القِيَم في الشعر العربي.. العصر الجاهلي أنموذجًا
يُشكّل الشعر العربي القديم منْجَمًا غنيًّا، مفتوحًا على حقولٍ معرفية شتّى، لا سيّما تلك المنتمية إلى مجال العلوم الإنسانية منها. لذلك، يُعْتَبَرُ مصدرًا معرفيًّا مهمًّا للدارسين والباحثين في هذه العلوم، على أنواعها؛ فالمؤرّخون استعانوا به للإلمام بتاريخ العهود القديمة، والجغرافيّون أفادوا منه في تحديد المواقع الجغرافية، والمفسّرون رجعوا إليه لتفسير القرآن الكريم، واللغويون اتخذوه معيارًا لتمييز الصواب من الخطأ، والبلاغيّون وجدوا فيه حقلًا لإجراء تجاربهم البلاغية، والتربويون نقّبوا فيه عن الكنوز التربوية الدفينة. وفي الوقائع الدّالة على أهمّية الشعر في تاريخ الأدب العربي، النقاد أسْمَوْه ديوان العرب، والإمام الشافعي (767 - 820 م) جعل معرفته شرطًا من شروط الإفتاء والتفسير، والجاحظ (776 - 868 م) اتّخذه مصدرًا من مصادر تأليف كتاب «الحيوان»، وياقوت الحموي (1179 – 1229 م) اعتمد عليه لذكر البوادي والقفار ومنازل العرب، على سبيل المثال لا الحصر.
الأهمّية الكبرى لهذا الشعر، من حيث المضمون، تكمن في القِيَمِ التي ينطوي عليها لا سيّما التربوية منها. لذلك، كَثُرَت الأقوال التي تَحُضُّ على تعليم الشعر وحفظه، منذ فجر الإسلام، فأشار الخليفة الرّاشدي الأوّل أبوبكر الصّدّيق (573 ذ 634 م)، بتعليمه, لارتباطه بمكارم الأخلاق، بقوله: اعلّموا أولادكم الشِّعر، فإنّه يعلِّم مكارم الأخلاقب، ودعا الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطّاب (584 ذ 644م)، للسبب نفسه، إلى حفظ الشعر، بقوله: اتَحَفَّظوا الأشعار، وطالعوا الأخبار، فإنّ الشعر يَدعو إلى مكارم الأخلاق، ويُعلّم محاسن الأعمال، ويَبعث على جليل الفِعال، ويَفتق الفِطنة، ويَشحذ القريحة، ويَزجر عن مواقعة الرِّيَب، ويَحضّ على معالي الرّتبب. وانطلاقًا من هذه الأهمية، سَنُحاول تلمّس بعض القيم الإيجابية التي يَزخر بها الشعر العربي، وفي العصر الجاهلي، على وجه التحديد. ذلك لأنّ المقام، على رحبه، لا يَتّسع للإحاطة بالقيم كلّها، وفي العصور جميعها، من جهة، ولأنّ البعض يغني عن الكل، والشجرة تُومئ إلى الغابة، من جهة ثانية.
منظومة فكرية أخلاقية
القِيَمُ، في اللغة، جمع قيمة، والقيمة هي الثمن الذي يعادل المَتاع. والقِيَم، في الاصطلاح، هي منظومة فكرية أخلاقية تُوجّه سلوك الأفراد، وتَحكم خياراتهم، وتُحدّد اتجاهاتهم في مجتمع معيّن، وهي اانعكاسٌ للأسلوب الذي يُفكّر الأشخاص به في ثقافة معيّنة، وفي فترة زمنية معيّنة. كما أنّها هي التي تُوجّه سلوك الأفراد وأحكامهم واتّجاهاتهم فيما يَتّصل بما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه من أشكال السلوك في ضوء ما يَضعه المجتمع من قواعد ومعاييرب، على حدّ تعبير الدكتور عبداللطيف محمّد خليفة (ارتقاء القيم، سلسلة عالم المعرفة الكويتية). وبذلك، تَجمع بين جماعية التفكير وفردية السلوك، في آن. وهي تَختلف من مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، ثابتة في جوهرها، متغيّرة في تمظهراتها، على مرّ العصور. وتَخضع لجدلية الموت والحياة في ضوء الحاجة والمصلحة والمبدأ.
