تحديات للاقتصادات العربية!

واجهت الدول العربية كافة التحديات الاقتصادية التي برزت خلال أزمة وباء كورونا، ولم تتمكن أيّ من هذه الدول من وقف التراجع في معدلات النمو الاقتصادي أو تحجيم العجز في الموازنات الحكومية، أو وضع حدّ لفقد الوظائف في سوق العمل نتيجة لتراجع الأعمال والأنشطة بسبب الحظر والتوقّف الذي ألزمته السلطات الصحية في مختلف البلدان، ويعتقد العديد من الاقتصاديين أن التحديات الاقتصادية ستظل قائمة حتى بعد انقشاع أزمة الوباء وعودة الأمور إلى طبيعتها بعد شهور عدّة، وربما في أحسن الأحوال في منتصف العام المقبل، لكن ماذا يمكن أن نتوقع لأوضاع الاقتصادات العربية خلال السنوات القليلة القادمة؟
كما هو معلوم أن الاقتصادات العربية ظلّت تعتمد على مواردها الطبيعية والتجارة أحيانًا، كما أنّها مكنت قطاع الخدمات من المساهمة بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي، وظل النفط المحرك الأساسي لاقتصادات دول عربية عدة، ومنها السعودية والإمارات والكويت والعراق والجزائر وليبيا، وإلى حدّ ما مصر، وتونس وعمان وسورية والبحرين.
وقد أدّى الغاز دورًا مهمًا في هذه الاقتصادات، لكنّ أهمها في الاقتصاد القطري، وشكّلت إيرادات النفط المصدر المهم للخزائن العامة والممول المحوري للإنفاق العام، الرأسمالي والجاري، في بلدان عربية عدة.
يعاني العالم الآن الركود، فقد تراجعت الأنشطة وانخفض الطلب على مختلف السلع والخدمات، وبذلك تعطّل الطلب على النفط إلى درجة مهمة. وقد شهد العالم في بداية الوباء خلال شهري مارس وأبريل الماضيين، تراجع الطلب بدرجة قياسية، بما أدى إلى تدهور سعر البرميل إلى ما دون العشرين دولارًا. وربما أسعف قرار «أوبك» والبلدان الأخرى المصدّرة للنفط، مثل المكسيك وروسيا، بتخفيض العرض اليومي بمعدل 9.6 ملايين برميل إلى تماسك الأسعار قليلًا وتحسّنها حتى بلغت ما يعادل 40 دولارًا للبرميل في بداية أغسطس 2020.
بيد أن الإيرادات المتحصلة من تصدير النفط للعديد من البلدان العربية المصدّرة للنفط ظلت دون مستويات الإنفاق الجاري في هذه البلدان، بما حقّق عجوزات مهمة في الموازنات.
ولا شك في أن هذه البلدان أصبحت تواجه خيارات صعبة لتمويل العجوزات، بعد أن ظلت العديد من هذه الدول غير مهتمّة بالإصلاح الاقتصادي الهيكلي وتنويع القاعدة الاقتصادية، وترشيد دور الدولة في الحياة الاقتصادية.
لم تكن أزمة النفط ناتجة فقط عن الوباء، لكنّها أزمة بدأت ملامحها منذ سنوات، حيث مثّل النفط الصخري ورديفه الغاز تحديات مهمة للنفوط العربية التقليدية، وقد نتج عن ذلك التراجع المهم في الأسعار منذ عام 2014 خلق أزمة العجوزات الكبيرة في الموازنات الحكومية.
يضاف إلى ذلك هناك تحدّي الطاقات البديلة والتطور التقني في صناعة السيارات والتوجه نحو الطاقة النظيفة والاشتراطات البيئية التي لا بدّ أن تمثّل قلقًا لكل مصدّري النفط خلال السنوات والعقود القادمة.
ولا يعني الاعتماد على النفط وإيراداته البلدان المصدّرة للنفط فقط في العالم العربي، بل إنه يشمل البلدان العربية غير النفطية التي تعتمد على المساعدات والقروض الميسّرة من البلدان النفطية، خصوصًا الخليجية.
معضلة تلك البلدان مركّبة، حيث تعاني محدودية الموارد المالية وارتفاع أعداد السكان وضيق سوق العمل وتدنّي القدرات الإنتاجية في مختلف القطاعات، والأهم من ذلك أن تلك البلدان ظلت محكومة من أنظمة سياسية شمولية منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، واعتمدت اقتصادات مبنيّة على دور الدولة المركزي في الحياة الاقتصادية.
تلك الأنظمة الشمولية عطّلت دور القطاع الخاص، ووأدت إمكانات توظيف رؤوس الأموال الخاصة في أنشطة ذات جدوى وميزات نسبية في البلدان المعنيّة.
أمثلة واضحة
نتج عن تأميم الشركات والمؤسسات الخاصة تحوّل المؤسسات إلى أجهزة بيروقراطية عقيمة تعاني الخسائر المستمرة، وتواجه احتمالات التصفية والإفلاس نتيجة لسوء الإدارة. هناك أمثلة واضحة للتدهور في الإدارة الاقتصادية، وتراجع الإنتاجية في مختلف القطاعات الحيوية في بلدان مثل مصر وسورية والعراق والسودان.
ولا يمكن أن توصف الاقتصادات العربية بأنها ذات إمكانات تكاملية، حيث إن الجهود التي بُذلت منذ توقيع اتفاقية السوق العربية المشتركة في عام 1964 لم تفلح في تطوير علاقات ذات فائدة لأيّ بلدين عربيين متجاورين، فقد تغلّبت الاعتبارات السياسية على المتطلبات الاقتصادية، وحتى التعاون أو الدعم الذي قدّمته دول الخليج النفطية لبلدان مثل مصر وسورية والأردن ولبنان والسودان وتونس وغيرها، كان ناتجًا عن الظروف السياسية، وتمكين تلك الدول من مواجهة التزاماتها تجاه المتطلبات المعيشية والخدماتية لشعوبها.
وقدمت بلدان الخليج مباشرة، من خلال آليات القروض التي اضطلعت بها مؤسسات إنمائية، مثل الصندوق الكويتي للتنمية أو الصندوق العربي وصندوق أبوظبي والمؤسسات الإنمائية السعودية، قروضًا مهمة لمشاريع البنية التحتية والمرافق والتعليم والرعاية الصحية.
وقد شاركت مؤسسات من القطاعين العام والخاص، منذ الصدمة النفطية الأولى في عام 1974، في الاستثمار بقطاعات الصناعة التحويلية والسياحة والعقار، وغيرها من قطاعات خدمية مباشرة، أو بالشراكة مع مؤسسات حكومية أو خاصة في البلدان المضيفة، لكن تلك الاستثمارات لم تحقق النتائج المرجوة التي يتوقّعها المستثمرون التقليديون في أيّ بيئة استثمارية ملائمة.
إصلاحات مصر
يعتبر الاقتصاد المصري من أهم الاقتصادات العربية من حيث الحجم، إذ قدّر الناتج المحلي الإجمالي لمصر في عام 2019 بنحو 302 مليار دولار، في حين يبلغ عدد السكان ما يزيد على 102 مليون نسمة.
وقد تمكّنت الإدارة المصرية من تحسين أداء الاقتصاد المصري على مدى السنوات الخمس الماضية، بعد اتخاذ قرارات مهمة متمثلة في تعويم سعر صرف الجنيه المصري، وترشيد دعم الوقود والسلع الغذائية، والتعامل بحزم مع مسائل التوظيف في القطاع العام. وقد مكّنت هذه الإصلاحات مصر من الحصول على قروض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وتحسن ثقة المستثمرين، بما عزّز أداء سوق الأوراق المالية.
كما ارتفعت أرصدة مصر من العملات الخارجية إلى مستويات جيدة، وبلغت أخيرًا 38 مليار دولار، لكنّ هناك أشواطاً طويلة ومعضلات مهمة يجب تجاوزها لكي يصبح الاقتصاد المصري متعافيًا بشكل سليم.
تبلغ الديون الخارجية ما يقارب 113 مليار دولار، وذلك عبء ثقيل على الاقتصاد المصري، ويتعين توفير مصادر دخل لتساعد على مواجهة خدمة هذه الديون الخارجية. يضاف إلى ذلك أن تطوير الأعمال الخاصة مازال بطيئًا، ولذلك فإن الوظائف الجديدة مازالت محدودة، في الوقت الذي تقدّر البطالة بنحو 10.3 في المئة من إجمالي قوة العمل في البلاد.
يضاف إلى ما سبق ذكره أن تحويلات العاملين المصريين في الخارج قد تتراجع نظرًا لأوضاع البلدان التي يعملون فيها، مثل بلدان الخليج العربي التي قد تضطر للاستغناء عن أعداد كبيرة من العمالة الوافدة.
على مدى سنوات طويلة، كان الاقتصاد الخليجي المكون الأساسي في الاقتصاد العربي نتيجة لمساهمة القطاع النفطي، ويقدّر الناتج المحلي الإجمالي لبلدان الخليج العربية بنحو 1.5 تريليون دولار يمثّل 55 في المئة من قيمة الناتج الإجمالي لكل البلدان العربية.
ولا شك في أن الاقتصاد الخليجي قد تعرّض للتراجع بفعل وباء كورونا وانخفاض أسعار النفط، ومن ثم تراجع الإيرادات. وتعاني العديد من بلدان الخليج صعوبة التحول إلى اقتصاد متنوع بعيدًا عن الاعتماد شبه الكلّي على إيرادات النفط.
