أسلوبُ الحكيم... من ريادة المتون إلى تبعيّة الهوامش
تتملّك القارئَ الحَيرةُ حين يقرأ عن هذا الفن البلاغي الأصيل؛ فلا يدري أَإِلى أودية الإعجاب يركَنُ ويميل؟ أم إلى عالَم الإشفاق يأوي ويلجأ؟! فإذا سألتَ: وما أسباب تلك الحيرة؟ وما مبعثها؟ أليس هذا الأسلوب أسلوبًا بلاغيًا معتبَرًا؟ ألم يخلّده القرآن الكريم باستخدامه، وكثرة شواهده؟! أجبتك: بأنَّ ما ذكرتَ هو وادٍ من أودية الإعجاب التي ركَنّا من طرَفٍ إليه، ولكنّ ذلك الإعجاب خالطه عَجَبٌ، وسايرته حيرة وشفقة؛ ذلك أن هذا الفن قد تناوشته سهام الغبن والتهميش حينًا، وسهام الخلط والتجاهل حينًا آخر، فبالرغم من تعدّد شواهده، وكثرة دورانه في الكلام العربي وفي الطليعة منه القرآن الكريم، على ما ذكرتَ، فإنّه قد طالته رياح الاختلاف، ولحقته أوهام الخلط.
العجيب أنّه لم تنجُ من ذلك حتّى تسميته؛ فتارة يُسمّى االلغز في الجوابب، وهي تسمية الجاحظ له في االبيان والتبيينب، وتارة يُطلق عليه االمغالطةب، وهي تسمية أطلقها عليه الخطيب القزويني في كتابه االإيضاح في علوم البلاغةب، وعَزاها إلى عبدالقاهر الجرجاني، وتارة تجده تحت عنوان االكلام بالموجِبب، وأوّل من ابتدع هذه التسمية ابن أبي الإصبع المصري في كتابه ابديع القرآنب، وتبعه فيها بعض البلاغيين، بل إن تسمية اأسلوب الحكيمب ذاتها قد نالها من الاختلاف ما نال أخواتها السابقات؛ فحينًا تأتي على الصورة السالفة الذِّكْرِ بتنكير كلمة اأسلوبب وتعريفها بالإضافة إلى االحكيمب، فتصبح الحكمة هنا وصفًا للمتكلّم، وحينًا يُسمّى بـ االأسلوب الحكيمب، فيكون الوصف بالحكمة للكلام أو للأسلوب نفسه، وهي تلك التسمية التي ارتضاها له السَّكاكي في كتابه امفتاح العلومب، وسار على هديها من تبعه ممن اشتغلوا بعلوم البلاغة؛ تلك العلوم التي أبى اأسلوب الحكيمب منذ ولادته أن يأوي إلى إحداها، وإنما تنازعه منها اثنان من بين علومها الثلاثة؛ إذ نُسب - في بداياته - إلى علم المعاني، فلمّا تميّز علم البديع عن غيره ألحقوه به، وجعلوه ضمن االمحسّنات المعنويةب تحديدًا. أرأيتَ الآن من أين انتابتني تلك الحيرة، وغمرني ذاك الإشفاق؟! ولولا أن الزيادة والاستفاضة عن هذا الحدّ قد تخرج بهذا المقال عن غرضه لرأيتَ أنّ ما ذكرتُه لك هو غيضٌ من فيض، فإنْ كان لك رغبة في الزيادة زِدتك على شرط أن نرجـــــئ ذلك إلى بيان المقصــــود بأسلوب الحكـــــيم، وأنواعه وأهم شواهده، وقيمته الفنية، وأوجه الجناية عليه.
أمّا عن المقصود بأسلوب الحكيم، فبالرغم من تعدُّد تعريفاته في كتب البلاغة، فإنّ تعريف السكاكي له يُعد من أوفى التعريفات الجامعة المانعة؛ إذ عرّفه بـ اتَلقّي المخاطب بغير ما يترقّب، أو السائل بغير ما يتطلّبب (انظر مفتاح العلوم ص 327)، وقد تلقّى جمهور البلاغيين هذا التعريف بالقبول؛ حيث جمع بين نوعي ذلك الأسلوب.
