ما قبل جورج فلويد وما بعده الحكاية الجارحة للضمير الإنساني

مَن منّا لا يعرف كونتا كونتي بطل رواية «الجذور» الشهيرة لكاتبها أليكس هيلي، التي طبعت عشرين طبعة خلال بضع سنوات من صدورها في سبعينيات القرن الماضي، والتي تحوّلت إلى مسلسل ناجح حقق أعلى نسبة مشاهدة في ذلك الحين، بلغت 130 مليون مشاهد (ويكيبيديا)؟
«كونتا» الصغير المولود في جامبيا هو حفيد كيرابا كونتا كونتي، الموريتاني المسلم، ووالده أمور، وربما أصل الاسم عُمر! ووالدته اسمها بنتا، غير البعيد عن كلمة البنت! والتي كانت تهدهد ولدها في حضنها وتغنّي له بحنانٍ أبيضَ كلون حليب ثديها:
يا طفلي المبتسم
المُسمّى على اسم جدٍ نبيل
صياد عظيم أو محارب ستصبح يومًا
وستعطي والدك الفخر
ولكن دائما سأتذكرك هكذا
«كونتا» الصغير يُختطف ويباع كعبد في أمريكا، وينسى مثل مئات الآلاف من أمثاله معنى الابتسام، وأمّه التي أرادت له أن يكون صيّادا قد خاب أملها حينما اصطاد تجار الرقيق ابنها من الساحل الإفريقي الغربي، لكنّه على رغم محنته وشقائه ومصائبه ومعاناته، يحقق لوالده وللأفارقة السود وللإنسانية جمعاء ملحمة فخار وعزّ، وبطولة قلَّ مثيلها، وألحق وصمة عار أبدية على جبين الإنسان الأبيض، ولا تزال سيرته التاريخية حتى هذه اللحظة تلطخ خصلات الشعر الشقراء بالسواد والقار.
ظلال من الأمس البعيد
خمسة قرون، وعذاب السود الأفارقة يلاحقهم كلعنة أبدية بسبب زيادة قليلة من مادة الميلانين في بشرتهم. في كل مكان وزمان وفي أعتى الديمقراطيات الشقراء، وفي تاريخنا كعرب، ومنذ العصر الجاهلي، والوعي الإنساني المنحرف يمارس أبشع أشكال الدناءة ضد غربان العرب، وأقصد السلّيك والشّنفرى وعنترة بن زبيبة الحبشية الذي صرخ واحتج:
تعيّرني العدا بسَواد جلدي
وبيض خصائلي تمحو السّوادا
وكما اصطاد القراصنة الأنجلوسكسون والإسبان والبرتغاليون والهولنديون بالشباك زنوج الساحل الإفريقي لنقلهم إلى القارة الجديدة المُكتشفة في القرون الوسطى للاتجار والبيع في المزادات العلنية، فعل العرب واصطادوا زنوج الساحل الشرقي وأحضروهم عبيدًا وخدمًا وأُجراء أرض وأرقّاء إلى مدينة البصرة، حاضرة الدولة العباسية، وهناك انتفض اللون الأسود وثار الزنج في القرن التاسع الميلادي، وأقاموا دولة امتدت حدودها إلى مشارف بغداد، ونكّل الرقيق السود بالسادة البيض ونهشوا لحومهم، وهذا ما لم يفعله حتى اليوم زنوج أمريكا الذين كانوا عبيدًا وأرقّاء، قبل مقتل جورج فلويد وبعده، ولا أحد يدري إلى متى.
يقول د. فيصل السامر في كتابه «ثورة الزنج»: «عُرف الرقّ كمظهر من مظاهر الحياة البشرية منذ أقدم العصور. الحرب كانت السبب الرئيسي. وهكذا نجد الاسترقاق في مصر القديمة ووادي الرافدين، وفي الهند، حيث اعترفت به شريعة مانو، وكذلك في الصين وفارس وبلاد العبرانيين، حيث اعتبره أنبياء إسرائيل من وسائل الثروة والغنى».
ويتجاوز مفهوم الرقّ، في جوهره، فلسفيًا وفكريًا واجتماعيًا، لون البشرة، لكنّ هذا المفهوم تاريخيًا تماهى في كثير من الأحيان مع لون البشرة السوداء، وخصوصًا في أمريكا.
وقد تناول د. محمود السمرة في العدد 87 من مجلة العربي هذا الموضوع، وكتب «الإقطاعيون في منطقة البصرة ذات الأراضي الشاسعة الواسعة، أخذوا يبحثون عن أيد عاملة رخيصة، فوجدوا ضالّتهم في زنج شرقيّ إفريقية، فأخذوا يجلبونهم إلى منطقة البصرة بعشرات الألوف».
