خصوصية الرواية التاريخية.. رواية الحاج ألمان نموذجًا

خصوصية الرواية التاريخية.. رواية الحاج ألمان نموذجًا

أصبحت‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬ظاهرة‭ ‬تؤثت‭ ‬مشهدنا‭ ‬الروائي‭ ‬العربي‭ ‬بشكل‭ ‬ملفت‭ ‬للنظر‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الرقعة‭ ‬الجغرافية‭ ‬التي‭ ‬تشغلها،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التحقيب‭ ‬الزمني،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التناول‭ ‬الجمالي‭. ‬وتندرج‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬ضمن‭ ‬السياق‭ ‬النقدي‭ ‬المنشغل‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي؛‭ ‬حيث‭ ‬تبني‭ ‬استراتيجيتها‭ ‬على‭ ‬أسئلة‭ ‬وملاحظات‭ ‬حول‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬التاريخية‭ ‬العربية‭ ‬بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬وخصوصية‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬عند‭ ‬الروائي‭ ‬المصري‭ ‬إبراهيم‭ ‬أحمد‭ ‬عيسى‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة،‭ ‬مسترشدة‭ ‬بمرجعيات‭ ‬وظيفية‭ ‬وسوسيونصية‭ ‬وجمالية‭.‬

تطرح‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬إشكالات‭ ‬خاصة‭ ‬بمرجعية‭ ‬الحدث‭ ‬الروائي،‭ ‬فالمعروف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬التاريخية‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬مرجعيتين‭ ‬أساسيتين،‭ ‬هما‭ ‬المرجعية‭ ‬الواقعية‭ ‬والمرجعية‭ ‬التخيلية‭. ‬لكن‭ ‬السؤال‭ ‬يبقى‭ ‬مطروحًا‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬اشتغال‭ ‬كلتا‭ ‬المرجعيتين،‭ ‬هذه‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬تُفرد‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الكتابات‭ ‬السردية‭. ‬فثنائية‭ ‬الواقعي‭ ‬والمتخيل‭ ‬تمتد‭ ‬لأشكال‭ ‬سردية‭ ‬أخرى؛‭ ‬كالسيرة‭ ‬والرحلة‭ ‬والرواية؛‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية،‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الأنواع‭ ‬السردية،‭ ‬يتجاوز‭ ‬الخصائص‭ ‬البنيوية‭ ‬والجمالية،‭ ‬إلى‭ ‬أبعاد‭ ‬تداولية؛‭ ‬خاصة‭ ‬البعد‭ ‬المقصدي‭. ‬

