القِيَم في الشعر العربي.. العصر الجاهلي أنموذجًا

القِيَم في الشعر العربي.. العصر الجاهلي أنموذجًا

  ‬يُشكّل‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬منْجَمًا‭ ‬غنيًّا،‭ ‬مفتوحًا‭ ‬على‭ ‬حقولٍ‭ ‬معرفية‭ ‬شتّى،‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬تلك‭ ‬المنتمية‭ ‬إلى‭ ‬مجال‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬منها‭. ‬لذلك،‭ ‬يُعْتَبَرُ‭ ‬مصدرًا‭ ‬معرفيًّا‭ ‬مهمًّا‭ ‬للدارسين‭ ‬والباحثين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العلوم،‭ ‬على‭ ‬أنواعها؛‭ ‬فالمؤرّخون‭ ‬استعانوا‭ ‬به‭ ‬للإلمام‭ ‬بتاريخ‭ ‬العهود‭ ‬القديمة،‭ ‬والجغرافيّون‭ ‬أفادوا‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬المواقع‭ ‬الجغرافية،‭ ‬والمفسّرون‭ ‬رجعوا‭ ‬إليه‭ ‬لتفسير‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬واللغويون‭ ‬اتخذوه‭ ‬معيارًا‭ ‬لتمييز‭ ‬الصواب‭ ‬من‭ ‬الخطأ،‭ ‬والبلاغيّون‭ ‬وجدوا‭ ‬فيه‭ ‬حقلًا‭ ‬لإجراء‭ ‬تجاربهم‭ ‬البلاغية،‭ ‬والتربويون‭ ‬نقّبوا‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬الكنوز‭ ‬التربوية‭ ‬الدفينة‭. ‬وفي‭ ‬الوقائع‭ ‬الدّالة‭ ‬على‭ ‬أهمّية‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬النقاد‭ ‬أسْمَوْه‭ ‬ديوان‭ ‬العرب،‭ ‬والإمام‭ ‬الشافعي‭ (‬767‭ - ‬820‭ ‬م‭) ‬جعل‭ ‬معرفته‭ ‬شرطًا‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬الإفتاء‭ ‬والتفسير،‭ ‬والجاحظ‭ (‬776‭ - ‬868‭ ‬م‭) ‬اتّخذه‭ ‬مصدرًا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬تأليف‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الحيوان‮»‬،‭ ‬وياقوت‭ ‬الحموي‭ (‬1179‭ ‬–‭ ‬1229‭ ‬م‭) ‬اعتمد‭ ‬عليه‭ ‬لذكر‭ ‬البوادي‭ ‬والقفار‭ ‬ومنازل‭ ‬العرب،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭.‬

الأهمّية‭ ‬الكبرى‭ ‬لهذا‭ ‬الشعر،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المضمون،‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬القِيَمِ‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬التربوية‭ ‬منها‭. ‬لذلك،‭ ‬كَثُرَت‭ ‬الأقوال‭ ‬التي‭ ‬تَحُضُّ‭ ‬على‭ ‬تعليم‭ ‬الشعر‭ ‬وحفظه،‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬الإسلام،‭ ‬فأشار‭ ‬الخليفة‭ ‬الرّاشدي‭ ‬الأوّل‭ ‬أبوبكر‭ ‬الصّدّيق‭ (‬573‭ ‬ذ‭ ‬634‭ ‬م‭)‬،‭ ‬بتعليمه‭, ‬لارتباطه‭ ‬بمكارم‭ ‬الأخلاق،‭ ‬بقوله‭: ‬اعلّموا‭ ‬أولادكم‭ ‬الشِّعر،‭ ‬فإنّه‭ ‬يعلِّم‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاقب،‭ ‬ودعا‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشدي‭ ‬الثاني‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطّاب‭ (‬584‭ ‬ذ‭ ‬644م‭)‬،‭ ‬للسبب‭ ‬نفسه،‭ ‬إلى‭ ‬حفظ‭ ‬الشعر،‭ ‬بقوله‭: ‬اتَحَفَّظوا‭ ‬الأشعار،‭ ‬وطالعوا‭ ‬الأخبار،‭ ‬فإنّ‭ ‬الشعر‭ ‬يَدعو‭ ‬إلى‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق،‭ ‬ويُعلّم‭ ‬محاسن‭ ‬الأعمال،‭ ‬ويَبعث‭ ‬على‭ ‬جليل‭ ‬الفِعال،‭ ‬ويَفتق‭ ‬الفِطنة،‭ ‬ويَشحذ‭ ‬القريحة،‭ ‬ويَزجر‭ ‬عن‭ ‬مواقعة‭ ‬الرِّيَب،‭ ‬ويَحضّ‭ ‬على‭ ‬معالي‭ ‬الرّتبب‭. ‬وانطلاقًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأهمية،‭ ‬سَنُحاول‭ ‬تلمّس‭ ‬بعض‭ ‬القيم‭ ‬الإيجابية‭ ‬التي‭ ‬يَزخر‭ ‬بها‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬وفي‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭. ‬ذلك‭ ‬لأنّ‭ ‬المقام،‭ ‬على‭ ‬رحبه،‭ ‬لا‭ ‬يَتّسع‭ ‬للإحاطة‭ ‬بالقيم‭ ‬كلّها،‭ ‬وفي‭ ‬العصور‭ ‬جميعها،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ولأنّ‭ ‬البعض‭ ‬يغني‭ ‬عن‭ ‬الكل،‭ ‬والشجرة‭ ‬تُومئ‭ ‬إلى‭ ‬الغابة،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭.‬

 

منظومة‭ ‬فكرية‭ ‬أخلاقية

  ‬القِيَمُ،‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬جمع‭ ‬قيمة،‭ ‬والقيمة‭ ‬هي‭ ‬الثمن‭ ‬الذي‭ ‬يعادل‭ ‬المَتاع‭. ‬والقِيَم،‭ ‬في‭ ‬الاصطلاح،‭ ‬هي‭ ‬منظومة‭ ‬فكرية‭ ‬أخلاقية‭ ‬تُوجّه‭ ‬سلوك‭ ‬الأفراد،‭ ‬وتَحكم‭ ‬خياراتهم،‭ ‬وتُحدّد‭ ‬اتجاهاتهم‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬معيّن،‭ ‬وهي‭ ‬اانعكاسٌ‭ ‬للأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يُفكّر‭ ‬الأشخاص‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬معيّنة،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬معيّنة‭. ‬كما‭ ‬أنّها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تُوجّه‭ ‬سلوك‭ ‬الأفراد‭ ‬وأحكامهم‭ ‬واتّجاهاتهم‭ ‬فيما‭ ‬يَتّصل‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬مرغوب‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬السلوك‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬يَضعه‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬قواعد‭ ‬ومعاييرب،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبير‭ ‬الدكتور‭ ‬عبداللطيف‭ ‬محمّد‭ ‬خليفة‭ (‬ارتقاء‭ ‬القيم،‭ ‬سلسلة‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‭ ‬الكويتية‭). ‬وبذلك،‭ ‬تَجمع‭ ‬بين‭ ‬جماعية‭ ‬التفكير‭ ‬وفردية‭ ‬السلوك،‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬وهي‭ ‬تَختلف‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ومن‭ ‬ثقافة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬جوهرها،‭ ‬متغيّرة‭ ‬في‭ ‬تمظهراتها،‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬العصور‭. ‬وتَخضع‭ ‬لجدلية‭ ‬الموت‭ ‬والحياة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الحاجة‭ ‬والمصلحة‭ ‬والمبدأ‭.‬

