فيلم «يوم الدين» مستعمرة المنبوذين

فيلم «يوم الدين» مستعمرة المنبوذين

يصنّف‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬يوم‭ ‬الدين‮»‬‭ ‬للمخرج‭ ‬المصري‭ ‬أبو‭ ‬بكر‭ ‬شوقي،‭ ‬ضمن‭ ‬الأفلام‭ ‬الروائية‭ ‬التوثيقية،‭ ‬التي‭ ‬ترصد‭ ‬صراع‭ ‬الوجود‭ ‬والكينونة‭ ‬لأقلية‭ ‬مضطهدة‭ ‬ومقهورة‭ ‬تعاني‭ ‬ويلات‭ ‬البؤس‭ ‬والحرمان،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬تتناقض‭ ‬أطيافه‭ ‬وطبقاته‭ ‬وقيمه‭. ‬وتكمن‭ ‬لمسة‭ ‬الابتكار‭ ‬والتجديد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تسليط‭ ‬المخرج‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬قضية‭ ‬اجتماعية‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬التطرق‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬المصرية،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬قضية‭ ‬مرضى‭ ‬الجذام،‭ ‬أو‭ ‬مستعمرة‭ ‬الجذام‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬أبو‭ ‬زعبل‭ ‬بالمنيا‭ - ‬جنوب‭ ‬مصر‭.‬

وطالما‭ ‬أن‭ ‬الموضوع‭ ‬واقعي‭ ‬يستثمر‭ ‬قضية‭ ‬اجتماعية‭ ‬تعيشها‭ ‬أقلية‭ ‬مصابة‭ ‬بهذا‭ ‬المرض‭ ‬الجلدي،‭ ‬فقد‭ ‬اختار‭ ‬شوقي‭ ‬انتقاء‭ ‬أبطال‭ ‬فيلمه‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬الواقعيين،‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬وعانوا‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬المجتمع‭ ‬الدونية‭ ‬لهذه‭ ‬الفئة،‭ ‬فكان‭ ‬اختيار‭ ‬راضي‭ ‬جمال‭ ‬الذي‭ ‬عولج‭ ‬أخيرًا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المرض،‭ ‬ليجسد‭ ‬طبقته‭ ‬فنيًا‭ ‬وإبداعيًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السينما،‭ ‬فتم‭ ‬تدريبه‭ ‬لمدة‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر‭ ‬حتى‭ ‬يستأنس‭ ‬مع‭ ‬دوره‭ ‬البطولي،‭ ‬ومع‭ ‬عدسة‭ ‬الكاميرا‭ ‬التي‭ ‬تلقي‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬مآسي‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭. ‬كما‭ ‬اختار‭ ‬المخرج‭ ‬دور‭ ‬البطولة‭ ‬الثاني‭ ‬لممثل‭ ‬هاوٍ‭ ‬آخر،‭ ‬وهو‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالحافظ‭ ‬الذي‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬الطفل‭ ‬الأسود‭ ‬أوباما،‭ ‬والذي‭ ‬يعاني‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬تمييز‭ ‬المجتمع‭ ‬ونظرته‭ ‬الدونية‭. ‬

لهذا‭ ‬فاختيار‭ ‬ممثلين‭ ‬واقعيين‭ ‬عاشوا‭ ‬التجربة‭ ‬وراكموا‭ ‬المعرفة،‭ ‬كان‭ ‬هدف‭ ‬المخرج‭ ‬أبوبكر‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم،‭ ‬حتى‭ ‬يعطي‭ ‬لأحداثه‭ ‬طابعًا‭ ‬من‭ ‬الواقعية‭ ‬التي‭ ‬استثمرت‭ ‬قصة‭ ‬حقيقية‭ ‬ومسارًا‭ ‬توثيقيًا‭ ‬يعالج‭ ‬معاناة‭ ‬المرض،‭ ‬ومعاناة‭ ‬النظرة‭ ‬للمرض‭.‬

إذا‭ ‬تأملنا‭ ‬عنوان‭ ‬الفيلم‭ ‬ايوم‭ ‬الدينب،‭ ‬سنجد‭ ‬أنه‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬مستقبلي‭ ‬مرتبط‭ ‬بأمور‭ ‬روحانية‭ ‬غيبية،‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬بالحقل‭ ‬الديني،‭ ‬فيوم‭ ‬الدين‭ ‬المقصود‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬الآخرة‭ ‬أو‭ ‬يوم‭ ‬القيامة،‭ ‬أو‭ ‬اليوم‭ ‬الموعود‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الموت،‭ ‬والذي‭ ‬يتصف‭ ‬بالخلود‭ ‬والاستمرارية‭ ‬والدوام‭. ‬إذًا‭ ‬فما‭ ‬علاقة‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬ذو‭ ‬الإيحاء‭ ‬الديني‭ ‬بقضية‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالمرضى‭ ‬والمعتلين؟

 

حياة‭ ‬التهميش‭ ‬والنفي

بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬مضمون‭ ‬الفيلم‭ ‬وأحداثه‭ ‬يتبين‭ ‬أن‭ ‬الآخرة‭ ‬أو‭ ‬يوم‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬الحلم‭ ‬والأمل‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأبطاله‭ ‬وشخوصه،‭ ‬وهذا‭ ‬المبتغى‭ ‬يتسم‭ ‬بخاصيته‭ ‬التعويضية‭ ‬المنفسة‭ ‬للكرب،‭ ‬والمضمرة‭ ‬للشقاء،‭ ‬والمستبدلة‭ ‬للمعاناة‭ ‬والقهر‭... ‬إن‭ ‬يوم‭ ‬الدين‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬تعويض‭ ‬نفسي‭ ‬اختار‭ ‬الأبطال‭ ‬طريق‭ ‬الإيمان‭ ‬به‭ ‬والتطلع‭ ‬إليه،‭ ‬بسبب‭ ‬الإخفاق‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬والإخفاق‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬نقصد‭ ‬به‭ ‬الفشل‭ ‬الشخصي‭ ‬المقترن‭ ‬بالعمل‭ ‬والوظيفة‭ ‬والفاعلية،‭ ‬بل‭ ‬نعني‭ ‬به‭ ‬الإخفاق‭ ‬القهري‭ ‬الذي‭ ‬فرضه‭ ‬المجتمع‭ ‬ونظرته‭ ‬ومؤسساته‭ ‬وطبقاته‭... ‬وبالتالي‭ ‬فالمعنى‭ ‬المضمر‭ ‬هنا‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬التهميش‭ ‬والنفي‭ ‬والاحتقار‭ ‬والحرمان،‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬فئة‭ ‬مقصية‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬في‭ ‬مواجهتها‭ ‬لغول‭ ‬المجتمع‭ ‬وأشراره‭ ‬المادية،‭ ‬الطبقية،‭ ‬التهميشية‭. ‬ولمواجهة‭ ‬هذا‭ ‬الغول‭ ‬تتشبت‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬المقصية‭ ‬بسلاح‭ ‬الحياة‭ ‬والمقاومة‭ ‬والأمل‭ ‬والتطلع‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬وتجد‭ ‬في‭ ‬مساواة‭ ‬الآخرة،‭ ‬وعدل‭ ‬يوم‭ ‬الدين،‭ ‬علاجًا‭ ‬لكل‭ ‬همومها‭ ‬وأحزانها،‭ ‬وتعويضًا‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الغدر‭ ‬والظلم‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭.‬