فبينما‭ ‬يصر‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العادية،‭ ‬مثلًا،‭ ‬على‭ ‬نفي‭ ‬المرجع‭ ‬الواقعي،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬عبارات‭ ‬تفتتح‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬اكل‭ ‬تشابه‭ ‬بين‭ ‬شخصيات‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬وشخصيات‭ ‬حقيقية‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الواقع‭ ‬هو‭ ‬تشابه‭ ‬غير‭ ‬مقصود‭ ‬ومن‭ ‬نتاج‭ ‬الصدفةب،‭ ‬وفي‭ ‬حين‭ ‬يصر‭ ‬كاتب‭ ‬السيرة‭ ‬أو‭ ‬الرحلة‭ ‬على‭ ‬نفي‭ ‬المرجع‭ ‬الخيالي‭ ‬في‭ ‬أعماله،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬حضوره‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر،‭ ‬فإن‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬تواطؤ‭ ‬مسبق‭ ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬المفترض‭ ‬حول‭ ‬امتزاج‭ ‬التاريخي‭ ‬الواقعي‭ ‬بالخيالي‭. ‬إذ‭ ‬تكفي‭ ‬الإحالة‭ ‬على‭ ‬شخصيات‭ ‬تاريخية‭ ‬وأمكنة‭ ‬واقعية‭ ‬ووجود‭ ‬الحكاية‭... ‬لبناء‭ ‬هذا‭ ‬التواطؤ‭ ‬الضمني‭ ‬بينهما‭. ‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬يُصعب،‭ ‬في‭ ‬نظرنا،‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬التاريخية،‭ ‬لأن‭ ‬صاحبها‭ ‬ملزم‭ ‬بالإحاطة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بالتاريخ‭ ‬العام‭ ‬المسرود‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ملزم‭ ‬بالإحاطة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الديني‭ ‬للفترة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬يكتب‭ ‬عنها‭ (‬مذاهب‭ ‬فقهية‭ ‬ونحل‭ ‬فلسفية‭ ‬وتيارات‭ ‬فكرية‭ ‬وطرق‭ ‬صوفية‭)‬،‭ ‬والإحاطة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والثقافي‭ ‬بتشكلاته‭ ‬المختلفة‭ (‬لباس،‭ ‬طعام،‭ ‬عمران،‭ ‬أثاث،‭ ‬احتفالات‭)‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الإحاطة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬اللغوي‭ ‬والفني‭ ‬والنفسي‭ ‬والعاطفي‭ ‬للشخصيات‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يتطلب‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬المضني‭ ‬والتنقيب‭ ‬العميق‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬محكوم‭ ‬بالخصائص‭ ‬الفنية‭ ‬للكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومحكوم‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬بمنطق‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬يكتب‭ ‬عنه،‭ ‬مما‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬التخييل‭ ‬ويقيد‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬التعالق‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والرواية،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬وجود‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوازي‭ ‬والتقابل‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والتاريخ،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬نقاط‭ ‬الاشتراك‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬بهذا‭ ‬التعالق‭ ‬النصي‭ ‬الصريح‭ ‬بينهما؛‭ ‬حيث‭ ‬اللغة‭ ‬والسرد‭ ‬والزمن‭ ‬والمكان‭ ‬والشخوص‭ ‬والوصف،‭ ‬وفي‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك،‭ ‬نجد‭ ‬سمات‭ ‬التباين‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬التمييز‭ ‬بينهما‭ ‬وإفراد‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬بمكونات‭ ‬وسمات‭ ‬خاصة؛‭ ‬حيث‭ ‬تتجلى‭ ‬خصوصية‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬رؤيتها‭ ‬الجمالية‭ ‬وخصائصها‭ ‬الفنية،‭ ‬إذ‭ ‬تحول‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬جافة‭ ‬ونصوص‭ ‬توثيقية‭ ‬ثابتة،‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬ينبض‭ ‬بالحياة‭ ‬ويضج‭ ‬بالألوان‭ ‬ويُفعم‭ ‬بالمفارقات‭. ‬فالرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬تشعرن‭ ‬اللغة‭ ‬وتتلاعب‭ ‬بالسرد‭ ‬استرجاعًا‭ ‬واستشرافًا،‭ ‬وتحطم‭ ‬الزمن‭ ‬الخطي‭ ‬المتدفق،‭ ‬وتعيد‭ ‬هندسة‭ ‬الأمكنة،‭ ‬وتمنحها‭ ‬دينامية‭ ‬وحركة‭ ‬وجمالية،‭ ‬وتتجاوز‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬التاريخي‭ ‬إلى‭ ‬الإنساني‭ ‬المفعم‭ ‬بالعاطفة‭ ‬والمشاعر‭ ‬المتقلبة‭ ‬بين‭ ‬مرارة‭ ‬الانكسارات‭ ‬وحلاوة‭ ‬الانتصارات‭. ‬وباختصار‭ ‬نقول،‭ ‬إن‭ ‬استحضار‭ ‬التاريخ‭ ‬كصناعة‭ ‬يكون‭ ‬مؤطرًا‭ ‬بالبعد‭ ‬العلمي‭ ‬وضوابط‭ ‬المنهج،‭ ‬لكن‭ ‬الكتابة‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬تكون‭ ‬مؤطرة‭ ‬مبدئيًا‭ ‬بالهاجس‭ ‬الجمالي‭ ‬والمقاصد‭ ‬الوظيفية‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬المؤلف‭ ‬أو‭ ‬السارد‭... ‬وهي‭ ‬المحور‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬سنتحدث‭ ‬عنه‭.‬

 

أسباب‭ ‬الكتابة‭ ‬التاريخية

سنقف‭ ‬عند‭ ‬وظائف‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬التاريخية،‭ ‬التي‭ ‬تتعدد‭ ‬بتعدد‭ ‬المرجعيات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والفكرية‭ ‬والفنية‭. ‬ويمكن‭ ‬تصنيف‭ ‬هذه‭ ‬الوظائف‭ ‬في‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭:‬

أ‭ - ‬وظيفة‭ ‬بيداغوجية‭ ‬تعليمية،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬عند‭ ‬جورجي‭ ‬زيدان‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬رواياته‭ ‬التاريخية،‭ ‬إذ‭ ‬يشير‭ ‬في‭ ‬تصدير‭ ‬بعضها،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬كتاباته‭ ‬هو‭ ‬تحبيب‭ ‬درس‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬المتعلمين‭ ‬والناشئة،‭ ‬بعدما‭ ‬لاحظ‭ ‬نفورًا‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬بسبب‭ ‬كثرة‭ ‬الأحداث‭ ‬والتواريخ‭ ‬وجفاف‭ ‬اللغة‭.‬