  ‬كثيرةٌ‭ ‬هي‭ ‬القِيَمُ‭ ‬التي‭ ‬يَكتنز‭ ‬بها‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬بعضها‭ ‬سلبيٌّ‭ ‬افيه‭ ‬جاهليةب،‭ ‬وقد‭ ‬تخطّاه‭ ‬الزمن،‭ ‬ولم‭ ‬يَعد‭ ‬يَصلح‭ ‬لعصرنا‭ ‬الحالي‭. ‬وبعضها‭ ‬الآخر‭ ‬إيجابي،‭ ‬يَصلح‭ ‬لكلِّ‭ ‬زمانٍ‭ ‬ومكان،‭ ‬ويَرتبط‭ ‬بمكارم‭ ‬الأخلاق،‭ ‬وهو‭ ‬موضوع‭ ‬هذه‭ ‬العجالة‭. ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬مقاربتنا‭ ‬إيّاها‭ ‬تَخضع‭ ‬للمعيار‭ ‬التاريخي،‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬أهمّية‭ ‬القيمة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الفرد‭ ‬وانتظام‭ ‬المجتمع‭. ‬بالانتقال‭ ‬من‭ ‬التّنظير‭ ‬إلى‭ ‬التّطبيق،‭ ‬لعلّ‭ ‬عزّة‭ ‬النفس‭ ‬والصّبر‭ ‬على‭ ‬الجوع‭ ‬من‭ ‬القِيَم‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يَفخر‭ ‬بها‭ ‬الجاهلي،‭ ‬ويُربّي‭ ‬أولاده‭ ‬عليها،‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬صحراوية‭ ‬قاسية،‭ ‬محدودة‭ ‬الموارد،‭ ‬يَندلع‭ ‬فيها‭ ‬الصراع‭ ‬القبلي‭ ‬على‭ ‬الكلأ‭ ‬والماء،‭ ‬ويَدهم‭ ‬الجوع‭ ‬سكّانها،‭ ‬بين‭ ‬حينٍ‭ ‬وآخر،‭ ‬ما‭ ‬يَجعل‭ ‬إيثار‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬مسألة‭ ‬أخلاقية‭ ‬بامتياز،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ويَجعل‭ ‬الصّبر‭ ‬عليه‭ ‬مسألة‭ ‬حياة‭ ‬أو‭ ‬موت،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى،‭ ‬تُصبح‭ ‬القيمة‭ ‬سلاحًا‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬البقاء‭ ‬بين‭ ‬الطبيعة‭ ‬والإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُعبّر‭ ‬عنه‭ ‬الشّنفري‭ ‬الأزدي‭ (‬ت‭: ‬525‭ ‬م‭) ‬في‭ ‬هذين‭ ‬البيتين‭:‬

وإنْ‭ ‬مُدَّتِ‭ ‬الأيدي‭ ‬إلى‭ ‬الزّادِ‭ ‬لم‭ ‬أكُنْ‭   

بأعْجَلِهِمْ،‭ ‬إذْ‭ ‬أجْشَعُ‭ ‬القومِ‭ ‬أعْجَلُ

أُديــمُ‭ ‬مِطــالَ‭ ‬الجــوعِ‭ ‬حتّى‭ ‬أُميتَهُ‭    

وأضرِبُ‭ ‬عنه‭ ‬الذّكرَ‭ ‬صفحًا‭ ‬فأذهَلُ

 

ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬بيئةٍ‭ ‬مثل‭ ‬هذه،‭ ‬وفي‭ ‬غمرة‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الطبيعة‭ ‬والإنسان‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الأخير‭ ‬ونظيره،‭ ‬أن‭ ‬يَكون‭ ‬للمرء‭ ‬عِوَلٌ‭ ‬يُعوّلُ‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأخطار‭ ‬المترتّبة‭ ‬على‭ ‬الصّراعين،‭ ‬فَيَروح‭ ‬يَبحث‭ ‬عن‭  ‬بصيرٍ،‭ ‬سَبّاقٍ‭ ‬إلى‭ ‬كسب‭ ‬الحمد،‭ ‬يَحمل‭ ‬لواءه،‭ ‬ويَشهد‭ ‬ناديه،‭ ‬ويُحْكِم‭ ‬قوله،‭ ‬ويَحْسُن‭ ‬فعله،‭ ‬وتَعلو‭ ‬همّته‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُعوّل‭ ‬عليه‭ ‬تأبّط‭ ‬شرًّا‭ (‬540‭ ‬م‭) ‬بقوله‭:‬

لكنَّما‭ ‬عِوَلي،‭ ‬إنْ‭ ‬كُنْتُ‭ ‬ذا‭ ‬عِوَلٍ

على‭ ‬بَصيرٍ‭ ‬بِكَسْبِ‭ ‬الحَمْدِ‭ ‬سَبّاقِ

حَمّـــالِ‭ ‬ألْوِيَةٍ،‭  ‬شَهّــــادِ‭ ‬أنْدِيَةٍ

قـَـوّالِ‭ ‬مُحْكَمَــةٍ،‭ ‬جَــوّابِ‭ ‬آفــاقِ‭ ‬

 

جامعًا‭ ‬فيهما‭ ‬بين‭ ‬التّبصّر‭ ‬والتّقدّم‭ ‬والتّفاعل‭ ‬والحكمة‭ ‬والطّموح،‭ ‬وهي‭ ‬قِيَمٌ‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنها‭ ‬للإنسان‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭. ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الصّبر‭ ‬الذي‭ ‬تَقتضيه‭ ‬طبيعة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬قد‭ ‬يَقترن‭ ‬بِقِيَمٍ‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬منها‭ ‬لانتظام‭ ‬الحياة،‭ ‬في‭ ‬إطارٍ‭ ‬اجتماعي‭ ‬تُشكّل‭ ‬القبيلة‭ ‬لُحمته‭ ‬وسَداه،‭ ‬ومنها‭ ‬البِرّ‭ ‬بالعهد‭ ‬والوفاء‭. ‬وهذه‭ ‬القِيَم‭ ‬هي‭ ‬مَعايير‭ ‬الفُتُوَّة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ (‬ت‭: ‬542‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬يُخاطب‭ ‬رفيقه‭ ‬بالقول‭:‬

فَدَعْ‭ ‬ذا،‭ ‬وَسَلِّ‭ ‬الهَمَّ‭ ‬عنْكَ‭ ‬بِجَسْرةٍ‭     

ذَمولٍ‭ ‬إذا‭ ‬صامَ‭ ‬النّهارُ‭ ‬وهَجَّرا

عليها‭ ‬فتًى‭ ‬لم‭ ‬تحمــلِ‭ ‬الأرضُ‭ ‬مثلَــهُ‭      

أبرَّ‭ ‬بميثاقٍ،‭ ‬وأوفى،‭ ‬وأصبرا

 

والبِرّ‭ ‬بالعهد‭ ‬والوفاء‭ ‬قيمتان‭ ‬جسّدهما‭ ‬السَّموأل‭ ‬بن‭ ‬عادياء‭ (‬ت‭: ‬560‭ ‬م‭) ‬في‭ ‬سلوكه،‭ ‬ودفع‭ ‬ثمنًا‭ ‬غاليًا‭ ‬جرّاء‭ ‬ذلك؛‭ ‬فحين‭ ‬استودعه‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬دروعًا،‭ ‬كان‭ ‬ملوك‭ ‬كندة‭ ‬يتوارثونها‭ ‬مَلِكًا‭ ‬عن‭ ‬مَلِك،‭ ‬وخيّره‭ ‬مَلِك‭ ‬الحيرة،‭ ‬الحارث‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬شَمِر‭ ‬الغسّاني،‭ ‬بين‭ ‬الوفاء‭ ‬بذمّته‭ ‬وقتل‭ ‬ابنه،‭ ‬اختار‭ ‬الوفاء‭ ‬بالذمّة،‭ ‬في‭ ‬سابقة‭ ‬تاريخية،‭ ‬جعلته‭ ‬مَضْرِبَ‭ ‬مَثَلٍ‭ ‬في‭ ‬الوفاء،‭ ‬وعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بالقول‭:‬

وَفَيْتُ‭ ‬بِأدْرُعِ‭ ‬الكِنْدِيِّ‭ ‬إنّي‭        

إذا‭ ‬ما‭ ‬خانَ‭ ‬أقوامٌ‭ ‬وَفَيْتُ‭        

 

وثمّة‭ ‬قِيَمٌ‭ ‬أخرى‭ ‬يعبّر‭ ‬عنها‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬هي‭  ‬ترجمة‭ ‬قوليّة‭ ‬لسلوكٍ‭ ‬فِعليّ‭...  ‬نَذكر‭ ‬منها‭: ‬صونَ‭ ‬العِرض‭ ‬والصبرَ‭ ‬على‭ ‬الضّيم،‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

إذا‭ ‬المرءُ‭ ‬لم‭ ‬يُدْنَسْ‭ ‬منَ‭ ‬اللؤمِ‭ ‬عِرْضُهُ‭      

فَكُــلُّ‭ ‬رداءٍ‭ ‬يَرتديــهِ‭ ‬جّميـــلُ

وإنْ‭ ‬هوَ‭ ‬لم‭ ‬يَحْمِلْ‭ ‬على‭ ‬النَّفْسِ‭ ‬ضَيْمَها‭    

فَلَيْسَ‭ ‬إلى‭ ‬حُسْنِ‭ ‬الثَّناءِ‭ ‬سَبيلُ

 

وإعزازَ‭ ‬الجار‭ ‬الذي‭ ‬يَستبطن‭ ‬قوَة‭ ‬الجماعة‭ ‬المُعِزَّة‭ ‬على‭ ‬قلّتها،‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

وما‭ ‬ضرَّنا‭ ‬أنّا‭ ‬قليلٌ‭ ‬وجارُنا‭    

عَزيزٌ،‭ ‬وجارُ‭ ‬الأكثرينَ‭ ‬ذَليلُ

والكَرَمَ‭ ‬وإغاثةَ‭ ‬الملهوف،‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

وما‭ ‬أُخْمِدَتْ‭ ‬نارٌ‭ ‬لنا‭ ‬دونَ‭ ‬طارقٍ‭    

ولا‭ ‬ذمَّنا‭ ‬في‭ ‬النّازلينَ‭ ‬نَزيلُ

 

ومن‭ ‬الجَلي‭ ‬أنّ‭ ‬التّعبير‭ ‬عن‭ ‬هاتين‭ ‬القيمتين‭ ‬الأخيرتين‭ ‬يَلجأ‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬التّكنية‭ ‬والتّلميح‭ ‬بينما‭ ‬نَراه‭ ‬يَستخدم‭ ‬التّصريح‭ ‬المباشر‭ ‬في‭ ‬التّعبير‭ ‬عن‭ ‬القِيَمِ‭ ‬الأخرى‭.  ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬قد‭ ‬جعل‭ ‬البِرّ‭ ‬بالعهد‭ ‬والوفاء‭ ‬والصّبر‭ ‬مَعايير‭ ‬الفُتُوَّة،‭ ‬فإنّ‭ ‬طرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد‭ (‬ت‭: ‬564‭ ‬م‭) ‬جعل‭ ‬لها‭ ‬معايير‭ ‬أخرى‭ ‬تَتمثّل‭ ‬في‭ ‬قِيَم‭ ‬المروءة‭ ‬والشّجاعة‭ ‬والرِّفد،‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

إذا‭ ‬القومُ‭ ‬قالوا‭: ‬منْ‭ ‬فتًى؟‭ ‬خِلْتُ‭ ‬أنّني‭    

عُنيــتُ،‭ ‬فلم‭ ‬أكسـَلْ‭ ‬ولم‭ ‬أتبلَّــدِ

وَلَسـْــتُ‭ ‬بِحـَـلاّلِ‭ ‬التّـــلاعِ‭ ‬مَخافـَــةً‭      

ولكنْ‭ ‬متى‭ ‬يَسْتَرْفدِ‭ ‬القومُ‭ ‬أرْفِدِ‭ ‬

 

وبذلك،‭ ‬يَكون‭ ‬الشّاعران‭ ‬كلاهما‭ ‬قد‭ ‬وضعا‭ ‬معايير‭ ‬مثالية‭ ‬للفتوّة،‭ ‬ورسما‭ ‬صورة‭ ‬نموذجيّة‭ ‬للفتى‭. ‬والمعايير‭ ‬والصّورة‭ ‬جميعها‭ ‬تَنطلق‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬لكنها‭ ‬تَصلح‭ ‬لكلِّ‭ ‬زمانٍ‭ ‬ومكان،‭ ‬ما‭ ‬يَجعل‭ ‬القِيَم‭ ‬المعبَّر‭ ‬عنها‭ ‬عابرةً‭ ‬للتاريخ‭ ‬والجغرافيا،‭ ‬ويُدخلها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬المطلق‭ ‬على‭ ‬نسبيَّتها‭.‬

إنّ‭ ‬القِيَم‭ ‬التي‭ ‬يَكتنز‭ ‬بها‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬لم‭ ‬تَأتِ‭ ‬من‭ ‬العَدَم‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مُستمَدّة‭ ‬من‭ ‬السّلوك‭ ‬العَمَلي‭ ‬للأفراد‭ ‬والجماعة‭. ‬ولئنْ‭ ‬كان‭ ‬السَّموأل‭ ‬مَضْرِبَ‭ ‬مَثَلٍ‭ ‬في‭ ‬الوفاء،‭ ‬فإنّ‭ ‬نظيرًا‭ ‬له‭ ‬كان‭ ‬مَضْرِبَ‭ ‬مَثَلٍ‭ ‬في‭ ‬الكَرَم‭ ‬هو‭ ‬حاتم‭ ‬الطائي‭ (‬ت‭: ‬578‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬يَرفض‭ ‬أن‭ ‬يَأكل‭ ‬الزّاد‭ ‬وحده،‭ ‬ويَطلب‭ ‬إلى‭ ‬زوجته‭ ‬أن‭ ‬تَلتمس‭ ‬له‭ ‬أكيلاً‭ ‬يُشاركه‭ ‬فيه‭:‬

  ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬صَنَعْتِ‭ ‬الزّادَ،‭ ‬فالتمسي‭ ‬لَهُ‭     

‭ ‬أكيلاً،‭ ‬فإنّي‭ ‬لسْتُ‭ ‬آكلهُ‭ ‬وحدي

 

وهو‭ ‬يَفخر‭ ‬بعبوديَّتِهِ‭ ‬للضَّيف‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

وإنّي‭ ‬لَعَبْدُ‭ ‬الضَّيْفِ‭ ‬ما‭ ‬دامَ‭ ‬ثاويًا‭    

‭ ‬وما‭ ‬فيَّ‭ ‬إلاّ‭ ‬تلكّ‭ ‬من‭ ‬شِيَمةِ‭ ‬العبدِ

 

وهذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬العبودية‭ ‬لا‭ ‬يَنتقص‭ ‬من‭ ‬أهمّيّة‭ ‬الإقدام،‭ ‬ولا‭ ‬يَتناقض‭ ‬مع‭ ‬إعزاز‭ ‬النّفس‭ ‬وسواهما‭ ‬من‭ ‬القِيَم،‭ ‬فَتُشكّل‭ ‬درجات‭ ‬في‭ ‬سُلَّم‭ ‬القِيَم‭ ‬نفسه‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُعبَر‭ ‬عنه‭ ‬الشّاعر‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

وَللّهِ‭ ‬صُعْلــوكٌ‭ ‬يُســاوِرُ‭ ‬همَّـــهُ‭        

ويَمضي،‭ ‬على‭ ‬الأحداثِ‭ ‬والدَّهرِ،‭ ‬مُقْدِما

فَنَفْسَكَ‭ ‬أكرمْها،‭ ‬فإنّكَ‭ ‬إنء‭ ‬تَهُنْ‭      

عليــكَ‭ ‬فلــنْ‭ ‬تُلفــي‭ ‬لكَ‭ ‬الدَّهــرَ‭  ‬مُكْرِمــا

 

هذه‭ ‬القِيَم‭ ‬نفسها‭ ‬يُعبّر‭ ‬عنها‭ ‬سلوكًا‭ ‬وشعرًا‭ ‬الشّاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬الآخر‭ ‬عنترة‭ ‬العبسي‭ (‬ت‭: ‬600‭ ‬م‭) ‬الذي‭ ‬يُضْرَبُ‭ ‬المَثَلُ‭ ‬في‭ ‬قوّته‭ ‬وشجاعته،‭ ‬وحسبُنا‭ ‬أن‭ ‬نُشير‭ ‬إلى‭ ‬اثنتين‭ ‬منها،‭ ‬هما‭ ‬صون‭ ‬العِرض‭ ‬والكَرَم،‭ ‬فَيُخاطب‭ ‬حبيبته‭ ‬عبلة‭ ‬مفتخرًا‭ ‬بتجسيده‭ ‬هاتين‭ ‬القيمتين‭ ‬بالقول‭:‬

  ‬فإذا‭ ‬شَرِبــْـتُ‭ ‬فإنّنــي‭ ‬مُستهلـِــكٌ‭         

مالي،‭ ‬وعِرْضي‭ ‬وافرٌ‭ ‬لمْ‭ ‬يُكْلَمِ

  ‬وَإذا‭ ‬صَحَوْتُ‭ ‬فما‭ ‬أُقَصِّرُ‭ ‬عن‭ ‬ندًى‭        

وكما‭ ‬عَلِمْتِ‭ ‬شَمائلي‭ ‬وَتَكَرُّمي

 

على‭ ‬أنّ‭ ‬النّدى‭ ‬وإكرام‭ ‬الضَّيف‭ ‬وحماية‭ ‬النّزيل‭ ‬تَكتسب‭ ‬قيمة‭ ‬مضافة‭ ‬حين‭ ‬تَصدر‭ ‬عن‭ ‬ضيق‭ ‬ذات‭ ‬اليد‭ ‬وليس‭ ‬عن‭ ‬السَّعة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يُعبّر‭ ‬عنه‭ ‬ذو‭ ‬الإصبع‭ ‬العدواني‭ (‬ت‭: ‬600‭ ‬م‭) ‬بالقول‭:‬