وقد‭ ‬تطرق‭ ‬مضمون‭ ‬الفيلم‭ ‬لقضية‭ ‬هؤلاء‭ ‬المهمشين،‭ ‬مترصدًا‭ ‬مسار‭ ‬البطل‭ ‬بشاي‭ ‬وصديقه‭ ‬أوباما‭ ‬المعلنين‭ ‬عن‭ ‬تمردهما‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬ورفضهما‭ ‬لكل‭ ‬أنواع‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬البشر‭. ‬فالفيلم‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬قبطي‭ ‬ابشايب،‭ ‬شفي‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬الجذام،‭ ‬لكن‭ ‬آثاره‭ ‬وبثوره‭ ‬ظلت‭ ‬بادية‭ ‬للعيان‭. ‬يحاول‭ ‬بشاي‭ ‬مواجهة‭ ‬عقبات‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مستعمرة‭ ‬الجذام‭ ‬جنوب‭ ‬مصر،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلى‭ ‬عنه‭ ‬الجميع‭: ‬الأهل‭ ‬والأسرة‭ ‬والأصدقاء،‭ ‬فيبدأ‭ ‬بالعمل‭ ‬جامعًا‭ ‬للقمامة‭ ‬ومسترزقًا‭ ‬ببعض‭ ‬ما‭ ‬يجد‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬صالحة‭ ‬فيها‭. ‬يتعرف‭ ‬على‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭ ‬يدعى‭ ‬أوباما،‭ ‬ثم‭ ‬تمرض‭ ‬زوجته‭ ‬المجنونة،‭ ‬وتموت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تاركةً‭ ‬بشاي‭ ‬وحيدًا‭ ‬يتحدى‭ ‬قمامة‭ ‬الحياة‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬سيكون‭ ‬له‭ ‬وقع‭ ‬التغيير‭ ‬والتحول‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬بشاي،‭ ‬فزيارة‭ ‬أم‭ ‬الزوجة‭ ‬للترحّم‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬ابنتها،‭ ‬ترك‭ ‬في‭ ‬نفسية‭ ‬البطل‭ ‬أثرًا‭ ‬عميقًا‭ ‬ورغبة‭ ‬دفينة‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬الأمور،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الجذور‭ ‬وإعلان‭ ‬الحضور‭ ‬وترك‭ ‬القبور‭. ‬ليقرر‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأصل‭ ‬والسؤال‭ ‬عن‭ ‬الأهل،‭ ‬مرفوقًا‭ ‬بالطفل‭ ‬أوباما‭ ‬الذي‭ ‬أصر‭ ‬على‭ ‬مشاركة‭ ‬بشاي‭ ‬رحلة‭ ‬الحياة‭ ‬وإثبات‭ ‬الذات‭.‬

جهز‭ ‬بشاي‭ ‬حماره‭ ‬وعربته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬مقررًا‭ ‬بدء‭ ‬المسار‭ ‬ومواجهة‭ ‬القفار‭ ‬وتحمل‭ ‬الأشرار،‭ ‬لينطلق‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬المبهمة‭ ‬المعالم‭ ‬والهلامية‭ ‬المنحى،‭ ‬إلى‭ ‬المدينة،‭ ‬حيث‭ ‬الأب‭ ‬والأخ‭ ‬والحنان‭ ‬الذي‭ ‬فقده‭ ‬منذ‭ ‬طفولته‭ ‬الصغيرة‭. ‬يواجه‭ ‬بشاي‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬الصعوبات‭ ‬والتحديات‭ ‬والعراقيل،‭ ‬يصابر‭ ‬على‭ ‬تجاوزها‭ ‬والمرور‭ ‬من‭ ‬محنها‭ ‬بمساندة‭ ‬الرفيق‭ ‬الوفي‭ ‬أوباما‭. ‬تطول‭ ‬الطريق‭ ‬وتضيع‭ ‬علاماتها،‭ ‬تتعطل‭ ‬عربته،‭ ‬يضيق‭ ‬الجو‭ ‬الخانق‭ ‬بالحر،‭ ‬تمتد‭ ‬فسحة‭ ‬القفر‭ ‬والخلاء‭ ‬والصحراء،‭ ‬يموت‭ ‬الحمار‭ ‬المعين‭... ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬يجاهد‭ ‬الصديقان‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬مبتغاهما‭ ‬وإعلان‭ ‬وجودهما‭ ‬الإنساني‭. ‬يصل‭ ‬بشاي‭ ‬وصديقه‭ ‬صعيد‭ ‬مصر،‭ ‬يلج‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الحياة‭ ‬مقبلًا‭ ‬مدبرًا‭ ‬متحمسًا‭ ‬كطفل‭ ‬صغير‭. ‬يتشبث‭ ‬بخيط‭ ‬الأمل‭ ‬والحلم‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬أبيه‭ ‬وأسرته،‭ ‬لكنه‭ ‬يصدم‭ ‬بواقع‭ ‬مر،‭ ‬حالك،‭ ‬قوامه‭ ‬الظلم‭ ‬والسخرية‭ ‬والاحتقار‭ ‬والتعدي‭ ‬على‭ ‬الحقوق‭.‬

يعاني‭ ‬الأمرين‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬المجتمع‭ ‬الاحتقارية‭ ‬لحاله‭ (‬الجذام‭) ‬وحال‭ ‬صديقه‭ (‬لونه‭ ‬الأسود‭)‬،‭ ‬وتتعقد‭ ‬ظروفه‭ ‬وحالته‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الظلم‭ ‬والاستهزاء‭ ‬الذي‭ ‬يلاقيه‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬فقد‭ ‬قيم‭ ‬الرحمة‭ ‬والإخاء‭ ‬والمساواة،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬سبيل‭ ‬السعادة‭ ‬إلا‭ ‬رفقة‭ ‬شحاذين‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة،‭ ‬فلا‭ ‬يحن‭ ‬لحال‭ ‬إلا‭ ‬حال‭ ‬مثلها‭ ‬تشابهها‭. ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أهله،‭ ‬يسائل‭ ‬الجميع‭ ‬عن‭ ‬بلدته،‭ ‬يُقابَل‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬بالقمع‭ ‬والتنمر‭ ‬والظلم،‭ ‬لكنه‭ ‬يجابه‭ ‬ويصارع‭ ‬ويكابد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحياة،‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬السعادة‭ ‬والوجود‭ ‬والانتماء‭. ‬يعيش‭ ‬حياة‭ ‬التشرد،‭ ‬يبيت‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬والخلاء‭ ‬أحيانًا،‭ ‬يحتمي‭ ‬بالمسجد‭ ‬ودور‭ ‬العبادة‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى،‭ ‬يجلس‭ ‬فوق‭ ‬الحشائش‭ ‬والرصيف‭ ‬أوقاتا‭ ‬أخرى‭... ‬المهم‭ ‬أنه‭ ‬يقاوم‭ ‬ولا‭ ‬يعبأ‭ ‬بضغوط‭ ‬الاستسلام‭ ‬والانهزام‭.‬

 

