معركة وطن لاستعادة نفسه.. الواقعيّة الجديدة في الأدب الإيطالي
«الواقعية هي التصوير الموضوعي للواقع»، هذا ما قاله مكسيم غوركي في تعريفه لمنهج الواقعية. وهذا ما نادى به الأدباء الإيطاليون خلال الحرب العالمية الثانية، من ضرورة اتجاه الأدب إلى الواقع لتصويرِه تصويرًا دقيقًا، بعيدًا عن الكلاسيكية والمغالاة في الرومانسية، بعد أن كانت الأعمال الأدبية الإيطالية حتى بداية القرن الماضي تتوغل في الأوهام والأحلام، للهروب مما يحدث، وهو ما خلق فجوة كبيرة بين الأدب وما هو على أرض الواقع.
وعلى الرغم من أنّ الأدب الإيطالي ارتبط منذ عصر النهضة بأسماء وروائع خالدة، وكانت فيه الكلاسيكية والرومانسية هما الاتجاهان السائدان في الأدب الإنساني، كملحمة الكوميديا الإلهية لدانتي الجييري، ورواية الديكاميرون لجيوفاني بوكاتشيو، وكتاب سرّي للغاية لبتراركا، وكتاب الأمير لميكافيللي، ورواية المخطوبون لمانزوني، فإنّه بعد احتلال القوات النازية شمال إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية وسقوط المدن الإيطالية الواحدة تلو الأخرى، وقسوة الحياة خلال سنوات الحرب، وحالة الفوضى الجسدية والاقتصادية التي حلّت بإيطاليا بأكملها، والتي جعلت الفقر والبطالة واليأس جزءًا من الحياة اليومية، هيأت كل هذه الظروف لمرحلة مهمة في الأدب الإيطالي، وهي عصر «الواقعية الجديدة».
ظهرت الحركة الأدبية والسينمائية الإيطالية الجديدة، نتيجة للمشاعر الحيّة والتجارب والقناعات الشديدة لمقاومة القمع الفاشي والحرب، والتي غرست في كتّابها الواعين اجتماعيًا وسياسيًا سعيًا منهم للتعامل بشكل واقعي مع الأحداث التي أدت إلى الحرب، ومع المشاكل الاجتماعية التي نشأت خلال الفترة وما بعدها.
اعتمد النهج الواقعي الإيطالي الجديد على تصوير الأشياء كما هي، بعيدًا عن الغيبيات والأشياء غير المحسوسة والتزييف والتضخيم، أو أن يُقحم الكاتب نفسه في شخصيات الأدب الواقعي وموضوعاته التي كانت تؤخذ من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، ولا مكان للطبقة الأرستقراطية بينهما.
وعليه فإن ما صوّره الأدب الواقعي هو قضايا شعبية، ونماذج إنسانية بسيطة لم يألفها الأدب من قبل، واتسم بروح النقد ورفض كل ما هو لا إنساني، واهتم بتصوير تأثير الحروب على المجتمع والإنسان، بهدف كشف أسراره وإظهار خفاياه، في محاولة جديّة لتحليله، وأكثر من ذلك تذهب للبحث عن الحلول.
لذلك من الملاحظ على الواقعية في الأدب، إبان نشأتها في إيطاليا، بروز النظرة السوداوية إلى الحياة والمجتمع، لتأثّرها بالظروف الاقتصادية والسياسية السائدة في ذلك الوقت، كظهور الرأسمالية، وانتشار النفعية والمصالح الفردية في المجتمع.
كارلو ليفي
يعدّ الكاتب الإيطالي والرسام والصحفي السياسي كارلو ليفي أحد قادة الواقعيّة الجديدة في الأدب الإيطالي، ولد ليفي في 29 نوفمبر 1902، في تورينو بإيطاليا، وعلى الرغم من أنه حصل على شهادة في الطب من جامعة تورين الإيطالية، فإنه لم يمارس الطب، وبدلًا من ذلك، اتجه إلى الرسم والكتابة الصحفية والأدبية. وبسبب نشاطه المضاد للفاشية، تم نفيه عام 1935 إلى قرية غاغليانو المعزولة بمقاطعة لوكانيا في الجنوب الإيطالي.
عاش ليفي كسجين سياسي فترة طويلة، وعمل أثناء نفيه طبيبًا للفلاحين، لمساعدة الأشخاص الذين يعانون الملاريا. وقد تمكّن من زيارة إيبولي، المدينة المركزية في المنطقة، وصدم من الفقر الذي واجهه، فالمزارعون المستأجرون يعيشون حياة مأساوية لا يمكن أن توصف، على حدّ قوله. سجّل ليفي ملاحظاته الخاصة عن حياته وعن نضال القرويين اليومي في مجتمع منعزل بعيد عن الحضارة وخارج الزمن، وقدّمها في أعمال فنية أدبية واعية عكست الحساسية البصرية للرسام والموضـــوعية الدقيقة للطبيب.
في روايته الأولى «توقّف المسيح في إبولي» عام 1945، التي لقيت نجاحًا كبيرًا، تحدّث عن الاضطهاد الفاشي قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها.
الرواية عمل أدبي واقعي كان فيه ليفي هو بطلها، جعل العالم يفهم وضع المناطق الواقعة في الجنوب الإيطالي، وسبب فرار الجنوب من التطور الثقافي الذي حدث في الشمال، وتجاهل الحكومة والمجتمع له. الرواية مليئة بإيقاعات الحياة الريفية والأشخاص الذين تركتهم بلادهم وراءها، ويشير ليفي إلى القول الذي سمعه مرارًا وتكرارًا في الجنوب «كل شيء في إبولي تم تجاوزه، هو مكان انقطع عن التاريخ والدولة».
وبالنسبة إلى ليفي، يُعد «التذمر الجنوبي» على أصحاب السلطة في إيطاليا أيضًا تساؤلًا مهمًا في العلاقة بين أولئك الذين يمتلكون السلطة، وأولئك الذين لا يمكنهم حتى تخيّل ممارستها.
وصف الناقد الإيطالي باولو ميلانو العمل بأنه «مذكرات، وألبوم صور، ورواية، ودراسة اجتماعية ومقال سياسي ودراسة سيكولوجية، كتبت بنظرة ذكية عن معضلة إيطاليا» حيث لا يزال الناس في الجنوب، كما ذكر ليفي في كتابه، تعيش داخل الكهوف في حياة بدائية «في هذه الثقوب المظلمة، رأيت بضع قطع الملابس الممزقة المعلّقة لتجفّ. على الباب الكلاب والأغنام والماعز والخنازير. معظم الأسر لديها كهف ضيق واحد فقط للعيش هناك، وينام فيه الرجال والنساء والأطفال والحيوانات معًا».
وصف كارلو ليفي القرية بأنها «صغيرة مليئة بالمرض والبؤس، وعار على إيطاليا»، وسرعان ما تمّت ترجمة رواية ليفي إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة مختلفة. يشير عنوان الرواية إلى ما أخبره به الفلاحون عن حياتهم «نحن لسنا مسيحيين»، أو كما يقولون «المسيح توقّف هنا، في إبولي»، في اشارة إلى أنه لا يوجد أي مَعلَم أو حضارة في هذا المكان. فلم يأتِ المسيح إلى هذا الحد أبدًا، ولا الوقت، ولا الأمل، ولا العقل ولا التاريخ، لم يأت المسيح أبدًا، تمامًا مثلما لم يأت الرومان أبدًا.
شارك ليفي في المقاومة، وانضم إلى اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني في توسكانا، واستمر نشاطه الأدبي والاجتماعي بشكل مثمر، وطالب بنظام جديد يسمح فيه للجنوب بشكل من أشكال الحكم الذاتي بعيدًا عن روما. وكتب ليفي في إحدى مقالاته «الفرد والدولة يتزامنان نظريًا، ويجب أن نجعلهما يتزامنان عمليًا إذا أرادوا الحياة».
كتب ليفي أعمالًا أخرى مهمة، جميعها في نفس الاتجاه، مثل «الخوف والحريّة» عام 1946، شجب فيه الخلاف بين الطبقات واستغلال الطبقات الدنيا والصراع بين الفلاحين والأرستقراطيين، ونادى بأهمية الحرية ومحاربة الاضطهاد الفكري.
وفي روايته «الساعة» عام 1950، كانت روما في حقبة ما بعد الحرب موضوع هذه الرواية، التي قدّم من خلالها صورة حقيقية عن روما، وأظهر فيها خيبة أمله من الدورة التي أخذتها الحياة الإيطالية بعد التحرير، حيث يتناوب فيها السرد والملاحظة النقدية والتصوير الحقيقي لما يحدث داخل إيطاليا من خلال بطل القصة الذي يعمل صحفيًا، ويتورط مع العصابات التي تملأ العاصمة الإيطالية.
وكتاب «الكلمات هي الأحجار»، الذي نشر في عام 1955، ويصف فيه رحلته إلى صقلية وإدانة أخرى للوضع في الجنوب الإيطالي، والفساد الذي حلّ بها.
قدّم ليفي سلسلة أخرى من الأعمال الفنية استنادًا إلى رحلاته، كالرسومات، ومعرضًا فوتوغرافيًا لصور معبّرة عن تلك المعاناة في مدن إيطاليا الجنوبية، وهي موجودة حاليًا في متحف بلازو لانفرانكي بمدينة ماتيرا الإيطالية.
المدرسة الواقعية
الواقعية في الأدب تشترط الموضوعية في التصوير، وهذا لا يعني أن يكون الكاتب مصورًا فوتوغرافيًا، بل أن يكون مبدعًا يعيد إنتاج ما يحدث في صورة فنية أدبية جديدة وبأهداف اجتماعية محددة.
يقول مكسيم غوركي إنه «كلّما كانت تجربة الأديب واسعة كانت وجهة نظره أعمق، وكلما كان أفقه الذهني عريضًا وبعيدًا، كانت رؤيته أشمل لكل ما يحيط به».
فالمدرسة الواقعية تنطلق أولًا مما هو كائن، وليس مما يجب أن يكون، وتأخذ مثلها من الواقع ولا تفرض عليه. ولكنها أيضًا لم تقتصر على تجسيد ما هو كائن، وإنما تستوحي من شخوصها ما هو واجب، والهدف الفكري المنشود.
كانت الواقعية محل انتقاد كثيرين من الأدباء، وبالرغم من الازدهار الذي عرفته بعد الحرب العالمية الثانية، فقد اعتبر هؤلاء أن الأدب صناعة نخبوية وأناقة مفردات وإبحار في فضاءات لا حدود لها في الجمال والإبداع بمختلف مجالاته، وأنه لا يليق به أن يتحوّل إلى تصوير فوتوغرافي للواقع، على الشكل الذي فهمه ومارسه أنصار الواقعية.
وفي رأي هؤلاء أنه لا أدب إن لم يكن فيه ترقية للحياة والمجتمع، وتمجيد للقيَم العليا المحيطة بها. لكنّ الواقعية النقدية فرضت نفسها في إيطاليا، وأصبحت ضرورة واتجاهًا استوعبه الأدباء كنهج فنّي للتعبير عن معاناة المجتمع وإصلاحه.
من بين كتّاب الواقعية الجديــــدة في إيطاليا الشاعر سالفاتوري كواسيمودو، الحائز على جائزة نوبل عام 1959، والذي تبنّى أسلوبًا شعريًا جديدًا ملتزمًا بالواقعـــية، وقد نال إعجاب النقاد، ومثله كثيرون انجرفوا نحو الواقعية الاجتماعية، منهــم ألـــبرتو مورافيا الذي كان من أشد المعارضين للفاشية في أعماله، وانتقد فيها المجتمع الأرستقراطي، وفي روايته الأولى «زمن اللامبالاة» في عام 1929، التي تحتوي على لائحة اتهام لاذعة للطبقة المتوسطة عن اللامبالاة الأخلاقية، انتقد أنانيتها وقبولها السلبي بالحكم الفاشي في البلاد.
كما حازت روايته «السأم» جائزة فيارجيو، وهي أكبر جائزة أدبية في إيطاليا عام 1952، وتحولت الرواية إلى فيلم سينمائي.
وكتب الروائي كارلو برناري رواية عن الطبقات العاملة «ثلاثة عمال» عام 1934، وهي تقدّم صورًا حيّة ومؤثرة عن الطبقات العاملة في فلورنسا، كما كتب فاسكو براتوليني، وسيزار بافيس، وإيليو فيتوريني، وإيتالو كالفينو، وكورزيو مالابارتس، وكارلو إميليو جادا، وكارلو كاسولا، الذي قال عن نفسه: «إنني أعتبر نفسي كاتبًا واقعيًا، حيث إنني أحب الواقع، ولا أرغب في الهروب منه. وأنا على يقين بأن الكاتب عليه أن يجد حقيقة العصــر الذي يعيـــش فيه ويعــرضها للآخرين».
الواقعية الجديدة نمط أدبي ظهر في إيطاليا بزمن الحرب، لكنّه انتشر بشكل لافت في أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي.
قدّمت الواقعية صورًا مؤرقة وصوتًا أصيلًا لسرد قصة معركة بلد بأكمله من أجل إعادة نفسه، وقد أثبتت مكاسب أدبية واهتمامًا اجتماعيًا واسعًا، فلكل شعب قضية عظيمة الأهمية تبحث عمّن يسردها في صورة فنية إبداعية. ولا يوجد اتجاه آخر في الأدب العالمي بهذه القوة من التأثير الفكري والجمالي على عقول الأشخاص وقلوبهم كـ «الواقعية»■ .
ليفي في مرسمه