وازدهرت أسواق النخاسة، على رغم ما هيّأ الإسلام من فرص عادلة تكفل للعبيد حقوقهم الشرعية، إذ كان من السود صحابة وفقهاء، وعلى رأس هؤلاء الحبشي بلال الذي دعاه نبينا محمد [ لإقامة الأذان من فوق الكعبة المشرّفة بعد فتح مكة، وصلّى مع الرسول العربي الكريم داخلها.
عبيد الأرض
منذ الحرب الأهلية الأمريكية حوالي الأعوام 1861 - 1865 في عهد الرئيس لينكولن، كان عبيد الأرض من السود في الولايات الجنوبية هم السبب في اندلاعها، إذ إن الولايات الشمالية رغبت في تحريرهم على عكس الولايات الجنوبية، وذلك لتشغيلهم في مدن الشمال الصناعية، وخلال قرن ونصف القرن منذ ذلك التاريخ، والسود الأفارقة على وشك الثورة المؤجلة.
أمّا لماذا لم تنفجر الثورة السوداء في أمريكا بعدما علّمهم كونتا كونتي فلسفة التمرد، فإنّ الأمر يعزى إلى فلسفة القسّ مارتن لوثر كينغ المسالمة والنابذة لسلوك العنف، ومع ذلك اغتيل الرجل الذي قال: «العنف ليس فقط منحطًا أخلاقيًا، بل هو عقيم من الناحية العملية أيضًا»، ويعزى أيضًا لعقيدة السود المسلمين - عدا حركة النمور السود الراديكالية التي تعقّبتها قوى الأمن الفدرالي واجتثتها اجتثاثًا - لأنّ القياديين المسلمين جنحوا إلى المطالبة بحقوقهم المدنية التي نصّت عليها التعديلات الدستورية رقم 13 في عام 1865، والتي ألغت الرقّ رسميًا، ثم التعديلان 14 و15 لتأكيد حق التصويت والانتخاب للسود، وهذه التعديلات المنصفة أجّلت احتمال اندلاع العنف والعصيان، وربما الثورة.
كل ذلك الحراك كان - في حقيقة الأمر - يكمن في المدونات والأدبيات، أما الذي كان يعتمل في النفوس، فقد جسّده بشكل واضح الفيديو القصير للضابط الأبيض وهو يضع ركبته على عنق الأسود جورج فلويد وهو يستجير ويصرخ قائلاً: «دعني أتنفس»، مما أدى لاحقًا إلى موته.
أمريكا بلد المتناقضات
هذا عنوان كتاب مهم وموضوعي ورصين وشامل للأستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا، د.مازن موفق هاشم، وهو باحث قدير متخصص في علم الاجتماع، وقد سبق لي أن أشرت إلى الكتاب في إحدى مقالاتي الشهرية التي كنت أكتبها لمجلة الكويت، وأنقل من فصله الثالث وعنوانه «الإثنيات الأصلية بين الاعتراف والنكران» مقتطفات حول ما خفي في الصدور البيضاء، ضد لون وضمير وفكر وسلوك العرق الأسود بالمطلق.
يكتب الباحث هاشم، نقلاً عن مراجع إنكليزية موثوقة:
- إن صلب حركة الحقوق المدنية هي «قضية الأفارقة المظلومين الذين جمعهم الأسى وتاريخ طويل من الفقر والقهر والتنكيل».
- وجود الأفارقة السود مرّ بمراحل، آخرها «مرحلة العولمة والنكوص عن إنجازات حركة الحقوق المدنية... منذ ثمانينيات القرن العشرين.. وعودة العصبية البيضاء التي تبغي الحفاظ على امتيازاتها».
- وفي البدايات كانت قوافل السود تُساق «إلى أسواق النخاسة، حيث يوضع الفرد منهم على منصة في وسط الراغبين في الشراء يتفحصون عضلاته وقدراته الإنتاجية، كما يفحصون قدرته الإنجابية».
- وكان الظلم الفادح قد دفع بعض السود إلى أفعال غير محمودة (ومنهم من انتحر راميًا نفسه في البحر، كما قامت بعض النساء بإجهاض حملهنّ كيلا يعرّضن جيلًا آخر للعبودية).
- والمجموعة البيضاء «بدأت تُسنّ القوانين بشأن السود الآبقين خاصة، إلى جانب الاعتقاد السائد بأن السود ذوو طبيعة شريرة، واعتقاد الكنيسة أنهم ليست لهم روح، والاعتقاد العلمي آنذاك بأنهم على درجة أدنى في سلّم التطور البشري الدارويني».
- «أضحت التجارة بالرقيق مربحة في حدّ ذاتها، مستفيدة من القوانين التي ضيقت على السود واعتبرتهم أرقاء مدى الحياة».
- ومن العوامل الضاغطة «تزايد عدد السود بشكل كبير... الأمر الذي أثار حفيظة البيض وجعلهم يتهيّبون من السود، ويشعرون بالتهديد من مجرد وجودهم الطاغي واحتمال ثورتهم».
- «وفيما بين أعوام 1660 - 1860 جرت 200 انتفاضة ربما من أصل 1200 عملية خُطّط لها، ولم يُتمكن من تنفيذها».
- «إن كلًّا من الشمال والجنوب كانا يعتقدان بأن السود مهيؤون خلقة للاستعباد والخدمة»، و«توجّس الخطر من ثورة السود كان في ذهن الفئة البيضاء»، و«تعلم القراءة والكتابة كان محرّمًا على السود».
- ومرَّ السود بمراحل محرجة خلال فترة التفرقة Segregation «لأنّ لهم منزلة مقررة كجنس منحط لا يرقى إلى بشرية البيض والأوربيين. وحوصروا - بأعراف عنصرية جديدة تحفظ نظام فصل السود في الأماكن العامة - من المطعم إلى المرحاض»، وانبثقت عصابات إرهابية من البيض لتقتص من المخالفين السود، «وأشهر هذه المنظمات هي عصابة الـ Ku Klux Klan التي شكّلت عام 1866 على مبدأ الصفاء العرقي الأبيض»، والتي انتمى إليها مئات الآلاف من البيض.
كل هذه المقتطفات الحرفية غيض من فيض، إذ جرى خلال مئات السنين تدجين الأفارقة وتدمير ثقافتهم، تمامًا كما جرى تدمير ثقافة سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر الهمجيين، تحت غطاء رفع سويتهم الحضارية. وما وضع ركبة الضابط الأبيض فوق عنق جورج فلويد، سوى حصيلة قهرٍ لسنوات طويلة وثقافة رأسمالية بيضاء مريضة بداء المنافع والمصالح والاعتزاز الزائف بعلوّ العرق الأبيض الأنجلوسكسوني البروتستانتي (الواسب) على الجميع، وهو الذي أودى بحياة الأسود فلويد.
مطارحات في السياق
من المؤلم حقًا أن السود أيضًا تناحروا وانقسموا على أنفسهم في أمريكا بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ، وتاجروا بانتهازية مفضوحة بكل حقوقهم الإنسانية، وقد نشرت مجلة العربي دراسة حول هذا الموضوع منذ زمن بعيد (العدد 200)، حيث كتب علم الهدى حماد: «أصبح الثوريون السود مشغولين بالصراع والحرب فيما بينهم، وليس لديهم الوقت والطاقة لخوض المعركة الأصلية بينهم وبين البيض».
والأكثر إيلامًا أنّ ما حصل في أمريكا الشمالية تكرّر بألوان وأطياف مختلفة في أمريكا اللاتينية بحكم العدوى، وعلى يد الإسبان والبرتغاليين والوسطاء الهولنديين.
كما كتب د. محمود علي مكي نقلًا عن مجلة العربي في العدد 222: «أصبحت بلاد إفريقيا السوداء بمنزلة نهر غزير يغترف البرتغاليون منه ما شاؤوا من عبيد، وسرعان ما أصبحت تجارة الرقيق تتمتع بحماية العرش البرتغالي... ومنذ سنة 1662 نجد أن الحكومة الإسبانية تضطر إلى منح تراخيص احتكار تجارة الرقيق لمجموعة من المؤسسات المالية الأوربية الكبرى، وقد ظفرت المؤسسات الهولندية بنصيب الأسد. وتعهّد «الموردون» الهولنديون بإدخال عدد سنوي من الرؤوس يتراوح بين 3500 و6000 قطعة... وهكذا كان يسمّى الرأس من رؤوس العبيد».
ومجلة العربي السبّاقة دائمًا إلى مواكبة الوقائع والأحداث والأفكار، تناولت بقلم مؤسسها ورئيس تحريرها د. أحمد زكي، يرحمه الله، إشكالية العنصرية بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية والجغرافية، وذلك في افتتاحية العدد 96 عام 1966، ونبّه الكاتب المرموق إلى تفاقم هذه المعضلة قائلًا: «لون الجلد قسّم الدنيا اليوم فصارت دَنْيَوَيْن... فليس في أمة البيض مَن لا يخشى يقظة الصُّفر والسُّمر والسود... هذه هي الدنيا اليوم، وقد تقسمت، وسوف تزيدها الأيام تقسيمًا. ولا ينجّيها من وبال ذلك إلّا أن تتقارب الثقافات وتتشكل المدنيات».
