أسلوبُ الحكيم... من ريادة المتون إلى تبعيّة الهوامش

أسلوبُ الحكيم... من ريادة المتون إلى تبعيّة الهوامش

‭ ‬تتملّك‭ ‬القارئَ‭ ‬الحَيرةُ‭ ‬حين‭ ‬يقرأ‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬البلاغي‭ ‬الأصيل؛‭ ‬فلا‭ ‬يدري‭ ‬أَإِلى‭ ‬أودية‭ ‬الإعجاب‭ ‬يركَنُ‭ ‬ويميل؟‭ ‬أم‭ ‬إلى‭ ‬عالَم‭ ‬الإشفاق‭ ‬يأوي‭ ‬ويلجأ؟‭! ‬فإذا‭ ‬سألتَ‭: ‬وما‭ ‬أسباب‭ ‬تلك‭ ‬الحيرة؟‭ ‬وما‭ ‬مبعثها؟‭ ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬أسلوبًا‭ ‬بلاغيًا‭ ‬معتبَرًا؟‭ ‬ألم‭ ‬يخلّده‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬باستخدامه،‭ ‬وكثرة‭ ‬شواهده؟‭! ‬أجبتك‭: ‬بأنَّ‭ ‬ما‭ ‬ذكرتَ‭ ‬هو‭ ‬وادٍ‭ ‬من‭ ‬أودية‭ ‬الإعجاب‭ ‬التي‭ ‬ركَنّا‭ ‬من‭ ‬طرَفٍ‭ ‬إليه،‭ ‬ولكنّ‭ ‬ذلك‭ ‬الإعجاب‭ ‬خالطه‭ ‬عَجَبٌ،‭ ‬وسايرته‭ ‬حيرة‭ ‬وشفقة؛‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬قد‭ ‬تناوشته‭ ‬سهام‭ ‬الغبن‭ ‬والتهميش‭ ‬حينًا،‭ ‬وسهام‭ ‬الخلط‭ ‬والتجاهل‭ ‬حينًا‭ ‬آخر،‭ ‬فبالرغم‭ ‬من‭ ‬تعدّد‭ ‬شواهده،‭ ‬وكثرة‭ ‬دورانه‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬العربي‭ ‬وفي‭ ‬الطليعة‭ ‬منه‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ذكرتَ،‭ ‬فإنّه‭ ‬قد‭ ‬طالته‭ ‬رياح‭ ‬الاختلاف،‭ ‬ولحقته‭ ‬أوهام‭ ‬الخلط‭. ‬

