أساتذتي الأجلاء (1) يوسف خليف

أساتذتي الأجلاء (1) يوسف خليف

الأستاذ الدكتور يوسف خليف - عليه رحمة الله - هو أول الأساتذة الذين تعلّمت على أيديهم في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة. رأيتُه في السنة الجامعية الأولى 1961/1962، وكان وسيمًا متأنّقًا في ثيابه، حريصًا على أناقته كل الحرص، يلبس حُلّته الكاملة ومعها الكرافت الأنيق الذي يتناسب مع لون الحُلّة. وكان دائمًا منتبهًا لما يرتديه، يضبط وضْع الكرافت على العنق في منتصف الياقة بالضبط، نشمّ رائحة عطره الخفيف، وهي تنتشر في أردانه، كأنها تعلن عن مقدمه. كان يبتسم لنا دائمًا ويعاملنا برقّة وحنوّ كأنه أب يرعى أبناءه الصغار، ولا يتردد في تدليلهم. لم أره يومًا غاضبًا أو عنيفًا مع أحد الطلاب. يغفر للجميع أخطاءهم ولا يتوقف عن ابتسامته الحانية التي كان يوزّعها علينا - نحن طلابه - بالعدل والقسطاس. 

 

 

كانت‭ ‬هذه‭ ‬البسمة‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬ملمح‭ ‬انغرس‭ ‬في‭ ‬أذهاننا‭ ‬عنه،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬السِّحر‭ ‬في‭ ‬نفوسنا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬خليف‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬كان‭ ‬أول‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬درّسوا‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وكانت‭ ‬طلَّته‭ ‬علينا‭ ‬هي‭ ‬الطلّة‭ ‬الأولى‭ ‬للأستاذ‭ ‬الجامعي‭ ‬الذي‭ ‬كنّا‭ ‬في‭ ‬شوقٍ‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نعرفه‭ ‬إنسانيًّا‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬الرعب‭ ‬والخوف‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬دخولنا‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬محاضرات‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تملأ‭ ‬أخيلتنا‭ ‬صورة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬جلالًا،‭ ‬وتثير‭ ‬إحساسًا‭ ‬بالهيئة‭ ‬المشوبة‭ ‬بالجلال،‭ ‬وبالهيبة‭ ‬الممزوجة‭ ‬بالعظمة‭. ‬

كان‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬أبسط‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬فهو‭ ‬الأكثر‭ ‬شبابًا‭ - ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ - ‬بين‭ ‬أساتذتنا،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تلتف‭ ‬حوله‭ ‬الفتيات‭ ‬اللائي‭ ‬كُنّ‭ ‬ينجذبن‭ ‬إليه‭. ‬وكان‭ ‬هو‭ ‬يبادلهنّ‭ ‬البسمة‭ ‬بالبسمة‭ ‬والضحكة‭ ‬الوقورة‭ ‬بالضحكة‭ ‬الشبابية‭ ‬الصاخبة‭. ‬وكان‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬يدرّس‭ ‬لنا‭ ‬النصوص‭ ‬الخاصة‭ ‬بأول‭ ‬عصر‭ ‬من‭ ‬عصور‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وهو‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وكان‭ ‬أستاذه‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬يدرّس‭ ‬العصر‭ ‬نفسه‭. ‬

‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نهاب‭ ‬د‭. ‬شوقي‭ ‬ونخاف‭ ‬منه،‭ ‬كنا‭ ‬نأنس‭ ‬بالدكتور‭ ‬خليف‭ ‬ونحيطه‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬نراه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إلينا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬البعيد‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1961،‭ ‬وكنّا‭ ‬نحن‭ ‬أحفى‭ ‬الطلاب‭ ‬به‭ ‬وأكثرهم‭ ‬قربًا‭ ‬منه‭. ‬وكم‭ ‬مرّة‭ ‬ضبطته‭ ‬عيني‭ ‬المختلسة‭ ‬وهو‭ ‬يعدل‭ ‬قمة‭ ‬الكرافت‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬ياقة‭ ‬القميص‭ ‬في‭ ‬جـاكيت‭ ‬البدلة‭ ‬الكاملة‭ ‬الأنيقة،‭ ‬أو‭ ‬متطلعًا‭ ‬إلى‭ ‬شَعره‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬غرفة‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الصغيرة‭ ‬المخصصة‭ ‬الآن‭ ‬لسكرتيرة‭ ‬القسم‭.‬

وقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬مخصصة‭ ‬للأستاذة‭ ‬د‭. ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬وحدها،‭ ‬ولا‭ ‬يجلس‭ ‬فيها‭ ‬سواها،‭ ‬بوصفها‭ ‬رئيسة‭ ‬القسم‭. ‬وبالطبع‭ ‬كانت‭ ‬الغرفة‭ ‬تظل‭ ‬مفتوحة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬د‭. ‬القلماوي،‭ ‬يستخدمها‭ ‬بقية‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬بعضهم‭ - ‬وعلى‭ ‬الأخص
‭ ‬د‭. ‬خليف‭ - ‬يتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬المرآة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬فيها‭ ‬كي‭ ‬يلقوا‭ ‬لمحة‭ ‬أو‭ ‬لمحات‭ ‬عابرة‭ ‬على‭ ‬ثيابهم‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أناقة‭ ‬شعورهم‭. ‬ولم‭ ‬أتعوّد‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬رجلًا‭ ‬من‭ ‬أساتذتي‭ ‬يهتمّ‭ ‬بالمرآة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬الصغيرة‭ ‬الموجودة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬سوى‭ ‬د‭. ‬خليف،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬‮«‬معجبانيًّا‮»‬‭ ‬يعشق‭ ‬الحياة،‭ ‬فخورًا‭ ‬بحبّ‭ ‬أساتذته‭ ‬له،‭ ‬فقد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬أطروحته‭ ‬للماجستير‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬الصعاليك‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بأعلى‭ ‬التقديرات،‭ ‬وبعدها‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬حياة‭ ‬الشِّعر‭ ‬في‭ ‬الكوفة‮»‬‭. ‬