وقد شرح القزويني ذلك التعريف ووضحه بقوله: اتَلقّي المخاطب بغير ما يترقّب، بحمل كلامه على خلاف مراده، تنبيهًا على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره، تنبيهًا على أنه الأولى بحاله، أو المهم لهب (الإيضاح في علوم البلاغة، ج2، ص94).
وفي سبيل إيضاح هذا الأسلوب يقول علي الجارم في كتاب االبلاغة الواضحةب ص295: قد يخاطبك إنسان أو يسألك سائل عن أمر من الأمور، فتجد من نفسك ميلًا إلى الإعراض عن الخوض في موضوع الحديث أو الإجابة عن السؤال لأغراض كثيرة، منها أن السائل أعجز من أن يفهم الجواب على الوجه الصحيح، وأنه يَجْمُل به أن ينصرف عنه إلى النظر فيما هو أنفع له وأجدى عليه، ومنها أنّك تخالف مُحدِّثَك في الرأي، ولا تريد أن تَجْبَهَه برأيك فيه. وفي تلك الحال وأمثالها تصرفه في شيء من اللباقة عن الموضوع الذي هو فيه إلى ضرب من الحديث تراه أجدر وأولىب.
ومن بيان مقصود ذلك الأسلوب نلمح جانب الحكمة فيه؛ فقد تنصرف تلك الحكمة إلى ذلك المُخاطَب الذي ينأى بنفسه عن الانسياق وراء مجريات حديث يرى أن العدول عنه أولى من الخوض فيه، فيحوّل - بحنكته ولباقته - دفّة الحديث إلى ما ينبغي السؤال عنه من غير إحراج للسائل، فيجنّب نَفْسَه وسائلَه محاذير غلظة الرَّدِّ على سؤال ما كان له أن يُسأل أو يطرح وغيرُه أظهرُ للطرح منه وأولى بالتقديم عليه. وقد تنصرف الحكمة إلى الأسلوب نفسه بطرح بديل مقنع لذلك السؤال المطروح، على أنّ معاني الحكمة في كلا طرفي الأسلوب موجودة، ولا يعني وجوُدها في طرفٍ نفيَها عن الآخر بأيّ حال من الأحوال؛ فأنَّى الحكمة لأسلوب من غير صاحبِه؟! وأنّى الحكمة لقائل من غير أسلوب يتبعه، وبيان يأتي على لسانه؟!
شواهده وقيمته الفنية
لأسلوب الحكيم شواهد كثيرة، وفي آي القرآن الكريم منه ستّة عشر موضعًا، أكثرها دورانًا على الألسنة قوله تعالى: ايَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّب (سورة البقرة :189).
نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بن جبل وثعلبة بن غنمة الْأَنْصَارِيَّيْنِ قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما بال الهلال يبدو دَقِيقًا ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَمْتَلِئَ نُورًا، ثُمَّ يَعُودُ دَقِيقًا كَمَا بَدَأَ وَلَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ايَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ (تفسير البغوي).
فقد سأل الصحابة رسول الله عن الهلال لِمَ يبدو صغيرًا مثل الخيط، ثم يعظُم ويستدير ثم ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان؟ فنزل قوله تعالى: اقُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّب، فصرفهم إلى بيان الحكمة من الأهِلَّةِ وكأنه يقول لهم: كان الأولى بكم أن تسألوا عن حكمة خلق الأهِلَّةِ لا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره. ومنه ما روي عن أبي رَمْثة - رضي الله عنه - أنَّه قال للنبي : أَرِني هذا الذي بظهرك، فإنِّي رجلٌ طبيبٌ، قال: اللهُ الطبيبُ، بل أنت رجلٌ رَفِيقٌ، طبيبُها الذي خلقَها (رواه أبو داود وأحمد).
