: «لن نتحدث عن الماضي إلّا بمقدار ما يخدم حديثنا المستقبلي، فالمستقبل هو هّمنا المشترك».
لقد أجابت «العربي» عن السؤال الثقيل، وكرّست سياستها التحريرية في جميع أعدادها اللاحقة، رغم شدة الألم ومرارة الحدث، ولعلّ كلمات صفحة «عزيزي القارئ» في عدد سبتمبر 1991 تؤكد ذلك، فيما يلي أهم ما ورد فيها:
«ونعود إليك عزيزي القارئ...
نعود إليك أكثر لهفة وأشد شوقًا وأعظم طموحًا...
نعود وقد اختزن كل منّا في أعماقه عامًا كاملًا من تجربة لم يعرف تاريخنا العربي الحديث لها مثيلًا.
في أغسطس (آب) 1990، صدر العدد الأخير من مجلتك «العربي» من الكويت، كويت الثقافة وكويت العروبة وكويت الإسلام. وفي سبتمبر (أيلول) 1991 تستأنف «العربي» صدورها مؤقتًا من أرض الكنانة مصر، مصر الثقافة ومصر العروبة ومصر الإسلام، وهذا الانقطاع القسري، على مدى عام كامل، لم يكن وقفًا على مجلتك «العربي» وحدها، إنّما طال الحياة العربية بأسرها ثقافة وفكرًا وسياسة واقتصادًا.
عدوان النظام العراقي على الكويت استهدف أول ما استهدف الثقافة؛ لأنّ الثقافة هي منارة الشعوب. وكانت قوات صدام حسين تريد الكويت من دون منارات، أرضًا للموت والخراب والظلام، لذلك لم يكن مستغربًا أن تتحول «العربي»، وسواها من المنابر الثقافية والفكرية في الكويت، إلى أهداف عسكرية، تُنْهَبُ وتُحْرَقُ وتُدَمَّرُ، ولا يبقى لها أثر.
وانتصرت، عزيزي القارئ، قضية الكويت، انتصرت بكَ ومعك، وكان قرار إعادة إصدار «العربي» في قائمة الأولويات، لأنّ دروس المحنة علّمتنا أن الاستبداد والإرهاب والغزو واجتياح الشقيق العربي المسالم كلّها من ثمار عصور الانحطاط، وعصور الظلام وعصور العقم العربي، وأن الانتصار عليها لا يكون إلّا بالمعرفة والثقافة والتنوير.
وها نحن نعود إليك مع مطلع كل شهر، لن نتحدّث عن الماضي إلّا بمقدار ما يخدم حديثنا المستقبلي، فالمستقبل هو هّمنا المشترك، ومعك، وبمشاركتك، سوف نسعى إلى بناء الغد الأجمل لنا جميعًا، ولعلّ في آلاف الرسائل والمقالات التي تناولتها وسائل الإعلام - في ذروة الاحتلال الأسود، عن دور الكويت في إغناء الثقافة العربية والإسلامية، والدور الذي لعبته «العربي» بالذات، في مواكبة التيارات الثقافية العربية على اتساعها - ما يعيننا على مواصلة الدرب الطويل معك. وإلى اللقاء دائمًا مع مطلع كل شهر».
الميلاد الثالث والأخير
بعنوان «الميلاد الثالث» أعلنت «العربي» في العدد 412 (مارس 1993) من خلال صفحة «عزيزي القارئ»، عن نهاية مرحلة صدورها المؤقت من القاهرة، وبدء صدور أول أعدادها من مكتبها الرئيسي في الكويت، وهي العملية التي لا تزال مستمرة، بفضل الله، حتى هذه اللحظة في الفقرة الأولى، وقد تم تأكيد ما كان مؤكدًا من قبل فيما يخص هوية المجلة وطبيعة رسالتها، ولكن آثار غبار الاحتلال وتضارُب المواقف العربية بعد احتلال دولة الكويت فرضت بعض التوضيحات، وهذا ما سنجده في الأسطر التالية:
«يأتيك هذا العدد صادرًا من قلب الكويت، ليكتب تاريخ الميلاد الثالث لمجلة تمثّل صورة مضيئة لوطن صغير في ساحة وطن أكبر تشمله الحروف العربية بظلال حناياها واستقاماتها وانكساراتها أيضًا.
ولعل تاريخ الثقافة العربية المعاصر لم يشهد مجلة ظاهرة كهذه المجلة، التي رسم مسار ظهورها واحتجابها وعودتها تخطيطًا للوحة كبيرة، تشير إلى آمال وآلام الضمير العربي في العقود التي شهدت رحلة هذه المجلة.
فمنذ قرابة خمسة وثلاثين عامًا، وُلدت «العربي» لتكون صرحًا كويتيًا لجامعة عربية في حقل الثقافة، وظلّت تتألّق لأكثر من ثلاثين عاماً، تحرسها عين الكويت وترعاها قلوب العرب، حتى تعرّضت للاغتيال ضمن محاولة الدكتاتور لاغتيال مهدها... الكويت.
