مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة وفاء لتراث غنيّ ولفقيه متنوّر
ببناية تقع قرب باب العقلة، أحد الأبواب السبعة لمدينة تطوان المغربية العتيقة، وعلى مشارف الجزء الحديث من المدينة، يوجد مقر مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة، وكأن المؤسسة بموقعها ذاك، تعلن عن الاختيار الفكري والثقافي الذي تنتصر له: تمثّل ثقافة الأسلاف والانتباه لمكتسبات العالم المعاصر. فمن هو محمد داود الذي تحمل هذه المؤسسة اسمه؟
فيما يتعلّق بي، وكلّما تمت الإشارة إلى هذا الاسم بما يلزم من وقار وتبجيل، أتذكّر أن الأستاذة الجليلة حسناء التي كانت تدرّسنا اللغة العربية بثانوية الشريف الإدريسي بتطوان أجرت لنا، ذات صباح صحو، اختبارًا استثنائيًا، ومنحت الموفّقين فيه جائزة لا تقدّر بثمن، إذ رتّبت لنا لقاء مع أبيها العالِم الذي استقبلنا بحفاوة في منزله وحدّثنا عن مساره الثري، وقدّم لنا نصائح غالية لم نتبّين قيمتها الحقيقية إلّا مع توالي السنوات والتجارب.
كان مضيفنا هو الفقيه العلّامة محمد داود (1901 - 1984)، أحد أعلام مدينة تطوان اللامعين وأحد علمائها النابهين. ارتبط اسمه باسم مدينته، إذ أرّخ لوقائعها وأناسها، وأبرز تراثها المادي والرمزي حتى عُرف باسم «مؤرخ تطوان».
ومع المسافة التي تفصلنا اليوم عن الأحداث التي عرفها النصف الأول من القرن العشرين، يتبيّن لنا أن الفقيه داود كان ذا نظرة استراتيجية فيما يتعلق بأسس بناء مجتمع حديث ومتوازن؛ نظرة تحاور المستقبل وتجعل من التربية والثقافة المنطلق الأساس لفكّ الأغلال التي كانت تكبّل حاضر المغرب الخاضع حينذاك لقوتين استعماريتين؛ فرنسا وإسبانيا، مع ما كان يعنيه ذلك من تضييق على الحريات وخنق لكل المبادرات المضيئة وإنهاك للبلاد والعباد.
ومع ذلك، سجّل التاريخ أن العديد من المبادرات الفكرية والثقافية الرائدة بالمغرب، عرفت النور بمدينة تطوان تحديدًا، وسجّل التاريخ كذلك أن الحركة السياسية بشمال المغرب كانت ذات منطلقات وحمولة ثقافية قوية، مما جعل العلاقة بين النضال الوطني التواقّ للتحرر والاستقلال، والمبادرات الثقافية والفكرية التي كان لها حضور وتأثير، علاقة متينة وضرورية، تقوّت بمسارين كان للفقيه محمد داود مساهمة فعالة فيهما.
سندان فكريان
المسار الأول، هو مسار المبادرات الإعلامية. وفي هذا السياق أصدر داود سنة 1933 مجلة السلام التي كانت تحمل شعار «الإسلام، المغرب، العروبة»، أي أنّها أعلنت بوضوح نزوعها القومي واختيارها الوطني وتشبّثها بقيم الدين الإسلامي. وكان الإسلام والعروبة سندين فكريين وعقائديين لطروحاتها المتقدمة، في ظل الحماية الإسبانية لشمال المغرب، وفي ظل التجاذبات التي كانت إسبانيا تعرفها بين الجمهوريين والموالين للجنرال فرانكو. وتوجّهت المجلة بموادها المتنوعة والرصينة إلى شرائح مختلفة ومتباينة من القراء، واعتمدت في تواصلها على اللغة العربية كشكل من أشكال المقاومة ولمواجهة المدّ اللغوي الإسباني.
وعلى المستوى السياسي، كانت مجلة السّلام منبرًا مؤثرًا، مما جعل السلطات الفرنسية على الخصوص تنزعج من خطها الفكري، واعتبرتها «تشوّش على النظام العام»، ومنعت توزيعها بالمناطق الخاضعة لنفوذها. وكانت المجلة تطبع بالمطبعة المهدية، وهي أول مطبعة أنشئت في المغرب سنة 1928.
وخطوة التأسيس تلك، كانت لها دلالاتها في تلك الفترة التاريخية، من حيث إنها كانت تؤشر إلى رغبة قوية في الترويج المنتظم لقيم وأفكار بعينها، كما أنها تبنّت شكلًا تدبيريًا حديثًا. وكان كتّاب من جنوب المغرب ينشرون مقالاتهم وتحليلاتهم بمجلة السلام، ويطبعون مؤلفاتهم ومنشوراتهم بتطوان، باعتبارها عاصمة المنطقة الشمالية الخليفية.