ب‭ -  ‬وظيفة‭ ‬تعبوية،‭ ‬حيث‭ ‬تعتبر‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬وسيلة‭ ‬لاستنهاض‭ ‬الهمم‭ ‬وبث‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬النفوس،‭ ‬كرواية‭ ‬اكفاح‭ ‬طيبةب‭ ‬لنجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬ورواية‭ ‬االأميرب‭ ‬للروائي‭ ‬الجزائري‭ ‬واسيني‭ ‬الأعرج‭.‬

ج‭ - ‬الاعتصام‭ ‬بالتاريخ‭ ‬لمنع‭ ‬الوعي‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬الانهيار‭ ‬التام،‭ ‬والإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬الانهيار‭ ‬الحضاري‭ ‬والويلات‭ ‬المصاحبة‭ ‬لذلك،‭ ‬خاصة‭ ‬أمام‭ ‬الهزائم‭ ‬المتتالية‭ ‬للأمة‭ ‬العربية،‭ ‬وانكسارات‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬الهزائم‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وفشل‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬عند‭ ‬رضوى‭ ‬عاشور‭ ‬في‭ ‬اثلاثية‭ ‬غرناطةب‭ ‬وإبراهيم‭ ‬أحمد‭ ‬عيسى‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬االبشراتب‭.‬

د‭ - ‬تصريف‭ ‬بعض‭ ‬التابوهات‭ ‬السياسية،‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬خبايا‭ ‬القصور‭ ‬وعالم‭ ‬الدسائس،‭ ‬ونقد‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬واحتكارها‭ ‬للسلطة‭ ‬واستهتارها‭ ‬وفسادها‭ ‬وجنونها،‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬امجنون‭ ‬الحكمب‭ ‬لبنسالم‭ ‬حميش،‭ ‬وبالزيني‭ ‬بركاتب‭ ‬لجمال‭ ‬الغيطاني،‭ ‬وحسن‭ ‬أوريد‭  ‬في‭ ‬راوية‭ ‬االمورسكيب‭ ‬ورواية‭ ‬اربيع‭ ‬قرطبةب‭.‬

هـ‭ - ‬وظيفة‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬العقلانية‭ ‬والسلفية‭ ‬الدينية‭ ‬معًا،‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬رحاب‭ ‬التصوف،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬اهذا‭ ‬الأندلسيب‭ ‬لبنسالم‭ ‬حميش،‭ ‬ورواية‭ ‬اموت‭ ‬صغيرب‭ ‬لصالح‭ ‬علوان،‭ ‬والكتابات‭ ‬العرفانية‭ ‬لابن‭ ‬عرفة‭ ‬وبعض‭ ‬روايات‭ ‬التركية‭ ‬إليف‭ ‬شافاك‭.‬

و‭- ‬وظيفية‭ ‬حجاجية،‭ ‬تندرج‭ ‬ضمن‭ ‬حوار‭ ‬الحضارات‭ ‬والنقد‭ ‬الثقافي،‭ ‬وتتمثل‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬السرد‭ ‬لتوضيح‭ ‬بعض‭ ‬الإشكالات‭ ‬الفكرية‭ ‬والسلوكية‭ ‬والاختلافات‭ ‬الثقافية‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬اباري‭ ‬أنشودة‭ ‬سودانب‭ ‬لإبراهيم‭ ‬أحمد‭ ‬عيسى‭ ‬من‭ ‬إشارات‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬وقضية‭ ‬تعدد‭ ‬الزوجات‭.‬

‭ ‬

خصوصية‭ ‬إبراهيم‭ ‬أحمد‭ ‬عيسى

تتميز‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬عند‭ ‬الروائي‭ ‬المصري‭ ‬إبراهيم‭ ‬أحمد‭ ‬عيسى‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬السمات‭ ‬المميزة،‭ ‬منها‭:‬