العجيب‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬تنجُ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬حتّى‭ ‬تسميته؛‭ ‬فتارة‭ ‬يُسمّى‭ ‬االلغز‭ ‬في‭ ‬الجوابب،‭ ‬وهي‭ ‬تسمية‭ ‬الجاحظ‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬االبيان‭ ‬والتبيينب،‭ ‬وتارة‭ ‬يُطلق‭ ‬عليه‭ ‬االمغالطةب،‭ ‬وهي‭ ‬تسمية‭ ‬أطلقها‭ ‬عليه‭ ‬الخطيب‭ ‬القزويني‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االإيضاح‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬البلاغةب،‭ ‬وعَزاها‭ ‬إلى‭ ‬عبدالقاهر‭ ‬الجرجاني،‭ ‬وتارة‭ ‬تجده‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬االكلام‭ ‬بالموجِبب،‭ ‬وأوّل‭ ‬من‭ ‬ابتدع‭ ‬هذه‭ ‬التسمية‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬الإصبع‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬ابديع‭ ‬القرآنب،‭ ‬وتبعه‭ ‬فيها‭ ‬بعض‭ ‬البلاغيين،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬تسمية‭ ‬اأسلوب‭ ‬الحكيمب‭ ‬ذاتها‭ ‬قد‭ ‬نالها‭ ‬من‭ ‬الاختلاف‭ ‬ما‭ ‬نال‭ ‬أخواتها‭ ‬السابقات؛‭ ‬فحينًا‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬السالفة‭ ‬الذِّكْرِ‭ ‬بتنكير‭ ‬كلمة‭ ‬اأسلوبب‭ ‬وتعريفها‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬االحكيمب،‭ ‬فتصبح‭ ‬الحكمة‭ ‬هنا‭ ‬وصفًا‭ ‬للمتكلّم،‭ ‬وحينًا‭ ‬يُسمّى‭ ‬بـ‭ ‬االأسلوب‭ ‬الحكيمب،‭ ‬فيكون‭ ‬الوصف‭ ‬بالحكمة‭ ‬للكلام‭ ‬أو‭ ‬للأسلوب‭ ‬نفسه،‭ ‬وهي‭ ‬تلك‭ ‬التسمية‭ ‬التي‭ ‬ارتضاها‭ ‬له‭ ‬السَّكاكي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬امفتاح‭ ‬العلومب،‭ ‬وسار‭ ‬على‭ ‬هديها‭ ‬من‭ ‬تبعه‭ ‬ممن‭ ‬اشتغلوا‭ ‬بعلوم‭ ‬البلاغة؛‭ ‬تلك‭ ‬العلوم‭ ‬التي‭ ‬أبى‭ ‬اأسلوب‭ ‬الحكيمب‭ ‬منذ‭ ‬ولادته‭ ‬أن‭ ‬يأوي‭ ‬إلى‭ ‬إحداها،‭ ‬وإنما‭ ‬تنازعه‭ ‬منها‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬علومها‭ ‬الثلاثة؛‭ ‬إذ‭ ‬نُسب‭ - ‬في‭ ‬بداياته‭ - ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬المعاني،‭ ‬فلمّا‭ ‬تميّز‭ ‬علم‭ ‬البديع‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬ألحقوه‭ ‬به،‭ ‬وجعلوه‭ ‬ضمن‭ ‬االمحسّنات‭ ‬المعنويةب‭ ‬تحديدًا‭. ‬أرأيتَ‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬انتابتني‭ ‬تلك‭ ‬الحيرة،‭ ‬وغمرني‭ ‬ذاك‭ ‬الإشفاق؟‭! ‬ولولا‭ ‬أن‭ ‬الزيادة‭ ‬والاستفاضة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ‭ ‬قد‭ ‬تخرج‭ ‬بهذا‭ ‬المقال‭ ‬عن‭ ‬غرضه‭ ‬لرأيتَ‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬ذكرتُه‭ ‬لك‭ ‬هو‭ ‬غيضٌ‭ ‬من‭ ‬فيض،‭ ‬فإنْ‭ ‬كان‭ ‬لك‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الزيادة‭ ‬زِدتك‭ ‬على‭ ‬شرط‭ ‬أن‭ ‬نرجـــــئ‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬بيان‭ ‬المقصــــود‭ ‬بأسلوب‭ ‬الحكـــــيم،‭ ‬وأنواعه‭ ‬وأهم‭ ‬شواهده،‭ ‬وقيمته‭ ‬الفنية،‭ ‬وأوجه‭ ‬الجناية‭ ‬عليه‭. ‬

  ‬أمّا‭ ‬عن‭ ‬المقصود‭ ‬بأسلوب‭ ‬الحكيم،‭ ‬فبالرغم‭ ‬من‭ ‬تعدُّد‭ ‬تعريفاته‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬البلاغة،‭ ‬فإنّ‭ ‬تعريف‭ ‬السكاكي‭ ‬له‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬أوفى‭ ‬التعريفات‭ ‬الجامعة‭ ‬المانعة؛‭ ‬إذ‭ ‬عرّفه‭ ‬بـ‭ ‬اتَلقّي‭ ‬المخاطب‭ ‬بغير‭ ‬ما‭ ‬يترقّب،‭ ‬أو‭ ‬السائل‭ ‬بغير‭ ‬ما‭ ‬يتطلّبب‭ (‬انظر‭ ‬مفتاح‭ ‬العلوم‭ ‬ص‭ ‬327‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬تلقّى‭ ‬جمهور‭ ‬البلاغيين‭ ‬هذا‭ ‬التعريف‭ ‬بالقبول؛‭ ‬حيث‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬نوعي‭ ‬ذلك‭ ‬الأسلوب‭. ‬

