بغداد ومنعطفات التاريخ

بغداد ومنعطفات التاريخ

هل‭ ‬كُتب‭ ‬على‭ ‬بغداد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مركز‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ومنها‭ ‬انطلق‭ ‬الإشعاع‭ ‬العلمي‭ ‬ليعمّ‭ ‬ربوع‭ ‬العالم،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬بغداد‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تنبثق‭ ‬منها‭ ‬الويلات‭ ‬لتصبَّ‭ ‬غضبها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ربع‭ ‬من‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي؟‭ ‬هل‭ ‬يحلو‭ ‬للتاريخ‭ ‬أن‭ ‬يداهنها‭ ‬بمكره‭ ‬ويعيد‭ ‬فيها‭ ‬نفسه‭ ‬مرات‭ ‬ومرات؟‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬محتومًا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الأخطاء‭ ‬السياسية‭ ‬غير‭ ‬المحسوبة‭ ‬العواقب‭ ‬والتهور‭ ‬القاتل‭ ‬سببًا‭ ‬لكل‭ ‬الويلات‭ ‬التي‭ ‬عاشتها‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬وانتشرت‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬ربوع‭ ‬الوطن‭ ‬العربي؛‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬إلى‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي؟

لن‭ ‬نستعرض‭ ‬كل‭ ‬الويلات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بغداد‭ ‬مسرحًا‭ ‬لها،‭ ‬لكننا‭ ‬سنركز‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬فبراير‭ ‬1258م،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬بسبب‭ ‬الرعونة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تمخضت‭ ‬عواقبها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬جرحًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬انعطف‭ ‬فيه‭ ‬التاريخ‭ ‬وحكم‭ ‬وفصل‭ ‬في‭ ‬مصائر‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬التي‭ ‬انحشر‭ ‬أغلبها‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬طويل‭ ‬ومظلم‭ ‬لعدة‭ ‬قرون‭. ‬

إن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬قد‭ ‬بصم‭ ‬على‭ ‬تاريخنا‭ ‬بالأحمر‭ ‬القاني‭ ‬والأسود‭ ‬القاتم،‭ ‬وحمل‭ ‬إلينا‭ ‬أعظم‭ ‬كارثة‭ ‬إنسانية‭ ‬وحضارية‭ ‬نزلت‭ ‬بنا‭ ‬منذ‭ ‬سبعة‭ ‬قرون‭ ‬ونيف،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تُنُوسيَ‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬وبلغ‭ ‬إهمال‭ ‬دروس‭ ‬التاريخ‭  ‬بالبعض‭ ‬درجة‭ ‬جعلته‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬استرجاع‭ ‬ما‭ ‬مرّ‭ ‬بأمتنا‭ ‬خيرًا‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬شرًّا‭ ‬لأخذ‭ ‬العبرة‭. ‬فهل‭ ‬صار‭ ‬لا‭ ‬شعور‭ ‬بعض‭ ‬‮«‬الزعماء‮»‬‭ ‬يوحي‭ ‬لهم‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬أنهم‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مكر‭ ‬التاريخ؟‭ ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬فبراير‭ ‬عام‭ ‬1258م‭ ‬يومًا‭ ‬عاديًا،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ظرفًا‭ ‬انطبقت‭ ‬فيه‭ ‬فكّا‭ ‬الكارثة‭ ‬على‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬بأسرها،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مكان‭ ‬انبثاق‭ ‬المصيبة‭ ‬العظمى‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين‭.‬

 

يوم‭ ‬سقوط‭ ‬بغداد

يوم‭ ‬سقوط‭ ‬بغداد‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬المغول‭.. ‬كان‭ ‬ذاك‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬قصدناه‭... ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬فيه‭ ‬حدثًا‭ ‬عابرًا،‭ ‬ولا‭ ‬يضاهيه‭ ‬إلا‭ ‬سقوط‭ ‬الأندلس‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بقرون‭. ‬لذلك‭ ‬حبّر‭ ‬المؤرخون‭ ‬والشعراء‭ ‬ما‭ ‬خلّد‭ ‬المأساة‭ ‬ورسخها‭ ‬في‭ ‬بطون‭ ‬الأسفار‭. ‬فقد‭ ‬تناول‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬صفوة‭ ‬المؤرخين‭ ‬غزو‭ ‬المغول‭ ‬لبغداد‭ ‬وتخريبها‭ ‬وتقتيل‭ ‬أهلها‭ ‬وطمس‭ ‬معالمها‭ ‬الحضارية‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الثقاة‭ ‬الذين‭ ‬يعتدّ‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬ابن‭ ‬كثير‭ ‬وابن‭ ‬تغري‭ ‬وجلال‭ ‬الدين‭ ‬السيوطي‭ ‬وشمس‭ ‬الدين‭ ‬الذهبي‭ ‬وابن‭ ‬شاكر‭ ‬الكتبي‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثير،‭ ‬وكلهم‭ ‬يؤكدون‭ ‬أن‭ ‬الكارثة‭ ‬الكبرى‭ ‬كانت‭ ‬وليدة‭ ‬الخيانة‭ ‬العظمى‭. ‬