أ‭- ‬الالتزام‭ ‬بالمنحى‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية؛‭ ‬إذ‭ ‬تحتفي‭ ‬كل‭ ‬روايات‭ ‬هذا‭ ‬الروائي‭ ‬بالحدث‭ ‬التاريخي‭. ‬فرواية‭ ‬اباري‭ ‬أنشودة‭ ‬سودانب‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الوجود‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ورواية‭ ‬البشرات‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬تسليم‭ ‬مفاتيح‭ ‬غرناطة‭ ‬لفرناندو‭ ‬وإيزابيلا،‭ ‬ورواية‭ ‬طريق‭ ‬الحرير‭ ‬تجري‭ ‬أحداثها‭ ‬بعد‭ ‬استسلام‭ ‬آخر‭ ‬ملوك‭ ‬بني‭ ‬الأحمر‭ ‬في‭ ‬غرناطة‭ ‬أبو‭ ‬عبدالله‭ ‬محمد‭ ‬الثاني،‭ ‬أما‭ ‬رواية‭ ‬اابقَ‭ ‬حيًاب‭ ‬فتسرد‭ ‬أحداثًا‭ ‬عن‭ ‬المجاعة‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬مصر‭ ‬أيام‭ ‬حكم‭ ‬الفاطميين‭. ‬

ب‭ -  ‬مقاربة‭ ‬التاريخ‭ ‬المنسي‭ ‬والهامشي‭ ‬وتجاوز‭ ‬الصيغ‭ ‬الرسمية‭ ‬لهذا‭ ‬التاريخ‭ ‬والمنظومات‭ ‬الفكرية‭ ‬المؤسسة‭ ‬له؛‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬كثيرًا‭ ‬على‭ ‬الأندلس‭ ‬بسبب‭ ‬رمزيتها‭ ‬وطول‭ ‬الوجود‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬بها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬إهمال‭ ‬الوجود‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬صقلية‭ ‬وباري،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيتطرق‭ ‬إليه‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬اباري‭ ‬أنشودة‭ ‬سودانب،‭ ‬كما‭ ‬سيتم‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬جوزيف‭ ‬أوتو‭ ‬كليمس،‭ ‬ذلك‭ ‬الألماني‭ ‬الذي‭ ‬فر‭ ‬من‭ ‬جيش‭ ‬اللفيف‭ ‬الأجنبي‭ ‬التابع‭ ‬للقوات‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬والتحق‭ ‬بجيش‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الخطابي‭... ‬وهي‭ ‬شخصية‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬تذكر‭ ‬عنها‭ ‬شيئًا‭. ‬

ج‭ - ‬هيمنة‭ ‬التخيلي‭ ‬على‭ ‬الواقعي،‭ ‬إذ‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬إبراهيم‭ ‬أحمد‭ ‬عيسى‭ ‬حضور‭ ‬التاريخي‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬محطات‭ ‬كبرى‭ ‬ترسم‭ ‬معالم‭ ‬طريق‭ ‬الحكاية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬التواريخ‭ ‬والشخصيات‭ ‬والأمكنة،‭ ‬عدا‭ ‬هذا‭ ‬يطلق‭ ‬الراوي‭ ‬خياله‭ ‬الخلاق‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الشخوص‭ ‬والأمكنة،‭ ‬ووضع‭ ‬خطط‭ ‬المعارك،‭ ‬وإدارة‭ ‬الحوارات،‭ ‬وتحليل‭ ‬النفسيات‭ ‬والانفعالات،‭ ‬وخلق‭ ‬العقد،‭ ‬وبناء‭ ‬مسلسل‭ ‬التشويق‭.‬

 

الأبعاد‭ ‬الجمالية‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬

‮«‬الحاج‭ ‬ألمان‭ ‬غيوم‭ ‬الريف‮»‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬جنس‭ ‬أدبي‭ ‬دون‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالبعد‭ ‬الجمالي‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬جوهر‭ ‬الأدب‭ ‬وروحه،‭ ‬لكن‭ ‬التشكلات‭ ‬الجمالية‭ ‬للرواية‭ ‬تختلف‭ ‬أيما‭ ‬اختلاف‭ ‬عن‭ ‬الخصائص‭ ‬الفنية‭ ‬للأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬الأخرى‭ ‬وخاصة‭ ‬الشعر‭. ‬ولهذا‭ ‬سنحاول‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬مواطن‭ ‬الجمال‭ ‬ونستكشف‭ ‬مكامن‭ ‬الإبداع‭ ‬التي‭ ‬تخلق‭ ‬المتعة‭ ‬واللذة‭ ‬في‭ ‬قارئ‭ ‬هذا‭ ‬النص‭.‬