وكانت‭ ‬‮«‬دار‭ ‬المعارف‮»‬‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬قد‭ ‬نشرت‭ ‬أطروحته‭ ‬للماجستير،‭ ‬وكان‭ ‬الكثيرون‭ ‬يتحدثون‭ ‬عنها‭ ‬باقتدار‭ ‬واحترام‭. ‬وأنا‭ ‬شخصيًّا‭ ‬عندما‭ ‬قرأتُ‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬الشعراء‭ ‬الصعاليك‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬لم‭ ‬أتوقّف‭ ‬عن‭ ‬الإعجاب‭ ‬به،‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬على‭ ‬إعجابي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬قد‭ ‬جاوزتُ‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬القرن‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الثناء‭ ‬على‭ ‬أطروحة‭ ‬الماجستير‭ ‬الخاصة‭ ‬بالدكتور‭ ‬خليف‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬الذي‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬الداخلي‭ ‬بالتميّز،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬يوسف‭ ‬خليف‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬قد‭ ‬عرفناه‭ ‬بعد،‭ ‬والذي‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬عرفنا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭ ‬قليلة‭ ‬أنه‭ ‬أصدر‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬نداء‭ ‬القمم‮»‬‭. ‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭ ‬ذا‭ ‬طابعٍ‭ ‬رومانتيكي،‭ ‬يُمجِّد‭ ‬المُثل‭ ‬العُليا،‭ ‬ويبعث‭ ‬روح‭ ‬الطموح‭ ‬في‭ ‬قارئه‭ ‬مع‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالطّبع‭ ‬بشعر‭ ‬الغزل‭ ‬والنسيب‭ ‬الذي‭ ‬كنّا‭ ‬نألفه‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬الرومانسيين‭ ‬الكبار‭. ‬

والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬وسامة‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬وأناقته‭ ‬قد‭ ‬أضافتا‭ ‬إلى‭ ‬إحساسنا‭ ‬بحضوره‭ ‬وحبّنا‭ ‬له‭ ‬والتفاتنا‭ ‬حوله‭ ‬ما‭ ‬أزال‭ ‬من‭ ‬نفوسنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬والهيبة‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬دراستنا‭ ‬للشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬ابتسامة‭ ‬د‭. ‬خليف،‭ ‬وطريقته‭ ‬العذبة‭ ‬في‭ ‬الإلقاء‭ ‬الشعري،‭ ‬تدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬بل‭ ‬الإقبال‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الشعراء‭ ‬الصعاليك،‭ ‬فنستسيغ‭ ‬من‭ ‬شِعرهم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُستساغ،‭ ‬ونتذكر‭ ‬من‭ ‬منظومهم‭ ‬ما‭ ‬يصعب‭ ‬تذكُّره‭.‬

وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬حفظتُ‭ ‬‮«‬لامية‭ ‬الشنفري‮»‬‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬وتراكيب‭ ‬مخيفة‭ ‬وصعبة‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أتذكّر‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬منظومة‭ ‬بلسان‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬له‭ ‬نظيرًا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بهذه‭ ‬العذوبة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحيل‭ ‬جهامة‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬وصعوبته‭ ‬إلى‭ ‬موسيقى‭ ‬خاصة‭ ‬لا‭ ‬تنساها‭ ‬الأذن‭ ‬أو‭ ‬تُخطئها‭. ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬عندما‭ ‬أسمع‭ ‬اسم‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬تنطلق‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬الروائح‭ ‬العطرة‭ ‬لحضوره‭ ‬الجسدي،‭ ‬والأصوات‭ ‬العذبة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭ ‬وهو‭ ‬يُلقي‭ ‬الشعر‭ ‬بطريقته‭ ‬الساحرة‭.‬

وكان‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬أُلفتنا‭ ‬بالدكتور‭ ‬خليف‭ ‬واحترامنا‭ ‬له‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعاملنا‭ ‬على‭ ‬أننا‭ ‬إخوة‭ ‬صغار،‭ ‬من‭ ‬حقنا‭ ‬أن‭ ‬نناقشه‭ ‬ونختلف‭ ‬معه‭. ‬وأشهد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أوّل‭ ‬مَن‭ ‬علَّمنا‭ ‬الاختلاف‭ ‬وكيفية‭ ‬المجادلة‭ ‬بالتي‭ ‬هي‭ ‬أحسن‭. ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحدثنا‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬‮«‬الانتحال‮»‬‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بعامّة،‭ ‬وفي‭ ‬شعر‭ ‬الصعاليك‭ ‬بخاصة‭. ‬وكنا‭ ‬قد‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تائية‭ ‬الشنفري‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬كان‭ ‬يقال‭ ‬فيه‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬التائية‭ ‬منحولة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الآراء،‭ ‬وأنَّ‭ ‬‮«‬خَلفًا‭ ‬الأحمر‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬كتبها‭ ‬ونسبها‭ ‬إلى‭ ‬الشنفري‭.‬

‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفتى‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬كنتُه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬اعترض‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خلف‭ ‬الأحمر‭ ‬مؤلِّفًا‭ ‬لهذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أراها‭ ‬جاهلية‭ ‬المعنى‭ ‬والمبنى‭ ‬والألفاظ،‭ ‬فإذا‭ ‬بالدكتور‭ ‬خليف‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬بابتسامته‭ ‬العذبة‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تبحث‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬المكتبة‭ ‬تفصيلًا،‭ ‬وتأتي‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬الأسبوع‭ ‬القادم‭ ‬ومعك‭ ‬ما‭ ‬يؤيد‭ ‬رأيكَ‭ ‬هذا؟‮»‬‭ ‬وفرحتُ‭ ‬بهذه‭ ‬المهمّة‭ ‬كل‭ ‬الفرح،‭ ‬وذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة‭ ‬القديمة‭ ‬بعد‭ ‬الدرس،‭ ‬وظللتُ‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬الشرقية‭ ‬الأيام‭ ‬الباقية‭ ‬من‭ ‬الأسبوع،‭ ‬آتي‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬تاركًا‭ ‬المحاضرات،‭ ‬وأقرأ‭ ‬في‭ ‬‮«‬المُفضليات‮»‬‭ ‬و«الأصمعيات‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬مجاميع‭ ‬الشعر‭ ‬القديم‭. ‬وأرى‭ ‬‮«‬التائية‮»‬‭ ‬في‭ ‬مظانّها،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مجموعة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬فيها،‭ ‬وأمضي‭ ‬بقية‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬الألفاظ،‭ ‬وفي‭ ‬دراسة‭ ‬معجم‭ ‬القصيدة،‭ ‬وفي‭ ‬تراتيب‭ ‬ألفاظها‭ ‬ودلالات‭ ‬كلماتها،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬العلاقات‭ ‬التركيبية‭ ‬لأبياتها،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬لأُثبت‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬جاهلية‭ ‬الطابع،‭ ‬وأن‭ ‬نسبتها‭ ‬إلى‭ ‬شاعرها‭ ‬الصعلوك‭ ‬‮«‬الشنفري‮»‬‭ ‬نسبة‭ ‬طبيعية،‭ ‬وليست‭ ‬منحولة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬

 

