معركة وطن لاستعادة نفسه.. الواقعيّة الجديدة في الأدب الإيطالي

معركة وطن لاستعادة نفسه.. الواقعيّة الجديدة في الأدب الإيطالي

‮«‬الواقعية‭ ‬هي‭ ‬التصوير‭ ‬الموضوعي‭ ‬للواقع‮»‬،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬مكسيم‭ ‬غوركي‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬لمنهج‭ ‬الواقعية‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نادى‭ ‬به‭ ‬الأدباء‭ ‬الإيطاليون‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬اتجاه‭ ‬الأدب‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬لتصويرِه‭ ‬تصويرًا‭ ‬دقيقًا،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬والمغالاة‭ ‬في‭ ‬الرومانسية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬الإيطالية‭ ‬حتى‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تتوغل‭ ‬في‭ ‬الأوهام‭ ‬والأحلام،‭ ‬للهروب‭ ‬مما‭ ‬يحدث،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬خلق‭ ‬فجوة‭ ‬كبيرة‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬الأدب‭ ‬الإيطالي‭ ‬ارتبط‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬بأسماء‭ ‬وروائع‭ ‬خالدة،‭ ‬وكانت‭ ‬فيه‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬والرومانسية‭ ‬هما‭ ‬الاتجاهان‭ ‬السائدان‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإنساني،‭ ‬كملحمة‭ ‬الكوميديا‭ ‬الإلهية‭ ‬لدانتي‭ ‬الجييري،‭ ‬ورواية‭ ‬الديكاميرون‭ ‬لجيوفاني‭ ‬بوكاتشيو،‭ ‬وكتاب‭ ‬سرّي‭ ‬للغاية‭ ‬لبتراركا،‭ ‬وكتاب‭ ‬الأمير‭ ‬لميكافيللي،‭ ‬ورواية‭ ‬المخطوبون‭ ‬لمانزوني،‭ ‬فإنّه‭ ‬بعد‭ ‬احتلال‭ ‬القوات‭ ‬النازية‭ ‬شمال‭ ‬إيطاليا‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وسقوط‭ ‬المدن‭ ‬الإيطالية‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى،‭ ‬وقسوة‭ ‬الحياة‭ ‬خلال‭ ‬سنوات‭ ‬الحرب،‭ ‬وحالة‭ ‬الفوضى‭ ‬الجسدية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬حلّت‭ ‬بإيطاليا‭ ‬بأكملها،‭ ‬والتي‭ ‬جعلت‭ ‬الفقر‭ ‬والبطالة‭ ‬واليأس‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬هيأت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬لمرحلة‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وهي‭ ‬عصر‭ ‬‮«‬الواقعية‭ ‬الجديدة‮»‬‭.‬

ظهرت‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬والسينمائية‭ ‬الإيطالية‭ ‬الجديدة،‭ ‬نتيجة‭ ‬للمشاعر‭ ‬الحيّة‭ ‬والتجارب‭ ‬والقناعات‭ ‬الشديدة‭ ‬لمقاومة‭ ‬القمع‭ ‬الفاشي‭ ‬والحرب،‭ ‬والتي‭ ‬غرست‭ ‬في‭ ‬كتّابها‭ ‬الواعين‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬وسياسيًا‭ ‬سعيًا‭ ‬منهم‭ ‬للتعامل‭ ‬بشكل‭ ‬واقعي‭ ‬مع‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬الحرب،‭ ‬ومع‭ ‬المشاكل‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭. ‬

اعتمد‭ ‬النهج‭ ‬الواقعي‭ ‬الإيطالي‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬تصوير‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬هي،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الغيبيات‭ ‬والأشياء‭ ‬غير‭ ‬المحسوسة‭ ‬والتزييف‭ ‬والتضخيم،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يُقحم‭ ‬الكاتب‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬شخصيات‭ ‬الأدب‭ ‬الواقعي‭ ‬وموضوعاته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تؤخذ‭ ‬من‭ ‬الطبقتين‭ ‬الفقيرة‭ ‬والمتوسطة،‭ ‬ولا‭ ‬مكان‭ ‬للطبقة‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬بينهما‭.‬

‭ ‬وعليه‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬صوّره‭ ‬الأدب‭ ‬الواقعي‭ ‬هو‭ ‬قضايا‭ ‬شعبية،‭ ‬ونماذج‭ ‬إنسانية‭ ‬بسيطة‭ ‬لم‭ ‬يألفها‭ ‬الأدب‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬واتسم‭ ‬بروح‭ ‬النقد‭ ‬ورفض‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬إنساني،‭ ‬واهتم‭ ‬بتصوير‭ ‬تأثير‭ ‬الحروب‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬والإنسان،‭ ‬بهدف‭ ‬كشف‭ ‬أسراره‭ ‬وإظهار‭ ‬خفاياه،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬جديّة‭ ‬لتحليله،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تذهب‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬الحلول‭.‬

لذلك‭ ‬من‭ ‬الملاحظ‭ ‬على‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬الأدب،‭ ‬إبان‭ ‬نشأتها‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬بروز‭ ‬النظرة‭ ‬السوداوية‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬لتأثّرها‭ ‬بالظروف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬كظهور‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وانتشار‭ ‬النفعية‭ ‬والمصالح‭ ‬الفردية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.‬

 

كارلو‭ ‬ليفي

يعدّ‭ ‬الكاتب‭ ‬الإيطالي‭ ‬والرسام‭ ‬والصحفي‭ ‬السياسي‭ ‬كارلو‭ ‬ليفي‭ ‬أحد‭ ‬قادة‭ ‬الواقعيّة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الإيطالي،‭ ‬ولد‭ ‬ليفي‭ ‬في‭ ‬29‭ ‬نوفمبر‭ ‬1902،‭ ‬في‭ ‬تورينو‭ ‬بإيطاليا،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬في‭ ‬الطب‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬تورين‭ ‬الإيطالية،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يمارس‭ ‬الطب،‭ ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬اتجه‭ ‬إلى‭ ‬الرسم‭ ‬والكتابة‭ ‬الصحفية‭ ‬والأدبية‭. ‬وبسبب‭ ‬نشاطه‭ ‬المضاد‭ ‬للفاشية،‭ ‬تم‭ ‬نفيه‭ ‬عام‭ ‬1935‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬غاغليانو‭ ‬المعزولة‭ ‬بمقاطعة‭ ‬لوكانيا‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬الإيطالي‭.‬

عاش‭ ‬ليفي‭ ‬كسجين‭ ‬سياسي‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬وعمل‭ ‬أثناء‭ ‬نفيه‭ ‬طبيبًا‭ ‬للفلاحين،‭ ‬لمساعدة‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬الملاريا‭. ‬وقد‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬إيبولي،‭ ‬المدينة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وصدم‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬الذي‭ ‬واجهه،‭ ‬فالمزارعون‭ ‬المستأجرون‭ ‬يعيشون‭ ‬حياة‭ ‬مأساوية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توصف،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬قوله‭. ‬سجّل‭ ‬ليفي‭ ‬ملاحظاته‭ ‬الخاصة‭ ‬عن‭ ‬حياته‭ ‬وعن‭ ‬نضال‭ ‬القرويين‭ ‬اليومي‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬منعزل‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الحضارة‭ ‬وخارج‭ ‬الزمن،‭ ‬وقدّمها‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬فنية‭ ‬أدبية‭ ‬واعية‭ ‬عكست‭ ‬الحساسية‭ ‬البصرية‭ ‬للرسام‭ ‬والموضـــوعية‭ ‬الدقيقة‭ ‬للطبيب‭. ‬

في‭ ‬روايته‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬توقّف‭ ‬المسيح‭ ‬في‭ ‬إبولي‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1945،‭ ‬التي‭ ‬لقيت‭ ‬نجاحًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬تحدّث‭ ‬عن‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الفاشي‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وخلالها‭. ‬

الرواية‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬واقعي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬ليفي‭ ‬هو‭ ‬بطلها،‭ ‬جعل‭ ‬العالم‭ ‬يفهم‭ ‬وضع‭ ‬المناطق‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وسبب‭ ‬فرار‭ ‬الجنوب‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الشمال،‭ ‬وتجاهل‭ ‬الحكومة‭ ‬والمجتمع‭ ‬له‭. ‬الرواية‭ ‬مليئة‭ ‬بإيقاعات‭ ‬الحياة‭ ‬الريفية‭ ‬والأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬تركتهم‭ ‬بلادهم‭ ‬وراءها،‭ ‬ويشير‭ ‬ليفي‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬الذي‭ ‬سمعه‭ ‬مرارًا‭ ‬وتكرارًا‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬‮«‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬إبولي‭ ‬تم‭ ‬تجاوزه،‭ ‬هو‭ ‬مكان‭ ‬انقطع‭ ‬عن‭ ‬التاريخ‭ ‬والدولة‮»‬‭.‬

وبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬ليفي،‭ ‬يُعد‭ ‬‮«‬التذمر‭ ‬الجنوبي‮»‬‭ ‬على‭ ‬أصحاب‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬أيضًا‭ ‬تساؤلًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يمتلكون‭ ‬السلطة،‭ ‬وأولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يمكنهم‭ ‬حتى‭ ‬تخيّل‭ ‬ممارستها‭. ‬

وصف‭ ‬الناقد‭ ‬الإيطالي‭ ‬باولو‭ ‬ميلانو‭ ‬العمل‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬مذكرات،‭ ‬وألبوم‭ ‬صور،‭ ‬ورواية،‭ ‬ودراسة‭ ‬اجتماعية‭ ‬ومقال‭ ‬سياسي‭ ‬ودراسة‭ ‬سيكولوجية،‭ ‬كتبت‭ ‬بنظرة‭ ‬ذكية‭ ‬عن‭ ‬معضلة‭ ‬إيطاليا‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الجنوب،‭ ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬ليفي‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬تعيش‭ ‬داخل‭ ‬الكهوف‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬بدائية‭ ‬‮«‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثقوب‭ ‬المظلمة،‭ ‬رأيت‭ ‬بضع‭ ‬قطع‭ ‬الملابس‭ ‬الممزقة‭ ‬المعلّقة‭ ‬لتجفّ‭. ‬على‭ ‬الباب‭ ‬الكلاب‭ ‬والأغنام‭ ‬والماعز‭ ‬والخنازير‭. ‬معظم‭ ‬الأسر‭ ‬لديها‭ ‬كهف‭ ‬ضيق‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬للعيش‭ ‬هناك،‭ ‬وينام‭ ‬فيه‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬والأطفال‭ ‬والحيوانات‭ ‬معًا‮»‬‭.‬

وصف‭ ‬كارلو‭ ‬ليفي‭ ‬القرية‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬صغيرة‭ ‬مليئة‭ ‬بالمرض‭ ‬والبؤس،‭ ‬وعار‭ ‬على‭ ‬إيطاليا‮»‬،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تمّت‭ ‬ترجمة‭ ‬رواية‭ ‬ليفي‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬لغة‭ ‬مختلفة‭. ‬يشير‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أخبره‭ ‬به‭ ‬الفلاحون‭ ‬عن‭ ‬حياتهم‭ ‬‮«‬نحن‭ ‬لسنا‭ ‬مسيحيين‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقولون‭ ‬‮«‬المسيح‭ ‬توقّف‭ ‬هنا،‭ ‬في‭ ‬إبولي‮»‬،‭ ‬في‭ ‬اشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬أي‭ ‬مَعلَم‭ ‬أو‭ ‬حضارة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭. ‬فلم‭ ‬يأتِ‭ ‬المسيح‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬أبدًا،‭ ‬ولا‭ ‬الوقت،‭ ‬ولا‭ ‬الأمل،‭ ‬ولا‭ ‬العقل‭ ‬ولا‭ ‬التاريخ،‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬المسيح‭ ‬أبدًا،‭ ‬تمامًا‭ ‬مثلما‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬الرومان‭ ‬أبدًا‭.‬

شارك‭ ‬ليفي‭ ‬في‭ ‬المقاومة،‭ ‬وانضم‭ ‬إلى‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية‭ ‬لحركة‭ ‬التحرير‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬توسكانا،‭ ‬واستمر‭ ‬نشاطه‭ ‬الأدبي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬بشكل‭ ‬مثمر،‭ ‬وطالب‭ ‬بنظام‭ ‬جديد‭ ‬يسمح‭ ‬فيه‭ ‬للجنوب‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬روما‭. ‬وكتب‭ ‬ليفي‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقالاته‭ ‬‮«‬الفرد‭ ‬والدولة‭ ‬يتزامنان‭ ‬نظريًا،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬نجعلهما‭ ‬يتزامنان‭ ‬عمليًا‭ ‬إذا‭ ‬أرادوا‭ ‬الحياة‮»‬‭.‬

‭ ‬كتب‭ ‬ليفي‭ ‬أعمالًا‭ ‬أخرى‭ ‬مهمة،‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الاتجاه،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الخوف‭ ‬والحريّة‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬شجب‭ ‬فيه‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬الطبقات‭ ‬واستغلال‭ ‬الطبقات‭ ‬الدنيا‭ ‬والصراع‭ ‬بين‭ ‬الفلاحين‭ ‬والأرستقراطيين،‭ ‬ونادى‭ ‬بأهمية‭ ‬الحرية‭ ‬ومحاربة‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الفكري‭.‬