‭ ‬يقوم‭ ‬المتن‭ ‬الحكائي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬االحاج‭ ‬ألمان‭ ‬غيوم‭ ‬الريفب‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬النصي‭ ‬الداخلي،‭ ‬ويستمد‭ ‬مادته‭ ‬الأولية‭ ‬مما‭ ‬كتب‭ ‬حول‭ ‬تاريخ‭ ‬الريف‭ ‬والمقاومة‭ ‬الريفية‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة،‭ ‬وتاريخ‭ ‬المقاومة‭ ‬المغربية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬أما‭ ‬البناء‭ ‬الحكائي‭ ‬لهذا‭ ‬النص‭ ‬فهو‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البنيات‭ ‬الأساسية،‭ ‬منها‭:‬

  ‬أولًا‭- ‬بنية‭ ‬تأطيرية‭: ‬أي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬قصة‭ ‬مؤطرة‭ (‬قصة‭ ‬الصحفي‭ ‬الفرنسي‭ ‬رنييه‭ ‬أولفييه‭ ‬أو‭ ‬الراوي‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬طنجة‭ ‬ويخصص‭ ‬أمسية‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬سبت‭ ‬لعشاق‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقاهي‭ ‬طنجة‭ ‬القديمة‭ ‬لسرد‭ ‬قصص‭ ‬وحكايات‭ ‬من‭ ‬تجاربه‭ ‬الحياتية‭ ‬الطويلة‭)‬،‭ ‬وأخرى‭ ‬مؤطرة‭ (‬قصة‭ ‬الألماني‭ ‬جوزيف‭ ‬المعروف‭ ‬بالحاج‭ ‬ألمان‭ ‬الذي‭ ‬ساقته‭ ‬الأقدار‭ ‬من‭ ‬دوسلدورف‭ ‬بألمانيا‭ ‬إلى‭ ‬جبال‭ ‬الريف‭ ‬بشمال‭ ‬المغرب،‭ ‬محاربًا‭ ‬في‭ ‬جيش‭ ‬المقاوم‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الكريم‭ ‬الخطابي‭)‬،‭ ‬وهذا‭ ‬التشكل‭ ‬الجمالي‭ ‬يذكرنا‭ ‬بما‭ ‬يسميه‭ ‬الناقد‭ ‬سعيد‭ ‬بقطين‭ ‬بالتعلق‭ ‬النصي؛‭ ‬أي‭ ‬تعلق‭ ‬نص‭ ‬سردي‭ ‬جديد‭ ‬بنص‭ ‬سردي‭ ‬قديم،‭ ‬ونقصد‭ ‬هنا‭ ‬ذلك‭ ‬التشاكل‭ ‬الواضح‭ ‬بين‭ ‬بنية‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬وبنية‭ ‬حكايات‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬المؤسس‭ ‬الذي‭ ‬لايزال‭ ‬يشتغل‭ ‬في‭ ‬لاوعينا‭ ‬الجمالي‭ ‬وذائقتنا‭ ‬الفنية‭ ‬واختياراتنا‭ ‬الأسلوبية‭.‬

‭ ‬ثانيًا‭- ‬بنية‭ ‬الرحلة‭: ‬تحضر‭ ‬بنية‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬بشكل‭ ‬لافت،‭ ‬وهي‭ ‬بنية،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الناقد‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬المودن،‭ ‬تتميز‭ ‬بالقصدية‭ ‬والواقعية‭ ‬والانتقال‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعدد‭ ‬الفضاءات‭ ‬التي‭ ‬يحضر‭ ‬فيها‭ ‬المحور‭ ‬الرئيسي‭ ‬وهو‭ ‬جوزيف؛‭ ‬حيث‭ ‬سينتقل‭ ‬من‭ ‬دوسلدورف‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬الجزائر،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬مكناس‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬فاس،‭ ‬وبعدها‭ ‬سيلتحق‭ ‬بالمقاومة‭ ‬في‭ ‬الأطلس‭ ‬المغربي،‭ ‬ثم‭ ‬بالمقاومة‭ ‬الريفية،‭ ‬ثم‭ ‬سيختم‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬الرحلي‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا‭.. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬هنا‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬تفاعل‭ ‬نصي‭ ‬ضمني‭ ‬لاواعي‭ ‬مع‭ ‬نص‭ ‬رحلة‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة،‭ ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬عن‭ ‬المغرب‭ ‬وطنجة‭ ‬سرديًا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نستحضر‭ ‬أدب‭ ‬الرحلة‭ ‬المغربي‭. ‬

ثالثاً‭- ‬بنية‭ ‬الترسل‭: ‬تظهر‭ ‬هذه‭ ‬البنية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الرسائل‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬جوزيف‭ ‬أو‭ ‬الحاج‭ ‬ألمان‭ ‬وصديقه‭ ‬الصحفي‭ ‬الفرنسي‭ ‬رينيه‭ ‬أولفييه،‭ ‬وهي‭ ‬بنية‭ ‬أضفت‭ ‬جمالية‭ ‬على‭ ‬هندسة‭ ‬النص،‭ ‬ومنحته‭ ‬دينامية،‭ ‬وكسرت‭ ‬رتابته‭ ‬السردية،‭ ‬كما‭ ‬فتحت‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬أفق‭ ‬إنساني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬رومانسية‭ ‬بين‭ ‬الصحفي‭ ‬رونييه‭ ‬والصحفية‭ ‬البريطانية‭ ‬المقيمة‭ ‬في‭ ‬طنجة‭ ‬آن‭, ‬وسط‭ ‬بناء‭ ‬سردي‭ ‬تطغى‭ ‬عليه‭ ‬رائحة‭ ‬الموت‭ ‬وأنين‭ ‬الجرحى‭ ‬وأزيز‭ ‬الرصاص‭ ‬ودوي‭ ‬المدافع‭.‬

رابعاً‭- ‬لاخطية‭ ‬السرد‭: ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بناء‭ ‬الرواية‭ ‬يسير‭ ‬وفق‭ ‬خطاطة‭ ‬سردية‭ ‬تقليدية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬البداية‭ ‬والوسط‭ ‬والنهاية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السارد‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يكسر‭ ‬هذا‭ ‬الخط،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاسترجاعات‭ ‬والاستشرافات‭ ‬الداخلية‭ ‬والخارجية،‭ ‬وهما‭ ‬معًا‭ ‬يقومان‭ ‬بدور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الأحداث‭ ‬ورسم‭ ‬معالم‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬أو‭ ‬المحاور‭ ‬وخاصة‭ ‬المحور‭ ‬الرئيس‭ ‬جوزيف‭. ‬

خامساً‭- ‬التعدد‭ ‬المرجعي‭: ‬يجمع‭ ‬النص‭ ‬بين‭ ‬ثلاث‭ ‬مرجعيات‭ ‬أساسية،‭ ‬هي‭: ‬المرجعية‭ ‬الواقعية‭/ ‬التاريخية‭ ‬والمرجعية‭ ‬الخيالية‭ ‬والمرجعية‭ ‬الغرائبية‭. ‬تحضر‭ ‬الواقعية‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إحالات‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ (‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬للجزائر‭ ‬والمغرب‭ ‬والمقاومة‭ ‬المغربية‭ ‬وخاصة‭ ‬حرب‭ ‬الريف‭)‬،‭ ‬وأسماء‭ ‬الأمكنة‭ (‬دوسلدروف،‭ ‬الجزائر،‭ ‬طنجة،‭ ‬فاس،‭ ‬مكناس،‭ ‬باريس،‭ ‬الحسيمة‭,  ‬أجدير‭)‬،‭ ‬وبعض‭ ‬أسماء‭ ‬الأعلام‭ (‬عبدالكريم‭ ‬الخطابي‭ ‬وابنه‭ ‬محمد‭- ‬موحا‭ ‬أوحامو‭ ‬الزياني‭- ‬القائد‭ ‬الإسباني‭ ‬سيلفستري‭)‬،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك‭ ‬يحضر‭ ‬المتخيل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المحاور‭ ‬والشخوص،‭ ‬أمثال‭ (‬حدو‭ ‬الأكحل‭ - ‬ايطو‭ ‬الزيانية‭ - ‬إسماعيل‭ ‬التركي‭- ‬عبدالله‭ ‬الصربي‭- ‬رنييه‭ ‬أولفييه‭ ‬وحبيبته‭ ‬آن‭-  ‬زوجة‭ ‬جوزيف‭ ‬والطفل‭ ‬يونس‭...)‬،‭ ‬أما‭ ‬الغرائبي‭ ‬فيتجلى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصة‭ ‬الشبح‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يزور‭ ‬جوزيف‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭ ‬ويعطيه‭ ‬إشارات‭ ‬غامضة‭ ‬حول‭ ‬مستقبله‭.‬

