سينية ابن زيدون .. جوهرة شعرية نفيسة أبدعها في سجنه

أبدع ابن زيدون في سجنه قصائد عدة، كان منها سينيته الشهيرة، وهي قصيدة فريدة عجيبة، كُـتـب لها من أسباب التفرد والنجاح ما جعلها من عيون الشعر الأندلسي، لما تميزت به من براعة في الوصف، وقوة في التأثير، وجمال في التعبير، وبلاغة في إيصال المعنى، وأهم من ذلك كله، وحدة الموضوع والتركيز عليه، وتسخير كل ما أوتي الشاعر من براعة وفصاحة في خدمة هذا الموضوع، ابتداء من تسلسل الأفكار، وانتهاء بقافية القصيدة وجرس حروفها، مرورًا بحسن انتقاء ألفاظها وجمال اللمسات البلاغية والبيانية فيها.
مطلع القصيدة ينبئ بالكثير عما سيأتي فيها، ويصلح أن يكون عنوانًا لها، لأنه يلخص الحالة النفسية للشاعر عندما نظمها:
ما على ظني باس
يجرح الدهر وياسو
ربما أشرف بالمر
ءِ على الآمال ياس
ذاك قول رجل يواسي نفسه من جروح أصابت قلبه المكسور، ولم تندمل بعد، يقولها واصفًا حاله وهو مطروح في السجن ظلمًا من جهة، ومعللًا نفسه بقرب الفرج من جهة أخرى، لأن الأيام التي جرحته، لا بد أن يأتي تعاقبها بما يأسو جراحه، فالفرج قد يأتي بعد القنوط، وكلما اشتد اليأس اقترب الأمل، ويعبر شاعرنا عن كل هذه المعاني برشاقة وسلاسة، وبافتتاحية تُدخل السامع فورًا في جو القصيدة.
وفي خضم ما يعانيه الشاعر، لا ينسى أن يؤكد أن ما أصابه ليس لتقصير منه أو ضعف، فتلك هي المقادير، قد تصيب الحريص والقوي والفطن، وقد ينجو منها العاجز والضعيف والمهمل:
ولقد يُنجيك إغفا
لٌ ويرديك احتراسُ
والمحاذير سـهام
والمقاديـر قيـاسُ
ولكم أجدى قعـودٌ
ولكم أكدى التماسُ
وكذا الدهـر إذا مـا
عـزَّ ناسٌ ذل نـاسُ
وبعد هذا التمهيد، الذي يُفهم منه أنه في أزمة، وأنه متأكد من أن أزمته لن تدوم، لأن هذه حال الدنيا، يلمح إلى أن الناس أصناف مختلفة، بعضهم كرام وبعضهم خساس، في لفتة ذكية قد يبدو لأول وهلة أنها خارج السياق، ولكن سيظهر الغرض منها في الأبيات التي بعدها، وتلك اللفتة هي قوله:
وبنو الأيـام أخـيـافٌ
سَـراةٌ وخِساسُ
نلبَـسُ الدنـيا ولكنْ
متـعةٌ ذاك اللباسُ
ذلك أنه بعد هذين البيتين، سيتجه بالكلام إلى أبي حفص، وهو الشخص الذي سيستجير به مؤمِّلًا أن يكون عونه في الخلاص من محنته في السجن، والكلام عن أصناف الناس قبل ذلك، هو توطئة لتلك الاستجارة، فكأنه يقول لأبي حفص بشكل غير مباشر: إن الناس بين صنفين، خسيس وضيع، أو كريم فاضل، ولولا أنك من النوع الثاني لما استجرت بك، وهل يستعان في الملمات والحادثات الجسام إلا بالكرام الأفاضل؟ لأنهم لا يسعون لمتاع الدنيا، بل يسعون لكل مكرمة ومروءة وعمل صالح.