لكنّها نجت مع نجاة الكويت، وكان ميلادها الثاني شجيًّا كأفراح القلب المترع بالأحزان، فقد استضافتها عاصمة العرب - القاهرة - بينما كانت الكويت تضمّد جراحها. وها هي «العربي» تعود لتُولد مرة ثالثة كويتية القلب، عربية العقل والضمير، رغم جسامة الجرح الذي أصاب الفؤاد العربي بفعل خنجر مسموم لدكتاتور تُثبت الأيام أكثر فأكثر أنه لم يكن إلّا ظاهرة ضد التاريخ العربي».
أغسطس مختلف
بعد عشر سنوات تقريبًا من تاريخ تلك الأسطر سقط الدكتاتور ومعه نظام البعث، لتدخل العلاقات الكويتية – العراقية بشكل عام و«العربي» مع قرائها في العراق بشكل خاص مرحلة جديدة برز أوّل ملامحها في صفحة «عزيزي القارئ» (أغسطس 2003)، وكانت بعنوان «أغسطس مختلف»، كشفت فيها دخولها لبعض المدن العراقية وتوزيعها بالمجان.
لقد كان العدد التاريخي هو الأول الذي يحلّ على الكويت والعراق و«العربي» في شهر أغسطس بعد رحيل النظام الباغي، وقد أجادت «عزيزي القارئ» توثيق ذلك الحدث، وهذا أهم ما ورد فيها:
«يصدر هذا العدد من مجلة العربي وسط متغيّرات كثيرة، فشهر أغسطس الذي تعوّدنا أن يذكّرنا بتجربة الاجتياح الغاشم الذي قام به نظام البعث العراقي ضد دولة الكويت في مثل هذا الشهر من عام 1990، تحلّ الذكرى وهذا النظام المتعجرف قد هوى، وأصبح في عداد التاريخ، وتحرّر الشعب العراقي أخيرًا بعد أكثر من ثلاثة عقود من الاستبداد والقمع والمقابر الجماعية للرجال والنساء والأطفال، كانت نتيجتها هذا الواقع الذي نراه، حروبًا ودمارًا وخرابًا ضد العراق وجيرانه، ثم ضد الشعب العراقي أيضًا، ولم ينته الأمر إلا وقوات التحالف الغربي تقيم على أرضه.
إننا في هذه الذكرى الثالثة عشرة ندعو إلى أن تنزاح تلك الفترة المضطربة من عُمر الشعب العراقي وجيرانه وأشقائه، وأن يظفر الشعب العراقي في النهاية بكامل حريّته.
ومنذ ثلاثة أشهر ومجلة العربي تصل إلى بعض المدن العراقية، وتوزع بالمجان، في محاولة منها لتعويض سنوات القحط الطويلة التي حوصر فيها هذا الشعب العربي الباسل، ومنعت عنه كل أنواع المطبوعات حتى لا يقرأ ولا يسمع رأيًا يخالف رأي النظام الذي كان يحكم.
الآن تعود «العربي» للقيام بدورها في لمّ شمل وردم هوّة القطيعة بين المثقفين العراقيين وزملائهم العرب، وهي تؤمن بأنّ أفضل وسيلة تساهم في زيادة قدرة المواطن العراقي على استشراف المستقبل هي إحساسه بأنه ليس وحيدًا، وبأن هناك رصيدًا عربيًّا له سوف يؤازره دائما في وقت الأزمات».
في الختام، لقد تبدلت الأحوال فيما أتى ما بعد رحيل نظام البعث العراقي، وفُتحت صفحة جديدة مشرقة في تاريخ العلاقات بين البلدين الشقيقين؛ الكويت والعراق، لتعود الحركة في مياه التواصل بين الشعبين، وليحلّ الإخاء مكان الجفاء، وتنتهي حقبة الجمود والقلق والتوتر.
وفي الحقيقة، لم تتأثر العلاقات بين الكويت والعراق على الصعيد الاجتماعي سوى بالانقطاع عن التواصل المباشر، وقد اختارت الكويت منذ البداية حصر الخلاف مع النظام البائد، وأخرجت الشعب العراقي من المعادلة، إلى أن تحقق التغيير المنشود، لتثبت الكويت أن قلبها مفتوح للعراق والعراقيين في أكثر من مناسبة، وآخرها تنظيم الكويت المؤتمر الدولي لإعادة إعمار العراق في منتصف شهر فبراير 2018م.
لقد كان بالإمكان ألّا تكون لمجلة العربي سوى ولادة واحدة من أرض الكويت، لكن شاءت الأقدار أن تسير الأمور بطريق غير متوقعة، تتوقف عن الصدور قسرًا، تصدر من القاهرة مجددًا وتطبع 18 عددًا، ثم تعود لتصدر من الكويت، لتثبت «العربي» قدرتها على العودة والتجدد، ويثبت عشاقها ومتابعوها مكانتها في قلوبهم ■