سادساً‭- ‬تقنيات‭ ‬العرض‭ ‬السينمائي‭: ‬يتداخل‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬مع‭ ‬تقنيات‭ ‬العرض‭ ‬السينمائي؛‭ ‬حيث‭ ‬يتحول‭ ‬السارد‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬كاتب‭ ‬سيناريو،‭ ‬ويتجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تقنية‭ ‬الكتابة‭ ‬المشهدية،‭ ‬حيث‭ ‬تتوزع‭ ‬فصول‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المشاهد‭ ‬المختلفة‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬يبدأ‭ ‬المشهد‭ ‬الأول‭ ‬بمنظر‭ ‬شروق‭ ‬الشمس‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬طنجة‭ ‬ثم‭ ‬يتلوه‭ ‬مشهد‭ ‬أولفييه‭ ‬وهو‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬القديمة‭... ‬كما‭ ‬يلجأ‭ ‬السارد‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬على‭ ‬تقنية‭ ‬االلقطة‭ ‬الانقضاضيةب،‭ ‬حيث‭ ‬تتحرك‭ ‬الكاميرا‭ ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬عام‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬خاص،‭ ‬ثم‭ ‬تعود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬المشهد‭ ‬العام،‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭: ‬اتبادل‭ ‬الرجلان‭ ‬حديثا‭ ‬خافتا،‭ ‬وفيما‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬كان‭ ‬الراوي‭ ‬يعتدل‭ ‬في‭ ‬جلسته‭ ‬وقد‭ ‬خلع‭ ‬قبعته‭ ‬ووضعها‭ ‬جانبا‭ ‬تنهد‭ ‬وحط‭ ‬راحتيه‭ ‬فوق‭ ‬ركبتيه،‭ ‬ثبت‭ ‬نظره‭ ‬على‭ ‬كوب‭ ‬ماء‭ ‬رأى‭ ‬فيه‭ ‬البحر‭ ‬وسمع‭ ‬صوت‭ ‬موجه،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬بنبرة‭ ‬قوية،‭ ‬جعلت‭ ‬الرجلين‭ ‬الجالسين‭ ‬إلى‭ ‬الزاوية‭ ‬ينتبهان،‭ ‬فاعتدلا‭ ‬في‭ ‬جلستهما‭ ‬ليسمعا‭ ‬قولهب‭ ‬ص‭ ‬14‭. ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬حضور‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬تصويره‭ ‬للمعارك،‭ ‬وهو‭ ‬تصوير‭ ‬سينمائي‭ ‬بامتياز،‭ ‬يعج‭ ‬بالحركة‭ ‬ويضج‭ ‬بالصخب‭.‬

سابعاً‭- ‬تقنيات‭ ‬الشذرة‭: ‬تعبر‭ ‬الكتابة‭ ‬الشذرية‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالكتابة‭ ‬المقطعية‭ ‬أو‭ ‬الصامتة‭ ‬في‭ ‬التقنيات‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تغزو‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬العربية،‭ ‬وهي‭ ‬كتابة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬التكثيف‭ ‬والتبئير‭ ‬الدلالين،‭ ‬وعلى‭ ‬جوامع‭ ‬الكلم‭ ‬والتلميح‭ ‬والإشارة‭. ‬وقد‭ ‬استثمر‭ ‬المؤلف‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المحطات‭ ‬ليطفو‭ ‬برأسه‭ ‬ويضمن‭ ‬النص‭ ‬إشارات‭ ‬خاصة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬فلسفته‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الشذرة‭ ‬ص‭ ‬27‭: ‬اأين‭ ‬العدل‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬اختياراتنا‭ ‬تقابل‭ ‬باختيارات‭ ‬مضادة،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مقدرًا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭  ‬تغييره‭ ‬لماذا‭ ‬نتحمل‭ ‬عناء‭ ‬البقاء‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة؟ب‭ ‬والشذرة‭ ‬ص‭ ‬43‭: ‬اما‭ ‬هو‭ ‬آت‭ ‬يخضع‭ ‬لاختياراتنا‭ ‬التي‭ ‬بفعلها‭ ‬نجني‭ ‬النتائج،‭ ‬وكل‭ ‬بداية‭ ‬جديدة‭ ‬تصبح‭ ‬أصعب‭ ‬بجذور‭ ‬الذكريات‭ ‬المتشبثة‭ ‬بأرواحناب‭. ‬