وقد‭ ‬شرح‭ ‬القزويني‭ ‬ذلك‭ ‬التعريف‭ ‬ووضحه‭ ‬بقوله‭: ‬اتَلقّي‭ ‬المخاطب‭ ‬بغير‭ ‬ما‭ ‬يترقّب،‭ ‬بحمل‭ ‬كلامه‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬مراده،‭ ‬تنبيهًا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الأولى‭ ‬بالقصد،‭ ‬أو‭ ‬السائل‭ ‬بغير‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬بتنزيل‭ ‬سؤاله‭ ‬منزلة‭ ‬غيره،‭ ‬تنبيهًا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الأولى‭ ‬بحاله،‭ ‬أو‭ ‬المهم‭ ‬لهب‭ (‬الإيضاح‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬البلاغة،‭ ‬ج2،‭ ‬ص94‭).‬

  ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬إيضاح‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬يقول‭ ‬علي‭ ‬الجارم‭ ‬في‭ ‬كتاب‭    ‬االبلاغة‭ ‬الواضحةب‭ ‬ص295‭: ‬قد‭ ‬يخاطبك‭ ‬إنسان‭ ‬أو‭ ‬يسألك‭ ‬سائل‭ ‬عن‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬الأمور،‭ ‬فتجد‭ ‬من‭ ‬نفسك‭ ‬ميلًا‭ ‬إلى‭ ‬الإعراض‭ ‬عن‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الحديث‭ ‬أو‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬لأغراض‭ ‬كثيرة،‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬السائل‭ ‬أعجز‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬الجواب‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬الصحيح،‭ ‬وأنه‭ ‬يَجْمُل‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬ينصرف‭ ‬عنه‭ ‬إلى‭ ‬النظر‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬أنفع‭ ‬له‭ ‬وأجدى‭ ‬عليه،‭ ‬ومنها‭ ‬أنّك‭ ‬تخالف‭ ‬مُحدِّثَك‭ ‬في‭ ‬الرأي،‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تَجْبَهَه‭ ‬برأيك‭ ‬فيه‭. ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الحال‭ ‬وأمثالها‭ ‬تصرفه‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬اللباقة‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬تراه‭ ‬أجدر‭ ‬وأولىب‭.‬

  ‬ومن‭ ‬بيان‭ ‬مقصود‭ ‬ذلك‭ ‬الأسلوب‭ ‬نلمح‭ ‬جانب‭ ‬الحكمة‭ ‬فيه؛‭ ‬فقد‭ ‬تنصرف‭ ‬تلك‭ ‬الحكمة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المُخاطَب‭ ‬الذي‭ ‬ينأى‭ ‬بنفسه‭ ‬عن‭ ‬الانسياق‭ ‬وراء‭ ‬مجريات‭ ‬حديث‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬العدول‭ ‬عنه‭ ‬أولى‭ ‬من‭ ‬الخوض‭ ‬فيه،‭ ‬فيحوّل‭ - ‬بحنكته‭ ‬ولباقته‭ - ‬دفّة‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬السؤال‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إحراج‭ ‬للسائل،‭ ‬فيجنّب‭ ‬نَفْسَه‭ ‬وسائلَه‭ ‬محاذير‭ ‬غلظة‭ ‬الرَّدِّ‭ ‬على‭ ‬سؤال‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يُسأل‭ ‬أو‭ ‬يطرح‭ ‬وغيرُه‭ ‬أظهرُ‭ ‬للطرح‭ ‬منه‭ ‬وأولى‭ ‬بالتقديم‭ ‬عليه‭. ‬وقد‭ ‬تنصرف‭ ‬الحكمة‭ ‬إلى‭ ‬الأسلوب‭ ‬نفسه‭ ‬بطرح‭ ‬بديل‭ ‬مقنع‭ ‬لذلك‭ ‬السؤال‭ ‬المطروح،‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬معاني‭ ‬الحكمة‭ ‬في‭ ‬كلا‭ ‬طرفي‭ ‬الأسلوب‭ ‬موجودة،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬وجوُدها‭ ‬في‭ ‬طرفٍ‭ ‬نفيَها‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬بأيّ‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال؛‭ ‬فأنَّى‭ ‬الحكمة‭ ‬لأسلوب‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬صاحبِه؟‭! ‬وأنّى‭ ‬الحكمة‭ ‬لقائل‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أسلوب‭ ‬يتبعه،‭ ‬وبيان‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬لسانه؟‭!‬