الحلم‭ ‬المسلوب

لا‭ ‬المضايقات‭ ‬ولا‭ ‬المطبات‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬بشاي‭ ‬وأوباما،‭ ‬منعتهما‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مبتغاهما‭. ‬تمكنا‭ ‬أخيرًا‭ ‬من‭ ‬البلوغ‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬المعلوم،‭ ‬إلى‭ ‬الحلم‭ ‬المسلوب،‭ ‬إلى‭ ‬الأصل‭ ‬المنزوع‭. ‬وبمساعدة‭ ‬أصدقائهم‭ ‬الشحاذين،‭ ‬سيصل‭ ‬البطلان‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬الأسرة‭ ‬المفقودة،‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬الأخ‭ ‬المتزوج‭ ‬والأب‭ ‬القابع‭ ‬في‭ ‬كرسي‭ ‬الشلل،‭ ‬وكأن‭ ‬القدر‭ ‬يحول‭ ‬الوجهة‭ ‬ويعكس‭ ‬الآية‭. ‬فمن‭ ‬تخلى‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬عن‭ ‬ابنه،‭ ‬صاحب‭ ‬العاهة‭ ‬المستديمة،‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ - ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ - ‬في‭ ‬حال‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬تهرب‭ ‬منها‭. ‬لكن‭ ‬المختلف‭ ‬والمغاير‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الابن‭ ‬لم‭ ‬يبادل‭ ‬الأب‭ ‬نفس‭ ‬الموقف،‭ ‬ولم‭ ‬يكرر‭ ‬الخطأ‭ ‬نفسه،‭ ‬ليقرر‭ ‬ربط‭ ‬صلة‭ ‬الرحم‭ ‬بالأب،‭ ‬ومد‭ ‬خيط‭ ‬الوصال‭ ‬واللقاء‭ ‬بالأخ‭ ‬والأسرة‭. ‬ليكتشف،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬أن‭ ‬موقف‭ ‬الأب‭ ‬بالتخلي‭ ‬عنه‭ ‬جاء‭ ‬جبرًا‭ ‬لا‭ ‬اختيارًا‭. ‬فالأب‭ ‬كان‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السعيدة‭ ‬لابنه،‭ ‬وهذه‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بشاي‭ ‬ليتذوق‭ ‬طعمها‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬وانصهر‭ ‬مع‭ ‬طابعها‭ ‬المادي‭ ‬والوحشي،‭ ‬فحياة‭ ‬الاستغلال‭ ‬والظلم‭ ‬والاحتقار‭ ‬هي‭ ‬عنوانها‭ ‬ومضمونها،‭ ‬لذا‭ ‬اختار‭ ‬الأب‭ ‬الطريق‭ ‬الأصعب‭ ‬بالنسبة‭ ‬له،‭ ‬لكنه‭ ‬الأسعد‭ ‬بالنسبة‭ ‬لابنه‭ ‬الذي‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬مستعمرة‭ ‬البؤساء‭ ‬والمهمشين،‭ ‬ليعيش‭ ‬حياة‭ ‬البهجة‭ ‬والهناء‭ ‬والاستقرار‭.‬

يقرر،‭ ‬أخيرًا،‭ ‬بشاي‭ ‬ورفيقه‭ ‬أوباما‭ ‬العودة‭ ‬مجددًا‭ ‬إلى‭ ‬المستعمرة،‭ ‬حيث‭ ‬الداء‭ ‬والدواء،‭ ‬حيث‭ ‬العاهة‭ ‬والسعادة،‭ ‬حيث‭ ‬روح‭ ‬المساواة‭ ‬والرحمة،‭ ‬حيث‭ ‬الأناس‭ ‬الأخيار‭ ‬والطيبون،‭ ‬حيث‭ ‬أحاسيس‭ ‬البهجة‭ ‬والسرور،‭ ‬تنسل‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬المكان‭ ‬رغم‭ ‬وضعه‭ ‬ووضاعته،‭ ‬ورغم‭ ‬بساطته‭ ‬ورداءته‭. ‬هناك‭ ‬وجد‭ ‬بشاي‭ ‬ضالته‭ ‬وأمنه‭ ‬وراحته‭ ‬النفسية‭. ‬هناك‭ ‬كان‭ ‬منطلق‭ ‬الرحلة‭ ‬وإلى‭ ‬هناك‭ ‬سيصل‭ ‬المسار‭: ‬مسار‭ ‬الحياة‭ ‬والحلم‭ ‬والسعادة‭.‬

إذًا‭ ‬فالفيلم‭ ‬هو‭ ‬صرخة‭ ‬روحية،‭ ‬وبوح‭ ‬للرغبة،‭ ‬وإعلان‭ ‬للحياة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬فئة‭ ‬مهمشة‭ ‬تعيش‭ ‬الحرمان‭ ‬والاحتقار‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬النواحي‭. ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬المخرج‭ ‬تعقب‭ ‬مسار‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬الدونية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التقاط‭ ‬مشاهد‭ ‬تصور‭ ‬بؤس‭ ‬الواقع‭ ‬المنسي‭: ‬واقع‭ ‬الظلم‭ ‬والاحتقار‭ ‬والعنصرية،‭ ‬واقع‭ ‬القمامة‭ ‬والمستنقعات‭ ‬والأمراض‭ ‬والتشرد‭. ‬ويمكن‭ ‬استجلاء‭ ‬معالم‭ ‬هذا‭ ‬الواقع،‭ ‬وخصائصه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المشاهد‭ ‬التالية‭:‬

‭- ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬صور‭ ‬لنا‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تسقي‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬النيل،‭ ‬وهي‭ ‬تنعت‭ ‬بشاي‭ ‬بصفات‭ ‬قدحية،‭ ‬بسب‭ ‬استحمامه،‭ ‬وهو‭ ‬المريض‭ ‬بالجذام،‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬صالحة‭ ‬للشرب‭. ‬فالاستحمام‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬مرفقًا‭ ‬بطقس‭ ‬للرقص‭ ‬والاستجمام،‭ ‬وهذا‭ ‬رمز‭ ‬سينمائي‭ ‬يوحي‭ ‬بالتطهر‭ ‬والصفاء،‭ ‬يرمز‭ ‬للبهجة‭ ‬والفرحة،‭ ‬يرصد‭ ‬البطلين‭ (‬المريض‭ ‬بالجذام،‭ ‬والطفل‭ ‬المتشرد‭) ‬وهما‭ ‬يعلنان‭ ‬الحياة‭ ‬وتحدي‭ ‬الصعاب،‭ ‬إنها‭ ‬صرخة‭ ‬المنسيين‭ ‬والمهمشين‭ ‬ضد‭ ‬نظرة‭ ‬المجتمع‭ ‬الاحتقارية‭.‬

‭- ‬كذلك‭ ‬النظرة‭ ‬الازدرائية‭ ‬للمجتمع،‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يصور‭ ‬بشاي‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬رفقة‭ ‬سجين‭ ‬آخر‭. ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬سيهرب‭ ‬بمجرد‭ ‬مشاهدته‭ ‬لوجه‭ ‬بشاي،‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬ملامحه‭ ‬المليئة‭ ‬بالجراد‭ ‬والحشرات،‭ ‬حسب‭ ‬نعت‭ ‬هذا‭ ‬السجين‭. ‬وهو‭ ‬نعت‭ ‬قدحي،‭ ‬يفتقد‭ ‬لقيم‭ ‬الرحمة‭ ‬والعطف‭ ‬والاحترام،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬تلطخت‭ ‬أخلاقه،‭ ‬وتلوثت‭ ‬مشاعره،‭ ‬وتحجرت‭ ‬أحاسيسه‭. ‬