كثيرةٌ هي القِيَمُ التي يَكتنز بها الشعر الجاهلي، بعضها سلبيٌّ افيه جاهليةب، وقد تخطّاه الزمن، ولم يَعد يَصلح لعصرنا الحالي. وبعضها الآخر إيجابي، يَصلح لكلِّ زمانٍ ومكان، ويَرتبط بمكارم الأخلاق، وهو موضوع هذه العجالة. على أنّ مقاربتنا إيّاها تَخضع للمعيار التاريخي، بمعزل عن أهمّية القيمة في حياة الفرد وانتظام المجتمع. بالانتقال من التّنظير إلى التّطبيق، لعلّ عزّة النفس والصّبر على الجوع من القِيَم الأولى التي يَفخر بها الجاهلي، ويُربّي أولاده عليها، في بيئة صحراوية قاسية، محدودة الموارد، يَندلع فيها الصراع القبلي على الكلأ والماء، ويَدهم الجوع سكّانها، بين حينٍ وآخر، ما يَجعل إيثار الآخر على الذات مسألة أخلاقية بامتياز، من جهة، ويَجعل الصّبر عليه مسألة حياة أو موت، من جهة ثانية. وبهذا المعنى، تُصبح القيمة سلاحًا في صراع البقاء بين الطبيعة والإنسان، وهو ما يُعبّر عنه الشّنفري الأزدي (ت: 525 م) في هذين البيتين:
وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزّادِ لم أكُنْ
بأعْجَلِهِمْ، إذْ أجْشَعُ القومِ أعْجَلُ
أُديــمُ مِطــالَ الجــوعِ حتّى أُميتَهُ
وأضرِبُ عنه الذّكرَ صفحًا فأذهَلُ
ومن الطبيعي في بيئةٍ مثل هذه، وفي غمرة الصراع بين الطبيعة والإنسان أو بين الأخير ونظيره، أن يَكون للمرء عِوَلٌ يُعوّلُ عليه في مواجهة الأخطار المترتّبة على الصّراعين، فَيَروح يَبحث عن بصيرٍ، سَبّاقٍ إلى كسب الحمد، يَحمل لواءه، ويَشهد ناديه، ويُحْكِم قوله، ويَحْسُن فعله، وتَعلو همّته. وهو ما يُعوّل عليه تأبّط شرًّا (540 م) بقوله:
لكنَّما عِوَلي، إنْ كُنْتُ ذا عِوَلٍ
على بَصيرٍ بِكَسْبِ الحَمْدِ سَبّاقِ
حَمّـــالِ ألْوِيَةٍ، شَهّــــادِ أنْدِيَةٍ
قـَـوّالِ مُحْكَمَــةٍ، جَــوّابِ آفــاقِ
جامعًا فيهما بين التّبصّر والتّقدّم والتّفاعل والحكمة والطّموح، وهي قِيَمٌ لا غنى عنها للإنسان في كلّ زمان ومكان. على أنّ الصّبر الذي تَقتضيه طبيعة الحياة في الصحراء، قد يَقترن بِقِيَمٍ أخرى لا بدّ منها لانتظام الحياة، في إطارٍ اجتماعي تُشكّل القبيلة لُحمته وسَداه، ومنها البِرّ بالعهد والوفاء. وهذه القِيَم هي مَعايير الفُتُوَّة من وجهة نظر امرئ القيس (ت: 542 م) الذي يُخاطب رفيقه بالقول:
فَدَعْ ذا، وَسَلِّ الهَمَّ عنْكَ بِجَسْرةٍ
ذَمولٍ إذا صامَ النّهارُ وهَجَّرا
عليها فتًى لم تحمــلِ الأرضُ مثلَــهُ
أبرَّ بميثاقٍ، وأوفى، وأصبرا
والبِرّ بالعهد والوفاء قيمتان جسّدهما السَّموأل بن عادياء (ت: 560 م) في سلوكه، ودفع ثمنًا غاليًا جرّاء ذلك؛ فحين استودعه امرؤ القيس دروعًا، كان ملوك كندة يتوارثونها مَلِكًا عن مَلِك، وخيّره مَلِك الحيرة، الحارث بن أبي شَمِر الغسّاني، بين الوفاء بذمّته وقتل ابنه، اختار الوفاء بالذمّة، في سابقة تاريخية، جعلته مَضْرِبَ مَثَلٍ في الوفاء، وعبّر عن ذلك بالقول:
وَفَيْتُ بِأدْرُعِ الكِنْدِيِّ إنّي
إذا ما خانَ أقوامٌ وَفَيْتُ
وثمّة قِيَمٌ أخرى يعبّر عنها الشاعر في شعره، هي ترجمة قوليّة لسلوكٍ فِعليّ... نَذكر منها: صونَ العِرض والصبرَ على الضّيم، في قوله:
إذا المرءُ لم يُدْنَسْ منَ اللؤمِ عِرْضُهُ
فَكُــلُّ رداءٍ يَرتديــهِ جّميـــلُ
وإنْ هوَ لم يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمَها
فَلَيْسَ إلى حُسْنِ الثَّناءِ سَبيلُ
وإعزازَ الجار الذي يَستبطن قوَة الجماعة المُعِزَّة على قلّتها، في قوله:
وما ضرَّنا أنّا قليلٌ وجارُنا
عَزيزٌ، وجارُ الأكثرينَ ذَليلُ
والكَرَمَ وإغاثةَ الملهوف، في قوله:
وما أُخْمِدَتْ نارٌ لنا دونَ طارقٍ
ولا ذمَّنا في النّازلينَ نَزيلُ
ومن الجَلي أنّ التّعبير عن هاتين القيمتين الأخيرتين يَلجأ فيه الشاعر إلى التّكنية والتّلميح بينما نَراه يَستخدم التّصريح المباشر في التّعبير عن القِيَمِ الأخرى. وإذا كان امرؤ القيس قد جعل البِرّ بالعهد والوفاء والصّبر مَعايير الفُتُوَّة، فإنّ طرفة بن العبد (ت: 564 م) جعل لها معايير أخرى تَتمثّل في قِيَم المروءة والشّجاعة والرِّفد، في قوله:
إذا القومُ قالوا: منْ فتًى؟ خِلْتُ أنّني
عُنيــتُ، فلم أكسـَلْ ولم أتبلَّــدِ
وَلَسـْــتُ بِحـَـلاّلِ التّـــلاعِ مَخافـَــةً
ولكنْ متى يَسْتَرْفدِ القومُ أرْفِدِ
وبذلك، يَكون الشّاعران كلاهما قد وضعا معايير مثالية للفتوّة، ورسما صورة نموذجيّة للفتى. والمعايير والصّورة جميعها تَنطلق من طبيعة الحياة في العصر الجاهلي، لكنها تَصلح لكلِّ زمانٍ ومكان، ما يَجعل القِيَم المعبَّر عنها عابرةً للتاريخ والجغرافيا، ويُدخلها في مجال المطلق على نسبيَّتها.