وانطلاقًا‭ ‬مما‭ ‬كتبه‭ ‬هؤلاء‭ ‬المؤرخون،‭ ‬نلمس‭ ‬حجم‭ ‬خيانة‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬العلقمي،‭ ‬وزير‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي‭ ‬المستعصم‭ ‬بالله‭ ‬الموسوم‭ ‬بالرعونة‭ ‬والسذاجة‭ ‬والضعف،‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬أسرار‭ ‬الدولة‭ ‬وشؤونها‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬ابن‭ ‬العلقمي،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يتصرف‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأمور‭ ‬حسب‭ ‬ميولاته‭ ‬وأطماعه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬طموح‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬الحكم،‭ ‬ولما‭ ‬لمس‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬عجزًا‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬بمفرده،‭ ‬عمد‭ ‬أولًا‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬الجيش‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الجنود‭ ‬كانوا‭ ‬يقبلون‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬السُّخرة‭ ‬المُهينة‭ ‬ليوّفروا‭ ‬أقوات‭ ‬أسرهم،‭ ‬فخبت‭ ‬في‭ ‬أنفسهم‭ ‬روح‭ ‬الحماسة‭ ‬ونوازع‭ ‬الوطنية‭ ‬والغيرة‭ ‬على‭ ‬الأمة‭. ‬ولقد‭ ‬تمادى‭ ‬ابن‭ ‬العلقمي‭ ‬في‭ ‬إلهاء‭ ‬الخليفة‭ ‬وجعله‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬درب‭ ‬التهلكة‭ ‬الذي‭ ‬رسمه‭ ‬له‭ ‬بإحكام،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بحث‭ ‬عمّن‭ ‬يستقوي‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬وأنصاره،‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬سوى‭ ‬المغول‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬السطوة‭ ‬الكبرى‭ ‬والطغيان‭ ‬الأعظم‭ ‬الذي‭ ‬تجلّى‭ ‬في‭ ‬سيطرتهم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬غزوها‭ ‬في‭ ‬سهولة‭ ‬ويسر،‭ ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬يعلم‭ ‬مقدار‭ ‬وحشيّتهم‭ ‬العظيمة،‭ ‬وقساوتهم‭ ‬الفريدة،‭ ‬وتنكيلهم‭ ‬الفظيع‭ ‬بالأوطان‭ ‬التي‭ ‬احتلوها،‭ ‬فإنّه‭ ‬لم‭ ‬يتورع‭ ‬عن‭ ‬الاتصال‭ ‬بهولاكو‭ ‬لما‭ ‬وجده‭ ‬من‭ ‬هوى‭ ‬لديه‭ ‬في‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬التوسّع،‭ ‬فصار‭ ‬يكاتبه‭ ‬ويحفّزه‭ ‬ويغريه‭ ‬بغزو‭ ‬بغداد‭ ‬عاصمة‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية،‭ ‬مستعينًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بنصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬المقرّب‭ ‬من‭ ‬هولاكو،‭ ‬والذي‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬إقناعه‭ ‬بذلك‭ ‬الغزو،‭ ‬فظلّ‭ ‬يحثّه‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬حتى‭ ‬لبّى‭ ‬رغبته،‭ ‬وتحققت‭ ‬أمنية‭ ‬صديقه‭ ‬ابن‭ ‬العلقمي،‭ ‬فدخل‭ ‬المغول‭ ‬بسهولة‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬وخربوها‭. ‬ولقد‭ ‬ظنّ‭ ‬ابن‭ ‬العلقمي‭ ‬أن‭ ‬المغول‭ ‬سيمكّنونه‭ ‬من‭ ‬حظوة‭ ‬عندهم‭ ‬بعد‭ ‬الغزو،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يتأتَّ‭ ‬له،‭ ‬لأنّ‭ ‬هولاكو‭ ‬تخلّص‭ ‬منه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬لأنه‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الخونة‭ ‬لا‭ ‬ولاء‭ ‬لهم‭.‬