ثامناً‭- ‬شعرنة‭ ‬اللغة‭: ‬تقوم‭ ‬البنية‭ ‬الأسلوبية‭ ‬للرواية‭ ‬على‭ ‬التهجين‭ ‬الأسلوبي؛‭ ‬حيث‭ ‬تنحدر‭ ‬أحيانًا‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬بسيطة‭ ‬تمتاح‭ ‬من‭ ‬معجم‭ ‬اليومي،‭ ‬وترتقي‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬مسالك‭ ‬رفيعة‭ ‬من‭ ‬القول،‭ ‬ممتطية‭ ‬موجة‭ ‬المجاز‭ ‬والكنايات‭ ‬والاستعارات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يضفي‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬دينامية،‭ ‬ويخفف‭ ‬من‭ ‬رتابة‭ ‬الحكي‭ ‬وخطية‭ ‬الأسلوب،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬ص‭ ‬276‭: ‬اكان‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأن‭ ‬لكل‭ ‬مدينة‭ ‬روحا‭ ‬تتجلى‭ ‬مع‭ ‬المغيب،‭ ‬تتخضب‭ ‬السماء‭ ‬وسحبها‭ ‬بشفق‭ ‬من‭ ‬حنة‭ ‬حمراء‭ ‬بديعة‭ ‬الرسم،‭ ‬يسكن‭ ‬الوجود‭ ‬حدادًا‭ ‬على‭ ‬موت‭ ‬الشمس،‭ ‬والخلائق‭ ‬كل‭ ‬في‭ ‬واديه‭ ‬يهيم‭...‬ب‭.‬

تاسعاً‭- ‬جمالية‭ ‬التصوير‭: ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬ازدواج‭ ‬الوصف‭ ‬بالسرد،‭ ‬لكنه‭ ‬وصف‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬رسم‭ ‬الموصوفات‭ ‬ونقلها‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬اللغة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬وصف‭ ‬دينامي‭ ‬يعيد‭ ‬خلق‭ ‬الأشياء‭ ‬ويمنحها‭ ‬حركة‭ ‬وحيوية‭ ‬ويبعث‭ ‬فيها‭ ‬روحًا‭ ‬تجعل‭ ‬الأشياء‭ ‬تتكلم‭ ‬والألوان‭ ‬تتراقص‭ ‬والأضواء‭ ‬تضج‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬الوصفي‭ ‬الذي‭ ‬افتتح‭ ‬به‭ ‬السارد‭ ‬حكايته‭: ‬اارتقت‭ ‬شمس‭ ‬الصبيحة‭ ‬الكسولة‭ ‬درج‭ ‬السماء‭ ‬ببطء،‭ ‬وما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬تدثرت‭ ‬بلحاف‭ ‬من‭ ‬غيم‭ ‬رمادي‭ ‬داكن،‭ ‬رغم‭ ‬برودة‭ ‬الجو‭ ‬والهواء‭ ‬العليل‭ ‬وقف‭ ‬رجل‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬مرقالة،‭ ‬خلع‭ ‬ملابسه‭ ‬وخاض‭ ‬داخل‭ ‬حوض‭ ‬صخري‭ ‬ممتلئ‭ ‬بمياه‭ ‬البحر‭ ‬الزقاق،‭ ‬الماء‭ ‬يصل‭ ‬حتى‭ ‬خصره‭ ‬بينما‭ ‬يمسك‭ ‬بسيخ‭ ‬من‭ ‬حديد‭ ‬يصطاد‭ ‬به‭ ‬الأخطبوط‭ ‬وينتقي‭ ‬المحار،‭ ‬وفي‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد‭ ‬تطل‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬بخجل،‭ ‬جبالها‭ ‬البعيدة‭ ‬ترتجي‭ ‬الوصال‭...‬ب‭ ‬ص9‭. ‬إن‭ ‬القارئ‭ ‬لهذا‭ ‬المقطع‭ ‬الوصفي‭ ‬يحس‭ ‬بحركية‭ ‬بطيئة‭ ‬للأشخاص‭ ‬والأشياء،‭ ‬فارتقاء‭ ‬الشمس‭ ‬ببطء‭ ‬على‭ ‬درج‭ ‬توحي‭ ‬بحركة‭ ‬ثقيلة‭ ‬للطبيعة‭ ‬تشبه‭ ‬مشي‭ ‬العجائز‭ ‬بين‭ ‬الأزقة‭ ‬وإطلالة‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬تشبه‭ ‬اختلاس‭ ‬عذراء‭ ‬للنظر‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬النوافذ‭.‬

خلاصة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الروائية‭ ‬العربية‭ ‬المتميزة‭ ‬التي‭ ‬تعيد‭ ‬صياغة‭ ‬التاريخ‭ ‬صياغة‭ ‬جمالية‭ ‬تمتاح‭ ‬من‭ ‬مرجعيات‭ ‬متعددة،‭ ‬وتمزج‭ ‬بين‭ ‬تقنيات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬متناسقة‭ ■