 

شواهده‭ ‬وقيمته‭ ‬الفنية‭ ‬

لأسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬شواهد‭ ‬كثيرة،‭ ‬وفي‭ ‬آي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬منه‭ ‬ستّة‭ ‬عشر‭ ‬موضعًا،‭ ‬أكثرها‭ ‬دورانًا‭ ‬على‭ ‬الألسنة‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: ‬ايَسْأَلُونَكَ‭ ‬عَنِ‭ ‬الأهِلَّةِ‭ ‬قُلْ‭ ‬هِيَ‭ ‬مَوَاقِيتُ‭ ‬لِلنَّاسِ‭ ‬وَالْحَجِّب‭ (‬سورة‭ ‬البقرة‭ :‬189‭). ‬

نَزَلَتْ‭ ‬فِي‭ ‬مُعَاذِ‭ ‬بن‭ ‬جبل‭ ‬وثعلبة‭ ‬بن‭ ‬غنمة‭ ‬الْأَنْصَارِيَّيْنِ‭ ‬قَالَا‭: ‬يَا‭ ‬رَسُولَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬ما‭ ‬بال‭ ‬الهلال‭ ‬يبدو‭ ‬دَقِيقًا‭ ‬ثُمَّ‭ ‬يَزِيدُ‭ ‬حَتَّى‭ ‬يَمْتَلِئَ‭ ‬نُورًا،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬يَعُودُ‭ ‬دَقِيقًا‭ ‬كَمَا‭ ‬بَدَأَ‭ ‬وَلَا‭ ‬يَكُونُ‭ ‬عَلَى‭ ‬حَالَةٍ،‭ ‬فَأَنْزَلَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬تَعَالَى‭: ‬ايَسْأَلُونَكَ‭ ‬عَنِ‭ ‬الأهِلَّةِ‭ (‬تفسير‭ ‬البغوي‭).‬

فقد‭ ‬سأل‭ ‬الصحابة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭  ‬عن‭ ‬الهلال‭ ‬لِمَ‭ ‬يبدو‭ ‬صغيرًا‭ ‬مثل‭ ‬الخيط،‭ ‬ثم‭ ‬يعظُم‭ ‬ويستدير‭ ‬ثم‭ ‬ينقص‭ ‬ويدقّ‭ ‬حتى‭ ‬يعود‭ ‬كما‭ ‬كان؟‭ ‬فنزل‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: ‬اقُلْ‭ ‬هِيَ‭ ‬مَوَاقِيتُ‭ ‬لِلنَّاسِ‭ ‬وَالْحَجِّب،‭ ‬فصرفهم‭ ‬إلى‭ ‬بيان‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬الأهِلَّةِ‭ ‬وكأنه‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭: ‬كان‭ ‬الأولى‭ ‬بكم‭ ‬أن‭ ‬تسألوا‭ ‬عن‭ ‬حكمة‭ ‬خلق‭ ‬الأهِلَّةِ‭ ‬لا‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬تزايدها‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الشهر‭ ‬وتناقصها‭ ‬في‭ ‬آخره‭. ‬ومنه‭ ‬ما‭ ‬روي‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬رَمْثة‭ - ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭ - ‬أنَّه‭ ‬قال‭ ‬للنبي‭ : ‬أَرِني‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬بظهرك،‭ ‬فإنِّي‭ ‬رجلٌ‭ ‬طبيبٌ،‭ ‬قال‭: ‬اللهُ‭ ‬الطبيبُ،‭ ‬بل‭ ‬أنت‭ ‬رجلٌ‭ ‬رَفِيقٌ،‭ ‬طبيبُها‭ ‬الذي‭ ‬خلقَها‭ (‬رواه‭ ‬أبو‭ ‬داود‭ ‬وأحمد‭). ‬