وكان مقتضى الظاهر أن يقول له الرسول الكريم: هاك كتفي، انظر الخاتم الذي عليه، واحكم إن كان هو من مرض أم لا؟ ولكنّ الرسول الكريم عدل عن مقتضى الظاهر، وحمل كلام أبي رمثة على غير مقصده ومُراده، ليلفت نظره إلى أنه كان الأولى به أن يعلم أنه خاتم النبوة فيصدّق النبي ويؤمن به، لا أن يبحث عن مرض فيعالجه، فما على كتف النبي الكريم خاتم النبوة، وعلامة على صدقه، وليس مرضًا يحتاج إلى علاج، فالأولى بأبي رمثة أن يؤمن بالله عز وجل، فيعالج قلبه بنور الإيمان، لا أن يبحث عن مرض على كتف الرسول الكريم فيعالجه.
وسأل رجل بلالًا - وقد أقبل جهة الحلبة - مَن سبق؟ قال: سبق المقرّبون، قال: إنما أسألك عن الخيل؟ قال: وأنا أجيبك عن الخير.
ومن أمثلته المشهورة ما وقع بين الحجَّاج وبين يوسف بن الغضبان القبعثري، وكان الحجاج قد حبسه، فدعا به يومًا، وقال: زعموا أنه لم يكذب قطُّ، وليكذبنَّ اليوم، فقال له لمّا أُتي به: سَمِنتَ يا غضبان! قال: القيد والرّتعة، والخفض والدّعة، وقلة التعتعة، ومن يكُ ضيف الأمير يسمن، قال: أتحبّني يا غضبان؟ قال: أوَ فرقًا خيرٌ من حُبّين، قال: لأحملنّك على الأدهم، قال: مِثل الأمير يَحمل على الأدهم والكُميتِ والأشقر، قال: إنه حديد، قال: لأن يكون حديدًا خيرٌ من أن يكون بليدًاب (انظر كتاب الأمثال، ص 56، لمحمد بن سلام بن عبدالله الهروي البغدادي، تحقيق عبدالمجيد قطامش، دار المأمون للتراث، ط1، 1980).
ومن أمثلته الشعرية قول ابن حجاج البغدادي:
قال: ثَقّلْتُ إذ أتيتُ مِرارا
قلتُ: ثقّلتَ كاهلي بالأيادي
قال: طَوَّلتُ، قلتُ: أوليتَ طوْلا
قال: أبرمتُ، قلتُ: حبل ودادي
لقد أخذ الشاعر هنا ظاهر كلام صاحبه وحمله على غير مراده، فالضيف يخاطبه قائلًا: تراني قد أثقلت عليك بضيافتي، فيجيبه: نعم ثقّلتَ، ولكنّك ثقّلتَ كاهلي بفضلك ونعمك عليّ إذ اخترتني مضيفًا لك، فأكرمتني بنزولك، وبتكرار زيارتك. وإذا كان الظاهر من كلمتي اطولت، وأبرمت، هو طول مدة الإقامة مما يسبّب ضجر المضيف وتبرّمه، فإنّ الشاعر قد حمل كلام ضيفه على غير مراده، فجعل الطول بمعنى الفضل والتفضّل، وحوّل معنى التبرّم من معناه السيئ إلى معناه الحسَن، وهو إبرام حبل الوداد والصفاء، مما يُشعر بالترحاب لا الضجر والملال.
والشواهدُ على أسلوب الحكيم في أدبنا العربي؛ قديمِه وحديثِه كثيرةٌ؛ شعرًا ونثرًا.. على أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا الأسلوب قد أُدرج في كتب البلاغة تحت باب المحسنّات البديعية، فإذا عاودتَ السؤال فقلت: وما الضّير في ذلك؟ قلت لك: لا ضير في حال وقفَ باب البديع نِدًّا لِبَابيِّ البيان والمعاني، فأضحت النظرة إليه معادلة للنظرة لأحدهما أو كليهما سواء بسواء، أمّا أن يُنظر إلى علم البديع - وأسلوب الحكيم في الذيل منه - على أنه فَضْلة ومجرد حِلَىً لفظية أُتي بها للشكل والزينة، فهذا ما فيه الضير كل الضير!