شهدَ شاهدٌ من أهلها
تلعب الصورة المعززة بالمهارة وسرعة الانتشار والتداول الواسع دورًا هائلًا في تشكيل توجّهات الرأي العام في عصرنا الحاضر، وهذا ما فعله الفيديو الذي أثار ضجة كبيرة لا تستطيع الكلمة أن تفعله، بعد أن تراجع الإقبال على القراءة في أصقاع العالم كافة، وعلى رُغم ذلك يبقى للكلمة أنصارها، وأنا منهم.
في كتاب مايكل مور الشهير بعنوانه اللافت «رجال بيض أغبياء»، يروي الكاتب قصصًا وحكايات كثيرة موثقة غريبة عن استهداف البيض للسود في أمريكا وسجنهم أو قتلهم بالخطأ، وهم أبرياء تمامًا، دون أن ترفّ جفونهم.
الحكاية الأولى حول مقتل الأسود البريء جون آدامز مساء الرابع من أكتوبر عام 2000 في مدينة ليبانون، بعد مداهمة واقتحام وحدة من مكافحة المخدرات منزله الكائن في 70 شارع جوزيف، وإطلاق النار عليه وهو جالس على كرسيه الجلدي المتحرك لمشاهدة أخبار المساء على التلفاز. لقد أخطأت شرطة الحرب على المخدرات في عنوان المنزل، إذ كان المقصود في المداهمة المنزل الكائن في 1120 شارع جوزيف!
الحكاية الثانية حول إصدار الحكم بالسجن المؤبد لمئتي عام (!) على اللص الأسود أنتوني ليمار تايلور، الذي انتحل شخصية أسود آخر هو نجم الغولف تايغر وودس، واستخدم شهادة سواقة وبطاقات اعتماد مزورة، وذلك بحجة قانون «الضربات الثلاث»، أي الحكم بالمؤبد على كلّ من يرتكب ثلاثة أفعال جُرمية، خصوصًا إذا كانوا من الفقراء الأمريكيين الأفارقة! ويعلّق مور ساخرًا: «لم يُرسل أي مسؤول كبير في شركة ما إلى السجن المؤبد بعد إمساكه ثلاث مرات يلوّث نهرًا أو يسرق زبائنه».
الحكاية الثالثة حول المختل عقليًا الأسود كيري ساندرز، من أهالي كاليفورنيا، الذي قضى سنوات طويلة في المصحات العقلية للعلاج دون أن يشفى. فقد اعتُقل الرجل لتعدّيه على مكان لا يحق له دخوله عام 1973، ولسوء حظه تزامن الأمر مع هرب مجرم أسود وقاتل من سجن نيويورك اسمه روبرت ساندرز، ويجمع بين الاثنين تطابق يوم ميلاديهما فقط.
ولأنّ كيري غير مُدرك لأفعاله ومجنون ومختل، فإنه يوقّع بخربشة واضحة على وثيقة يعترف فيها بأنه هو روبرت ساندرز، وتسلّمه شرطة لوس أنجلوس إلى شرطة نيويورك لإكمال محكومية المجرم الهارب روبرت في سجن مزود بتدابير أمنية مشددة، حيث يقضي سنتين تعرّض خلالهما للاعتداء الجنسي من مسجونين آخرين، ولم يكشف الخطأ الفادح إلّا بعد إلقاء القبض على المجرم الفارّ روبرت عام 1975، وأفرج عن كيري المسكين بعد إعادة التحقيق. يقول مور في كتابه. «ولكن، هاي، إنهم السود جميعًا متشابهون، أليس كذلك؟».
خاتمة
أمريكا فعلًا مُحيّرة، إمبراطورية عُظمى لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، أغنى وأقوى دولة، وتقود خُطى العلم والصناعة والتجارة والزراعة والمصارف والإعلام والسينما والتطوير، ويصل فيها إلى البيت الأبيض رئيس لا يتقن الكتابة والقراءة هو الرئيس السابع عشر، أندرو جونسون!
بلد تحتل جامعاته المراكز المتقدمة في العالم أجمع، وفيه أعلى نسبة مساجين في العالم، ويعاني انتشار آفات مرعبة كالمخدرات والشذوذ.
أمريكا الممتدة من كونتا كونتي إلى جورج فلويد، تقود الكون وتملي ثقافتها عليه، وهي الشرطي المتين الذي يضع ركبته على عنق البشرية التي لم تعد تعرف كيف تتنفس إلا من رئة دولارها الباذخ، وتئن الساحات من وطأة وثقل صوت «البنتاغون» على مسامعها. أمريكا الرائعة، تبدو اليوم جامعة مانعة طامعة وبالعة! ■