وفي‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬الساعة‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1950،‭ ‬كانت‭ ‬روما‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬موضوع‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬التي‭ ‬قدّم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬صورة‭ ‬حقيقية‭  ‬عن‭ ‬روما،‭ ‬وأظهر‭ ‬فيها‭ ‬خيبة‭ ‬أمله‭ ‬من‭ ‬الدورة‭ ‬التي‭ ‬أخذتها‭ ‬الحياة‭ ‬الإيطالية‭ ‬بعد‭ ‬التحرير،‭ ‬حيث‭ ‬يتناوب‭ ‬فيها‭ ‬السرد‭ ‬والملاحظة‭ ‬النقدية‭ ‬والتصوير‭ ‬الحقيقي‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬داخل‭ ‬إيطاليا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬صحفيًا،‭ ‬ويتورط‭ ‬مع‭ ‬العصابات‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬العاصمة‭ ‬الإيطالية‭.‬

وكتاب‭ ‬‮«‬الكلمات‭ ‬هي‭ ‬الأحجار‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1955،‭ ‬ويصف‭ ‬فيه‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬صقلية‭ ‬وإدانة‭ ‬أخرى‭ ‬للوضع‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬الإيطالي،‭ ‬والفساد‭ ‬الذي‭ ‬حلّ‭ ‬بها‭. ‬

قدّم‭ ‬ليفي‭ ‬سلسلة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬استنادًا‭ ‬إلى‭ ‬رحلاته،‭ ‬كالرسومات،‭ ‬ومعرضًا‭ ‬فوتوغرافيًا‭ ‬لصور‭ ‬معبّرة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المعاناة‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬إيطاليا‭ ‬الجنوبية،‭ ‬وهي‭ ‬موجودة‭ ‬حاليًا‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬بلازو‭ ‬لانفرانكي‭ ‬بمدينة‭ ‬ماتيرا‭ ‬الإيطالية‭.‬

 

المدرسة‭ ‬الواقعية

الواقعية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬تشترط‭ ‬الموضوعية‭ ‬في‭ ‬التصوير،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الكاتب‭ ‬مصورًا‭ ‬فوتوغرافيًا،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مبدعًا‭ ‬يعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬فنية‭ ‬أدبية‭ ‬جديدة‭ ‬وبأهداف‭ ‬اجتماعية‭ ‬محددة‭.‬

يقول‭ ‬مكسيم‭ ‬غوركي‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬كلّما‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬الأديب‭ ‬واسعة‭ ‬كانت‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬أعمق،‭ ‬وكلما‭ ‬كان‭ ‬أفقه‭ ‬الذهني‭ ‬عريضًا‭ ‬وبعيدًا،‭ ‬كانت‭ ‬رؤيته‭ ‬أشمل‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬به‮»‬‭.‬

فالمدرسة‭ ‬الواقعية‭ ‬تنطلق‭ ‬أولًا‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬كائن،‭ ‬وليس‭ ‬مما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬وتأخذ‭ ‬مثلها‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬ولا‭ ‬تفرض‭ ‬عليه‭. ‬ولكنها‭ ‬أيضًا‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬تجسيد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬كائن،‭ ‬وإنما‭ ‬تستوحي‭ ‬من‭ ‬شخوصها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬واجب،‭ ‬والهدف‭ ‬الفكري‭ ‬المنشود‭. ‬

كانت‭ ‬الواقعية‭ ‬محل‭ ‬انتقاد‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬الأدباء،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬الازدهار‭ ‬الذي‭ ‬عرفته‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬فقد‭ ‬اعتبر‭ ‬هؤلاء‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬صناعة‭ ‬نخبوية‭ ‬وأناقة‭ ‬مفردات‭ ‬وإبحار‭ ‬في‭ ‬فضاءات‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الجمال‭ ‬والإبداع‭ ‬بمختلف‭ ‬مجالاته،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬فوتوغرافي‭ ‬للواقع،‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬فهمه‭ ‬ومارسه‭ ‬أنصار‭ ‬الواقعية‭.‬

وفي‭ ‬رأي‭ ‬هؤلاء‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬أدب‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيه‭ ‬ترقية‭ ‬للحياة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬وتمجيد‭ ‬للقيَم‭ ‬العليا‭ ‬المحيطة‭ ‬بها‭. ‬لكنّ‭ ‬الواقعية‭ ‬النقدية‭ ‬فرضت‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وأصبحت‭ ‬ضرورة‭ ‬واتجاهًا‭ ‬استوعبه‭ ‬الأدباء‭ ‬كنهج‭ ‬فنّي‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬المجتمع‭ ‬وإصلاحه‭.‬

‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كتّاب‭ ‬الواقعية‭ ‬الجديــــدة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬الشاعر‭ ‬سالفاتوري‭ ‬كواسيمودو،‭ ‬الحائز‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬عام‭ ‬1959،‭ ‬والذي‭ ‬تبنّى‭ ‬أسلوبًا‭ ‬شعريًا‭ ‬جديدًا‭ ‬ملتزمًا‭ ‬بالواقعـــية،‭ ‬وقد‭ ‬نال‭ ‬إعجاب‭ ‬النقاد،‭ ‬ومثله‭ ‬كثيرون‭ ‬انجرفوا‭ ‬نحو‭ ‬الواقعية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬منهــم‭ ‬ألـــبرتو‭ ‬مورافيا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬المعارضين‭ ‬للفاشية‭ ‬في‭ ‬أعماله،‭ ‬وانتقد‭ ‬فيها‭ ‬المجتمع‭ ‬الأرستقراطي،‭ ‬وفي‭ ‬روايته‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬اللامبالاة‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬التي‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬اتهام‭ ‬لاذعة‭ ‬للطبقة‭ ‬المتوسطة‭ ‬عن‭ ‬اللامبالاة‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬انتقد‭ ‬أنانيتها‭ ‬وقبولها‭ ‬السلبي‭ ‬بالحكم‭ ‬الفاشي‭ ‬في‭ ‬البلاد‭.‬

كما‭ ‬حازت‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬السأم‮»‬‭ ‬جائزة‭ ‬فيارجيو،‭ ‬وهي‭ ‬أكبر‭ ‬جائزة‭ ‬أدبية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬عام‭ ‬1952،‭ ‬وتحولت‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬سينمائي‭. ‬

وكتب‭ ‬الروائي‭ ‬كارلو‭ ‬برناري‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬الطبقات‭ ‬العاملة‭ ‬‮«‬ثلاثة‭ ‬عمال‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1934،‭ ‬وهي‭ ‬تقدّم‭ ‬صورًا‭ ‬حيّة‭ ‬ومؤثرة‭ ‬عن‭ ‬الطبقات‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬فلورنسا،‭ ‬كما‭ ‬كتب‭ ‬فاسكو‭ ‬براتوليني،‭ ‬وسيزار‭ ‬بافيس،‭ ‬وإيليو‭ ‬فيتوريني،‭ ‬وإيتالو‭ ‬كالفينو،‭ ‬وكورزيو‭ ‬مالابارتس،‭ ‬وكارلو‭ ‬إميليو‭ ‬جادا،‭ ‬وكارلو‭ ‬كاسولا،‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬إنني‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬كاتبًا‭ ‬واقعيًا،‭ ‬حيث‭ ‬إنني‭ ‬أحب‭ ‬الواقع،‭ ‬ولا‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬الهروب‭ ‬منه‭. ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬بأن‭ ‬الكاتب‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬حقيقة‭ ‬العصــر‭ ‬الذي‭ ‬يعيـــش‭ ‬فيه‭ ‬ويعــرضها‭ ‬للآخرين‮»‬‭.‬

‭ ‬الواقعية‭ ‬الجديدة‭ ‬نمط‭ ‬أدبي‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬بزمن‭ ‬الحرب،‭ ‬لكنّه‭ ‬انتشر‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬أربعينيات‭ ‬وأوائل‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬

قدّمت‭ ‬الواقعية‭ ‬صورًا‭ ‬مؤرقة‭ ‬وصوتًا‭ ‬أصيلًا‭ ‬لسرد‭ ‬قصة‭ ‬معركة‭ ‬بلد‭ ‬بأكمله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعادة‭ ‬نفسه،‭ ‬وقد‭ ‬أثبتت‭ ‬مكاسب‭ ‬أدبية‭ ‬واهتمامًا‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬واسعًا،‭ ‬فلكل‭ ‬شعب‭ ‬قضية‭ ‬عظيمة‭ ‬الأهمية‭ ‬تبحث‭ ‬عمّن‭ ‬يسردها‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬فنية‭ ‬إبداعية‭. ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬اتجاه‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭ ‬بهذه‭ ‬القوة‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬الفكري‭ ‬والجمالي‭ ‬على‭ ‬عقول‭ ‬الأشخاص‭ ‬وقلوبهم‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬الواقعية‮»■‬‭ .

 

ليفي‭ ‬في‭ ‬مرسمه