إنّ في القرآن الكريم وأحاديث النبي من البديع ما فيهما من المعاني والبيان، وقد بلغا بها جميعًا الذروة في الفصاحة والبلاغة، ولم يُنظر فيهما إلى بابٍ نظرةً أقلّ من نظرة إلى غيره، فلماذا إذن يتأخر البديع بفنونه عن غيره في التمثيل والمعالجة وحُسن التناول؟! وإذا كان هذا ظاهرًا مع فنون البديع بَيّنًا واضحًا فيها فإنه مع اأسلوب الحكيمب أظهر وأَبْيَن وأوضح؛ إذ يكفيك أن تنظر إليه في كتب البلاغة مقارنة بفنّ من فنون البيان، أو أسلوب من أساليب المعاني لتتّضح أمامك الصورة بغير عناء، سواء من حيث التمثيل والاستشهاد كمًّا، أو التناول والمعالجة كيفًا، أو الموقع والموضع من تلك الكتب مكانًا ومحَلًّا، بل يكفيك أن تنظر إليه مقارنة مع رصفائه وبني جِلدته من فنون البديع لترى مدى الغبن الذي وقع عليه، فكأنه رضي مشاركة فنون البديع ظلمًا وقع عليها فأبت عليه إلّا أن يظلم معها ومع غيرها؛ ليجتمع عليه ما تفرّق على غيره، ولسان حاله يقول:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة ً
على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّد ِ
مظاهر الجناية عليه
إن من أوجه الجناية على أسلوب الحكيم - ناهيك بما سبق - أنه لم يُنظر إليه في إطار المنظوم الفكري للمصطلح ضمن مصطلحات علم البديع الأخرى، كما لم يُنظر إليه في إطاره الحديث باعتباره وجهًا من أوجه الحِجَاج، والإشارة إلى اتداوليةب هذا المصطلح، وأوجه استعماله في الثقافة العربية.
وبالرغم من دقة السَّكاكي، وضبطه كثيرًا من التعريفات التي أضحى مَن بعده عيال عليه فيها، فإنهّ بتقعيده، وتوظيفه المنطق في علوم تُعد الكلمة العليا فيها للذائقة الأدبية قد أسهم في جعلها مجرد زينة ووشي، فانزوت تلك العلوم وفي مقدمتها أسلوب الحكيم في ركن الزينة بدلًا من أن تكون أساسًا تنبني عليه مقاربة الحقيقة وتأسيسها، بالرغم من تماسّها مع القضايا اللغوية التداولية والقضايا الحجاجية، ولسانيات النص.
هذا، إضافة إلى اتهام هذا الأسلوب بأنّه وسيلة للهروب من الحقيقة باتخاذه ستارًا يتوارى خلفه السياسي، وقناعًا يرتديه بعض شيوخ الدين، وغيرهما ممّن يجيدون فنون المناورة والمداورة في رحلة التخفّي، وعدم القدرة على الصراحة والمواجهة، وهذا، لعمرُك، لا يتحمّل أسلوب الحكيم وزر مقترفيه، إذ ظهر وجهه المشرق المضيء في كثير من النماذج الخالدة التي كُتب لها البقاء والخلود كآي الذِّكْر الحكيم، والأحاديث النبوية الشريفة، فإذا ما جئنا إلى تمثيله في الشعر والنثر وجدنا كثيرًا من نماذجه وقد حلّقت عاليًا عندما ارتقت نفوس أصحابها.
إن أسلوب الحكيم بحاجة إلى إعادة نظر، أو إن شئت قل: اردّ اعتبارب، فيحتل المكان الذي به يليق، والمكانة التي هو بها جدير، ولها مستحِق، فتُفرد له صدور الكتب بدلًا من ذيولها، ويتعلّمه الناشئة في المدارس لتتربّى ذائقتهم على مثل تلك الفنون الأدبية الراقية، ويُعرض بأسلوب حكيم يناسب اسمه وعنوانه، فلا تُنقل أهميته من المتن إلى الهامش؛ فيُضْحي صِنوًا للمعنى لا طِلاء للشكل! فهل ما زلنا بتلك الحكمة التي لا ترى عيبًا في إعادة النظر فيما يستحق إعادة نظر؟■
شواهد كثيرة لأسلوب الحكيم في ستة عشر موضعاً