ولا‭ ‬أنسى‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬القلق‭ ‬الذي‭ ‬أصابني،‭ ‬والخوف‭ ‬الذي‭ ‬ملأني‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أفشل‭ ‬في‭ ‬مهمتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬حسبتها‭ ‬كبيرة،‭ ‬وفي‭ ‬إعداد‭ ‬وريقات‭ ‬معدودة‭ ‬حسبتها‭ ‬آلافًا‭ ‬من‭ ‬الصفحات‭ ‬كي‭ ‬أثبتَ‭ ‬رأيًا‭ ‬يخالف‭ ‬رأي‭ ‬أستاذي‭. ‬وأخيرًا‭ ‬مضت‭ ‬الأيام‭ ‬المعدودة‭ ‬وجاء‭ ‬موعد‭ ‬الدرس‭ ‬الخاص‭ ‬بالدكتور‭ ‬خليف‭ ‬عن‭ ‬شعر‭ ‬الصعاليك،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬قاعة‭ ‬الدرس‭ ‬حتى‭ ‬نظر‭ ‬إليّ‭ ‬باسمًا‭ ‬حانيًا‭ ‬كعادته‭ ‬قائلًا‭ ‬لي‭: ‬‮«‬تفضل‭ ‬يا‭ ‬جابر،‭ ‬اقرأ‭ ‬علينا‭ ‬ما‭ ‬تُريد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نسمعه‭ ‬عن‭ ‬رأيك‭ ‬في‭ ‬انتحال‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬انتحال‭ ‬تائية‭ ‬الشنفري‮»‬،‭ ‬وترك‭ ‬لي‭ ‬مجلسه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬القاعة،‭ (‬وكانت‭ ‬قاعة‭ ‬مُدرج‭ ‬18،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تخُنّي‭ ‬الذاكرة‭)‬،‭ ‬وجلستُ‭ ‬مكانه‭ ‬أقرأ‭ ‬بصوت‭ ‬مُرتعش،‭ ‬وظللتُ‭ ‬دقائق‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سكن‭ ‬روعي‭ ‬وهدأت‭ ‬نفسي‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬نظراته‭ ‬المشجِّعة‭ ‬والحانية‭. ‬وقرأتُ‭ ‬الأوراق‭ ‬التي‭ ‬كتبتُها،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬لمعة‭ ‬الحنان‭ ‬والحنو‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تملأ‭ ‬عينيه‭ ‬وهو‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬إلقائي‭ ‬باهتمام‭ ‬بالغٍ‭ ‬وإنصات‭ ‬عميق‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬انتهيتُ‭ ‬من‭ ‬الإلقاء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشوبه‭ ‬إحساس‭ ‬الخوف‭ - ‬بالقطع‭ - ‬من‭ ‬رهبة‭ ‬الموقف،‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬والطالبات‭ ‬أن‭ ‬يُعلِّقوا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قلتُ‭. ‬وظل‭ ‬طوال‭ ‬وقت‭ ‬المحاضرة‭ ‬آخذًا‭ ‬صفِّي،‭ ‬مدافعًا‭ ‬عني،‭ ‬منافحًا‭ ‬كل‭ ‬الهجوم‭ ‬الذي‭ ‬وجَّهه‭ ‬إلىَّ‭ ‬بعض‭ ‬أقراني‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتنافسون‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬الدرجات‭.‬

وانتهت‭ ‬المحاضرة‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الحيرة،‭ ‬بسبب‭ ‬موقف‭ ‬هذا‭ ‬الأستاذ‭ ‬ورغبته‭ ‬الصادقة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يُعلِّمنا‭ ‬كيفية‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬ومعرفة‭ ‬دروبه،‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬عامنا‭ ‬الجامعي‭ ‬الأول،‭ ‬ويسندنا‭ ‬بنفسه‭ ‬ونحن‭ ‬نخطو‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬مُساءلة‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬أو‭ ‬نتائج‭. ‬

وشيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬سنوات،‭ ‬أدركتُ‭ ‬مغزى‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬د‭. ‬خليف،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعلّمني‭ ‬ويعلّم‭ ‬زملائي‭ ‬من‭ ‬الطلاب،‭ ‬معنى‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬وحقيقته،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬مقدّس‭ ‬أو‭ ‬نهائي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭. ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬يعلّمني‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬طالبًا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬أنتسبُ‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬كان‭ ‬درسًا‭ ‬في‭ ‬منهجية‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬لهم‭ ‬هذه‭ ‬الصِّفة‭ ‬إلا‭ ‬بتعليم‭ ‬طلابهم‭ ‬معنى‭ ‬الاختلاف‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬الثراء‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬والتقدم‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

فلا‭ ‬علم‭ ‬ينمو‭ ‬أو‭ ‬يتقدّم‭ ‬إلا‭ ‬بالاختلاف،‭ ‬وأن‭ ‬يضيف‭ ‬فيه‭ ‬اللاحق‭ ‬إلى‭ ‬السابق،‭ ‬والأداة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ ‬هي‭ ‬روح‭ ‬المُساءلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتقبّل‭ ‬الحقائق‭ ‬والمعلومات‭ ‬في‭ ‬يُسر‭ ‬وتصديق‭ ‬أو‭ ‬تسليم،‭ ‬وإنما‭ ‬بعقلٍ‭ ‬يقظ‭ ‬لا‭ ‬يصدّق‭ ‬ما‭ ‬يُلقى‭ ‬إليه‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يضعه‭ ‬موضع‭ ‬المساءلة‭. ‬

وأشهد‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬من‭ ‬يومها‭ ‬لم‭ ‬يعلّمني‭ ‬وحدي‭ ‬معنى‭ ‬المساءلة،‭ ‬وإنّما‭ ‬علّم‭ ‬جيلي‭ ‬كله‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬استوعبناه‭ ‬ووضعناه‭ ‬في‭ ‬شغاف‭ ‬عقولنا،‭ ‬وجعلناه‭ ‬دستورًا‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬تقبُّل‭ ‬الأشياء‭ ‬أو‭ ‬رفضها‭. ‬وأشهد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬معي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شيئًا‭ ‬فريدًا‭ ‬أو‭ ‬استثناءً‭ ‬غير‭ ‬متكررٍ،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬تعلّمناها‭ ‬منه،‭ ‬وكأنه‭ ‬وأساتذته‭ ‬كانوا‭ ‬بذلك‭ ‬يعلّموننا‭ ‬ما‭ ‬تعلَّموه‭ ‬من‭ ‬أُستاذهم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭.‬

فقد‭ ‬كانت‭ ‬تقاليد‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬الجاد‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬حيّة‭ ‬تملأ‭ ‬الأسماع‭ ‬وتشغل‭ ‬القلوب‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬دخلتُه‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬طالبًا‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬وعن‭ ‬معنى‭ ‬العلم،‭ ‬وعن‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