وكان‭ ‬مقتضى‭ ‬الظاهر‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭: ‬هاك‭ ‬كتفي،‭ ‬انظر‭ ‬الخاتم‭ ‬الذي‭ ‬عليه،‭ ‬واحكم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬ولكنّ‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬عدل‭ ‬عن‭ ‬مقتضى‭ ‬الظاهر،‭ ‬وحمل‭ ‬كلام‭ ‬أبي‭ ‬رمثة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مقصده‭ ‬ومُراده،‭ ‬ليلفت‭ ‬نظره‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬الأولى‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬أنه‭ ‬خاتم‭ ‬النبوة‭ ‬فيصدّق‭ ‬النبي‭ ‬ويؤمن‭ ‬به،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مرض‭ ‬فيعالجه،‭ ‬فما‭ ‬على‭ ‬كتف‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ ‬خاتم‭ ‬النبوة،‭ ‬وعلامة‭ ‬على‭ ‬صدقه،‭ ‬وليس‭ ‬مرضًا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬علاج،‭ ‬فالأولى‭ ‬بأبي‭ ‬رمثة‭ ‬أن‭ ‬يؤمن‭ ‬بالله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬فيعالج‭ ‬قلبه‭ ‬بنور‭ ‬الإيمان،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مرض‭ ‬على‭ ‬كتف‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬فيعالجه‭.‬

وسأل‭ ‬رجل‭ ‬بلالًا‭ - ‬وقد‭ ‬أقبل‭ ‬جهة‭ ‬الحلبة‭ - ‬مَن‭ ‬سبق؟‭ ‬قال‭: ‬سبق‭ ‬المقرّبون،‭ ‬قال‭: ‬إنما‭ ‬أسألك‭ ‬عن‭ ‬الخيل؟‭ ‬قال‭: ‬وأنا‭ ‬أجيبك‭ ‬عن‭ ‬الخير‭.‬

ومن‭ ‬أمثلته‭ ‬المشهورة‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬بين‭ ‬الحجَّاج‭ ‬وبين‭ ‬يوسف‭ ‬بن‭ ‬الغضبان‭ ‬القبعثري،‭ ‬وكان‭ ‬الحجاج‭ ‬قد‭ ‬حبسه،‭ ‬فدعا‭ ‬به‭ ‬يومًا،‭ ‬وقال‭: ‬زعموا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكذب‭ ‬قطُّ،‭ ‬وليكذبنَّ‭ ‬اليوم،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬لمّا‭ ‬أُتي‭ ‬به‭: ‬سَمِنتَ‭ ‬يا‭ ‬غضبان‭! ‬قال‭: ‬القيد‭ ‬والرّتعة،‭ ‬والخفض‭ ‬والدّعة،‭ ‬وقلة‭ ‬التعتعة،‭ ‬ومن‭ ‬يكُ‭ ‬ضيف‭ ‬الأمير‭ ‬يسمن،‭ ‬قال‭: ‬أتحبّني‭ ‬يا‭ ‬غضبان؟‭ ‬قال‭: ‬أوَ‭ ‬فرقًا‭ ‬خيرٌ‭ ‬من‭ ‬حُبّين،‭ ‬قال‭: ‬لأحملنّك‭ ‬على‭ ‬الأدهم،‭ ‬قال‭: ‬مِثل‭ ‬الأمير‭ ‬يَحمل‭ ‬على‭ ‬الأدهم‭ ‬والكُميتِ‭ ‬والأشقر،‭ ‬قال‭: ‬إنه‭ ‬حديد،‭ ‬قال‭: ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬حديدًا‭ ‬خيرٌ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بليدًاب‭ (‬انظر‭ ‬كتاب‭ ‬الأمثال،‭ ‬ص‭ ‬56،‭ ‬لمحمد‭ ‬بن‭ ‬سلام‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬الهروي‭ ‬البغدادي،‭ ‬تحقيق‭ ‬عبدالمجيد‭ ‬قطامش،‭ ‬دار‭ ‬المأمون‭ ‬للتراث،‭ ‬ط1،‭ ‬1980‭).‬