ولمقاومة‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬وهذه‭ ‬اللحظة‭ ‬المتأزمة،‭ ‬سيقرر‭ ‬بشاي‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬أبويه‭ ‬وأسرته‭ ‬وجذوره‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬بطلنا‭ ‬قد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬المستعمرة‭ ‬حياة‭ ‬السعادة‭ ‬والهناء‭ ‬رفقة‭ ‬الفتى‭ ‬أوباما‭ ‬وباقي‭ ‬السكان‭ ‬الطيبين،‭ ‬المتواضعين،‭ ‬البسطاء،‭ ‬فإن‭ ‬انتقاله‭ ‬للمدينة‭ ‬شكل‭ ‬جسرًا‭ ‬للتحول‭ ‬إلى‭ ‬حياة‭ ‬البؤس‭ ‬والاستغلال‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬قوى‭ ‬الظلم‭ ‬والشر‭: ‬الطبيبة‭ - ‬الشرطة‭ - ‬اللصوص‭- ‬مراقب‭ ‬القطار‭ - ‬السكان‭...  ‬وذلك‭ ‬بطرق‭ ‬متعددة،‭ ‬إما‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬السخرية‭ ‬والاستهزاء،‭ ‬أو‭ ‬الاستخفاف‭ ‬والإذلال،‭ ‬أو‭ ‬الاعتداء‭ ‬والسرقة،‭ ‬أو‭ ‬الاتهام‭ ‬والسجن‭.‬

وفي‭ ‬رحلتهما‭ ‬اعتلى‭ ‬بشاي‭ ‬عربته‭ ‬التي‭ ‬يجرها‭ ‬الحمار،‭ ‬وبرفقته‭ ‬الفتى‭ ‬الأسمر‭ ‬أوباما‭. ‬تواجههما‭ ‬الصحراء‭ ‬المقفرة،‭ ‬بحرارتها‭ ‬المرتفعة‭ ‬وقساوة‭ ‬العيش‭ ‬فيها‭. ‬وما‭ ‬اختيار‭ ‬المخرج‭ ‬لفضاء‭ ‬الصحراء‭ ‬إلا‭ ‬تدليل‭ ‬رمزي‭ ‬عن‭ ‬هول‭ ‬المصاعب‭ ‬والصدمات‭ ‬التي‭ ‬تهدد‭ ‬مصير‭ ‬الأبطال‭ ‬في‭ ‬الرحلة،‭ ‬رحلة‭ ‬البوح‭ ‬بالوجود‭ ‬والإعلام‭ ‬بالأنا،‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬غير‭ ‬متكافئ‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بقدرات‭ ‬المرضى‭ ‬والمعطوبين‭ ‬وذوي‭ ‬العاهات‭. ‬لكن‭ ‬الحمار‭ ‬والعربة‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬لهما‭ ‬دلالة‭ ‬تقابلية‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الظالم‭ ‬والمجتمع‭ ‬المظلم‭. ‬فكلاهما‭ ‬وسيلتان‭ ‬للعبور‭ ‬والوصول،‭ ‬وكلاهما‭ ‬دليلان‭ ‬يبرزان‭ ‬صمود‭ ‬البطلان،‭ ‬وقوة‭ ‬تحملهما‭ ‬وعزيمتهما‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬صحاري‭ ‬الظلم‭ ‬والإذلال‭. ‬ورحلتهما‭ ‬هي‭ ‬إفصاح‭ ‬عن‭ ‬الرغبة،‭ ‬وبوح‭ ‬بالأمنية‭ ‬وإفشاء‭ ‬للحلم،‭ ‬حلم‭ ‬الانطلاق‭ ‬والحرية‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬المهانة،‭ ‬بينما‭ ‬الحمار‭ ‬والعربة‭ ‬دليلان‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬العزيمة‭ ‬والتحدي‭ ‬التي‭ ‬ميزت‭ ‬بشاي‭ ‬وأوباما‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬تحدي‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المتأزم‭. ‬ورغم‭ ‬العراقيل‭ ‬ولحظات‭ ‬الكرب‭ ‬والهم‭ ‬والغم‭ ‬التي‭ ‬واجهتهما،‭ ‬والتي‭ ‬رمز‭ ‬لها‭ ‬المخرج‭ ‬بلقطة‭ ‬انكسار‭ ‬عجلات‭ ‬العربة‭ ‬إيحاء‭ ‬بتوالي‭ ‬المصائب‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬تكسير‭ ‬همتهما‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نداء‭ ‬أوباما‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬لصديقه‭ ‬بشاي،‭ ‬وهو‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬امتداد‭ ‬شاسع‭ ‬في‭ ‬الخلاء‭ ‬والتراب،‭ ‬هو‭ ‬إشهار‭ ‬لعودة‭ ‬الحلم،‭ ‬والأمل،‭ ‬والطموح،‭ ‬والهمة،‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬الأقدار‭ ‬المعيقة‭ ‬لمحاولة‭ ‬الذات‭ ‬استنشاق‭ ‬نسماتها‭ ‬من‭ ‬الحياة‭. ‬والسكة‭ ‬الحديدية‭ ‬التي‭ ‬رصدتها‭ ‬عدسة‭ ‬الكاميرا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصحراء‭ ‬هي‭ ‬حجة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬العسر‭ ‬والعقبات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬الأبطال‭. ‬ومرورهما‭ ‬فوق‭ ‬هذه‭ ‬السكة،‭ ‬هو‭ ‬نجاح‭ ‬للتجربة،‭ ‬وفلاح‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬كرامتهما،‭ ‬والمنافحة‭ ‬عن‭ ‬حقهما‭ ‬في‭ ‬عيش‭ ‬ما‭ ‬يعيشه‭ ‬الآخرون‭.‬

 

 

استمرار‭ ‬التمييز‭ ‬والاضطهاد

تعرض‭ ‬بشاي‭ ‬لكل‭ ‬أنواع‭ ‬السخرية‭ ‬والمضايقة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬سكان‭ ‬المكان‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬زاره‭ (‬الصعيد‭). ‬تحمل‭ ‬الاستهزاء‭ ‬والاعتداء‭ ‬والحط‭ ‬من‭ ‬القيمة،‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬شكل‭ ‬وجهه‭ ‬المخيف،‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬ديانته‭ ‬المسيحية‭ ‬القبطية‭. ‬ومن‭ ‬شدة‭ ‬الاحتقار‭ ‬غطى‭ ‬بشاي‭ ‬وجهه‭ ‬بشبكة‭ ‬بيضاء‭ ‬شفافة،‭ ‬حتى‭ ‬يتفادى‭ ‬نظر‭ ‬الناس‭ ‬وانزعاجهم‭ ‬وتهكمهم‭. ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬استمرت‭ ‬حلقة‭ ‬التمييز‭ ‬والاضطهاد‭ ‬والظلم،‭ ‬لينفجر‭ ‬بشاي‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬مثير‭ ‬مصرحًا‭ ‬بجملة‭ ‬لها‭ ‬إيحاء‭ ‬بليغ‭: ‬اإيه‭ ‬يا‭ ‬عم‭ ‬أنا‭ ‬مش‭ ‬بني‭ ‬آدم‭ ‬ولا‭ ‬ايهب‭. ‬عبارة‭ ‬تلفظ‭ ‬بها‭ ‬بشاي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬السيل‭ ‬الزبى‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬الاحتقار‭ ‬والتنمر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬بسبب‭ ‬شكله‭ ‬ومرضه‭ ‬ووضعه‭ ‬المادي،‭ ‬خاصة‭ ‬حينما‭ ‬هاجمه‭ ‬مراقب‭ ‬التذاكر‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬دفعه‭ ‬لثمن‭ ‬التذكرة‭ (‬الفقر‭ ‬والحاجة‭).‬

لم‭ ‬يجد‭ ‬بشاي‭ ‬الحنان‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نوعية‭ ‬مخصوصة‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬هم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يشاركونه‭ ‬الوضع،‭ ‬أو‭ ‬يماثلونه‭ ‬الشكل،‭ ‬أو‭ ‬يشبهونه‭ ‬في‭ ‬الطبع‭. ‬فالنوع‭ ‬الأول‭ (‬الوضع‭ ‬الاجتماعي‭) ‬مثله‭ ‬الولد‭ ‬الأسمر‭ ‬أوباما‭ ‬والحمار‭ ‬الأبيض‭ ‬احربيب‭... ‬وكلاهما‭ ‬مهمش‭ ‬محتقر‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المجتمع،‭ ‬سواء‭ ‬الطفل‭ ‬الأسود‭ ‬أو‭ ‬الحمار،‭ ‬الحيوان،‭ ‬ذو‭ ‬السمعة‭ ‬المنحطة‭. ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬تعمد‭ ‬المخرج‭ ‬اختيار‭ ‬اللون‭ ‬الأبيض‭ ‬للحمار،‭ ‬تلميحًا‭ ‬لما‭ ‬يتصف‭ ‬به‭ ‬هؤلاء‭ ‬البسطاء‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬نقية‭ ‬وأخلاق‭ ‬صافية‭ ‬وقلب‭ ‬طاهر‭... ‬فرغم‭ ‬القهر‭ ‬والغم،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬تشبثوا‭ ‬ببريق‭ ‬الأمل،‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬من‭ ‬أحاسيسهم‭. ‬

النوع‭ ‬الثاني،‭ ‬هم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يماثلونه‭ ‬في‭ ‬الشكل،‭ ‬وأقصد‭ ‬هنا‭ ‬طبقة‭ ‬الشحاذين‭ ‬المعاقين‭ ‬الذين‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة‭. ‬وهؤلاء‭ ‬صادفهم‭ ‬الأبطال‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬الصعيد‭ ‬الموحشة‭ ‬والمتأزمة،‭ ‬وأغلبهم‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬عاهة‭ ‬مستديمة‭ (‬قطع‭ ‬الأرجل‭ - ‬قطع‭ ‬اليدين‭ - ‬العمى‭ - ‬الصم‭ ‬والبكم‭). ‬إنها‭ ‬فئة‭ ‬المهمشين‭ ‬المنسيين‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬المجتمع‭ ‬وذاكرة‭ ‬المسؤولين،‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬الضواحي‭ ‬والعراء‭ ‬والخلاء،‭ ‬يضطرون‭ ‬للتسول‭ ‬وطلب‭ ‬الحاجة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سد‭ ‬لقمة‭ ‬العيش،‭ ‬لكن‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬مشاعرهم‭ ‬لطيفة‭ ‬وأرواحهم‭ ‬رحيمة‭ ‬وصدورهم‭ ‬مشفقة‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬الدور‭ ‬البارز‭ ‬في‭ ‬مساعدة‭ ‬بشاي‭ ‬وصديقه‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬الأسرة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استقبلوهما‭ ‬وأطعموهما‭ ‬وآووهما‭ ‬في‭ ‬مقرهم‭ ‬البسيط‭.‬

النوع‭ ‬الثالث،‭ ‬وهي‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬تشابههما‭ ‬في‭ ‬الطبع،‭ ‬وهنا‭ ‬نقصد‭ ‬الخلق‭ ‬الحسن‭ ‬والطيبة‭ ‬والبساطة‭ ‬والرحمة‭ ‬والبراءة‭. ‬وهؤلاء‭ ‬هم‭ ‬الأطفال‭ ‬الصغار‭ ‬الذين‭ ‬شاركهم‭ ‬أوباما‭ ‬لعب‭ ‬الكرة‭ ‬بمرح‭ ‬وبهجة‭ ‬واستمتاع‭ ‬في‭ ‬الصعيد،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬سكان‭ ‬المستعمرة‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يبخلوا‭ ‬بالود‭ ‬والمساعدة‭ ‬والحنان‭ ‬على‭ ‬بشاي،‭ ‬عكس‭ ‬أهل‭ ‬المدينة،‭ ‬أصحاب‭ ‬القلوب‭ ‬المتحجرة‭ ‬والموصدة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأبرياء‭.‬

الفيلم‭ ‬إذن،‭ ‬هو‭ ‬صرخة‭ ‬من‭ ‬صرخات‭ ‬المهمشين‭ ‬والضائعين‭ ‬والتائهين‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬بلا‭ ‬رحمة،‭ ‬وكون‭ ‬بلا‭ ‬رأفة،‭ ‬ومجتمع‭ ‬بلا‭ ‬رقة‭. ‬وثنايا‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬المهمشة‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬وظاهرة‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬متنوعة،‭ ‬أبرزها‭:‬

‭- ‬بشاي‭... ‬صورة‭ ‬المقهورين‭ ‬من‭ ‬مرضى‭ ‬الجذام،‭ ‬والذين‭ ‬طردوا‭ ‬من‭ ‬عطف‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬عالمهم‭ ‬الخاص‭ (‬مستعمرة‭ ‬الجذام‭).‬

‭- ‬الطفل‭ ‬أوباما‭... ‬صورة‭ ‬الأطفال‭ ‬المتشردين‭ ‬الذين‭ ‬فقدوا‭ ‬الصلة‭ ‬بالأسرة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬بسبب‭ ‬وضعيتهم‭ ‬البئيسة،‭ ‬وهيئتهم‭ ‬الجسدية‭ ‬المحتقرة‭ (‬سواد‭ ‬البشرة‭)‬،‭ ‬وأصلهم‭ ‬المرفوض‭ (‬المهاجرون‭ ‬السود‭ ‬القادمون‭ ‬من‭ ‬السودان‭).‬