والآن، وبعد هذا التمهيد الذكي، هل يبدأ الشاعر بعرض مشكلته على أبي حفص؟ ليس بعد، إذ لا بد قبل عرض المشكلة من استمالة أبي حفص ببعض المديح، فيقول:
يا أَبا حَفصٍ وَما سا
واكَ في فَهمٍ إِياسُ
من سَنا رَأيِكَ لي في
غَسَقِ الخَطبِ اِقتِباسُ
وَوِدادي لَـــــكَ نَـــــــــصٌّ
لَم يُخالِفهُ قِياسُ
أَنَا حَيران وَلِلأَم
ـــرِ وُضوحٌ وَاِلتِباسُ
والملاحظ هنا أن الشاعر يركز في مديحه على فطنة الممدوح وحكمته، وسداد رأيه، لا على كرمه وشجاعته، كما يفعل معظم المدّاحين، فهو لا يطلب مالًا ولا منصبًا، بل يطلب أن يستخدم الممدوح فطنته التي لا يجاريه فيها حتى إياس، أذكى أشهر قاض عرفته العرب، وأن يستخدم رأيه السديد الذي هو في نظر الشاعر، الشعاع المنير الوحيد الذي يراه في ظلمة محنته، يستخدم كل ذلك في مساعدة الشاعر على النجاة من محنة السجن، وكأنه يقول له: ليس لهذه الملمة إلا أنت يا أبا حفص. وبعد أن انتهى من استمالته يبدأ في عرض مشكلته:
ما نرى في معشر حا
لوا عن العهد وخاسوا
ورأوني سامـريـا
يُتَّقى منـه المِسـاسُ
أذؤبٌ هــــــــامـــــــــــــــت بلحــــــمــــــــــي
فانتهاشٌ وانتـهـاسُ
كلهم يسأل عن حـا
لي وللذئـب اعتساسُ
ويبدو من طريقة عرض المسألة أن أبا حفص على علم بتفاصيلها، لأن ما يعرضه الشاعر هو خطوط عامة، يتكلم فيها عن قوم طعنوا الشاعر في ظهره، وأخلفوا عهودهم معه، ولم يكتفوا بذلك بل أشاعوا عنه من الطعن في شخصه، ما جعل الناس يتجنبونه ويعرضون عنه، ولم يدخر أعداؤه أي فرصة سانحة للنيل منه بأي وسيلة كانت، فجعلوا من عرضه هدفًا لافتراءاتهم وأكاذيبهم وأراجيفهم، حتى غدا منبوذًا طريدًا سجينًا لا يسأل عنه أحد، ويبدع ابن زيدون في تصوير المدى الذي وصل إليه حاسدوه في بغضهم له، وكيدهم ضده، حين شبههم بالذئاب التي (هامت) بلحمه، فراحت تنهش منه وتنهس، ويالها من صورة معبرة لا يملك من سامعها إلا أن يتعاطف مع الشاعر المظلوم، ويحقد على أعدائه الظالمين، الذين يستمتعون بظلمه استمتاعًا وصل حد الهيام، لا يوازيه إلا استمتاع الذئاب بالافتراس، ولكن، قبل أن يظن السامع أن الشاعر قد يئس من النجاة واستكان لما أصابه من ظلم وذل، يستدرك قائلًا:
إنْ قسا الدهر فللمـا
ءِ من الصخر انبجاسُ
ولئن أمسيتُ محـبو
سـًا فللغيث احتبـاسُ
يَلْبُدُ الوردُ السّـَبَنْتَي
ولـه بعدُ افـتـراسُ
فتأمل كيف يَغشـى
مقـلةَ المجدِ النـعاسُ
ويُفَتُ المسكُ في التر
بِ فيـُوطـــــا ويُـــــــداسُ
وهذا استدراك ذكي من الشاعر، ليظهر أنه عزيز النفس صبور على نوائب الدهر، وأنه لا يرسل قصيدته استدرارًا لشفقة أحد، لأنه موقن بأن محنته ستنتهي عاجلًا أم آجلًا، ويعبر عن ذلك بطريقة في غاية البراعة والجمال، فكم من ماء ينبجس من الصخر الأصم، ومهما احتبس الغيث فلا بد أن يهطل، وإن كان الآن في السجن ساكنًا فمثله كمثل الأسد، لا يسكن إلا إذا كان يستعد للافتراس، وهو بذلك يشير إلى مكانته المرموقة قبل دخول السجن، حيث كان وزيرًا مقربًا من أمير قرطبة، ناهيك عنه كونه شاعرًا أديبًا مشهورًا، ولئن كان الآن في السجن، فمثله كمثل المجد الكامن لا بد أن يعود لسابق عهده، وكالمسك المدفون، يحتاج من يزيح عنه التراب لتفوح رائحته الذكية، وكأنه هنا يقول لأبي حفص: نجاتي من السجن قضية وقت، فلتكن على يدك فإنك بذلك ستكسب حليفًا قويًا أنت أولى به من غيرك.