كان الفقيه داود قد راكمَ خبرة في مجال الإعلام والتواصل، إذ عمل مراسلًا لصحيفة الأهرام المصرية في عزّ حرب الريف، وكان منتبها لأهمية الإعلام وخطورته، مما يفسّر أنه أصدر، بعد توقّف مجلة السلام، منبرًا آخر بعنوان «الأخبار».
استنهاض الهمم
أما المسار الثاني الذي منحه داود اهتمامًا كبيرًا، فهو المجال التربوي والتعليمي، فقد كان ضمن الوطنيين المناهضين للاستعمار والمطالبين بالإصلاح، الذين وعوا إلى الموقع الحيوي الذي تحتلّه المدرسة لتنشئة المواطن المسؤول والمبادر، فأسّسوا مجموعة من المدارس سمّوها أهلية، كانت تروّج، هي أيضًا، لمبادئ الإسلام والوطنية والعروبة، وتعمل على تطوير التعليم. وهي بهذا المعنى اختارت أن تستثمر في الإنسان وفي تمكينه من مهارات تتيح له مواجهة تحديات اللحظة التاريخية التي يعيشها، خاصة إذا استحضرنا المعطى التالي، وهو أن الإسبان، باعتبار تواضع إمكاناتهم ومواردهم وخبرتهم، لم يخصصوا استثمارات تُذكر في مجال التعليم، لذا ظهرت المدارس الأهلية لكي تسدّ الفراغ القائم، وفي الآن نفسه لتستنهض الهمم والإرادات.
واستكمالًا لمهام المدارس الأهلية، وتشبّعًا بالطروحات القومية التي كانت رائجة حينذاك، والتي يلخّصها بشكل بليغ هذا النشيد الذي كان متداولًا بين المثقفين والمتعلمين العرب، والذي ذكر بالاسم مدينة تطوان:
بـــــلادُ العُـــــــــــربِ أوطـــــــــــــــانــــــــي
مــــــــنَ الشّــــــــــــــــــــــامِ لبغـــــــــــــدان
ومــــــن نجــــــــدٍ إلــــــــى يَمَــــــــــــــــنٍ
إلى مِصــــــــــــــرَ فتطـــوانِ
دور بارز
كان للبعثات التعليمية والتربوية التي كان داود أحد متعهّديها دور بارز في تكوين مجموعة من الشباب التطوانيين وتثقيفهم ضمن منظور قومي وسلفي.
وقد شدت هذه البعثات الرحال إلى المشرق، حيث كان التواصل والتفاعل مع عواصم شكّلت منارات في تلك المرحلة، مثلما كان الأمر مع القاهرة ودمشق وبغداد وبعض المدن الفلسطينية، وعملت على توطيد العلاقات بين مثقّفي المدينة وطلبتها مع مثقفي مجموعة من الأقطار العربية، وجعلت الأفكار والتصورات تهاجر بيُسر وتنتقل وتتلاقح.
لقد كان العلّامة الفقيه محمد داود مثقفًا متنورًا، متشبثًا بهويته دون تشنّج، وعُرف عنه ولعُه بالسينما وبالموسيقى الراقية، مثل الموسيقى الأندلسية وأغاني السيدة أم كلثوم.
كما عرف عنه انفتاحه وقُربه من أفراد أسرته، إذ «كان في بيته، كما تنقل كريمته الأستاذة حسناء، ذاك الأب المهتم بتربية أبنائه - ذكورًا وإناثًا -، الحريص على تعليمهم وتوجيههم التوجيه السليم، في الوقت نفسه الذي كان يخصص لهم ولأقرب أفراد أسرته أوقاتًا للّعب والتسلية والترفيه والترويح عن النفس».
تأثير رمزي وأخلاقي
كان داود يعتبر نفسه معنيًّا بالشؤون اليومية لمدينته، فانتخب بالمجلس البلدي لتطوان، في انتخابات أجريت في عهد الجمهورية الإسبانية، وساهم في بناء المجتمع المدني التطواني وفي تأسيس «الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان»، التي كان لها تأثير رمزي وأخلاقي على المستعمر، والتي طالبت بالحق في حياة كريمة للمواطن المغربي، وشارك في صياغة «مطالب الأمة المغربية»، مما أهّله لأن يكون عضوًا باللجنة التي كلّفت سنة 1960 وضعَ أوّل دستور للمغرب المستقل، وحرص على المشاركة في صياغة وثيقة «المطالب العمالية» وفي إنشاء النقابة الطلابية «جمعية الطالب المغربية»، وذلك مساهمةً منه في خلق ما يسمّى اليوم بالوسائط التي تتكفل بالاقتراح والتفاوض والضغط، وبهدف مدّ الجسور بين الثقافتين العربية والأندلسية. فضلًا عن ذلك، كان الفقيه داود، إلى جانب الأمير شكيب أرسلان، ضمن من فكّروا في إنشاء «الجمعية الإسلامية الإسبانية» و«البيت العربي» بإسبانيا.
ولتسليط الضوء على هذا التراث الغني، وعلى هذه الشخصية الثقافية المتعددة الاهتمامات والأوجه وتقريبها من الأجيال المعاصرة، أنشأت نجلة الفقيه حسناء، مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة.
وفي لقاء جمعني بها، باسم مجلة العربي، فصلت أ. حسناء في فكرة تأسيس المؤسسة، كما يلي: «بعد وفاة الوالد وتحمُّلي مسؤولية تراثه العلمي والفكري، برزت فكرة تأسيس مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة، أولًا لكي تكون لي صفة رسمية تتيح لي إمكان التعامل مع بقية الهيئات والمؤسسات بصفة رسمية، ثم إنني بإنشاء المؤسسة، أكون قد هيأت فريقًا بإمكانه أن يتحمّل مسؤولية الخزانة بعد غياب رئيستها المباشرة».
والطموحات التي تحرّك هذا المشروع الثقافي الرصين، كما عدّدتها نجلة الفقيه، تكمن في «أن يعمّ إشعاع المؤسسة مختلف البلاد، وأن نتمكّن من توفير المواد والتجهيزات اللازمة التي تضمن حفظ واستمرارية محتويات الخزانة الداودية التابعة للمؤسسة».
مجهود محمود
بالرغم من شحّ الإمكانات والدعم، فقد بذلت المؤسسة مجهودًا محمودًا لصون التراث الذي خلّفه الفقيه داود، من كتب ومخطوطات وصحف ومجلات ووثائق وطوابــــع بريديـــة وصور وعُملات، وحرصت بالتالي - بإشراف ومثابرة من المسؤولة عنها - على جعل مجموعة من المخطوطات ترى النور في طبعات أولى أو في طبعات منقّحة ومراجعـــة، كما هي حال كتاب مختصر تاريخ تطوان، أو المجلدات الاثني عشر من موسوعة تاريخ تطوان، والأمثال العامية في تطوان والبلاد العربية، أو السيرة الذاتية للعلامة محمد داود، التي ألّفها على جزءين؛ الأول بعنوان «على رأس الأربعين»، والثاني بعنوان «على رأس الثمانين»، أو تعلّق الأمر بـ «الرسائل المتبادلة بين شكيب أرسلان ومحمد داود»، أو بـ «الرحلة الشرقية للأستاذ محمد داود 1353هـ - 1935م»، التي تضمّ تفاصيل وأحداث الرحلة التي قام بها لأداء فريضة الحج، والتي تجوّل خلالها بمجموعة من البلدان العربية لـ 6 أشهر، والتقى شخصيات تاريخية، مثل مفتي فلسطين الشيخ الحسيني، والشيخ رشيد رضا، والإعلامــــية روز اليوسف.
لقد كان الفقيه داود مقتنعًا بأن الهوّة الثقافية والحضارية بين العرب والغرب، هي سبب الهزائم والنكسات التي عرفتها المجتمعات العربية، لذا دافع عن التعليم المنتج والإعلام المسؤول وأدوات الترويج الفعالة.
وقد تكون ثقافته الموسوعية وموقع تطوان بين ضفّتي مضيق جبل طارق، وتأثّره بالأفكار القادمة من المشرق وبالعلاقات التي جمعته بمثقفين مشارقة معروفين، وجمعه بين الجانبين التنظيري والعملي في تعاطيه مع القضايا، هو ما جعل منه إعلاميًا لامعًا وعلّامةً متنورًا ومثقفًا سابقًا لزمانه، يجب استحضار مساره الثري لتلمُّس إجابات عن بعض إشكالاتنا المجتمعية والفكرية الراهنة ■
مقر مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة
الفقيه محمد داود على شمال الأمير شكيب أرسلان - أرشيف المؤسسة
الفقيه محمد داود رفقة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات - أرشيف المؤسسة
محمد داود... الرحالة
طبعة منقحة من تاريخ تطوان
الجزء الأول من سيرة محمد داود
الفقيه محمد داود. أرشيف المؤسسة
باب العقلة مدخل رئيس إلى الجزء العتيق من مدينة تطوان
مكتبة مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة