عبدالمحسن طه بدر
كُنّا في الشهر الأول من العام الدراسي الأخير بقسم اللغة العربية الذي وصلنا إلى سنتنا النهائية فيه. وكنّا قد عرفنا جميع الأساتذة الذين درّسوا لنا، وتركوا فينا آثارًا لن يمحوها الزمن. وكنا نتطلّع إلى عامنا الرابع والأخير بفرحة وفضول في الوقت نفسه، فقد كان لا يزال من أساتذة القسم مَن لم نعرفه بعد، ومن لم يدرّس لنا؛ سواء في المواد القديمة أو الحديثة.
وكان أبرز من لم يدرّس لنا في مواد القسم القديمة أو التراثية، المرحوم عبدالحليم النجار، أما في المواد الحديثة، فكان الشاب عبدالمحسن طه بدر، الذي سمعنا عن حصوله على درجة الدكتوراه في الأيام الأولى للعام الدراسي ونحن في السنة الثالثة، لكنّه اختفى بعدها، وذهب إلى منحة بالمملكة المتحدة (إنجلترا) عاد بعدها إلى القِسم ليشارك د. سهير القلماوي في التدريس لنا.
اختصت القلماوي د. عبدالمحسن بممارسة النقد التطبيقي معنا لعددٍ من الروايات التي اختارتها له. وكانت الرواية الأولى هي رواية «قرية ظالمة» للمرحوم محمد كامل حسين (التي حصل بسببها على جائزة الدولة التقديرية في الأدب، والتي تعدّ من علامات السّرد في الأدب العربي، وقد تمت طباعتها للمرة الأولى عام 1954)، وهي عن مقتل المسيح وصلبه على السواء، لكنه
استبدل - رمزيًّا - بالقرية التاريخية التي صُلِب فيها المسيح، الإنسانية التي أصبحت نموذجًا للقرية الظالمة التي ظلت تنال من أشباه المسيح وتصلبهم ليل نهار، في تراجيديا الخير والشر التي لم تتوقف أو تهدأ إلى اليوم.
ومن الطريف أن موضوع الرواية الرمزي قد تحوّل إلى فيلم عن صَلب المسيح، قام بتمثيله الممثل العالمي الشهير في ذلك الوقت أنتوني كوين، ولم نكن قد شاهدنا الفيلم بعد، فقد اشترينا الرواية «قرية ظالمة» كما نصحنا د. عبدالمحسن؛ لكي يقرأها معنا ضمن ما نقرأ من روايات.
وبالفعل اشترينا الرواية، وفي المحاضرة الأولى للدكتور بدر تعرّف إلينا، ووّزع الفصول على كلّ واحدٍ مِنا؛ لكي يتحدث عنها، ونظر إليّ د. عبدالمحسن نظرة المُستغرِب، فلم أبادر برفع يدي طالبًا الحديث عن هذا الفصل أو ذاك، بل تركتُ الأمر لزملائي، لكي يختار كل منهم ما يحبّ من فصول، ولم أبادر بالكلام أو التعليق، وإنما اكتفيت بالصمت.
وهي عادتي التي كنتُ ألتزم بها، وذلك في نوع من الخجل الذي ظل يلازمني طوال سنوات الدراسة إلى أن تخرّجت. وكان د. بدر على قدر من الفطنة التي جعلته يلاحظ أنّني لم أختر شيئًا من الفصول لأتحدّث عنه، وظنّ أنني أحاول التهرب من الأمر لتكاسلٍ أو لهربٍ من المشاركة، فوقف أمامي في قاعة المحاضرات وقفة لا أزال أذكرها إلى اليوم، وواجهني بالسؤال في الوقت الذي كان يتفحّص ملامح وجهي: «وأنتَ لماذا لم تختر إلى الآن شيئًا تتحدث عنه أو تناقشه في الفصل؟» فقلتُ له: «كنتُ أنتظر أن تقوم أنتَ بالاختيار لي وتكليفي بما تختار».
دوري مع «الخاتمة»
يبدو أن د. بدر ظنّ بي الظنون التي يظنّها الأساتذة عندما يواجهون طالبًا كسولًا يحاول أن يهرب من أداء الواجب، أو يتملص من الأعباء المضافة إلى حضور المحاضرة. واستأنف كلامه لي قائلًا: «والآن لم يتبقّ من الرواية إلّا الخاتمة، وهي من صفحتين أو ما يقرب من ذلك، ولا بأس في أن تحدثنا أنت عن هاتين الصفحتين أو الخاتمة؛ لكي نعرفكَ بعد أن نستمع إليك»، وأومأتُ برأسي موافقًا.
وبعدها خرج د. بدر من الفصل، ولم أَلقَهُ إلا بعد مرور أسبوع في قاعة المحاضرات نفسها، حيث ظلّ يرقبني طوال استماعه لِما كان يُقدمه زملائي وزميلاتي من عرضٍ للفصول التي ألزموا أنفسهم بها. وبعد أن انتهوا جميعًا من عروضهم، اقترب منّي ووقف إلى جانبي قائلًا: «ها قد جاء الدور عليكَ، فأسمعنا ما كتبتَ؟». وكانت كلماته لا تخلو من نبرة سخرية ربّما كان سببها الظن - كما سبق أن ذكرتُ - بأنني كنتُ أحاول التهرّب من المشاركة أو الإسهام في المحاضرة، أو حتى التهرّب من أداء الواجب، لكنّه فوجِئ بأنني أُخرج إحدى الكراسات وأبدأ القراءة منها، وأحاولُ أن أستعيد من خلال كلامي عن الخاتمة علاقات الرواية كلها، وما يتخللها من فصولٍ تتكون منها شبكة العلاقات التي تتكثف في الخاتمة التي تَردُّ آخر الرواية على أوائلها، أو تُعيد النهاية إلى كل أحداث الرواية من البداية إلى المَغزَى الكُلّي الذي يتحدث عن معاني الفداء والتضحية بالنفس لنجاة الآخرين، وذلك في جُملٍ تَشِي بالمستوى العلمي المتميز الذي كنتُ عليه.
وأثناء القراءة كنتُ ألمح الدهشة تتزايد في عيني د. بدر وهو يستمع إليّ باهتمامٍ وإنصاتٍ كامل إلى أن قرأتُ الجُملة الأخيرة وختمتُ ما كتبتُه أنا عن الخاتمة، فعلَّق قائلًا: «هذا كلام ممتاز، فلماذا لم تُسرع مثل الآخرين في طلب التعليق على الفصول المتقدّمة من الرواية؟!» فأجبتُه: «هذه عادتي التي تعوَّدتُ عليها»، فهزّ رأسه بما يَشِي باستحسانه الرد، وإعجابه بالتقديم على السواء.
حوار من نوع خاص
انتهت المحاضرة بعد ذلك مباشرة، وكان
د. بدر واقفًا بالقُرب مِنّي فقال: «احضر إلى مكتبي؛ لكي أتعرّف عليك أكثر»، وبالفعل لحقتُ به إلى مكتبه، فإذا به ينهالُ عليَّ بأسئلةٍ لم أكُن أتوقّعها عن كل شيء في حياتي تقريبًا، ابتداء من عمل والدي وأُسرتي، وانتهاء بما أقوم به بعد أن تنتهي الدروس في القاهرة، وهل أذهب إلى المنتديات الثقافية أو؟ ولم تتوقّف أسئلته إلّا بعد أن شَعر هو بطولها، وأنه لم يُعطِني فرصة للرد. فتوقّف عن الأسئلة، وقال لي: «الأفضل أن تأتي إليّ في منزلي، ونكمل الحوار الذي أُريد أن أتعرّف إليكَ من خلاله، وأعطاني عنوانه في المعادي الجديدة (إحدى أشهر مناطق العاصمة المصرية القاهرة، وهي تقع في جنوب المدينة على الضفة الشرقية من نهر النيل)، وكان الذهاب إليها في حدّ ذاته صعبًا على شاب لا يعرف كل أحياء القاهرة، ولم يذهب مرة واحدة إلى هذه المعادي.
وطبعًا سألتُ الأصدقاء والمعارف، فأخبروني بأن أذهب إلى باب اللوق، وأركب من المحطة الأساسية للمترو الذي كان موجودًا في ذلك الزمان البعيد، وأنطلق معه إلى أن يتوقّف في المحطة السابعة أو الثامنة، حيث تقع المعادي على الضفة الشرقية من النيل. وقد فعلتُ ذلك في اليوم الذي حدّده لي، وكانت المرة الأولى التي أستقل فيها المترو القديم الذي كان ينطلق من حي باب اللوق إلى حلوان، ونزلت في محطة المعادي التي تقع قبل محطة حلوان - نهاية الخط - بعدة محطات.
وسِرتُ في شوارع ذات أرقام إلى أن وصلتُ أخيرًا إلى منزل د. عبدالمحسن بدر، وكان يسكن في إحدى العمارات الحديثة بذلك الحيّ الذي كان على وشك أن يتغيّر ويدخل في دائرة العمران. وما إن لمستُ الجرس وضغطتُ عليه حتى ظهر لي
د. بدر باسمَ الوجه ضاحكًا وهو يقول لي: «كنتُ أخاف ألّا تعرف المنزل؛ لأنّك فلاح مثلي، ولكن يبدو أن أبناء المحلة الكبرى (بلدتي الأم) لا يقلّون شطارة أو مهارة عن أبناء السّنطة (بلدته الأم)».
في بيت د. بدر
قادني د. بدر إلى حجرة مكتبه التي كانت مكتبته على السواء، وكانت منقسمة إلى قسمين؛ قِسم يضم الكتب المكتوبة بالإنجليزية، وهي لغة إنجلترا التي كان قد عاد منها بعد المنحة التي حصل عليها، ليستكمل أدوات درسه للأدب العربي الحديث، وفي مواجهة ذلك، القِسم العربي الذي كان يضم كتبًا مألوفة لي.
وكانت الجلسة كلّها عبارة عن أسئلة وأجوبة بين أستاذٍ يريد أن يعرف ما لم يكن يعرف عن أحد الطلاب الذين كان يتوقّع نبوغهم، والطالب الذي فوجئ بهذا الاحتفاء الذي لم يجده من أحد أساتذته من قبل.
والحق أن بيت د. عبدالمحسن في المعادي كان هو أول بيتٍ أدخله لواحدٍ من أساتذتي الذين تلقيتُ العلم عليهم، أو قاموا بالتدريس لي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب/ جامعة القاهرة، فأنا لم أدخل بين د. حسين نصار وكذا بيت د. سهير القلماوي إلّا بعد أن حصلتُ على درجة الدكتوراه، ولم أدخل بيت د. عبدالعزيز الأهواني إلّا بعد أن حصلتُ على الليسانس، وذلك في ظرفٍ خاص. أما بقية الأساتذة فلم أذهب إلى بيت واحدٍ منهم في هذا الوقت المبكر قبل أن أتخرّج في الجامعة.
ومنذ ذلك اليوم أصبح د. بدر أستاذًا وصديقًا ورائدًا ومُرشدًا لي على السواء، فهو الذي قادني لكي أفهم معنى الواقعية في الأدب، وأتعرّف إلى المذاهب السياسية والفكرية التي لا بدّ أن يعرفها طالب الأدب.
ولم تتكرر زياراتي للدكتور بدر طوال العام الدراسي، فسرعان ما اقتربنا من الامتحانات، وكان يتابعني دائمًا، ولم أكن أكُفّ عن السؤال، ولم يكن يكف عن الإجابة، ولكن مع الأسف لم ألتحق مُعيدًا بقسم اللغة العربية بعد التخرّج مباشرة، وظللتُ بعيدًا عن الجامعة، أعملُ مدرسًا في مدرسة طوبهار الإعدادية بمحافظة الفيوم.
لكن المؤكد أنّني بعد أن تخرجتُ صرتُ من حوارييه، إلى أن صدر قرار الرئيس جمال عبدالناصر برفع الظلم عنّي وتعييني معيدًا في قسم اللغة العربية الذي تأخّر تعييني فيه، وهكذا أصبحتُ معيدًا بقسم اللغة العربية، وزميلًا صغيرًا لعبدالمحسن بدر الذي لا أُنكر أستاذيته وفضله طوال ما تبقّى من حياتي، فقد ظللتُ أتردد على بيت الرجل منذ أن فتحه لي للمرة الأولى سنة 1964، إلى أن توفّاه الله في مارس 1990.
وما بين تعييني في كلية الآداب ومرضه الذي أفضى إلى وفاته، كانت العلاقة بيننا وثيقة إلى أبعد حدّ كما لو كنتُ أنا أخاه الصغير الذي أوكل أمره لأخيه الكبير الذي كان يُرشده إلى كل شيء في الحياة، ابتداء من الكتبِ التي ينبغي أن يعرفها، وانتهاء بالندوات التي ينبغي أن يشترك فيها أو يُسهم في نشاطها.
دَينٌ هائل
لحُسن الحظ كان د. بدر يعرف معرفة شخصية عددًا من الأدباء؛ منهم محمد أبوالمعاطي أبوالنجا، وسليمان فياض، كما كان يعرف عددًا آخر من الأصدقاء الذين أصبحوا أصدقاء لي، والذين جذبوني شيئًا فشيئًا إلى توجّهاتهم السياسية والفكرية التي كانت تؤثِر الواقعية في الأدب، وتدافع عن حضور الأدب الواقعي.
وكان فياض قد أصدر مجموعته «عطشان يا صبايا»، وأصدر أبوالنجا رائعته «العودة إلى المنفى»، وهي عن عبدالله النديم وتحوّلاته بعد أن انهزمت الثورة العُرابيّة، فأصبح طريدًا للخديوي الخائن وأذنابه.
وسرعان ما اكتشفتُ من خلال النقاش معهم أن أبا النجا كان مُـتأثِّـرًا بالكاتب الأمريكي هوارد فاست، في واحدةٍ من رواياته الواقعية الشهيرة. وهكذا وجدتُ نفسي واقعيًّا في الأدب، يساريًّا وقوميًّا في الفكر والسياسة، وعِشتُ مع هؤلاء أجمل سنوات عمري في المرحلة التي كنتُ أعدّ فيها نفسي للحصول على درجة الماجستير. والحق أن دَيني للدكتور عبدالمحسن بدر هو دَين هائل.
وكان من الطبيعي أن أقرأ في هذه الفترة كتاب «التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث» للدكتور بدر - وهو أطروحته لنيل درجة الماجستير - وهو الأصل الأول في الرحلة التي اكتمل فيها وبها منهجه الأدبي، وهو المنهج الذي كان يبدأ من المشروع القومي وينتهي به، وذلك في ذروة المد القومي.
والحق أنه لا بدّ من تأكيد الصفة القومية لعبدالمحسن بدر من حيث هو مؤرخ وناقد أدبي وأستاذ جامعي على السواء، فمواقفه القومية في السياسة، وأُستاذيّته في الجامعة، وإنجازاته العلمية في البحث الأدبي، دالّة عليه، يعرفها القاصي والداني، والمكانة التي تحتلّها كُتُبه بارزة، يعرفها كلّ من اطّلع على «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر»، و«حول الأديب والواقع»، و«الروائي والأرض»، و«نجيب محفوظ... الرؤية والأداة»، ففي كل هذه الكتب وغيرها من المقالات والدراسات التي لم يجمعها كتاب، يبقى د. بدر نموذجًا للدارس الأدبي الذي لا يفصل بين التزامه المنهجي في البحث الأدبي، والتزامه القومي في المواقف السياسية، وضميره الأخلاقي الصارم في العمل التعليمي والإداري.
وعي قومي
وبقدر ما تؤكد كُتُب د. بدر وكتاباته صدور وعيها المنهجي عن وعي قومي لا ينقطع إيمانه بالوحدة، تؤكد ارتباط صاحبها بأحلام الحرية والعدل التي كانت ترفرف مع رايات المشروع القومي الذي ظلّ الفقيد يحلم بوصوله إلى الاكتمال الإنساني بكل معانيه النبيلة.
ومن المؤكد أن الفكر القومي هو الذي كان يدفع د. بدر دائمًا إلى الإلحاح على الصفة القومية لا الإقليمية للأدب العربي، وإلى وضع صفة العروبة موضع الصدارة في كتابه الذي يبحث عن «تطور الرواية العربية في مصر»، لا تطوّر الرواية المصرية، وإلى الإلحاح على ربط تطور الشِّعر في مصر بالحركات الأدبية التي ظهرت في البيئات العربية الأخرى، من منظورٍ يؤكد وحدة الثقافة العربية في إبداعها، وطبيعة العلاقة المتواشجة التي تربط بين أنواع الإبداع الأدبي في كل الأقطار العربية.
ومن المهم أن نتذكر أن أطروحته لنيل درجة الماجستير - التي نُشرت فيما بعد في كتاب بعنوان «التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث» - قد كُتبت في مناخ المد القومي، ونوقشت الأطروحة مناقشة علانية عام 1957؛ أي بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وما أكدته المقاومة القومية لهذا العدوان من وحدة عفوية ربطت العرب جميعًا من المحيط إلى الخليج.
وقد فعل د. بدر الأمر نفسه عندما كتب عن أطروحته للدكتوراه، وكانت عن «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر»، ولا أظن أن بدر كان مُعاديًا لشيء من المذاهب إلا التي كانت تُضيِّق، فتتحول إلى إقليميةٍ بالمعنى الضيق أو المذهبية بالمعنى المُتعصِّب، ولذلك يمكن أن نصف إنجاز بدر النقدي بأنّه إنجاز يقع في صدارة الدائرة القومية.
لحظة تاريخية
وأؤكد هذه الصفة في مواجهة بعض الذين حاولوا أن يجرّوا إنجاز بدر النقدي إلى التيار الماركسي أو اليساري الحَدي في النقد العربي الحديث، فقد تتلمذتُ على الرجل، ولم أكُفّ عن النقاش معه، فضلًا عن الحوار والجدل، وفي كل مرة كان د. بدر يؤكد لي حركة وعي الناقد القومي في مشروعه النقدي الكبير، ذلك المشروع الذي كان يحيط العالم العربي كلّه بعينيه، لكن انطلاقًا من اللحظة التاريخية التي كان يعي فيها الناقد موقفه المنهجي الخاص في علاقته بالمشروع القومي العام.
ولذلك كان د. بدر يؤكد «إننا في معركتنا المستمرة لإثبات وجودنا وتأكيد استقلال شخصيتنا، سواءً في الميدان الداخلي أو الخارجي». وقد ظل مؤمنًا بهذه القاعدة التي جعلته في كل أحواله ناقدًا قوميًّا. صحيح أنه كان يخرج عن الدائرة التي اصطنعها لنفسه، فيقترب من دائرة النقاد الماركسيين أو الواقعيين بوجهٍ عام، لكنّه ظل مُحافظًا على قوميّته في الدائرة التي لم تسمح له الصفة القومية بمجاوزتها إلّا إلى الصفة الواقعية.
والمؤكد أن أية دراسة تفصيلية لأعمال بدر التي تركها، سوف تؤكد ريادته وخصوصيته في الوقت نفسه، فهي ريادة وخصوصية جمعت بينه وأبناء جيله من أمثال أبوالمعاطي أبوالنجا، وسليمان فياض، وفاروق شوشة، وعبدالجليل حسن، ورجاء النقاش، وباعدت بينه وبين طرائق ومناهج محمود أمين العالِم، وحسين مروة، وعبدالمنعم تليمة، الذي لحق به، أو سيد البحراوي الذي لحق بهم في ادّعاء الإنجاز النقدي.
وأخيرًا، إن صفة الناقد القومي التي نُلحقها بعبدالمحسن بدر هي صفة لا تتباعد كثيرًا عن ظروفه الموضوعية أو الذاتية، فقد تخرّج في كلية الآداب عام 1954، وهو العام الذي انتصر فيه المد الخاص بالدكتاتورية الناصرية على التيارات الأخرى المختلفة. وكان ذلك قبل عامين فحسب من تحوّل هذا المد إلى تيارٍ قومي يدخل معركته القومية سنة 1956، ليؤسس تيارًا عربيًّا مُناضِلًا للاستعمار ومُقاوِمًا له حتى النهاية الخاصة بنشاط د. بدر، الذي توفاه الله في مارس ■1990