لذلك نراه يعود ليختم قصيدته بأبيات يذكّر فيها أبا حفص بالمودة التي بينهما، ويؤكد له ثباته على تلك المودة، بطريقة بليغة مؤثرة، فهو يريد أن يكون عهد أبا حفص له مثل ورق نبات الآس، يحافظ على نضارته وخضرته، وليس مثل الورد الذي يجف ويذبل فور قطفه، ويطلب منه بلمسة بلاغية لطيفة وذكية، ألا ينسى صديقه ابن زيدون بعد قراءة القصيدة، بل أن يتذكره كلما أمسكت يده بكأس ليشرب، ولا ينسى أن يذكر صديقه أن أيام الصفاء والعز والسطوة لا تدوم، فليسارع إلى نجدته قبل فوات الأوان:
لا يـــكــــــن عـهـــــــدُك وَرْدًا
إن عـهـــــــــدي لــــــــك آسُ
وأدِرْ ذكــــــــــــــــــــــــــــــــريَ كـــــــــــــأســــــــــــًا
ما امتطتْ كَفَّكَ كـاس
واغتنم صفوَ الليالـي
إنما العيش اختـلاس
وعسى أن يسمحَ الدهــ
ــرُ فقـد طال الشـِـماس
وأحسب أنه بعد هذا الاستعراض السريع للقصيدة، قد اتضح لنا ما نعنيه بوحدة الموضوع، وتسخير الشاعر كل مواهبه الفنية والبلاغية للوصول إلى مقصده، ولعمري كأن الشاعر قد أمسك بقلمه قبل نظم القصيدة فرسم لها خطة محكمة، ثم شرع بنظمها حسب تلك الخطة: افتتاحية تدخل السامع في جو القصيدة، ثم تمهيد يبين فيه تسليمه بما أصابه مع صموده ويقينه بالفرج، ثم تلميح إلى أن الناس صنفان كرام وخساس، ثم توجهه إلى أبي حفص، الذي نظم القصيدة أصلًا ليرسلها له مستنجدًا، ولكن بعد أن يبدأ بمديح لرأيه وفطنته، ثم شرح موجز لقضيته ولكونه مظلومًا مفترى عليه، وأخيرًا تذكير بالمودة والعهد بينه وبين أبي حفص، وحث على أن لا يهمل طلبه وأن يبقى في باله دائمًا، وهكذا يصل الشاعر لغرضه بلا زيادة ولا نقصان، وبطريقة متدرجة سلسة منطقية، وهذا التسلسل والمنطق الذي فيها، لم يمنع أن تكون قطعة فنية غاية في الجودة والتأثير، لما وضع الشاعر فيها من لمسات فنية وبلاغية لا يقدر عليها إلا أمثاله من الشعراء المطبوعين الفطاحل، وإن القارئ ليعجب كيف استطاع ابن زيدون أن يحشد هذا الكم الغزير من الصور الفنية والإبداعات البلاغية في هذا النص القصير، وقد تحتاج دراسة كل هذه الصور البيانية والإبداعات البلاغية إلى بحث مستقل لتحليل مكامن الجمال في كل منها، إذ لا يكاد يخلو بيت من مقابلة بليغة أو صورة جميلة أو استعارة معبرة، نرى الطباق من أمثال الدهر الذي يجرح ويأسو، والناس السراة والخساس، والإغفال والاحتراس، والقعود والالتماس، والعز والذل، والوضوح والالتباس، ونرى من الصور والاستعارات، تشبيه المدى الذي وصل إليه حاسدوه في بغضهم له، حتى باتوا يرونه كالسامري الذي كان الناس يعرضون عنه ويتقوم مساسه بأمر نبي الله موسى، ثم صورة الذئاب التي (هامت) بلحمه، فراحت تنهش منه وتنهس، وصورة السماء المحتبسة انتظارا للغيث الوشيك، والصخر الأصم الذي يتهيأ ليتفجر منه الماء، والأسد الرابض الذي ينتظر فريسته، والمجد الذي غشيت مقلته النعاس فنسي الشاعر في محنته، ويالها من صورة، والمسك المدفون في التراب بانتظار من يستخرجه ويعيد إليه طيبه ونشره، كل هذه اللمسات البيانية وغيرها محشودة في هذه القصيدة بلا تكلف ولا تنطع، تنساب بسلاسة مع أبياتها القصيرة، ووزنها اللطيف، وتنقل السامع دون أن يشعر نقلات واسعة، من السماء التي يحتبس غيثها، إلى الجبال التي تتشقق صخورها، ومن عمق التاريخ حيث السامري، إلى عمق الغابات حيث الأسود الرابضة المتربصة بفرائسها، إلى غير ذلك من الصور البديعة واللمسات الفنية، وكل لمسة في سياقها المناسب الموافق لتدفق المعاني حسب الخطة التي نحسب أن الشاعر وضعها لقصيدته.
ويزيد من حسن القصيدة ووقعها في قلب المتلقي وسمعه، تلك القافية السينية النادرة، بجرسها اللطيف على السمع، فهي تضفي على القصيدة نوعًا من الموسيقى الداخلية تصنعها الألف الممدودة قبل السين، والضمة المشبعة بعدها، وهي فوق ذلك كله قافية صعبة لا يحافظ عليها بالألفاظ المناسبة مع الوفاء التام بالمعنى دون تكلف إلا شاعر متمكن من ناصية اللغة بألفاظها ومعانيها، وبلاغتها وأسرارها.
إنها حقًا قصيدة حافلة بالحركة والصور البديعة، لا يبدع مثلها إلا شاعر واسع الخيال، تمكن من ناصية اللغة ومعانيها وألفاظها، فطاعت له أدوات الشعر وفنونه ■