غُزاة اللحظة الأخيرة يقرأون رسائل النجوم المنقرضة

غُزاة اللحظة الأخيرة يقرأون رسائل النجوم المنقرضة

في البرهة الأخيرة من تاريخ الأرض، ظهرنا كجنس بشري عاقل بين المخلوقات، لنشهد اليوم ثورة معرفية، بل معجزة في تطور العقل وإنجازاته. فعمر الأرض 4.6 مليارات سنة، وفق الأدلة الإشعاعية، وظهرت الحياة عليها منذ 3.5 مليارات سنة، بحسب الأحافير الجيوراسية وتاريخ كارثة الأكسجين الكبرى على الكوكب، وظهر شبيه البشر الأول «هوموسابينس» منذ حوالي 200 ألف سنة فقط، بحسب الأحافير والدراسات الأنثروبولوجية. 
وليس سوى حتى 8000 سنة قبل اليوم حتى ظهرت أولى الحضارات على الكوكب، في بلاد ما بين النهرين بالعراق.

كانت الأرض، حتى حوالي 4 قرون فقط، لا تزال بالنسبة للبشر العالَم الأكبر ومركز الكون الذي تدور حوله السماء والنجوم، كما رآها أرسطو اليونانيّ منذ حوالي 2400 سنة. 
أما اليوم، فقد بتنا نعرف أنّ الأرض ليست سوى كوكب صغير يدور حول نجم صغير من فئة القزم الأصفر، وأنّ في السماء مليارات الكواكب التي لا بدّ أن يكون بينها ما تتوفّر عليها شروط الحياة، وأننا لسنا وحدنا الكائنات الحية العاقلة في هذا الكون الرحيب. 
ومنذ أقل من 200 سنة، صغُرت الأرض أمام ساكنيها، وبتنا قادرين على أن نخطو فوق الجبال ونغزو المحيطات، ونصل إلى القارات البعيدة في ساعات قليلة. وقد وصل البشر إلى القمر منذ 50 عامًا، ووصلت مسابيرهم غير المأهولة إلى الكواكب البعيدة، بل خرج بعضها (فوياجير 1 و2) من حدود النظام الشمسي.

مزيد من البحث
بتنا الآن قادرين على الإلمام الفوري بكلّ ما يجري على هذا الكوكب بمجرّد النظر من نافذة التلفاز أو تصفّح الإنترنت، لنشهد بالصوت والصورة والتغطية الحيّة كلّ حدث ذي شأن يجري في كل ميدان على الكرة الأرضية. وبات بإمكانك أينما كنت أن ترى على هاتفك قطة دخلت للتوّ إلى حديقة بيتك البعيد أينما وجد على الأرض.
كما بتنا نعي أن العناصر التي تشكّل عظامنا وخلايا أجسادنا ما هي إلّا من غبار النجوم المتلاشية، وأننا بذلك مخلوقات فلكية بامتياز، وقد ورثنا كتلة أجسامنا من بقايا السوبرنوفا والمذنّبات والنيازك المتساقطة على كوكبنا!
أفلا يدفعنا هذا الوعي إلى مزيد من البحث عن شجرة العائلة الكونية التي منها تحدّرت جزيئاتنا، وصولًا إلى الخلايا الذكية؟ أفلا يجدر بنا تحرّي أصولنا الفلكية، وصولًا إلى فهم العلاقة الغريبة التي تربط الذرّات والمجرّات والقوى الكونية الكامنة؟ القوى النووية العملاقة عملاقة.. إنما لا يصل مداها أبعد من نواة الذرّة... وقوى الجاذبية الضعيفة... لكنّها تصنع الكواكب والنجوم والمجرّات العملاقة بذراعها الطويلة ومحاكاتها للكتل!
والثورة المعرفية التي ساهم بانطلاقتها كوكبة من الفيزيائيين الأوائل، لم تكن لتنتصر من دون شهداء تجرّأوا على مقارعة المسلّمات المحرّمة، وكشف قصورها العلمي والفلسفي. فالعالِم جاليلي لاحقته دوائر التحقيق وعاقبته بالإقامة الجبرية حتى مماته عام 1642، فقط لأنّه كان يدافع عن فكرة ثبات الشمس ودوران الأرض حولها. وقبله كان جوردانو برونو قد اتّهم بالهرطقة، وحُكم عليه بالموت وأُحرق حيًا عام 1600، لأنه أصرّ على نشر ما يراه من حقائق علمية اعتُبرت تجديفًا على المقدسات.

 رسائل وداعية
في العالمين العربي والإسلامي شهداء كثر من العلماء العظام، تمّ اغتيالهم بعد اتهامهم بالزندقة والكفر، بينهم ابن المقفع والفارابي وابن سينا والرازي والكندي وابن رشد وكثيرون غيرهم.
بفضل أبطالنا الأوائل هؤلاء، وبفضل كل العلميين الذين عبّدوا طريق المعرفة بفكرهم ونظرياتهم وتجاربهم، بات الكون أكثر وضوحًا لمن ينظر إليه بعين علمية.
اليوم، بفضل تطوّر العلوم والتكنولوجيا، بتنا نصغي إلى وشوشات النجوم البعيدة ونفهمها، بتنا نتلقّى بريدها الضوئي ونقرأ رسائلها الطيفية التي ربما كان بعضها رسائل وداعية أو صرخات استغاثة لنجوم متورّمة في مرحلة «المارد الأحمر»، أو محتضرة في مرحلة «القزم الأبيض»، أو منتحرة مثل «سوبرنوفا»، أو ملتهمة على شفا «أفق الحدث» لوحش فلكيّ غامض يقال له «ثقب أسود»... رسائل كانت قد بعثت بها مثل هذه النجوم منذ ملايين أو مليارات السنين، لتصلنا اليوم ونطّلع على ما حدث لها في ذلك الماضي السحيق.
ولا شك في أن الترقّي الحضاري للمجتمعات البشرية يمرّ بالثورة المعرفية، العلمية والتكنولوجية بوجه خاص، وأن النضال المجدي يكون بالعمل الهادئ في ساحات التحدي العلمي، لا في الشعارات الكبيرة وتجييش الجماهير. 
لقد انتهى زمن الأيديولوجيا كمحرّك للشعوب، وانتهى زمن كانت فيه القوى العسكرية تفرض استعمارها الثقافي... ما يغيّر وجه العالم اليوم هي قوة العلوم والتكنولوجيا، وقوة المعرفة.
وقد باتت تكنولوجيا المعلومات تشبك الأرض، من فوق جغرافيا الأمم وتاريخ الشعوب، فيما بات يُدعى «القرية الكونية»، حيث تتداخل الاقتصادات والسياسات والثقافات بشكل كبير.

 صحوة معرفية
بتنا في مجتمع كوني تتآزر مساراته وعلاقاته بفضل الذكاء الاصطناعي، حيث تشكّل شبكة الإنترنت الجهاز العصبي المحرك لمجتمع المعرفة على امتداد الكوكب. 
لكن، ورغم أنّنا في عصر يتفجر بالعلوم وتصل فيه التكنولوجيا إلى كل وظائف حياة البشر، لتعملُق قدراتهم في شتى المجالات، يبقى الإنسان العربي عامةً أسير ذهنية ميثولوجية تعكس هروبًا من الضرورة المعرفية والفكر العلمي إلى خمول موروث في طريقة التفكير وأنماط السلوك الاجتماعي. 
وقد أوصى تقرير «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» حول «التنمية الإنسانية في الدول العربية» - الذي أعدّه نخبة من كبار المثقفين العرب - بضرورة الصحوة المعرفية في العالم العربي من أجل ردم الفجوة القائمة بين الدول العربية وسواها من الأمم. واستشهد التقرير بالمفكر الراحل إدوارد سعيد وقوله الشهير: «الزمن الراهن هو ساحة المعركة، والمعرفة هي السلاح الأساس». 
كان لأسلافنا البابليين، والعرب الأوّلين، جهود ومساهمات كثيرة في علم الفلك، مثلما كانت لهم بصماتهم في مسيرة العلوم الأخرى كالطب والكيمياء والرياضيات، أفما آن الأوان لعودة مجتمعاتنا إلى ميادين العلم بشكل فاعل؟
أوَلا يجدُر بنا العمل على بناء المراصد الفلكية ومراكز الأبحاث لاسترجاع علمائنا وعقولنا النيّرة من منتديات العالم المتقدّم، والإسهام في النهوض العلمي الذي كنا يومًا من روّاده الأوائل؟
واليوم، لا يختلف اثنان على أن المكتبة العربية تفتقر إلى الكتاب العلميّ الذي يتوجّه إلى عامة الناس من مستوياتها الأكاديمية والثقافية كافة، وينعكس هذا الغياب في نقص الثقافة العلمية عند الإنسان العربيّ بشكل عام. ولا بدّ من حالة طوارئ ثقافية وعلمية للّحاق بمسيرة العلوم في العالم. إننا نحتاج إلى من يكتبون في المعارف العلمية بكل الحقول ■