حكايات طبية: عندما تدور الأيام دورتها غسان حتاحت

حكايات طبية: عندما تدور الأيام دورتها

نحن الأطباء، نشعر بالفخر والاعتزاز عندما يطلب منا زميل ما أن نعالجه، أو أن نداوي أحدا من أهله، ذلك أن اختيار الطبيب لزميله يعد شرفا كبيرا وتقديرا عظيما.

ولا أخفي أنني أحس بالسرور، كلما زارني طبيب كي يستشيرني في حالة طفله، أو يعرض علي مشكلة ما. على أن سروري كان أكثر ما يكون كلما زارني زميلي "س"، فهذا الزميل لم تجمعني به أيام دراسة، ولا رفقة ممارسة، بل ليست بيننا أية معرفة سابقة، الأمر الذي جعل اختياره لي اختيارا على الثقة المحضة. وكان مما يزيد من سعادتي بزيارته أن جد طفله لأمه هو أيضا طبيب، بل إنه كان أحد أساتذتي في كلية الطب. وهو أستاذ كنت - ولا أزال - أحمل له كل احترام ومحبة وإعجاب.

وكان هذا الأستاذ ولنسمه "معتزا" أستاذا لامعا جدا، نال شهرة عظيمة، وحاز مكانة عالية في ميدان الطب، وأذكر أنني لفرط إعجابي به اشتريت الكتاب الذي ألفه قبل سنتين من العام الذي كان مقررا علينا فيه، وذلك كي أقرأ وأستفيد من علم هذا الأستاذ الكبير.

في إحدى زيارات زميلي "س" في عيادتي سألته عن صحة الأستاذ "معتز" (والد زوجته)، إذ لم أكن قد رأيته منذ مدة غير قصيرة، فقال لي: إن صحته ممتازة، وسألته وهل يداوم في العيادة دواما منتظما، أم أنه قد قلل من ساعات الدوام بسبب تقدمه في السن؟. فقال لي: إنه يداوم ساعة أو أقل كل يوم، ولكن ليس ذلك بسبب ضعف في صحته أو بسبب تقدمه في السن، بل لأن عدد الزبائن الذين يراجعونه قليل جدا لا يتجاوز الواحد أو الاثنين أو الثلاثة على الأكثر.

في انتظار الأستاذ

سمعت ذلك الجواب وعادت بي الذاكرة إلى الوراء ربع قرن من الزمن أو يزيد، وتذكرت حادثة معينة محددة وكأنني أراها الآن أمام ناظري. في ذلك الوقت - قبل ربع قرن من الآن - كنت طبيبا مقيما في المشفى الجامعي، وكنت أعمل في الجناح الذي كان الأستاذ معتز يشرف عليه. وكان علينا كل صباح أن نقف - نحن مجموعة الأطباء المقيمين - على اختلاف طبقاتنا (وكنا ثلاث طبقات)، في انتظار وصول الأستاذ معتز.

وكان مكان وقوفنا عند مدخل الجناح، وأحمد الله أن بروتوكول الانتظار هذا كان يشابه البروتوكول الفرنسي، إذ من المعروف أن الرئيس الفرنسي يستقبل ضيوفه عند مدخل قصر الإليزيه عادة وليس في المطار، إذ لو لم يكن هنالك مثل هذا التشابه لكان علينا أن ننتظر وصول أستاذنا في مرآب المشفى.

وكانت مدة الانتظار تتفاوت بين يوم وآخر، فأستاذنا غير دقيق في مواعيده، فإن تعجل في نصف ساعة فلا بآس عليه، وإن تأخر في نصف ساعة فلا ضير عليه، والويل كل الويل إن حضر ولم يكن طاقم الاستقبال واقفا في انتظاره.

عندما كان يصل، نسير وراءه وفق التسلسل الطبقي الطبي، دون أن تخطر ببال أحدنا - ولو من بعيد - فكرة مخالفة هذا التسلسل الذي يفوق في دقته وشدته أقسى الأنظمة العسكرية.

كان الأستاذ معتز يتجه إلى مكتبه حيث يجلس وراء طاولته، بينما كنا نصطف وقوفا صامتين وكأننا حرس شرف وكأن على رءوسنا الطير. بينما كان الأستاذ يتشاغل بتقليب بعض الكراسات أو مراجعة بعض الأوراق. ثم بعد ذلك كان يلتفت إلى كبيرنا ويتحدث معه في شئون الجناح والمرضى.

أعود إلى الحادثة المحددة المعينة التي ارتسمت صورتها في ذاكرتي، فقد كنا وقتها في وقفتنا المعتادة تلك، وكان الأستاذ في مجلسه الموصوف آنفا، عندما دخل إلى مكتبه الأستاذ عرفان وهو أستاذ في كلية الطب، ورئيس أحد الأقسام المهمة، وبعد أن سلم على أستاذنا معتز قال له:

- جئت أريد منك طلبا أرجو أن تحققه لي.

رد عليه الأستاذ معتز:

طلبك مجاب إلا أن يكون إعطاء موعد للقاضي فلان قبل شهر ونصف، فلقد أعطته "سكرتيرتي" هذا الموعد ولا سبيل إلى تقديمه أبدا.

قال الأستاذ عرفان: - إن هذا هو عين ما قصدتك من أجله.

قال الأستاذ معتز: إنك تعرف كم أكن لك من المودة والصداقة، ولكنك تعلم أيضا كثرة زبائني، وكيف أنني لا أستطيع أن أعطي أيا كان موعدا قبل تلك المدة، وآمل أن تعذرني.

وخرج الأستاذ عرفان خائبا، بينما انتظمت وقفتنا أكثر، إن كان ثمة انتظام أشد مما كنا عليه قبلا. ونحن نرى بأم أعيننا هيبة هذا الأستاذ ومواعيده البعيدة ونسمع عن زبائنه الكثيرين.

.. ودارت الأيام

تذكرت تلك الحادثة وأنا أتحدث مع الطبيب "س" صهر الدكتور معتز، وأسمع منه أن أستاذنا الكبير غدا لا يرى في اليوم إلا مريضا أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر وشعرت بقسوة الأيام عندما تدور دورتها.

ولم أحس إلا والدموع تترقرق في عيني، دموع لا أدري إن كانت حزنا على أستاذنا ذاك، أم أسى على أنفسنا، أم على الإنسان إذ يصيبه الضعف بعد القوة. وصدق تعالى إذ يقول: ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون صدق الله العظيم.

 

غسان حتاحت