إنّ القِيَم التي يَكتنز بها الشعر الجاهلي لم تَأتِ من العَدَم بل هي مُستمَدّة من السّلوك العَمَلي للأفراد والجماعة. ولئنْ كان السَّموأل مَضْرِبَ مَثَلٍ في الوفاء، فإنّ نظيرًا له كان مَضْرِبَ مَثَلٍ في الكَرَم هو حاتم الطائي (ت: 578 م) الذي يَرفض أن يَأكل الزّاد وحده، ويَطلب إلى زوجته أن تَلتمس له أكيلاً يُشاركه فيه:
إذا ما صَنَعْتِ الزّادَ، فالتمسي لَهُ
أكيلاً، فإنّي لسْتُ آكلهُ وحدي
وهو يَفخر بعبوديَّتِهِ للضَّيف في قوله:
وإنّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ ما دامَ ثاويًا
وما فيَّ إلاّ تلكّ من شِيَمةِ العبدِ
وهذا النَّوع من العبودية لا يَنتقص من أهمّيّة الإقدام، ولا يَتناقض مع إعزاز النّفس وسواهما من القِيَم، فَتُشكّل درجات في سُلَّم القِيَم نفسه. وهو ما يُعبَر عنه الشّاعر في قوله:
وَللّهِ صُعْلــوكٌ يُســاوِرُ همَّـــهُ
ويَمضي، على الأحداثِ والدَّهرِ، مُقْدِما
فَنَفْسَكَ أكرمْها، فإنّكَ إنء تَهُنْ
عليــكَ فلــنْ تُلفــي لكَ الدَّهــرَ مُكْرِمــا
هذه القِيَم نفسها يُعبّر عنها سلوكًا وشعرًا الشّاعر الجاهلي الآخر عنترة العبسي (ت: 600 م) الذي يُضْرَبُ المَثَلُ في قوّته وشجاعته، وحسبُنا أن نُشير إلى اثنتين منها، هما صون العِرض والكَرَم، فَيُخاطب حبيبته عبلة مفتخرًا بتجسيده هاتين القيمتين بالقول:
فإذا شَرِبــْـتُ فإنّنــي مُستهلـِــكٌ
مالي، وعِرْضي وافرٌ لمْ يُكْلَمِ
وَإذا صَحَوْتُ فما أُقَصِّرُ عن ندًى
وكما عَلِمْتِ شَمائلي وَتَكَرُّمي
على أنّ النّدى وإكرام الضَّيف وحماية النّزيل تَكتسب قيمة مضافة حين تَصدر عن ضيق ذات اليد وليس عن السَّعة، الأمر الذي يُعبّر عنه ذو الإصبع العدواني (ت: 600 م) بالقول:
أُكْرِمُ الضَّيفَ والنَّزيلَ وإنْ بتُّ
خميصًا، يَضُمُّ بعضِيَ بعضي
القِيَمُ نفسُها تقريبًا تَتكرّر من شاعرٍ إلى آخر، مع اختلافٍ طفيفٍ، يَتمظهر في التَّرتيب أو الحَذف أو الإضافة بما يُناسب مقتضى الحال وطبيعة الموقف. فها هو زهير بن أبي سُلمى المُزَني (ت: 609 م) يَحتفي بصون العرض، ورفد القوم، والذَّود عن الحوض، بقوله:
وَمَنْ يَجْعَلِ المعروفَ مِنْ دونِ عِرْضِهِ
يَفِرْهُ، وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
وَمَــنْ يَــكُ ذا فَضْــلٍ فَيَبْخَــلْ بِفَضْلِــهِ
على قومِهِ، يُسْتَغْنَ عنْهُ وَيُذْمَمِ
وَمَــنْ لم يَذُدْ عــنْ حَوْضِــهِ بِسِلاحِــهِ
يُهَدَّمْ، وَمَنْ لا يَظْلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ
***
وبعد، هذه القِيَمُ وغيرها ممّا يَزخر به الشِّعر العربيُّ القديم تُشكّل منظومةً أخلاقيّةً لا غنى عنها لاستقرار الأفراد وانتظام المجتمعات. وهي، في جوهرها، تَصلح لكلِّ زمان ومكان، وإن اختلفت تعبيراتها، وتنوّعت تمظهراتها. وهي، إن دلّت على شيء، إنّما تَدلّ على أنّ الجاهليّة ليست صفةً لنوع بقدر ما هي تأريخٌ لعصر، وعلى أنّ الشِّعر الجاهلي مصدرٌ معرفيٌّ لا يُستغنى عنه للإضاءة على ذلك العصر وثقافته وقِيَمه وعاداته وتقاليده وأنماط العيش فيه، بمعزلٍ عن شعريّته وجماليّته الباذخة. من هنا، تغدو العودة إليه محفوفةً بالكثير من الفائدة والمتعة، وهو ما تَطمح إليه هذه العُجالة■