‭ ‬ومن‭ ‬أمثلته‭ ‬الشعرية‭ ‬قول‭ ‬ابن‭ ‬حجاج‭ ‬البغدادي‭:‬

قال‭: ‬ثَقّلْتُ‭ ‬إذ‭ ‬أتيتُ‭ ‬مِرارا

قلتُ‭: ‬ثقّلتَ‭ ‬كاهلي‭ ‬بالأيادي‭ ‬

قال‭: ‬طَوَّلتُ،‭ ‬قلتُ‭: ‬أوليتَ‭ ‬طوْلا

قال‭: ‬أبرمتُ،‭ ‬قلتُ‭: ‬حبل‭ ‬ودادي

‭ ‬

‭ ‬لقد‭ ‬أخذ‭ ‬الشاعر‭ ‬هنا‭ ‬ظاهر‭ ‬كلام‭ ‬صاحبه‭ ‬وحمله‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مراده،‭ ‬فالضيف‭ ‬يخاطبه‭ ‬قائلًا‭: ‬تراني‭ ‬قد‭ ‬أثقلت‭ ‬عليك‭ ‬بضيافتي،‭ ‬فيجيبه‭: ‬نعم‭ ‬ثقّلتَ،‭ ‬ولكنّك‭ ‬ثقّلتَ‭ ‬كاهلي‭ ‬بفضلك‭ ‬ونعمك‭ ‬عليّ‭ ‬إذ‭ ‬اخترتني‭ ‬مضيفًا‭ ‬لك،‭ ‬فأكرمتني‭ ‬بنزولك،‭ ‬وبتكرار‭ ‬زيارتك‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الظاهر‭ ‬من‭ ‬كلمتي‭ ‬اطولت،‭ ‬وأبرمت،‭ ‬هو‭ ‬طول‭ ‬مدة‭ ‬الإقامة‭ ‬مما‭ ‬يسبّب‭ ‬ضجر‭ ‬المضيف‭ ‬وتبرّمه،‭ ‬فإنّ‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬حمل‭ ‬كلام‭ ‬ضيفه‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مراده،‭ ‬فجعل‭ ‬الطول‭ ‬بمعنى‭ ‬الفضل‭ ‬والتفضّل،‭ ‬وحوّل‭ ‬معنى‭ ‬التبرّم‭ ‬من‭ ‬معناه‭ ‬السيئ‭ ‬إلى‭ ‬معناه‭ ‬الحسَن،‭ ‬وهو‭ ‬إبرام‭ ‬حبل‭ ‬الوداد‭ ‬والصفاء،‭ ‬مما‭ ‬يُشعر‭ ‬بالترحاب‭ ‬لا‭ ‬الضجر‭ ‬والملال‭.‬

‭ ‬والشواهدُ‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬في‭ ‬أدبنا‭ ‬العربي؛‭ ‬قديمِه‭ ‬وحديثِه‭ ‬كثيرةٌ؛‭ ‬شعرًا‭ ‬ونثرًا‭.. ‬على‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬قد‭ ‬أُدرج‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬البلاغة‭ ‬تحت‭ ‬باب‭ ‬المحسنّات‭ ‬البديعية،‭ ‬فإذا‭ ‬عاودتَ‭ ‬السؤال‭ ‬فقلت‭: ‬وما‭ ‬الضّير‭ ‬في‭ ‬ذلك؟‭ ‬قلت‭ ‬لك‭: ‬لا‭ ‬ضير‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬وقفَ‭ ‬باب‭ ‬البديع‭ ‬نِدًّا‭ ‬لِبَابيِّ‭ ‬البيان‭ ‬والمعاني،‭ ‬فأضحت‭ ‬النظرة‭ ‬إليه‭ ‬معادلة‭ ‬للنظرة‭ ‬لأحدهما‭ ‬أو‭ ‬كليهما‭ ‬سواء‭ ‬بسواء،‭ ‬أمّا‭ ‬أن‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬البديع‭ - ‬وأسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬في‭ ‬الذيل‭ ‬منه‭ - ‬على‭ ‬أنه‭ ‬فَضْلة‭ ‬ومجرد‭ ‬حِلَىً‭ ‬لفظية‭ ‬أُتي‭ ‬بها‭ ‬للشكل‭ ‬والزينة،‭ ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬الضير‭ ‬كل‭ ‬الضير‭! ‬