أُكْرِمُ‭ ‬الضَّيفَ‭ ‬والنَّزيلَ‭ ‬وإنْ‭ ‬بتُّ‭   

خميصًا،‭ ‬يَضُمُّ‭ ‬بعضِيَ‭ ‬بعضي

  ‬القِيَمُ‭ ‬نفسُها‭ ‬تقريبًا‭ ‬تَتكرّر‭ ‬من‭ ‬شاعرٍ‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬مع‭ ‬اختلافٍ‭ ‬طفيفٍ،‭ ‬يَتمظهر‭ ‬في‭ ‬التَّرتيب‭ ‬أو‭ ‬الحَذف‭ ‬أو‭ ‬الإضافة‭ ‬بما‭ ‬يُناسب‭ ‬مقتضى‭ ‬الحال‭ ‬وطبيعة‭ ‬الموقف‭. ‬فها‭ ‬هو‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سُلمى‭ ‬المُزَني‭ (‬ت‭: ‬609‭ ‬م‭) ‬يَحتفي‭ ‬بصون‭ ‬العرض،‭ ‬ورفد‭ ‬القوم،‭ ‬والذَّود‭ ‬عن‭ ‬الحوض،‭ ‬بقوله‭:‬

وَمَنْ‭ ‬يَجْعَلِ‭ ‬المعروفَ‭ ‬مِنْ‭ ‬دونِ‭ ‬عِرْضِهِ

‭ ‬يَفِرْهُ،‭ ‬وَمَنْ‭ ‬لا‭ ‬يَتَّقِ‭ ‬الشَّتْمَ‭ ‬يُشْتَمِ

وَمَــنْ‭ ‬يَــكُ‭ ‬ذا‭ ‬فَضْــلٍ‭ ‬فَيَبْخَــلْ‭ ‬بِفَضْلِــهِ

على‭ ‬قومِهِ،‭ ‬يُسْتَغْنَ‭ ‬عنْهُ‭ ‬وَيُذْمَمِ

وَمَــنْ‭ ‬لم‭ ‬يَذُدْ‭ ‬عــنْ‭ ‬حَوْضِــهِ‭ ‬بِسِلاحِــهِ

يُهَدَّمْ،‭ ‬وَمَنْ‭ ‬لا‭ ‬يَظْلِمِ‭ ‬النّاسَ‭ ‬يُظْلَمِ

‭***‬

وبعد،‭ ‬هذه‭ ‬القِيَمُ‭ ‬وغيرها‭ ‬ممّا‭ ‬يَزخر‭ ‬به‭ ‬الشِّعر‭ ‬العربيُّ‭ ‬القديم‭ ‬تُشكّل‭ ‬منظومةً‭ ‬أخلاقيّةً‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنها‭ ‬لاستقرار‭ ‬الأفراد‭ ‬وانتظام‭ ‬المجتمعات‭. ‬وهي،‭ ‬في‭ ‬جوهرها،‭ ‬تَصلح‭ ‬لكلِّ‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬تعبيراتها،‭ ‬وتنوّعت‭ ‬تمظهراتها‭. ‬وهي،‭ ‬إن‭ ‬دلّت‭ ‬على‭ ‬شيء،‭ ‬إنّما‭ ‬تَدلّ‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الجاهليّة‭ ‬ليست‭ ‬صفةً‭ ‬لنوع‭  ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬تأريخٌ‭ ‬لعصر،‭ ‬وعلى‭ ‬أنّ‭ ‬الشِّعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬مصدرٌ‭ ‬معرفيٌّ‭ ‬لا‭ ‬يُستغنى‭ ‬عنه‭ ‬للإضاءة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬وثقافته‭ ‬وقِيَمه‭ ‬وعاداته‭ ‬وتقاليده‭ ‬وأنماط‭ ‬العيش‭ ‬فيه،‭ ‬بمعزلٍ‭ ‬عن‭ ‬شعريّته‭ ‬وجماليّته‭ ‬الباذخة‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬تغدو‭ ‬العودة‭ ‬إليه‭ ‬محفوفةً‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الفائدة‭ ‬والمتعة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تَطمح‭ ‬إليه‭ ‬هذه‭ ‬العُجالة‭■‬