تضخّم القطاع العام
هناك بلدان قطعت شوطًا مهمًا في تطوير هياكلها الاقتصادية واتّباع سياسات مالية حازمة لوقف الهدر وإصلاح عمليات التوظيف في القطاع العام، وكذلك ترشيد عمليات الدعم، ومن هذه البلدان دولة الإمارات والسعودية وعمان.
لكن هناك بلدانًا مازالت تعاني تضخّم القطاع العام وتشوّه سوق العمل والاعتماد الكبير على آليات الإنفاق العام وأدواته، ويمكن أن ندرج الكويت وقطر في هذه اللائحة من بلدان الخليج، لكن هذه البلدان مازالت تواجه تحديات التنمية البشرية ومتطلبات توطين الوظائف والحرف ومعالجة أنظمة التعليم التي لم تعد ملائمة لمعالجة الاختلالات البنيوية في سوق العمل الذي مازال يعتمد على عمالة وافدة كبيرة.
لا يمكن أن تكون أوضاع اقتصادات البلدان العربية الأخرى، مثل العراق وسورية ولبنان وتونس وليبيا وغيرها أحسن حالًا. هذه البلدان عانت الاضطراب السياسي والعنف المحلي والتناقض بين متطلبات الإصلاح وسلوكيات الإدارة الحاكمة. أيضًا، توجه هذه البلدان مشكلات الفقر والبطالة وتراجع الإمكانات المالية.
وقد واجه بلد مثل العراق منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 مشكلات الفساد السياسي وهدر الأموال التي تحققت بعد زيادة إنتاج النفط، ناهيك بالصراع الذي عانته البلاد مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، خلال الفترة من 2014 حتى 2018، ودمار مدن مثل الفلوجة والرمادي والموصل، وهناك أهمية لدعم الجهود الهادفة للاستقرار وانتخاب مجلس نيابي يمكّن من تولي حكومة إصلاحية تراعي مصالح الشعب بكل مكوناته، وتعمل على تنظيم الاقتصاد بما يرفع الكفاءة والتمكن من خلق فرص العمل للمتدفقين إلى سوق العمل من الشباب.
أما سورية، فإنّ ما حدث فيها على مدى العقد الماضي، وما زال، قد دمّر البنيتين الاقتصادية والتحتية، بما يتطلّب توفير مئات المليارات من الدولارات لإعادة الإعمار، في ظل نظام سياسي متوافق عليه ومقبول شعبيًا.
هناك معضلات عدة تواجه قطاعات مهمة أخرى غير النفط في البلدان العربية، من أهمها قطاع السياحة في بلدان مثل مصر وتونس والمغرب، وكما هو معلوم فإن اقتصادات السياحة والسفر تضررت في ظل أزمة وباء كورونا خلال الشهور الماضية، ولذلك فإنّ أعداد السياح القادمين إلى البلدان العربية قد تراجعت بفعل الإجراءات والمخاوف من الإصابات، لكن قطاع السياحة في البلدان المشار إليها يمثّل مصدرًا مهمًا لإيراداتها، كما أن القطاع يشكّل مشغلًا مهمًا لتوظيف أعداد مهمة من قوة العمل.
معالجات بنيوية
مهما يكن من أمر، فإنّ إحياء القطاع السياحي خلال السنوات القادمة يتطلّب جهودًا مهمة في تطوير الخدمات وإبداعًا في التسويق والتعامل مع منافسة بلدان أخرى ذات إمكانية جذب سياحي. ويتوقّع عدد من الاقتصاديين أن تتغير سلوكيات السفر خلال العقد القادم، وربما تؤدي الإجراءات المتعلقة بالوقاية الصحية إلى تعطيل تدفق السياح بين البلدان، تواجه بلدان مهمة مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا مشكلات في إنعاش قطاع السياحة، فما بالك ببلدان مثل مصر وتونس؟ ما يمكن تأكيده هو أن الاقتصاد العربي يتطلب معالجات بنيوية تؤدي إلى تعظيم المردود من مختلف الأنشطة ذات الجدوى والميزات النسبية، كما أنّ أوضاع التنمية البشرية تتطلب إعادة النظر وتصحيح المفاهيم المتعلقة بالتعليم، حيث لم تعد هناك فائدة من وجود أعداد كبيرة من خريجي الجامعات في ظل تدنّي أعداد المهنيين والحرفيين وذوي المهارات.
لن تتمكن الاقتصادات العربية من تحقيق الانتعاش وتعزيز فرص التوظف أمام الشباب وتحسين ظروف المعيشة من دون الاستقرار السياسي ومحاربة والفساد وهيمنة حكومات تتمتع بالنزاهة والصدقية وثقة الشعوب العربية ■