إنّ‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وأحاديث‭ ‬النبي‭  ‬من‭ ‬البديع‭ ‬ما‭ ‬فيهما‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬والبيان،‭ ‬وقد‭ ‬بلغا‭ ‬بها‭ ‬جميعًا‭ ‬الذروة‭ ‬في‭ ‬الفصاحة‭ ‬والبلاغة،‭ ‬ولم‭ ‬يُنظر‭ ‬فيهما‭ ‬إلى‭ ‬بابٍ‭ ‬نظرةً‭ ‬أقلّ‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬إلى‭ ‬غيره،‭ ‬فلماذا‭ ‬إذن‭ ‬يتأخر‭ ‬البديع‭ ‬بفنونه‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬التمثيل‭ ‬والمعالجة‭ ‬وحُسن‭ ‬التناول؟‭! ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬ظاهرًا‭ ‬مع‭ ‬فنون‭ ‬البديع‭ ‬بَيّنًا‭ ‬واضحًا‭ ‬فيها‭ ‬فإنه‭ ‬مع‭ ‬اأسلوب‭ ‬الحكيمب‭ ‬أظهر‭ ‬وأَبْيَن‭ ‬وأوضح؛‭ ‬إذ‭ ‬يكفيك‭ ‬أن‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬البلاغة‭ ‬مقارنة‭ ‬بفنّ‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬البيان،‭ ‬أو‭ ‬أسلوب‭ ‬من‭ ‬أساليب‭ ‬المعاني‭ ‬لتتّضح‭ ‬أمامك‭ ‬الصورة‭ ‬بغير‭ ‬عناء،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التمثيل‭ ‬والاستشهاد‭ ‬كمًّا،‭ ‬أو‭ ‬التناول‭ ‬والمعالجة‭ ‬كيفًا،‭ ‬أو‭ ‬الموقع‭ ‬والموضع‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬مكانًا‭ ‬ومحَلًّا،‭ ‬بل‭ ‬يكفيك‭ ‬أن‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬رصفائه‭ ‬وبني‭ ‬جِلدته‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬البديع‭ ‬لترى‭ ‬مدى‭ ‬الغبن‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬عليه،‭ ‬فكأنه‭ ‬رضي‭ ‬مشاركة‭ ‬فنون‭ ‬البديع‭ ‬ظلمًا‭ ‬وقع‭ ‬عليها‭ ‬فأبت‭ ‬عليه‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬يظلم‭ ‬معها‭ ‬ومع‭ ‬غيرها؛‭ ‬ليجتمع‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬تفرّق‭ ‬على‭ ‬غيره،‭ ‬ولسان‭ ‬حاله‭ ‬يقول‭: ‬

وظلمُ‭ ‬ذوي‭ ‬القربى‭ ‬أشدُّ‭ ‬مضاضة‭ ‬ً

على‭ ‬المرءِ‭ ‬من‭ ‬وَقْعِ‭ ‬الحُسامِ‭ ‬المُهنّد‭ ‬ِ

 

مظاهر‭ ‬الجناية‭ ‬عليه

إن‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬الجناية‭ ‬على‭ ‬أسلوب‭ ‬الحكيم‭ - ‬ناهيك‭ ‬بما‭ ‬سبق‭ - ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يُنظر‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬المنظوم‭ ‬الفكري‭ ‬للمصطلح‭ ‬ضمن‭ ‬مصطلحات‭ ‬علم‭ ‬البديع‭ ‬الأخرى،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يُنظر‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬إطاره‭ ‬الحديث‭ ‬باعتباره‭ ‬وجهًا‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬الحِجَاج،‭ ‬والإشارة‭ ‬إلى‭ ‬اتداوليةب‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح،‭ ‬وأوجه‭ ‬استعماله‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭. ‬

‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬دقة‭ ‬السَّكاكي،‭ ‬وضبطه‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬التعريفات‭ ‬التي‭ ‬أضحى‭ ‬مَن‭ ‬بعده‭ ‬عيال‭ ‬عليه‭ ‬فيها،‭ ‬فإنهّ‭ ‬بتقعيده،‭ ‬وتوظيفه‭ ‬المنطق‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬تُعد‭ ‬الكلمة‭ ‬العليا‭ ‬فيها‭ ‬للذائقة‭ ‬الأدبية‭ ‬قد‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬جعلها‭ ‬مجرد‭ ‬زينة‭ ‬ووشي،‭ ‬فانزوت‭ ‬تلك‭ ‬العلوم‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬أسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬الزينة‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أساسًا‭ ‬تنبني‭ ‬عليه‭ ‬مقاربة‭ ‬الحقيقة‭ ‬وتأسيسها،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تماسّها‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬اللغوية‭ ‬التداولية‭ ‬والقضايا‭ ‬الحجاجية،‭ ‬ولسانيات‭ ‬النص‭. ‬

‭ ‬هذا،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬اتهام‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬بأنّه‭ ‬وسيلة‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭ ‬باتخاذه‭ ‬ستارًا‭ ‬يتوارى‭ ‬خلفه‭ ‬السياسي،‭ ‬وقناعًا‭ ‬يرتديه‭ ‬بعض‭ ‬شيوخ‭ ‬الدين،‭ ‬وغيرهما‭ ‬ممّن‭ ‬يجيدون‭ ‬فنون‭ ‬المناورة‭ ‬والمداورة‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬التخفّي،‭ ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الصراحة‭ ‬والمواجهة،‭ ‬وهذا،‭ ‬لعمرُك،‭ ‬لا‭ ‬يتحمّل‭ ‬أسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬وزر‭ ‬مقترفيه،‭ ‬إذ‭ ‬ظهر‭ ‬وجهه‭ ‬المشرق‭ ‬المضيء‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬الخالدة‭ ‬التي‭ ‬كُتب‭ ‬لها‭ ‬البقاء‭ ‬والخلود‭ ‬كآي‭ ‬الذِّكْر‭ ‬الحكيم،‭ ‬والأحاديث‭ ‬النبوية‭ ‬الشريفة،‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬جئنا‭ ‬إلى‭ ‬تمثيله‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬وجدنا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬نماذجه‭ ‬وقد‭ ‬حلّقت‭ ‬عاليًا‭ ‬عندما‭ ‬ارتقت‭ ‬نفوس‭ ‬أصحابها‭.‬

إن‭ ‬أسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬نظر،‭ ‬أو‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬قل‭: ‬اردّ‭ ‬اعتبارب،‭ ‬فيحتل‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬يليق،‭ ‬والمكانة‭ ‬التي‭ ‬هو‭ ‬بها‭ ‬جدير،‭ ‬ولها‭ ‬مستحِق،‭ ‬فتُفرد‭ ‬له‭ ‬صدور‭ ‬الكتب‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬ذيولها،‭ ‬ويتعلّمه‭ ‬الناشئة‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬لتتربّى‭ ‬ذائقتهم‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الفنون‭ ‬الأدبية‭ ‬الراقية،‭ ‬ويُعرض‭ ‬بأسلوب‭ ‬حكيم‭ ‬يناسب‭ ‬اسمه‭ ‬وعنوانه،‭ ‬فلا‭ ‬تُنقل‭ ‬أهميته‭ ‬من‭ ‬المتن‭ ‬إلى‭ ‬الهامش؛‭ ‬فيُضْحي‭ ‬صِنوًا‭ ‬للمعنى‭ ‬لا‭ ‬طِلاء‭ ‬للشكل‭! ‬فهل‭ ‬ما‭ ‬زلنا‭ ‬بتلك‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬عيبًا‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬فيما‭ ‬يستحق‭ ‬إعادة‭ ‬نظر؟■

شواهد‭ ‬كثيرة‭ ‬لأسلوب‭ ‬الحكيم‭ ‬في‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬موضعاً