عبدالمحسن طه بدر

عبدالمحسن طه بدر

كُنّا‭ ‬في‭ ‬الشهر‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬الأخير‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬سنتنا‭ ‬النهائية‭ ‬فيه‭. ‬وكنّا‭ ‬قد‭ ‬عرفنا‭ ‬جميع‭ ‬الأساتذة‭ ‬الذين‭ ‬درّسوا‭ ‬لنا،‭ ‬وتركوا‭ ‬فينا‭ ‬آثارًا‭ ‬لن‭ ‬يمحوها‭ ‬الزمن‭. ‬وكنا‭ ‬نتطلّع‭ ‬إلى‭ ‬عامنا‭ ‬الرابع‭ ‬والأخير‭ ‬بفرحة‭ ‬وفضول‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬القسم‭ ‬مَن‭ ‬لم‭ ‬نعرفه‭ ‬بعد،‭ ‬ومن‭ ‬لم‭ ‬يدرّس‭ ‬لنا؛‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬القديمة‭ ‬أو‭ ‬الحديثة‭.‬

وكان‭ ‬أبرز‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يدرّس‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬مواد‭ ‬القسم‭ ‬القديمة‭ ‬أو‭ ‬التراثية،‭ ‬المرحوم‭ ‬عبدالحليم‭ ‬النجار،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬الحديثة،‭ ‬فكان‭ ‬الشاب‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬بدر،‭ ‬الذي‭ ‬سمعنا‭ ‬عن‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬للعام‭ ‬الدراسي‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثالثة،‭ ‬لكنّه‭ ‬اختفى‭ ‬بعدها،‭ ‬وذهب‭ ‬إلى‭ ‬منحة‭ ‬بالمملكة‭ ‬المتحدة‭ (‬إنجلترا‭) ‬عاد‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬القِسم‭ ‬ليشارك‭ ‬د‭. ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬في‭ ‬التدريس‭ ‬لنا‭.‬

اختصت‭ ‬القلماوي‭ ‬د‭. ‬عبدالمحسن‭ ‬بممارسة‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقي‭ ‬معنا‭ ‬لعددٍ‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬اختارتها‭ ‬له‭. ‬وكانت‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬قرية‭ ‬ظالمة‮»‬‭ ‬للمرحوم‭ ‬محمد‭ ‬كامل‭ ‬حسين‭ (‬التي‭ ‬حصل‭ ‬بسببها‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬الدولة‭ ‬التقديرية‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬والتي‭ ‬تعدّ‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬السّرد‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وقد‭ ‬تمت‭ ‬طباعتها‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬1954‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬المسيح‭ ‬وصلبه‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬لكنه‭ ‬
استبدل‭ - ‬رمزيًّا‭ - ‬بالقرية‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬صُلِب‭ ‬فيها‭ ‬المسيح،‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬نموذجًا‭ ‬للقرية‭ ‬الظالمة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تنال‭ ‬من‭ ‬أشباه‭ ‬المسيح‭ ‬وتصلبهم‭ ‬ليل‭ ‬نهار،‭ ‬في‭ ‬تراجيديا‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬أو‭ ‬تهدأ‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬الطريف‭ ‬أن‭ ‬موضوع‭ ‬الرواية‭ ‬الرمزي‭ ‬قد‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬عن‭ ‬صَلب‭ ‬المسيح،‭ ‬قام‭ ‬بتمثيله‭ ‬الممثل‭ ‬العالمي‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أنتوني‭ ‬كوين،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬قد‭ ‬شاهدنا‭ ‬الفيلم‭ ‬بعد،‭ ‬فقد‭ ‬اشترينا‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬قرية‭ ‬ظالمة‮»‬‭ ‬كما‭ ‬نصحنا‭ ‬د‭. ‬عبدالمحسن؛‭ ‬لكي‭ ‬يقرأها‭ ‬معنا‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬نقرأ‭ ‬من‭ ‬روايات‭.‬

‭ ‬وبالفعل‭ ‬اشترينا‭ ‬الرواية،‭ ‬وفي‭ ‬المحاضرة‭ ‬الأولى‭ ‬للدكتور‭ ‬بدر‭ ‬تعرّف‭ ‬إلينا،‭ ‬ووّزع‭ ‬الفصول‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬واحدٍ‭ ‬مِنا؛‭ ‬لكي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها،‭ ‬ونظر‭ ‬إليّ‭ ‬د‭. ‬عبدالمحسن‭ ‬نظرة‭ ‬المُستغرِب،‭ ‬فلم‭ ‬أبادر‭ ‬برفع‭ ‬يدي‭ ‬طالبًا‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬بل‭ ‬تركتُ‭ ‬الأمر‭ ‬لزملائي،‭ ‬لكي‭ ‬يختار‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬ما‭ ‬يحبّ‭ ‬من‭ ‬فصول،‭ ‬ولم‭ ‬أبادر‭ ‬بالكلام‭ ‬أو‭ ‬التعليق،‭ ‬وإنما‭ ‬اكتفيت‭ ‬بالصمت‭.‬

وهي‭ ‬عادتي‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬ألتزم‭ ‬بها،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الخجل‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يلازمني‭ ‬طوال‭ ‬سنوات‭ ‬الدراسة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تخرّجت‭. ‬وكان‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الفطنة‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يلاحظ‭ ‬أنّني‭ ‬لم‭ ‬أختر‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬الفصول‭ ‬لأتحدّث‭ ‬عنه،‭ ‬وظنّ‭ ‬أنني‭ ‬أحاول‭ ‬التهرب‭ ‬من‭ ‬الأمر‭ ‬لتكاسلٍ‭ ‬أو‭ ‬لهربٍ‭ ‬من‭ ‬المشاركة،‭ ‬فوقف‭ ‬أمامي‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرات‭ ‬وقفة‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أذكرها‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وواجهني‭ ‬بالسؤال‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتفحّص‭ ‬ملامح‭ ‬وجهي‭: ‬‮«‬وأنتَ‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تختر‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬شيئًا‭ ‬تتحدث‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬تناقشه‭ ‬في‭ ‬الفصل؟‮»‬‭ ‬فقلتُ‭ ‬له‭: ‬‮«‬كنتُ‭ ‬أنتظر‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬أنتَ‭ ‬بالاختيار‭ ‬لي‭ ‬وتكليفي‭ ‬بما‭ ‬تختار‮»‬‭. ‬

 

دوري‭ ‬مع‭ ‬‮«‬الخاتمة‮»‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬ظنّ‭ ‬بي‭ ‬الظنون‭ ‬التي‭ ‬يظنّها‭ ‬الأساتذة‭ ‬عندما‭ ‬يواجهون‭ ‬طالبًا‭ ‬كسولًا‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬أداء‭ ‬الواجب،‭ ‬أو‭ ‬يتملص‭ ‬من‭ ‬الأعباء‭ ‬المضافة‭ ‬إلى‭ ‬حضور‭ ‬المحاضرة‭. ‬واستأنف‭ ‬كلامه‭ ‬لي‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬والآن‭ ‬لم‭ ‬يتبقّ‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬إلّا‭ ‬الخاتمة،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬صفحتين‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تحدثنا‭ ‬أنت‭ ‬عن‭ ‬هاتين‭ ‬الصفحتين‭ ‬أو‭ ‬الخاتمة؛‭ ‬لكي‭ ‬نعرفكَ‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نستمع‭ ‬إليك‮»‬،‭ ‬وأومأتُ‭ ‬برأسي‭ ‬موافقًا‭.‬

وبعدها‭ ‬خرج‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬من‭ ‬الفصل،‭ ‬ولم‭ ‬أَلقَهُ‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أسبوع‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬المحاضرات‭ ‬نفسها،‭ ‬حيث‭ ‬ظلّ‭ ‬يرقبني‭ ‬طوال‭ ‬استماعه‭ ‬لِما‭ ‬كان‭ ‬يُقدمه‭ ‬زملائي‭ ‬وزميلاتي‭ ‬من‭ ‬عرضٍ‭ ‬للفصول‭ ‬التي‭ ‬ألزموا‭ ‬أنفسهم‭ ‬بها‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬انتهوا‭ ‬جميعًا‭ ‬من‭ ‬عروضهم،‭ ‬اقترب‭ ‬منّي‭ ‬ووقف‭ ‬إلى‭ ‬جانبي‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬ها‭ ‬قد‭ ‬جاء‭ ‬الدور‭ ‬عليكَ،‭ ‬فأسمعنا‭ ‬ما‭ ‬كتبتَ؟‮»‬‭. ‬وكانت‭ ‬كلماته‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬نبرة‭ ‬سخرية‭ ‬ربّما‭ ‬كان‭ ‬سببها‭ ‬الظن‭ - ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬ذكرتُ‭ - ‬بأنني‭ ‬كنتُ‭ ‬أحاول‭ ‬التهرّب‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬أو‭ ‬الإسهام‭ ‬في‭ ‬المحاضرة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬التهرّب‭ ‬من‭ ‬أداء‭ ‬الواجب،‭ ‬لكنّه‭ ‬فوجِئ‭ ‬بأنني‭ ‬أُخرج‭ ‬إحدى‭ ‬الكراسات‭ ‬وأبدأ‭ ‬القراءة‭ ‬منها،‭ ‬وأحاولُ‭ ‬أن‭ ‬أستعيد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كلامي‭ ‬عن‭ ‬الخاتمة‭ ‬علاقات‭ ‬الرواية‭ ‬كلها،‭ ‬وما‭ ‬يتخللها‭ ‬من‭ ‬فصولٍ‭ ‬تتكون‭ ‬منها‭ ‬شبكة‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬تتكثف‭ ‬في‭ ‬الخاتمة‭ ‬التي‭ ‬تَردُّ‭ ‬آخر‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬أوائلها،‭ ‬أو‭ ‬تُعيد‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬المَغزَى‭ ‬الكُلّي‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬معاني‭ ‬الفداء‭ ‬والتضحية‭ ‬بالنفس‭ ‬لنجاة‭ ‬الآخرين،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬جُملٍ‭ ‬تَشِي‭ ‬بالمستوى‭ ‬العلمي‭ ‬المتميز‭ ‬الذي‭ ‬كنتُ‭ ‬عليه‭.‬

وأثناء‭ ‬القراءة‭ ‬كنتُ‭ ‬ألمح‭ ‬الدهشة‭ ‬تتزايد‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬وهو‭ ‬يستمع‭ ‬إليّ‭ ‬باهتمامٍ‭ ‬وإنصاتٍ‭ ‬كامل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قرأتُ‭ ‬الجُملة‭ ‬الأخيرة‭ ‬وختمتُ‭ ‬ما‭ ‬كتبتُه‭ ‬أنا‭ ‬عن‭ ‬الخاتمة،‭ ‬فعلَّق‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬كلام‭ ‬ممتاز،‭ ‬فلماذا‭ ‬لم‭ ‬تُسرع‭ ‬مثل‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬التعليق‭ ‬على‭ ‬الفصول‭ ‬المتقدّمة‭ ‬من‭ ‬الرواية؟‭!‬‮»‬‭ ‬فأجبتُه‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬عادتي‭ ‬التي‭ ‬تعوَّدتُ‭ ‬عليها‮»‬،‭ ‬فهزّ‭ ‬رأسه‭ ‬بما‭ ‬يَشِي‭ ‬باستحسانه‭ ‬الرد،‭ ‬وإعجابه‭ ‬بالتقديم‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

 

حوار‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص

انتهت‭ ‬المحاضرة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مباشرة،‭ ‬وكان‭ ‬
د‭. ‬بدر‭ ‬واقفًا‭ ‬بالقُرب‭ ‬مِنّي‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬احضر‭ ‬إلى‭ ‬مكتبي؛‭ ‬لكي‭ ‬أتعرّف‭ ‬عليك‭ ‬أكثر‮»‬،‭ ‬وبالفعل‭ ‬لحقتُ‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬ينهالُ‭ ‬عليَّ‭ ‬بأسئلةٍ‭ ‬لم‭ ‬أكُن‭ ‬أتوقّعها‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬تقريبًا،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬والدي‭ ‬وأُسرتي،‭ ‬وانتهاء‭ ‬بما‭ ‬أقوم‭ ‬به‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬الدروس‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬وهل‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬المنتديات‭ ‬الثقافية‭ ‬أو؟‭ ‬ولم‭ ‬تتوقّف‭ ‬أسئلته‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شَعر‭ ‬هو‭ ‬بطولها،‭ ‬وأنه‭ ‬لم‭ ‬يُعطِني‭ ‬فرصة‭ ‬للرد‭. ‬فتوقّف‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬‮«‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬إليّ‭ ‬في‭ ‬منزلي،‭ ‬ونكمل‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬أُريد‭ ‬أن‭ ‬أتعرّف‭ ‬إليكَ‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬وأعطاني‭ ‬عنوانه‭ ‬في‭ ‬المعادي‭ ‬الجديدة‭ (‬إحدى‭ ‬أشهر‭ ‬مناطق‭ ‬العاصمة‭ ‬المصرية‭ ‬القاهرة،‭ ‬وهي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬المدينة‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬الذهاب‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاته‭ ‬صعبًا‭ ‬على‭ ‬شاب‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬أحياء‭ ‬القاهرة،‭ ‬ولم‭ ‬يذهب‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المعادي‭.‬

وطبعًا‭ ‬سألتُ‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والمعارف،‭ ‬فأخبروني‭ ‬بأن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬اللوق،‭ ‬وأركب‭ ‬من‭ ‬المحطة‭ ‬الأساسية‭ ‬للمترو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬موجودًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬البعيد،‭ ‬وأنطلق‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتوقّف‭ ‬في‭ ‬المحطة‭ ‬السابعة‭ ‬أو‭ ‬الثامنة،‭ ‬حيث‭ ‬تقع‭ ‬المعادي‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬النيل‭. ‬وقد‭ ‬فعلتُ‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬حدّده‭ ‬لي،‭ ‬وكانت‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أستقل‭ ‬فيها‭ ‬المترو‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬حي‭ ‬باب‭ ‬اللوق‭ ‬إلى‭ ‬حلوان،‭ ‬ونزلت‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬المعادي‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬قبل‭ ‬محطة‭ ‬حلوان‭ - ‬نهاية‭ ‬الخط‭ - ‬بعدة‭ ‬محطات‭. ‬

وسِرتُ‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬ذات‭ ‬أرقام‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصلتُ‭ ‬أخيرًا‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬د‭. ‬عبدالمحسن‭ ‬بدر،‭ ‬وكان‭ ‬يسكن‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬العمارات‭ ‬الحديثة‭ ‬بذلك‭ ‬الحيّ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬يتغيّر‭ ‬ويدخل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬العمران‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬لمستُ‭ ‬الجرس‭ ‬وضغطتُ‭ ‬عليه‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬لي‭ ‬
د‭. ‬بدر‭ ‬باسمَ‭ ‬الوجه‭ ‬ضاحكًا‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬‮«‬كنتُ‭ ‬أخاف‭ ‬ألّا‭ ‬تعرف‭ ‬المنزل؛‭ ‬لأنّك‭ ‬فلاح‭ ‬مثلي،‭ ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬أبناء‭ ‬المحلة‭ ‬الكبرى‭ (‬بلدتي‭ ‬الأم‭) ‬لا‭ ‬يقلّون‭ ‬شطارة‭ ‬أو‭ ‬مهارة‭ ‬عن‭ ‬أبناء‭ ‬السّنطة‭ (‬بلدته‭ ‬الأم‭)‬‮»‬‭.‬

 

في‭ ‬بيت‭ ‬د‭. ‬بدر

‭ ‬قادني‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬إلى‭ ‬حجرة‭ ‬مكتبه‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مكتبته‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وكانت‭ ‬منقسمة‭ ‬إلى‭ ‬قسمين؛‭ ‬قِسم‭ ‬يضم‭ ‬الكتب‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬إنجلترا‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عاد‭ ‬منها‭ ‬بعد‭ ‬المنحة‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬عليها،‭ ‬ليستكمل‭ ‬أدوات‭ ‬درسه‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬وفي‭ ‬مواجهة‭ ‬ذلك،‭ ‬القِسم‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يضم‭ ‬كتبًا‭ ‬مألوفة‭ ‬لي‭.‬

وكانت‭ ‬الجلسة‭ ‬كلّها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬وأجوبة‭ ‬بين‭ ‬أستاذٍ‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬يتوقّع‭ ‬نبوغهم،‭ ‬والطالب‭ ‬الذي‭ ‬فوجئ‭ ‬بهذا‭ ‬الاحتفاء‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يجده‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أساتذته‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬بيت‭ ‬د‭. ‬عبدالمحسن‭ ‬في‭ ‬المعادي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬بيتٍ‭ ‬أدخله‭ ‬لواحدٍ‭ ‬من‭ ‬أساتذتي‭ ‬الذين‭ ‬تلقيتُ‭ ‬العلم‭ ‬عليهم،‭ ‬أو‭ ‬قاموا‭ ‬بالتدريس‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭/ ‬جامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬فأنا‭ ‬لم‭ ‬أدخل‭ ‬بين‭ ‬د‭. ‬حسين‭ ‬نصار‭ ‬وكذا‭ ‬بيت‭ ‬د‭. ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حصلتُ‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه،‭ ‬ولم‭ ‬أدخل‭ ‬بيت‭ ‬د‭. ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬إلّا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حصلتُ‭ ‬على‭ ‬الليسانس،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬ظرفٍ‭ ‬خاص‭. ‬أما‭ ‬بقية‭ ‬الأساتذة‭ ‬فلم‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬واحدٍ‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬المبكر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أتخرّج‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭.‬

ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬أصبح‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬أستاذًا‭ ‬وصديقًا‭ ‬ورائدًا‭ ‬ومُرشدًا‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬قادني‭ ‬لكي‭ ‬أفهم‭ ‬معنى‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬وأتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬المذاهب‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يعرفها‭ ‬طالب‭ ‬الأدب‭. ‬

ولم‭ ‬تتكرر‭ ‬زياراتي‭ ‬للدكتور‭ ‬بدر‭ ‬طوال‭ ‬العام‭ ‬الدراسي،‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬الامتحانات،‭ ‬وكان‭ ‬يتابعني‭ ‬دائمًا،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬أكُفّ‭ ‬عن‭ ‬السؤال،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬الإجابة،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬لم‭ ‬ألتحق‭ ‬مُعيدًا‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بعد‭ ‬التخرّج‭ ‬مباشرة،‭ ‬وظللتُ‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الجامعة،‭ ‬أعملُ‭ ‬مدرسًا‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬طوبهار‭ ‬الإعدادية‭ ‬بمحافظة‭ ‬الفيوم‭.‬

لكن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنّني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخرجتُ‭ ‬صرتُ‭ ‬من‭ ‬حوارييه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صدر‭ ‬قرار‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬برفع‭ ‬الظلم‭ ‬عنّي‭ ‬وتعييني‭ ‬معيدًا‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬تأخّر‭ ‬تعييني‭ ‬فيه،‭ ‬وهكذا‭ ‬أصبحتُ‭ ‬معيدًا‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وزميلًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬لعبدالمحسن‭ ‬بدر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أُنكر‭ ‬أستاذيته‭ ‬وفضله‭ ‬طوال‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬حياتي،‭ ‬فقد‭ ‬ظللتُ‭ ‬أتردد‭ ‬على‭ ‬بيت‭ ‬الرجل‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬فتحه‭ ‬لي‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1964،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توفّاه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ‬1990‭. ‬

وما‭ ‬بين‭ ‬تعييني‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬ومرضه‭ ‬الذي‭ ‬أفضى‭ ‬إلى‭ ‬وفاته،‭ ‬كانت‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا‭ ‬وثيقة‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حدّ‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‭ ‬أنا‭ ‬أخاه‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬أوكل‭ ‬أمره‭ ‬لأخيه‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُرشده‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الكتبِ‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعرفها،‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالندوات‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يشترك‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬يُسهم‭ ‬في‭ ‬نشاطها‭.‬

 

دَينٌ‭ ‬هائل

لحُسن‭ ‬الحظ‭ ‬كان‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬يعرف‭ ‬معرفة‭ ‬شخصية‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الأدباء؛‭ ‬منهم‭ ‬محمد‭ ‬أبوالمعاطي‭ ‬أبوالنجا،‭ ‬وسليمان‭ ‬فياض،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬عددًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬أصدقاء‭ ‬لي،‭ ‬والذين‭ ‬جذبوني‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬إلى‭ ‬توجّهاتهم‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تؤثِر‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬وتدافع‭ ‬عن‭ ‬حضور‭ ‬الأدب‭ ‬الواقعي‭. ‬

وكان‭ ‬فياض‭ ‬قد‭ ‬أصدر‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬عطشان‭ ‬يا‭ ‬صبايا‮»‬،‭ ‬وأصدر‭ ‬أبوالنجا‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المنفى‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬عن‭ ‬عبدالله‭ ‬النديم‭ ‬وتحوّلاته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انهزمت‭ ‬الثورة‭ ‬العُرابيّة،‭ ‬فأصبح‭ ‬طريدًا‭ ‬للخديوي‭ ‬الخائن‭ ‬وأذنابه‭.‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النقاش‭ ‬معهم‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬النجا‭ ‬كان‭ ‬مُـتأثِّـرًا‭ ‬بالكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬هوارد‭ ‬فاست،‭ ‬في‭ ‬واحدةٍ‭ ‬من‭ ‬رواياته‭ ‬الواقعية‭ ‬الشهيرة‭. ‬وهكذا‭ ‬وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬واقعيًّا‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬يساريًّا‭ ‬وقوميًّا‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والسياسة،‭ ‬وعِشتُ‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬أجمل‭ ‬سنوات‭ ‬عمري‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أعدّ‭ ‬فيها‭ ‬نفسي‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬دَيني‭ ‬للدكتور‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬بدر‭ ‬هو‭ ‬دَين‭ ‬هائل‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬التطور‭ ‬والتجديد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬المصري‭ ‬الحديث‮»‬‭ ‬للدكتور‭ ‬بدر‭ - ‬وهو‭ ‬أطروحته‭ ‬لنيل‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ - ‬وهو‭ ‬الأصل‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬اكتمل‭ ‬فيها‭ ‬وبها‭ ‬منهجه‭ ‬الأدبي،‭ ‬وهو‭ ‬المنهج‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬وينتهي‭ ‬به،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬المد‭ ‬القومي‭. ‬

والحق‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬تأكيد‭ ‬الصفة‭ ‬القومية‭ ‬لعبدالمحسن‭ ‬بدر‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬مؤرخ‭ ‬وناقد‭ ‬أدبي‭ ‬وأستاذ‭ ‬جامعي‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬فمواقفه‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬وأُستاذيّته‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬وإنجازاته‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬الأدبي،‭ ‬دالّة‭ ‬عليه،‭ ‬يعرفها‭ ‬القاصي‭ ‬والداني،‭ ‬والمكانة‭ ‬التي‭ ‬تحتلّها‭ ‬كُتُبه‭ ‬بارزة،‭ ‬يعرفها‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬اطّلع‭ ‬على‭ ‬‮«‬تطور‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬و‮«‬حول‭ ‬الأديب‭ ‬والواقع‮»‬،‭ ‬و«الروائي‭ ‬والأرض‮»‬،‭ ‬و«نجيب‭ ‬محفوظ‭... ‬الرؤية‭ ‬والأداة‮»‬،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬والدراسات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يجمعها‭ ‬كتاب،‭ ‬يبقى‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬نموذجًا‭ ‬للدارس‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬التزامه‭ ‬المنهجي‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬الأدبي،‭ ‬والتزامه‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬السياسية،‭ ‬وضميره‭ ‬الأخلاقي‭ ‬الصارم‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬التعليمي‭ ‬والإداري‭. ‬

 

وعي‭ ‬قومي

وبقدر‭ ‬ما‭ ‬تؤكد‭ ‬كُتُب‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬وكتاباته‭ ‬صدور‭ ‬وعيها‭ ‬المنهجي‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬قومي‭ ‬لا‭ ‬ينقطع‭ ‬إيمانه‭ ‬بالوحدة،‭ ‬تؤكد‭ ‬ارتباط‭ ‬صاحبها‭ ‬بأحلام‭ ‬الحرية‭ ‬والعدل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترفرف‭ ‬مع‭ ‬رايات‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬الذي‭ ‬ظلّ‭ ‬الفقيد‭ ‬يحلم‭ ‬بوصوله‭ ‬إلى‭ ‬الاكتمال‭ ‬الإنساني‭ ‬بكل‭ ‬معانيه‭ ‬النبيلة‭.‬

ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬القومي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدفع‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬الإلحاح‭ ‬على‭ ‬الصفة‭ ‬القومية‭ ‬لا‭ ‬الإقليمية‭ ‬للأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وإلى‭ ‬وضع‭ ‬صفة‭ ‬العروبة‭ ‬موضع‭ ‬الصدارة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬تطور‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬تطوّر‭ ‬الرواية‭ ‬المصرية،‭ ‬وإلى‭ ‬الإلحاح‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬تطور‭ ‬الشِّعر‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بالحركات‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى،‭ ‬من‭ ‬منظورٍ‭ ‬يؤكد‭ ‬وحدة‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬إبداعها،‭ ‬وطبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬المتواشجة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬أنواع‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭.‬

ومن‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬أن‭ ‬أطروحته‭ ‬لنيل‭ ‬درجة‭ ‬الماجستير‭ - ‬التي‭ ‬نُشرت‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬التطور‭ ‬والتجديد‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬المصري‭ ‬الحديث‮»‬‭ - ‬قد‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬المد‭ ‬القومي،‭ ‬ونوقشت‭ ‬الأطروحة‭ ‬مناقشة‭ ‬علانية‭ ‬عام‭ ‬1957؛‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬وما‭ ‬أكدته‭ ‬المقاومة‭ ‬القومية‭ ‬لهذا‭ ‬العدوان‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬عفوية‭ ‬ربطت‭ ‬العرب‭ ‬جميعًا‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭.‬

وقد‭ ‬فعل‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬أطروحته‭ ‬للدكتوراه،‭ ‬وكانت‭ ‬عن‭ ‬‮«‬تطور‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬بدر‭ ‬كان‭ ‬مُعاديًا‭ ‬لشيء‭ ‬من‭ ‬المذاهب‭ ‬إلا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُضيِّق،‭ ‬فتتحول‭ ‬إلى‭ ‬إقليميةٍ‭ ‬بالمعنى‭ ‬الضيق‭ ‬أو‭ ‬المذهبية‭ ‬بالمعنى‭ ‬المُتعصِّب،‭ ‬ولذلك‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نصف‭ ‬إنجاز‭ ‬بدر‭ ‬النقدي‭ ‬بأنّه‭ ‬إنجاز‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬الدائرة‭ ‬القومية‭. ‬

 

لحظة‭ ‬تاريخية

وأؤكد‭ ‬هذه‭ ‬الصفة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬بعض‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬أن‭ ‬يجرّوا‭ ‬إنجاز‭ ‬بدر‭ ‬النقدي‭ ‬إلى‭ ‬التيار‭ ‬الماركسي‭ ‬أو‭ ‬اليساري‭ ‬الحَدي‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬فقد‭ ‬تتلمذتُ‭ ‬على‭ ‬الرجل،‭ ‬ولم‭ ‬أكُفّ‭ ‬عن‭ ‬النقاش‭ ‬معه،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬الحوار‭ ‬والجدل،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬يؤكد‭ ‬لي‭ ‬حركة‭ ‬وعي‭ ‬الناقد‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬مشروعه‭ ‬النقدي‭ ‬الكبير،‭ ‬ذلك‭ ‬المشروع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحيط‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كلّه‭ ‬بعينيه،‭ ‬لكن‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعي‭ ‬فيها‭ ‬الناقد‭ ‬موقفه‭ ‬المنهجي‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالمشروع‭ ‬القومي‭ ‬العام‭.‬

ولذلك‭ ‬كان‭ ‬د‭. ‬بدر‭ ‬يؤكد‭ ‬‮«‬إننا‭ ‬في‭ ‬معركتنا‭ ‬المستمرة‭ ‬لإثبات‭ ‬وجودنا‭ ‬وتأكيد‭ ‬استقلال‭ ‬شخصيتنا،‭ ‬سواءً‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬الداخلي‭ ‬أو‭ ‬الخارجي‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬مؤمنًا‭ ‬بهذه‭ ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أحواله‭ ‬ناقدًا‭ ‬قوميًّا‭. ‬صحيح‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬اصطنعها‭ ‬لنفسه،‭ ‬فيقترب‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬النقاد‭ ‬الماركسيين‭ ‬أو‭ ‬الواقعيين‭ ‬بوجهٍ‭ ‬عام،‭ ‬لكنّه‭ ‬ظل‭ ‬مُحافظًا‭ ‬على‭ ‬قوميّته‭ ‬في‭ ‬الدائرة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬له‭ ‬الصفة‭ ‬القومية‭ ‬بمجاوزتها‭ ‬إلّا‭ ‬إلى‭ ‬الصفة‭ ‬الواقعية‭.‬

والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬أية‭ ‬دراسة‭ ‬تفصيلية‭ ‬لأعمال‭ ‬بدر‭ ‬التي‭ ‬تركها،‭ ‬سوف‭ ‬تؤكد‭ ‬ريادته‭ ‬وخصوصيته‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬فهي‭ ‬ريادة‭ ‬وخصوصية‭ ‬جمعت‭ ‬بينه‭ ‬وأبناء‭ ‬جيله‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬أبوالمعاطي‭ ‬أبوالنجا،‭ ‬وسليمان‭ ‬فياض،‭ ‬وفاروق‭ ‬شوشة،‭ ‬وعبدالجليل‭ ‬حسن،‭ ‬ورجاء‭ ‬النقاش،‭ ‬وباعدت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬طرائق‭ ‬ومناهج‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالِم،‭ ‬وحسين‭ ‬مروة،‭ ‬وعبدالمنعم‭ ‬تليمة،‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬سيد‭ ‬البحراوي‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬ادّعاء‭ ‬الإنجاز‭ ‬النقدي‭.‬

وأخيرًا،‭ ‬إن‭ ‬صفة‭ ‬الناقد‭ ‬القومي‭ ‬التي‭ ‬نُلحقها‭ ‬بعبدالمحسن‭ ‬بدر‭ ‬هي‭ ‬صفة‭ ‬لا‭ ‬تتباعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬ظروفه‭ ‬الموضوعية‭ ‬أو‭ ‬الذاتية،‭ ‬فقد‭ ‬تخرّج‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬عام‭ ‬1954،‭ ‬وهو‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬انتصر‭ ‬فيه‭ ‬المد‭ ‬الخاص‭ ‬بالدكتاتورية‭ ‬الناصرية‭ ‬على‭ ‬التيارات‭ ‬الأخرى‭ ‬المختلفة‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬فحسب‭ ‬من‭ ‬تحوّل‭ ‬هذا‭ ‬المد‭ ‬إلى‭ ‬تيارٍ‭ ‬قومي‭ ‬يدخل‭ ‬معركته‭ ‬القومية‭ ‬سنة‭ ‬1956،‭ ‬ليؤسس‭ ‬تيارًا‭ ‬عربيًّا‭ ‬مُناضِلًا‭ ‬للاستعمار‭ ‬ومُقاوِمًا‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭ ‬الخاصة‭ ‬بنشاط‭ ‬د‭. ‬بدر،‭ ‬الذي‭ ‬توفاه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬مارس‭ ■1990‭ ‬