ولم‭ ‬تنقطع‭ ‬صِلتي‭ ‬بالدكتور‭ ‬خليف،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬أستاذًا‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬كما‭ ‬صرتُ‭ ‬أنا‭ ‬بمنزلةِ‭ ‬ابن‭ ‬له،‭ ‬وأنبه‭ ‬تلاميذه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬ومرت‭ ‬السنوات‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬دخل‭ ‬إلينا‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة،‭ ‬وكانت‭ ‬هي‭ ‬السنة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالعصر‭ ‬العباسي،‭ ‬وكان‭ ‬يقرأ‭ ‬معنا‭ ‬نصوص‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬أستاذه‭ ‬د‭. ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬كله‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬اختلفتُ‭ ‬مع‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬حول‭ ‬قراءة‭ ‬بيت‭ ‬المتنبي‭:‬

لَقيتُ‭ ‬بِدَربِ‭ ‬القُلَّةِ‭ ‬الفَجرَ‭ ‬لَقيَةً

شَفَت‭ ‬كَمَدِى‭ ‬وَاللَيلُ‭ ‬فيهِ‭ ‬قَتيلُ

 

وذلك‭ ‬من‭ ‬قصيدته‭ ‬الشهيرة‭:‬

لَيَاليَّ‭ ‬بَعْدَ‭ ‬الظّاعِنِينَ‭ ‬شُكُولُ‭ 

طِوالٌ‭ ‬وَلَيْلُ‭ ‬العاشِقينَ‭ ‬طَويلُ

وقد‭ ‬بدأ‭ ‬النقاش‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأ‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬التاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬لقيتَ‮»‬‭ ‬بالفتح‭ ‬ونَسَبها‭ ‬إلى‭ ‬ضمير‭ ‬المُخاطَب،‭ ‬فأصبح‭ ‬البيت‭ ‬دالًّا‭ ‬على‭ ‬سيف‭ ‬الدولة،‭ ‬بينما‭ ‬أصررتُ‭ ‬أنا‭ ‬على‭ ‬قراءتها‭ ‬بالضمّ‭ ‬وعلى‭ ‬نِسبتها‭ ‬إلى‭ ‬ضمير‭ ‬المُتكلِّم‭ ‬الذي‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬المتنبي،‭ ‬وذلك‭ ‬بمعنى‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬البيت‭:‬

 

لَقيتُ‭ ‬بِدَربِ‭ ‬القُلَّةِ‭ ‬الفَجرَ‭ ‬لَقيَةً‭ 

شَفَت‭ ‬كَمَدِى‭ ‬وَاللَيلُ‭ ‬فيهِ‭ ‬قَتيلُ

آخر‭ ‬الجزء‭ ‬الخاص‭ ‬بالنسيب،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬متحدثًا‭ ‬عن‭ ‬عذاب‭ ‬المتنبي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رحل‭ ‬الأحِبة‭ ‬ولم‭ ‬تبقَ‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬الأحزان‭. ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬الأحزان‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سمع‭ ‬المتنبي‭ ‬العاشق‭ ‬المنكسر،‭ ‬أخبار‭ ‬انتصارات‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬‮«‬درب‭ ‬القلّة‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬الانتصارات‭ ‬بدَّلت‭ ‬حزن‭ ‬المتنبي‭ ‬فرحًا،‭ ‬ونقلته‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬النسيب‭ ‬الحزين‭ ‬إلى‭ ‬حال‭ ‬فرح‭ ‬الانتصار‭ ‬العظيم‭. ‬

وأظن‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬أستاذًا‭ ‬عظيمًا‭ (‬سيأتي‭ ‬وقت‭ ‬الحديث‭ ‬عنه‭) ‬لم‭ ‬تُعجبه‭ ‬مُقاطعتي‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬اختلافي‭ ‬معه،‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬فيهما‭ ‬سلوكًا‭ ‬غير‭ ‬لائقٍ‭ ‬من‭ ‬طالب‭ ‬مبتدئ‭ ‬إزاء‭ ‬أستاذ‭ ‬كبير،‭ ‬فنظر‭ ‬إلي‭ ‬شذرًا‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تفهم‭ ‬ما‭ ‬أقول؟‮»‬،‭ ‬فدفعني‭ ‬نزق‭ ‬الشباب‭ ‬إلى‭ ‬الردّ‭ ‬بالقول‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أفهم‭ ‬ما‭ ‬تقول،‭ ‬ولكنّي‭ ‬غير‭ ‬مُقتنع‭ ‬به‮»‬‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أنهيتُ‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬ورأيتُ‭ ‬وقعها‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬أستاذي‭ ‬العظيم‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬حتى‭ ‬أدركتُ‭ ‬أنني‭ ‬ارتكبتُ‭ ‬خطأ‭ ‬يشبه‭ ‬الكارثة،‭ ‬وهو‭ ‬خطأ‭ ‬ظللتُ‭ ‬أدفع‭ ‬ثمنه‭ ‬بقية‭ ‬محاضرات‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬درس‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي‭.‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬قد‭ ‬غضب‭ ‬منِّي‭ ‬بسبب‭ ‬لجاجي‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬معه‭ ‬والردّ‭ ‬عليه‭. ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬اشتكاني‭ ‬إلى‭ ‬تلميذه‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬الذي‭ ‬دافع‭ ‬عنِّي‭ ‬وأخبره‭ ‬أنه‭ ‬مَنحنى‭ ‬أكبر‭ ‬درجة‭ ‬في‭ ‬بحوث‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي،‭ ‬وأنني‭ ‬أول‭ ‬الدُّفعة‭. ‬

فغضب‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬طالب‭ ‬قليل‭ ‬الحياء‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬العالية‮»‬‭. ‬ولم‭ ‬يُخبرني‭ ‬أستاذي‭ ‬خليف‭ ‬بهذه‭ ‬القصة،‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬إليّ‭ ‬يسألني‭ ‬في‭ ‬لهفةٍ‭ ‬بين‭ ‬المحاضرات‭: ‬‮«‬ماذا‭ ‬فعلتَ‭ ‬مع‭ ‬أستاذنا‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف؟‭!‬‮»‬‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬‮«‬لم‭ ‬أفعل‭ ‬شيئًا‭ ‬سوى‭ ‬الاختلاف‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬الرأي‮»‬‭. ‬وقصصتُ‭ ‬عليه‭ ‬الحكاية‭ ‬من‭ ‬أوّلها‭ ‬إلى‭ ‬آخرها‭. ‬فابتسم‭ ‬ابتسامة‭ ‬أبويّة‭ ‬حانية‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬‮«‬على‭ ‬أي‭ ‬الأحوال‭ ‬اذهب‭ ‬واعتذر‭ ‬له‭ ‬واجعله‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الرضا‭ ‬عنك‮»‬‭. ‬وبالفعل‭ ‬قمتُ‭ ‬بذلك‭ ‬فيما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬أرويه‭ ‬تفصيلًا‭ ‬في‭ ‬ذكرياتي‭ ‬عن‭ ‬
د‭. ‬ضيف‭. ‬ومرّت‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬قصائد‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي‭ ‬لأبي‭ ‬نواس‭ ‬والمتنبي‭ ‬وأبي‭ ‬العلاء‭ ‬التي‭ ‬قرأتُها‭ ‬مع‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أذكرها‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وأنني‭ ‬كنتُ‭ ‬أحفظ‭ ‬القصائد‭ ‬القصار‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬يُلقيها‭ ‬علينا‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬بصوته‭ ‬العَذب‭ ‬وإلقائه‭ ‬الموسيقى‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬تموّجات‭ ‬الإيقاع‭ ‬أثناء‭ ‬الإلقاء‭. ‬فكانت‭ ‬الكلمات‭ ‬تمضي‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬إلى‭ ‬أُذني،‭ ‬ومن‭ ‬أُذني‭ ‬تستقر‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭. ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أبيات‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬حَالًّا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وذلك‭ ‬بنغمة‭ ‬ورنّة‭ ‬صوت‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يُلقيها‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬المحاضرة‭.‬

وأذكر‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬كلَّفنا‭ ‬عمل‭ ‬أبحاث،‭ ‬تكون‭ ‬بمنزلة‭ ‬درجة‭ ‬أعمال‭ ‬السنة‭. ‬واخترتُ‭ ‬أنا‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭: ‬‮«‬شعر‭ ‬الديارات‭ ‬النصرانية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬سرّ‭ ‬اختياري‭ ‬لهذا‭ ‬الموضوع‭ ‬الغريب؛‭ ‬أنني‭ ‬قرأتُ‭ ‬كتابًا‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬المصرية‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬الديارات‮»‬‭ ‬للشابوستي‭ (‬وأحيانًا‭ ‬يُنطق‭ ‬الشَّابُشتي،‭ ‬وقد‭ ‬صوَّبه‭ ‬الراحل‭ ‬عبدالسلام‭ ‬هارون‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬محاضرة‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬التراث‭). ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬مُنطلَقًا‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬الموضوع،‭ ‬ومحاولة‭ ‬التقاط‭ ‬ملامحه‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬الشعرية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالعصر‭ ‬العباسي‭ ‬على‭ ‬امتداده‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬المتأخرة‭. ‬

وقد‭ ‬وصل‭ ‬بي‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مصارع‭ ‬العشاق‮»‬،‭ ‬فوجدتُ‭ ‬فيه‭ ‬كلامًا‭ ‬طريفًا‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬ماتوا‭ ‬بسبب‭ ‬عشقهم‭ ‬لبعض‭ ‬الرهبان‭ ‬في‭ ‬الأديرة‭. ‬وكانت‭ ‬الأديرة‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬مشهورة‭ ‬بنبيذها‭ ‬الذي‭ ‬يجلب‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬الباحثين‭ ‬عن‭ ‬المُتع‭ ‬المباحة‭ ‬وغير‭ ‬المباحة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يمنع‭ ‬الرهبان‭ ‬من‭ ‬التكسّب‭ ‬ببيع‭ ‬‮«‬خمر‭ ‬القربان‮»‬‭ ‬لطالبيها‭. ‬

وقضيتُ‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شهرٍ،‭ ‬وانتهيتُ‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬نتائج‭ ‬رآها‭ ‬أستاذي‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭. ‬ودفعه‭ ‬إعجابه‭ ‬بالبحث‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬طلب‭ ‬منّي‭ ‬عدم‭ ‬تركه،‭ ‬وأن‭ ‬أنتظر‭ ‬حتى‭ ‬أفرغ‭ ‬من‭ ‬الليسانس؛‭ ‬لكي‭ ‬أجعل‭ ‬منه‭ ‬موضوعًا‭ ‬للماجستير‭ ‬تحت‭ ‬إشرافه،‭ ‬وقد‭ ‬فرحتُ‭ ‬فرحًا‭ ‬غامرًا‭ ‬بذلك،‭ ‬وبالفعل‭ ‬بدأتُ‭ ‬أستعد‭ ‬وأجمع‭ ‬كل‭ ‬الكتب‭ ‬والمصادر‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُعينني‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬أطروحة‭ ‬الماجستير‭ ‬التي‭ ‬اتفقنا‭ ‬عليها‭ ‬عن‭: ‬‮«‬الديارات‭ ‬النصرانية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي‮»‬‭. ‬لكن‭ ‬غضبة‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬كادت‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬دعم‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬لي،‭ ‬وتوسّطه‭ ‬لدى‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬الذي‭ ‬صفح‭ ‬عني‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬وغفر‭ ‬لي‭ ‬سوء‭ ‬أدبي،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬قضى‭ ‬على‭ ‬النتائج‭ ‬السلبية‭ ‬للأزمة،‭ ‬وأعاد‭ ‬علاقتي‭ ‬بالشعر‭ ‬العباسي‭ ‬إلى‭ ‬طبيعتها،‭ ‬مُتمتعًا‭ ‬بتسامح‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬وغفرانه‭ ‬لي،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬نسيانه‭ ‬ما‭ ‬فعلتُ،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬رشّحني‭ ‬للذهاب‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬تلامذته‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬الجمعية‭ ‬الأدبية‭ ‬المصرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مقرّها‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬قولة‭ ‬بحي‭ ‬عابدين‭. ‬

ومرّت‭ ‬بقية‭ ‬شهور‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬على‭ ‬خير،‭ ‬وكالعادة‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬النهائية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي‭ ‬أو‭ ‬الأدب‭ ‬العباسي،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الدرجة‭ ‬النهائية‭ ‬قاصرة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المادة،‭ ‬فقد‭ ‬شملت‭ ‬أغلب‭ ‬المواد‭ ‬تقريبًا‭. ‬وانتقلنا‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة‭ ‬إلى‭ ‬الرابعة؛‭ ‬حيث‭ ‬دخلنا‭ ‬عالم‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬مملكة‭ ‬د‭. ‬سهير‭ ‬القلماوي،‭ ‬
ود‭. ‬عبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬بدر،‭ ‬لكن‭ ‬مرّت‭ ‬الأيام‭ ‬والأعوام‭ ‬وأصبح‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬رئيسًا‭ ‬لقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وأصبحتُ‭ ‬أنا‭ ‬أستاذًا‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬ذلك‭ ‬القسم‭ ‬العريق،‭ ‬وكان‭ ‬لي‭ ‬تلميذ‭ ‬من‭ ‬تلامذتي‭ ‬النابهين‭ ‬هو‭ ‬سيد‭ ‬البحراوي‭ - ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ - (‬فقد‭ ‬اختاره‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬بسبب‭ ‬إسرافه‭ ‬على‭ ‬صحته‭ ‬وعلى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬التدخين‭) ‬وكان‭ ‬البحراوي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬مُقتبل‭ ‬عمره‭ ‬معيدًا‭ ‬بالقسم،‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يسجل‭ ‬لأطروحة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬موضوع‭: ‬‮«‬إيقاع‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر‮»‬،‭ ‬وتقدّم‭ ‬بالموضوع‭ ‬إلى‭ ‬القسم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أعده‭ ‬إعدادًا‭ ‬حداثيًّا،‭ ‬متحدثًا‭ ‬عن‭ ‬أشكال‭ ‬النبر‭ ‬والمقاطع‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬محدثات‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالحداثة‭ ‬الشعرية‭.‬

وكان‭ ‬د‭. ‬خليف‭ - ‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ - ‬يصاب‭ ‬بحساسية‭ ‬وينتابه‭ ‬الغضب‭ ‬عندما‭ ‬يسمع‭ ‬عن‭ ‬إنتاج‭ ‬الحداثيين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬الدكتوراه‭ ‬الخاصة‭ ‬بالبحراوي‭. ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أنه‭ ‬رفض‭ ‬تسجيل‭ ‬الرسالة‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬القسم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرأسه‭. ‬وقد‭ ‬حاولنا‭ ‬جميعًا‭ - ‬خصوصًا‭ ‬المتحمسين‭ ‬للبحراوي،‭ ‬والذين‭ ‬كانوا‭ ‬يتعاطفون‭ ‬معه‭ ‬منهجيًّا‭ - ‬أن‭ ‬نقنع‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬بأن‭ ‬يوافق‭ ‬على‭ ‬تسجيل‭ ‬الرسالة،‭ ‬لكنه‭ ‬أَبَي‭ ‬وظل‭ ‬صارمًا‭ ‬في‭ ‬موقفه‭ ‬بالرفض‭. ‬وحِرتُ‭ ‬أنا‭ ‬شخصيًّا‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬إقناعه‭. ‬وفجأة‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬ذاكرتي‭ ‬الواقعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الجامعة،‭ ‬وكيف‭ ‬عاملني‭ ‬بحنوّ‭ ‬ودفعني‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬رأيًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬عن‭ ‬رأيه،‭ ‬وما‭ ‬تعلمته‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭.‬

وكنتُ‭ ‬صادقًا‭ ‬فيما‭ ‬حكيتُه‭ ‬له‭ ‬مُتأثرًا‭ ‬بما‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬وجداني‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬الباكر‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬تذكيري‭ ‬له‭ ‬بهذه‭ ‬الواقعة‭ ‬قد‭ ‬جعله‭ ‬يستعيد‭ ‬التقاليد‭ ‬التي‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تعليمنا‭ ‬إياها،‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬معك‭ ‬حق‭ ‬يا‭ ‬جابر،‭ ‬فلنترك‭ ‬الشاب‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬تجربته‭ ‬البحثية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نصادر‭ ‬عليه‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬نختلف‭ ‬معه،‭ ‬فمن‭ ‬يدري؟‭ ‬ربما‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الحداثية‭ ‬شيء‭ ‬ينفع‭ ‬الطالب‭ ‬أو‭ ‬القسم‭ ‬في‭ ‬المستقبل‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬سجّل‭ ‬القسم‭ ‬أطروحة‭ ‬البحراوي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬
د‭. ‬خليف،‭ ‬رحمهما‭ ‬الله‭ ‬معًا‭.‬

هذه‭ ‬واحدة،‭ ‬أما‭ ‬الثانية‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬خاصة‭ ‬بسياق‭ ‬يرتبط‭ ‬بزميلي‭ ‬المرحوم‭ ‬د‭. ‬عبدالمنعم‭ ‬تليمة،‭ ‬الذي‭ ‬قُبِض‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬السادات،‭ ‬بتهمة‭ ‬انتسابه‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬التيار‭ ‬الثوري‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬الأحزاب‭ ‬الشيوعية‭ ‬السريّة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منتشرة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السادات‭.‬

وكان‭ ‬د‭. ‬تليمة‭ ‬مشرفًا‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬رسائل‭ ‬الدكتوراه‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعدّها‭ ‬تحت‭ ‬إشرافه‭ ‬طالب‭ ‬سوداني‭. ‬وبعد‭ ‬اعتقال‭ ‬تليمة،‭ ‬أصدر‭ ‬د‭. ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬قرارًا‭ ‬بتحويل‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتبع‭ ‬د‭. ‬تليمة‭ ‬إلى‭ ‬زملائه،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬حظّي‭ ‬أن‭ ‬تُحال‭ ‬إليّ‭ ‬دكتوراه‭ ‬الطالب‭ ‬السوداني‭ ‬الذي‭ ‬جاءني‭ ‬بعد‭ ‬شهر‭ ‬تقريبًا‭ ‬كاتبًا‭ ‬الرسالة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فرغ‭ ‬منها‭. ‬وقد‭ ‬زارني‭ ‬في‭ ‬بيتي،‭ ‬وكنتُ‭ ‬أيامها‭ ‬أسكن‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬النخيل‭ ‬بالمهندسين‭. ‬

ورحبتُ‭ ‬بالطالب‭ ‬السوداني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُقاربني‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬وقلتُ‭ ‬له‭: ‬‮«‬دعني‭ ‬أقرأ‭ ‬المخطوط‭ ‬أيامًا‭ ‬عدة،‭ ‬ثم‭ ‬أخبرك‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬كي‭ ‬تأتي‭ ‬وأناقشك‭ ‬في‭ ‬الاقتراحات‭ ‬التي‭ ‬سأكتُبها‭ ‬تعليقًا‭ ‬على‭ ‬الرسالة‮»‬‭. ‬

وبالفعل‭ ‬فرغتُ‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الرسالة‭ ‬وكتبتُ‭ ‬ملاحظاتي‭ ‬عليها‭ ‬وما‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬كتابتها‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬ومراجع،‭ ‬طالبًا‭ ‬منه‭ ‬كتابتها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يستكمل‭ ‬ما‭ ‬طلبتُ،‭ ‬وأوضحتُ‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬صفحات‭ ‬المخطوط‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يقرأه‭ ‬أو‭ ‬يفعله‭ ‬بدقّة‭ ‬كاملة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يضّل‭ ‬السبيل‭ ‬أو‭ ‬يفهم‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬قُلتُ‭. ‬وُبهت‭ ‬الشاب‭ ‬السوداني‭ ‬لما‭ ‬طلبته،‭ ‬واستغرب‭ ‬ما‭ ‬فعلتُه،‭ ‬لكنه‭ ‬أخذ‭ ‬مخطوط‭ ‬رسالته‭ ‬وشكرني‭ ‬شكرًا‭ ‬يليق‭ ‬بطالب‭ ‬شاب‭ ‬يحترم‭ ‬أستاذه‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬شيخًا،‭ ‬لكنني‭ ‬فوجئتُ‭ ‬به‭ ‬يطرق‭ ‬باب‭ ‬منزلي‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع‭ ‬من‭ ‬لقائي‭ ‬إياه،‭ ‬فاستغربتُ‭ ‬لأني‭ ‬قلتُ‭ ‬له‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الملاحظات‭ ‬التي‭ ‬كتبتُها‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬صفحات‭ ‬أطروحته‭ ‬لن‭ ‬تنتهي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬حوالي‭ ‬أشهر‭ ‬أو‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬الأكثر‮»‬‭. ‬ولم‭ ‬أملك‭ ‬سوى‭ ‬الترحيب‭ ‬بالشاب‭ ‬الذي‭ ‬جلس‭ ‬معي‭ ‬قليلًا‭ ‬يتحدث‭ ‬حديثًا‭ ‬عاديًّا،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬حديثه‭ ‬إذا‭ ‬به‭ ‬يُخرج‭ ‬من‭ ‬حافظته‭ ‬مظروفًا‭ ‬منتفخًا‭ ‬ويقدمه‭ ‬لي‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬النبي‭ ‬قَبل‭ ‬الهدية‮»‬‭.  ‬وأخذتُ‭ ‬المظروف‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أدري‭ ‬ما‭ ‬الأمر،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬وضعتُه‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬حتى‭ ‬وجدتُه‭ ‬مليئًا‭ ‬بعشرات‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬المالية،‭ ‬فَبُهِتُّ‭ ‬أو‭ ‬صُعِقتُ‭ - ‬سيان‭ - ‬وانتابني‭ ‬غضب‭ ‬عارم‭ ‬لا‭ ‬أوّل‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬آخر،‭ ‬وبالطبع‭ ‬طردتُه‭ ‬شرّ‭ ‬طردة‭ ‬من‭ ‬منزلي،‭ ‬وقررتُ‭ ‬أن‭ ‬أطلب‭ ‬من‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬إلغاء‭ ‬أطروحته‭ ‬وشطبها‭ ‬من‭ ‬سجلات‭ ‬القسم‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬نُسهم‭ ‬في‭ ‬تخريج‭ ‬دكتور‭ ‬بالرشوة‭. ‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الطالب‭ ‬ذهب،‭ ‬بعد‭ ‬أسبوعين‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬إلى‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬رئيسًا‭ ‬للقسم‭. ‬وشكاني‭ ‬إليه‭ ‬بأنه‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬لي‭ ‬هدية،‭ ‬لكنني‭ ‬فهمتُ‭ ‬أنها‭ ‬رشوة،‭ ‬وحكى‭ ‬للدكتور‭ ‬خليف‭ ‬قصة‭ ‬أخرى‭ ‬تستدرّ‭ ‬عطفه‭ ‬وطيبته،‭ ‬وكان‭ ‬الرجل‭ ‬طيبًا‭ ‬صافي‭ ‬السريرة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد،‭ ‬وإذا‭ ‬يَعِد‭ ‬الطالب‭ ‬بأنه‭ ‬سيُصلح‭ ‬الأمر‭. ‬ومرت‭ ‬الأيام‭ ‬وقابلتُ‭ ‬أستاذي‭ ‬رئيس‭ ‬القسم‭ ‬بعدها،‭ ‬وبدأ‭ ‬يحدثني‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الطالب‭ ‬السوداني‭ ‬‮«‬الغلبان‮»‬،‭ ‬واستمر‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬طالبًا‭ ‬مني‭ ‬العفو‭ ‬والتسامح‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الطالب‭ ‬الحزين‭ ‬الذي‭ ‬أسأتُ‭ ‬الظن‭ ‬به‭. ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أنّني‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬سمعتُ‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬حتى‭ ‬انفعلتُ‭ ‬على‭ ‬نحوٍ‭ ‬مفاجئ،‭ ‬وقلتُ‭ ‬له‭ ‬كاظمًا‭ ‬غيظي‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أستاذي‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬شكواي‭ ‬إلا‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ولم‭ ‬أطلب‭ ‬سوى‭ ‬معاقبة‭ ‬هذا‭ ‬الطالب‭ ‬الراشي،‭ ‬وعندما‭ ‬تُجادلني‭ ‬الآن‭ ‬فيما‭ ‬وقع‭ ‬وتطلب‭ ‬مِنِّى‭ ‬الرفق‭ ‬بالطالب‭ ‬والعفو‭ ‬عنه،‭ ‬فأنت‭ ‬تدفعني‭ ‬لأن‭ ‬أُذكِّرك‭ ‬بأنك‭ ‬تجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬طه‭ ‬حسين‮»‬‭.‬

وسَكتُّ‭ ‬صامتًا‭ ‬وغاضبًا،‭ ‬وانسحبتُ‭ ‬من‭ ‬أمام‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬ذاهلًا‭ ‬ربما‭ ‬بعد‭ ‬خروجي‭ ‬من‭ ‬الغرفة‭. ‬ونسيتُ‭ ‬الموضوع،‭ ‬ومرّت‭ ‬الأيام‭ ‬وإذا‭ ‬بي‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬الشهر‭ ‬أقابل‭ ‬بالمصادفة‭ ‬زوج‭ ‬ابنة‭ ‬أستاذي‭ ‬د‭. ‬خليف،‭ ‬وهو‭ ‬زميلي‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬التطاوي،‭ ‬الذي‭ ‬أخبرني‭ ‬بمرض‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬ووصوله‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬شبه‭ ‬محموم‭. ‬وعرفتُ‭ ‬بالطبع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬كلّه‭ ‬كان‭ ‬بسبب‭ ‬الكلمات‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬قلتُها‭ ‬له،‭ ‬خصوصًا‭ ‬حينما‭ ‬أشرتُ‭ ‬إلى‭ ‬تقاليد‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وهي‭ ‬إشارة‭ ‬أوجعت‭ ‬أستاذي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يغضب‭ ‬منّي‭ ‬فيما‭ ‬أتخيل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬فيه‭ ‬معي‭. ‬

وشعرتُ‭ ‬بالذنب،‭ ‬ولم‭ ‬أملك‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أطلبه‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬وأطمئن‭ ‬على‭ ‬صحته،‭ ‬وأعتذر‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أقصد‭ ‬به‭ ‬إلا‭ ‬احترام‭ ‬العلم‭ ‬واحترام‭ ‬تقاليد‭ ‬الأُستاذية‭ ‬التي‭ ‬علَّموها‭ ‬لنا‭. ‬وبالفعل‭ ‬هدأت‭ ‬نفس‭ ‬الرجل‭ ‬وطابت‭ ‬من‭ ‬الاعتذار‭ ‬فيما‭ ‬فهمتُ،‭ ‬وعادت‭ ‬علاقتي‭ ‬به‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬أستاذًا‭ ‬ورمزًا‭ ‬وقيمة‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

أما‭ ‬الزميل‭ ‬الكريم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬خرج‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬أُعلن‭ ‬تشكيل‭ ‬لجنةٍ‭ ‬لمناقشة‭ ‬الطالب‭ ‬السوداني،‭ ‬ولم‭ ‬يسألني‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬مُلاحظاتي،‭ ‬ووجد‭ ‬من‭ ‬شاركه‭ ‬في‭ ‬اللجنة،‭ ‬ومُنحت‭ ‬الدكتوراه‭ ‬لمَن‭ ‬لا‭ ‬يستحق،‭ ‬وحزنتُ‭ ‬بالطبع‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬ورأيتُ‭ ‬بحدسي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬أُشاهد‭ ‬تحوَّلًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العلمي،‭ ‬وأن‭ ‬العهد‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬مع‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬قد‭ ‬أخذ‭ ‬يتقلّص‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصابنا‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬الحياة‭ ‬العربية‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬ضعف‭ ‬وارتباك‭ ‬وخلل‭ ‬في‭ ‬القيم‭.‬

والحق‭ ‬أنني‭ ‬عندما‭ ‬أسترجع‭ ‬علاقتي‭ ‬بالدكتور‭ ‬خليف‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬سنوات‭ ‬دراستي‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬أجد‭ ‬أنها‭ ‬مرّت‭ ‬بمراحل‭ ‬ثلاث؛‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬هنا‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭ ‬فحسب،‭ ‬والتي‭ ‬تميّزت‭ ‬بالحب‭ ‬الغامر‭ ‬والعلاقة‭ ‬الأبوية‭ ‬بين‭ ‬الأب‭ ‬الذي‭ ‬كانهُ‭ ‬والابن‭ ‬الذي‭ ‬كُنتُه،‭ ‬وظلت‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬رغم‭ ‬استغراقي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث‭ ‬والنقد‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتهت‭ ‬أيام‭ ‬الدراسة‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الامتياز‭ ‬مع‭ ‬مرتبة‭ ‬الشرف‭.‬

وكان‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬أُعيّن‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬مُعيدًا،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬التعيين‭ ‬قد‭ ‬تعطل؛‭ ‬لأن‭ ‬د‭. ‬ضيف‭ ‬ود‭. ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ - ‬وكلاهما‭ ‬أكبر‭ ‬أساتذة‭ ‬القسم‭ - ‬قد‭ ‬اختلفا‭ ‬على‭ ‬تعيين‭ ‬المُعيدين،‭ ‬وتحمَّس‭ ‬كل‭ ‬واحدٍ‭ ‬لطلابه،‭ ‬وامتد‭ ‬الخلاف‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬تخرُّجي‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬ينالني‭ ‬رذاذ‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف،‭ ‬فرفضا‭ ‬تعيين‭ ‬معيدٍ‭ ‬جديدٍ،‭ ‬وأجَّلا‭ ‬موضوع‭ ‬الاختيار‭ ‬حتى‭ ‬يتفقا‭ ‬على‭ ‬تعيين‭ ‬الزملاء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬موضع‭ ‬الشقاق‭.‬

وكان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬أنتظر‭ ‬أشهرًا‭ ‬طوالًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬وقت‭ ‬تعييني‭. ‬ويبدو‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬حماسة‭ ‬من‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حال‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬فيه،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬تلميذًا‭ ‬للعملاقينِ‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬وشوقي‭ ‬ضيف،‭ ‬ولذلك‭ ‬اتّخذ‭ ‬موقف‭ ‬الحياد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬سلبي‭ ‬بالطبع‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬تعييني،‭ ‬فحزنتُ‭ ‬جدًّا‭ ‬لذلك،‭ ‬وانتهت‭ ‬علاقتي‭ ‬به،‭ ‬بل‭ ‬وصل‭ ‬الأمر‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬التحول‭ ‬الكامل‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬القديم‭ ‬إلى‭ ‬الحديث،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أنني‭ ‬حصلتُ‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬دراسية‭ ‬ممتازة‭ ‬من‭ ‬معهد‭ ‬البحوث‭ ‬والدراسات‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرأسه‭ ‬آنذاك‭ ‬المرحوم‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬خلف‭ ‬الله‭ ‬أحمد،‭ ‬الأستاذ‭ ‬بجامعة‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وتلميذ‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬دراستي‭ ‬في‭ ‬معهد‭ ‬البحوث‭ ‬والدراسات‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬دفعتني‭ ‬دفعًا‭ ‬إلى‭ ‬عالَم‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث،‭ ‬وذلك‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬أحالت‭ ‬اتجاهي‭ ‬إلى‭ ‬النقيض،‭ ‬فدخلتُ‭ ‬عالم‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث‭ ‬والنقد‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تلقيتُ‭ ‬دروسًا‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬والأدب‭ ‬والنقد‭ ‬واللغة‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬كبار‭ ‬هم‭: ‬محمد‭ ‬خلف‭ ‬الله‭ ‬أحمد،‭ ‬وعبدالقادر‭ ‬القط،‭ ‬ومن‭ ‬أساتذة‭ ‬عراقيين‭ ‬وفلسطينيين‭ ‬نجحوا‭ ‬في‭ ‬جذبي‭ ‬إلى‭ ‬عالَمٍ‭ ‬آخر‭ ‬يرتبط‭ ‬بالحداثة،‭ ‬ويتباعد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬د‭. ‬خليف،‭ ‬فكم‭ ‬تعلّمتُ‭ ‬من‭ ‬كُتبه‭ ‬الشهيرة‭ ‬عن‭: ‬‮«‬الشعراء‭ ‬الصعاليك‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‮»‬،‭ ‬وعن‭: ‬‮«‬حياة‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الكوفة‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬للهجرة‮»‬،‭ ‬وعن‭ ‬‮«‬ذو‭ ‬الرُّمة‭ ‬شاعر‭ ‬الحب‭ ‬والصحراء‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬دراسة‭ ‬نصية‭ ‬لشعر‭ ‬عربي‭ ‬نادر‭ ‬غير‭ ‬مقروء‭ ‬أو‭ ‬مشهور،‭ ‬لكنّها‭ ‬دراسة‭ ‬تضع‭ ‬د‭. ‬خليف‭ ‬في‭ ‬صفّ‭ ‬أستاذه‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الريادة‭ ‬والقراءة‭ ‬الفاحصة‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬خفايا‭ ‬النص‭ ‬الشعري،‭ ‬وتحيل‭ ‬غامضه‭ ‬إلى‭ ‬صياغات‭ ‬سهلة‭ ‬الفهم،‭ ‬عذبة‭ ‬الوقع‭ ‬