‭- ‬زوجة‭ ‬بشاي‭ ‬المجنونة‭... ‬صورة‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬حطمتها‭ ‬هموم‭ ‬الحياة‭ ‬وهضمها‭ ‬الزمن،‭ ‬فانزوى‭ ‬عقلها‭ ‬بعيدًا،‭ ‬والتهمها‭ ‬المرض‭ ‬التهامًا،‭ ‬لتخر‭ ‬قواها‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬وتموت‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬الخاص‭ ‬بمستعمرة‭ ‬المنسيين‭. ‬سندها‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬زوجها‭ ‬بشاي‭ ‬العطوف‭ ‬على‭ ‬حالتها‭ ‬والمشارك‭ ‬لإحساسها‭ ‬بالمعاناة‭. ‬أما‭ ‬أمها‭ ‬فتركتها‭ ‬تصارع‭ ‬القدر،‭ ‬وسلمتها‭ ‬لوحوش‭ ‬البشر،‭ ‬ولم‭ ‬تستحضر‭ ‬ذكراها‭ ‬إلا‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬غياهب‭ ‬القبر‭ (‬زيارتها‭ ‬لقبر‭ ‬ابنتها‭).‬

‭- ‬المتسولون‭ ‬والشحاذون‭... ‬جميعهم‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬المعاقين‭ ‬وذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة،‭ ‬حطمهم‭ ‬الدهر‭ ‬بكلومه‭ ‬وآلامه،‭ ‬هجرهم‭ ‬الرفيق‭ ‬الأنيس،‭ ‬والأخ‭ ‬الرحيم،‭ ‬في‭ ‬أحلك‭ ‬الظروف‭ ‬وأصعب‭ ‬اللحظات،‭ ‬فوجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬مستنقع‭ ‬الفاقة،‭ ‬وظلمات‭ ‬الحاجة،‭ ‬ليتوه‭ ‬بهم‭ ‬الزمن،‭ ‬وتدهسهم‭ ‬عجلات‭ ‬الواقع،‭ ‬وتعصف‭ ‬بهم‭ ‬رياح‭ ‬المآسي‭. ‬فكان‭ ‬ردهم‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬بهذا‭ ‬التعبير‭ ‬البليغ‭: ‬اإحنا‭ ‬ضحايا‭ ‬أشكال‭ ‬تايهة‭... ‬إحنا‭ ‬منبوذين‭... ‬إحنا‭ ‬عايشين‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬إن‭ ‬يوم‭ ‬الدين‭ ‬كلنا‭ ‬سواسيةب‭. ‬وهي‭ ‬جملة‭ ‬فسيحة‭ ‬المعاني،‭ ‬شاسعة‭ ‬الدلالات،‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬وضعية‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬المهمشة‭ ‬والمحتقرة‭ ‬والمحطمة،‭ ‬والتي‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬الخلود‭ ‬والراحة‭ ‬والصفاء‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الدين‭. ‬فأحلامهم‭ ‬التي‭ ‬يستنشقون‭ ‬نسيمها،‭ ‬ويعوضون‭ ‬بها‭ ‬همهم‭ ‬وضعفهم،‭ ‬هي‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬مساواة‭ ‬غيبية‭ ‬ستتحقق‭ ‬آجلاً،‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬البعث‭ ‬والخلود‭ (‬يوم‭ ‬الدين‭). ‬إنها‭ ‬الرغبة‭ ‬المكبوتة‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬حلم‭ ‬المساواة‭ ‬والعدل،‭ ‬الغائب‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬الظلم‭ ‬والآثام‭ ‬والاستغلال‭.‬

    ‬ينتهي‭ ‬الفيلم‭ ‬بمشهد‭ ‬اللقاء‭ ‬الحميمي‭ ‬بين‭ ‬بشاي‭ ‬وأسرته‭ (‬الأخ‭ ‬والأب‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يلاقي‭ ‬أباه،‭ ‬الذي‭ ‬أصابه‭ ‬الشلل،‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬على‭ ‬كرسيه‭ ‬لا‭ ‬يتحرك‭. ‬والحوار‭ ‬الأخير‭ ‬بينهما‭ ‬يحمل‭ ‬رمزية‭ ‬ودلالة‭ ‬مركزية‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬فالأب‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬ابنه‭ ‬في‭ ‬مستعمرة‭ ‬الجذام‭ ‬حتى‭ ‬يتخلص‭ ‬منه،‭ ‬ومن‭ ‬شكله،‭ ‬ومن‭ ‬مشاكله،‭ ‬بل‭ ‬مضطرًا‭ ‬لا‭ ‬مختارًا،‭ ‬حتى‭ ‬يخلص‭ ‬ابنه‭ ‬من‭ ‬ويلات‭ ‬المجتمع‭ ‬واضطهاده‭ ‬واحتقاره،‭ ‬وحتى‭ ‬يخلق‭ ‬عالمًا‭ ‬سعيدًا‭ ‬لابنه‭ ‬يشعر‭ ‬فيه‭ ‬بالبهجة‭ ‬والمساواة‭ ‬والكينونة‭. ‬عالم‭ ‬تنمحي‭ ‬فيه‭ ‬التفيئة،‭ ‬وتغيب‭ ‬فيه‭ ‬الفوارق،‭ ‬وتعم‭ ‬البساطة‭ ‬والتواضع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجائه،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬وجده‭ ‬في‭ ‬المستعمرة‭. ‬يقرر‭ ‬بشاي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬أصله،‭ ‬إلى‭ ‬مستعمرته،‭ ‬إلى‭ ‬بلدته‭ ‬التي‭ ‬حن‭ ‬إليها‭ ‬وإلى‭ ‬أحبابه‭ ‬فيها‭. ‬رفاقه‭ ‬الذين‭ ‬شاركوه‭ ‬الحلو‭ ‬والمر،‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭ ‬أو‭ ‬سخرية‭ ‬أو‭ ‬إذلال‭. ‬هناك‭ ‬سيشعر‭ ‬بشاي‭ ‬بطعم‭ ‬الحياة،‭ ‬وهناك‭ ‬سيؤسس‭ ‬عوالم‭ ‬رغباته‭ ‬وأمنياته،‭ ‬وهناك‭ ‬سيبني‭ ‬يوم‭ ‬دينه‭ ‬الذي‭ ‬حلم‭ ‬به‭.‬

 

 

طبقة‭ ‬حطمها‭ ‬المجتمع‭ ‬

على‭ ‬المستوى‭ ‬الفني‭ ‬تنوعت‭ ‬اللقطات‭ ‬الفيلمية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬السينمائي،‭ ‬بين‭ ‬لقطات‭ ‬بعيدة‭ ‬ولقطات‭ ‬مقربة‭ ‬ولقطات‭ ‬متوسطة‭. ‬فاللقطات‭ ‬البعيدة‭ ‬استهدفت‭ ‬اقتناص‭ ‬الهامش‭ ‬المنسي‭ ‬من‭ ‬مستعمرة‭ ‬الجذام،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬جغرافيتها‭ ‬البئيسة،‭ ‬وحالتها‭ ‬المزرية‭: ‬التلوث‭ - ‬المزبلة‭ - ‬التشرد‭ - ‬العشوائية‭... ‬أما‭ ‬اللقطات‭ ‬المتوسطة‭ ‬فقد‭ ‬أحاطت‭ ‬بمغامرة‭ ‬الأبطال‭ ‬ورحلتهم‭ ‬الصعبة‭ ‬إلى‭ ‬الصعيد‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحدي‭ ‬الواقع‭ ‬وإعلان‭ ‬الوجود‭. ‬بينما‭ ‬جاءت‭ ‬اللقطات‭ ‬المكبرة‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬ضئيلة،‭ ‬لأن‭ ‬المخرج‭ ‬تجنب‭ ‬تصوير‭ ‬ملامح‭ ‬بشاي‭ ‬الجذامية‭ ‬إثباتًا‭ ‬لدوره‭ ‬وقيمته‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المساوية‭ ‬لجميع‭ ‬الفئات‭ ‬الإنسانية‭. ‬إنها‭ ‬نظرة‭ ‬فنية‭ ‬توحي‭ ‬بنقل‭ ‬واقع‭ ‬المسحوقين‭ ‬بصورة‭ ‬صادقة‭ ‬كونهم‭ ‬أفرادًا‭ ‬لا‭ ‬يختلفون‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الناس‭. ‬واللقطات‭ ‬المكبرة،‭ ‬القليلة،‭ ‬التي‭ ‬حضرت‭ ‬لرصد‭ ‬ملامح‭ ‬الأسى‭ ‬والمعاناة‭ ‬والحزن،‭ ‬التي‭ ‬انجلت‭ ‬على‭ ‬محيا‭ ‬بشاي‭ ‬في‭ ‬الفترات‭ ‬الحرجة‭ ‬والأوقات‭ ‬الحالكة‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬منها‭.‬

ومن‭ ‬الملاحظات‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬برزت‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬اللقطات‭ ‬الخلفية‭ ‬التي‭ ‬أطرت‭ ‬الشخصيات‭ ‬من‭ ‬الخلف‭. ‬فقد‭ ‬تعددت‭ ‬المشاهد‭ ‬التي‭ ‬آثر‭ ‬فيها‭ ‬المخرج‭ ‬قبض‭ ‬أبطاله‭ ‬من‭ ‬الخلف،‭ ‬والهدف‭ ‬فني‭ ‬جمالي‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬اختيار‭ ‬عشوائي‭ ‬واعتباطي‭. ‬فالتقاط‭ ‬الشخصيات‭ ‬من‭ ‬الخلف‭ ‬هو‭ ‬نفي‭ ‬للأنا‭ ‬والكينونة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم،‭ ‬وهو‭ ‬انتقاء‭ ‬إبداعي‭ ‬ابتغى‭ ‬التدليل‭ ‬على‭ ‬الوضعية‭ ‬الدونية‭ ‬لأبطال‭ ‬الفيلم،‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬هضم‭ ‬حقوقهم‭ ‬وكرامتهم‭ ‬هضمًا‭ ‬تامًا‭. ‬إن‭ ‬التصوير‭ ‬الخلفي‭ ‬هو‭ ‬رصد‭ ‬هامشي‭ ‬من‭ ‬العدسة،‭ ‬وهو‭ ‬إضاءة‭ ‬مركزة‭ ‬لطبقة‭ ‬تقوقعت‭ ‬في‭ ‬الأسفل،‭ ‬طبقة‭ ‬حطمها‭ ‬المجتمع،‭ ‬وكسر‭ ‬عزيمتها‭ ‬الواقع‭. ‬لهذا‭ ‬أراد‭ ‬المخرج‭ ‬التلميح‭ ‬والتنبيه‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬نسيهم‭ ‬الزمن،‭ ‬وابتلعتهم‭ ‬الحياة،‭ ‬بلقطات‭ ‬ركزت‭ ‬عليهم‭ ‬جانبيًا،‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬للمشاهد‭ ‬فهم‭ ‬الرسالة،‭ ‬واستيعاب‭ ‬المقصد‭.‬

فيما‭ ‬يخص‭ ‬الإنارة‭ ‬اختار‭ ‬المخرج،‭ ‬تقسيم‭ ‬أدوارها‭ ‬إلى‭ ‬وجهين‭ ‬متناقضين‭: ‬وجه‭ ‬ساطع‭ ‬وقوي‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الفيلم‭ ‬ولحظاته‭ ‬الأولى،‭ ‬وبالضبط‭ ‬حينما‭ ‬كانت‭ ‬عدسة‭ ‬الكاميرا‭ ‬تتجول‭ ‬في‭ ‬مستعمرة‭ ‬الجذام،‭ ‬مركزة‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬المهمشين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭. ‬والمغزى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار‭ ‬هو‭ ‬توجيه‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬المحتقرة‭ ‬الشكل،‭ ‬والصافية‭ ‬القلب‭, ‬طبقة‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬مآسيها‭ ‬وجروحها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الطهارة‭ ‬والنقاء‭ ‬والابتسامة‭ ‬هي‭ ‬عنوانها‭ ‬في‭ ‬الأخلاق‭ ‬والسلوك‭ ‬والفعل‭. ‬لهذا‭ ‬اختار‭ ‬مبدعنا‭ ‬السينمائي‭ ‬أبوبكر‭ ‬شوقي‭ ‬تعزيز‭ ‬الإضاءة‭ ‬الكاشفة‭ ‬لمسار‭ ‬الأبطال‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المستعمرة‭. ‬فرغم‭ ‬رداءتها‭ ‬وعشوائيتها‭ ‬وبؤس‭ ‬ساكنيها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬بساطة‭ ‬هؤلاء،‭ ‬وصفاء‭ ‬سريرتهم،‭ ‬فرض‭ ‬على‭ ‬المخرج‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬السينمائي،‭ ‬إيمانًا‭ ‬منه‭ ‬بقيمتهم‭ ‬ودورهم‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬البهجة‭ ‬والسرور‭ ‬وروح‭ ‬الإنسانية‭ ‬لدى‭ ‬الجميع‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الفيلم،‭ ‬وأقصد‭ ‬هنا‭ ‬رحلة‭ ‬الأبطال‭ ‬إلى‭ ‬الصعيد‭ (‬المدينة‭)‬،‭ ‬فالإنارة‭ ‬تدرجت‭ ‬في‭ ‬التراجع‭ ‬والخفوت‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬لأخرى‭. ‬وكلما‭ ‬تعقدت‭ ‬الأحداث‭ ‬وتأزمت‭ ‬اللحظات‭ ‬إلا‭ ‬وضعفت‭ ‬الإنارة‭ ‬وساد‭ ‬الظلام‭ ‬والليل،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬حيث‭ ‬طغيان‭ ‬قيم‭ ‬الشر‭ ‬والرذيلة،‭ ‬وحيث‭ ‬سيادة‭ ‬قانون‭ ‬الغاب،‭ ‬وهيمنة‭ ‬الطابع‭ ‬المادي‭ ‬الاستغلالي‭. ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬السلبي‭ ‬يضع‭ ‬الإنسان‭ ‬الضعيف‭ ‬أو‭ ‬صاحب‭ ‬الحاجة‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬الظلم،‭ ‬والاحتقار،‭ ‬والاستبداد،‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬السلطوية‭ ‬والتنمر‭ ‬شعارًا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬المستضعفين‭. ‬لذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الإنارة‭ ‬الساكنة‭ ‬والمنخفضة‭ ‬الشعاع،‭ ‬هي‭ ‬ترميز‭ ‬لحالة‭ ‬اللاتوازن‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬مجتمع‭ ‬المدينة،‭ ‬وإيحاء‭ ‬بعدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬الفكر،‭ ‬والخلق،‭ ‬والروح،‭ ‬والقيم‭ ‬السائدة‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬هناك‭.‬

والمخرج‭ ‬ركب‭ ‬لمحة‭ ‬فنية‭ ‬من‭ ‬اجماليات‭ ‬القبحب‭ ‬بمشاهد‭ ‬كوميدية‭ ‬سوداء،‭ ‬تزيد‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬السعادة‭ ‬القاتمة‭ ‬على‭ ‬الظلام‭ ‬الذي‭ ‬تصوره‭ ‬عدسات‭ ‬الفيلم‭. ‬بشاي‭ ‬الذي‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬برحلة‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬عائلته‭ ‬في‭ ‬الصعيد،‭ ‬فقرر‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬االمستعمرةب‭ ‬لينتقل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬المدينة‭ ‬ويجد‭ ‬أهله،‭ ‬وفي‭ ‬مساره‭ ‬الحالك‭ ‬واجه‭ ‬كل‭ ‬العقبات‭: ‬اللصوص،‭ ‬التشرد،‭ ‬السجن،‭ ‬الفقر،‭ ‬الإذلال،‭ ‬والتمييز‭. ‬

‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬التمثيل،‭ ‬يعد‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬المحاكي‭ ‬لأدوار‭ ‬وقصص‭ ‬واقعية،‭ ‬كون‭ ‬المخرج‭ ‬غلب‭ ‬الطابع‭ ‬الإنساني‭ ‬الصادق‭ ‬والحقيقي،‭ ‬على‭ ‬التشخيص‭ ‬المفتعل‭ ‬والمحاكي‭ ‬أو‭ ‬المقلد،‭ ‬وذلك‭ ‬راجع‭ ‬بالأساس‭ ‬لانتقاء‭ ‬أبطال‭ ‬الفيلم‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬الواقعيين‭ (‬ممثلين‭ ‬هواة‭) ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬القصة،‭ ‬وراكموا‭ ‬التجربة،‭ ‬لا‭ ‬الممثلين‭ ‬المحترفين‭ ‬الذين‭ ‬يفتقدون‭ ‬الصلة‭ ‬والمعرفة‭ ‬بعالم‭ ‬المستعمرة‭.‬

وفيما‭ ‬يخص‭ ‬موسيقى‭ ‬الفيلم‭ ‬التصويرية،‭ ‬فقد‭ ‬أنجزها‭ ‬الفنان‭ ‬عمر‭ ‬فاضل،‭ ‬وجاءت‭ ‬صامتة،‭ ‬نغماتها‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬الأحاسيس،‭ ‬تحادي‭ ‬الوجود،‭ ‬وتتسق‭ ‬مع‭ ‬الروح،‭ ‬وتقارب‭ ‬التجربة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬منسجمة‭ ‬مع‭ ‬قوة‭ ‬الإحساس‭ ‬بالمكان‭ ‬والزمان،‭ ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬التناقض‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الاضطهاد‭ ‬ورفض‭ ‬المنبوذين،‭ ‬مجتمع‭ ‬يدعي‭ ‬الفضيلة‭ ‬خلقًا‭ ‬ودينًا،‭ ‬ويناقض‭ ‬ادعاءه‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬والعمل‭. ‬وقد‭ ‬اتخذت‭ ‬الموسيقى‭ ‬وثيرة‭ ‬رتيبة‭ ‬وهادئة‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬الرحلة‭ ‬والمآسي‭ ‬التي‭ ‬رافقتها،‭ ‬بينما‭ ‬زاد‭ ‬إيقاعها‭ ‬دينامية‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الفرح‭ ‬وإعلان‭ ‬الحياة‭.‬

وقد‭ ‬جاء‭ ‬المكان‭ ‬متناقضًا‭ ‬ومتعاكسًا‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬كونه‭ ‬يلمح‭ ‬إلى‭ ‬عالمين‭ ‬لا‭ ‬تربطهما‭ ‬أي‭ ‬صلة‭ ‬تشابه‭ ‬أو‭ ‬تقارب‭: ‬عالم‭ ‬المستعمرة‭ ‬وعالم‭ ‬المدينة‭ (‬الصعيد‭), ‬فمستعمرة‭ ‬الجذام‭ ‬ظاهريًا‭ ‬هي‭ ‬مكان‭ ‬موحش،‭ ‬وهامشي،‭ ‬تملأه‭ ‬الأوساخ‭ ‬والقمامة،‭ ‬ويعمه‭ ‬المرض‭ ‬والوباء،‭ ‬ويسوده‭ ‬التشرد‭ ‬والفاقة‭. ‬ورغم‭ ‬هذه‭ ‬الأوصاف‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬صور‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬بلقطات‭ ‬ناصعة،‭ ‬ومشرقة،‭ ‬تماشيًا‭ ‬مع‭ ‬إشراق‭ ‬الأحاسيس‭ ‬وصفاء‭ ‬الخلق‭ ‬وبياض‭ ‬القلوب‭ ‬الذي‭ ‬يميز‭ ‬أهل‭ ‬هذه‭ ‬المستعمرة‭. ‬وعكس‭ ‬ذلك‭ ‬نجد،‭ ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬عالم‭ ‬المدينة‭ ‬بضجيجه،‭ ‬وكثافة‭ ‬سكانه،‭ ‬وتجهيزاته،‭ ‬ومعالمه،‭ ‬ووسائله‭ ‬المتعددة‭ ‬في‭ ‬الرفاهية‭ ‬والحياة‭. ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬معتمًا‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬قاتمًا،‭ ‬ضبابيًا،‭ ‬مشوشًا،‭ ‬نظرًا‭ ‬لكونه‭ ‬حيزًا‭ ‬شاذًا‭ ‬عرف‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬القمع‭ ‬والازدراء‭ ‬والمهانة‭.‬

يبقى‭ ‬أن‭ ‬نشير،‭ ‬في‭ ‬الختام،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فيلم‭ ‬ايوم‭ ‬الدينب‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الأفلام‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬السنة‭ ‬قبل‭ ‬الماضية‭ (‬2018‭)‬،‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬ترشيحه‭ ‬للسعفة‭ ‬الذهبية‭ ‬بمهرجان‭ ‬كان‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وفوزه‭ ‬بجائزة‭ ‬Francois chalais‭ ‬في‭ ‬المهرجان‭ ‬نفسه،‭ ‬ثم‭ ‬ترشيحه‭ ‬في‭ ‬القوائم‭ ‬الأولية‭ ‬لجوائز‭ ‬الأوسكار‭. ‬كما‭ ‬فاز‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬السينمائية‭ ‬العربية،‭ ‬كجائزة‭ ‬الجونة‭ ‬لأفضل‭ ‬فيلم‭ ‬روائي‭ ‬عربي،‭ ‬وجائزة‭ ‬التانيت‭ ‬الفضي‭ ‬لأفضل‭ ‬فيلم‭ ‬روائي‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬قرطاج‭ ‬السينمائي‭. ‬وقد‭ ‬لقي‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬استحسانًا‭ ‬كبيرا‭ ‬وإطراء‭ ‬واسعًا‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النقاد،‭ ‬لكونه‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الإنتاجات‭ ‬السينمائية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬أنتجت‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭■‬