 

فظائع‭ ‬هولاكو‭ ‬وجرائمه

لنعد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬تاريخنا‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭. ‬فبعد‭ ‬دخول‭ ‬المغول‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬وقتلهم‭ ‬الخليفة‭ ‬المستعصم‭ ‬وكل‭ ‬الأمراء‭ ‬العباسيين‭ ‬رفسًا‭ ‬بالأرجل،‭ ‬عاثوا‭ ‬فسادًا‭ ‬في‭ ‬أرضها،‭ ‬ونشروا‭ ‬الرعب‭ ‬في‭ ‬ربوعها،‭ ‬وفعلوا‭ ‬بأهلها‭ ‬ما‭ ‬عجز‭ ‬المؤرخون‭ ‬عن‭ ‬وصفه،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬القتل‭ ‬استمر‭ ‬أسابيع‭ ‬عديدة،‭ ‬ولم‭ ‬ينجُ‭ ‬إلّا‭ ‬الهاربون‭ ‬والمختفون‭ ‬عن‭ ‬الأنظار‭ ‬في‭ ‬المغارات‭ ‬والمطامير‭ ‬والأنفاق‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬الجرائم‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬هولاكو‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬المقدسات‭ ‬فأعظِمْ‭ ‬بها‭ ‬وأكْبِرْ،‭ ‬فقد‭ ‬أمر‭ ‬بإراقة‭ ‬دنان‭ ‬الخمور‭ ‬في‭ ‬المساجد،‭ ‬ومنع‭ ‬رفع‭ ‬الأذان‭ ‬على‭ ‬المآذن‭ ‬التي‭ ‬عمد‭ ‬جنوده‭ ‬إلى‭ ‬تحطيمها‭ ‬ونزع‭ ‬جواميرها‭ ‬ظنًّا‭ ‬منهم‭ ‬أنها‭ ‬مصنوعة‭ ‬من‭ ‬الذهب،‭ ‬وأرغموا‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬شرب‭ ‬الخمر‭ ‬وأكل‭ ‬لحم‭ ‬الخنزير‭ ‬واقتراف‭ ‬المحرمات‭. ‬وقد‭ ‬ساهم‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إذاعة‭ ‬الفواحش‭ ‬واستشراء‭ ‬المناكر،‭ ‬واستباحة‭ ‬المحرمات‭ ‬بأنواعها‭ ‬وضروبها‭ ‬وأشكالها‭. ‬أما‭ ‬نهب‭ ‬الأموال،‭ ‬وغصب‭ ‬الممتلكات،‭ ‬وهتك‭ ‬الأعراض،‭ ‬فلا‭ ‬تسَل‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬استفحالها‭ ‬وتفشّيها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭. ‬

كان‭ ‬غباء‭ ‬المستعصم‭ ‬واستهتاره‭ ‬واستهانته‭ ‬بالمغول‭ ‬صفاقة‭ ‬خطيرة،‭ ‬أما‭ ‬جريمة‭ ‬ابن‭ ‬العلقمي‭ ‬وأنصاره‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬مغامرة‭ ‬مجنونة،‭ ‬لكنّها‭ ‬غير‭ ‬محمودة‭ ‬العواقب،‭ ‬لأنّ‭ ‬الجميع‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬المغول‭ ‬مجبولون‭ ‬على‭ ‬التعطش‭ ‬إلى‭ ‬سفك‭ ‬الدماء،‭ ‬وكل‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬غزوها‭ ‬تركوها‭ ‬بلاقع‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الحياة‭. ‬وهكذا‭ ‬استدعوا‭ ‬الموت‭ ‬إلى‭ ‬ديار‭ ‬الإسلام،‭ ‬وكان‭ ‬بالإمكان‭ ‬ردّ‭ ‬المغول‭ ‬على‭ ‬أعقابهم‭ ‬لو‭ ‬تضافرت‭ ‬الجهود‭ ‬وتوحدت‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الكفاح‭ ‬ضد‭ ‬الأعداء،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تعيشه‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬من‭ ‬فساد‭ ‬مستشرٍ‭ ‬تسبّب‭ ‬في‭ ‬نخرها‭ ‬وضعفها،‭ ‬وشجع‭ ‬المغول‭ ‬على‭ ‬التطاول‭ ‬عليها‭ ‬وإزالتها‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬

 

انهيار‭ ‬الحضارة

ولعلّ‭ ‬أكبر‭ ‬خطب‭ ‬نزل‭ ‬بالمسلمين،‭ ‬وأعظم‭ ‬مصيبة‭ ‬ضربت‭ ‬عمق‭ ‬كيانهم،‭ ‬لا‭ ‬يتجلّى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تكبّده‭ ‬إخوانهم‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬من‭ ‬خسائر‭ ‬في‭ ‬الأرواح‭ ‬والممتلكات‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬الانهيار‭ ‬الذي‭ ‬حاق‭ ‬بالحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شمسها‭ ‬قد‭ ‬عمّت‭ ‬بلاد‭ ‬الغرب،‭ ‬وسطعت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بقاعها‭. ‬فبعدما‭ ‬أنهى‭ ‬هولاكو‭ ‬مذبحة‭ ‬البشر،‭ ‬وخرب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أسس‭ ‬على‭ ‬الحجر،‭ ‬قام‭ ‬بأكبر‭ ‬مجزرة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬تلك‭ ‬كانت‭ ‬مجزرة‭ ‬الكتب‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الخليفة‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬مولعًا‭ ‬بالعلم‭ ‬والفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬والأدب،‭ ‬وكرس‭ ‬لذلك‭ ‬جهودًا‭ ‬عظيمة،‭ ‬وأضاف‭ ‬إلى‭ ‬منجزات‭ ‬أبي‭ ‬جعفر‭ ‬المنصور‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير،‭ ‬واستمر‭ ‬ذلك‭ ‬وازدهر‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬ثم‭ ‬المتوكّل،‭ ‬وتجلّى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬بيت‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬دار‭ ‬العلوم‭ ‬ومركز‭ ‬النور‭ ‬والتنوير،‭ ‬فازدهر‭ ‬الطب‭ ‬والفلك‭ ‬والرياضيات‭ ‬والهندسة‭ ‬والأدب‭ ‬والفنون‭ ‬والفلسفة‭ ‬والفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬والفقه‭ ‬والتفسير‭ ‬وعلم‭ ‬الأصول‭ ‬والحديث‭ ‬وعلم‭ ‬الميراث‭ ‬والعلوم‭ ‬اللغوية‭ ‬والشرعية‭... ‬كما‭ ‬عرفت‭ ‬الترجمة‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬اليوناني‭ ‬وغيره‭ ‬نشاطًا‭ ‬كبيرًا‭. ‬وساهم‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬حضارة‭ ‬عربية‭ ‬أساسها‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون‭ ‬والآداب،‭ ‬استفادت‭ ‬منها‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض‭ ‬بمختلف‭ ‬أجناسها،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬أوربا‭ ‬خاملة‭ ‬باهتة‭ ‬الذكر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الميادين‭.‬

 

دماء‭ ‬وأحبار‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬دحلة

لقد‭ ‬عمد‭ ‬هولاكو‭ ‬بعد‭ ‬دخوله‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬إلقاء‭ ‬آلاف‭ ‬كتب‭ ‬بيت‭ ‬الحكمة‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭ ‬الذي‭ ‬تحوّلت‭ ‬مياهه‭ ‬إلى‭ ‬اللون‭ ‬الأسود‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬ترسّب‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬حبر‭ ‬الكتب،‭ ‬وخالطه‭ ‬اللون‭ ‬الأحمر‭ ‬لكثرة‭ ‬الدماء‭ ‬المُراقة‭ ‬على‭ ‬الضفتين‭. ‬أما‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬نفائس‭ ‬الكتب،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬علم‭ ‬الفلك،‭ ‬فقد‭ ‬نقلها‭ ‬نصير‭ ‬الدين‭ ‬الطوسي‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬مراغة‭ ‬التي‭ ‬أسّس‭ ‬بها‭ ‬مرصدًا‭ ‬فلكيًّا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬بينما‭ ‬احتفظ‭ ‬المغول‭ ‬بالكتب‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬باعوها‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬التي‭ ‬استغلتها‭ ‬في‭ ‬بلوغ‭ ‬نهضتها‭ ‬التي‭ ‬انطلق‭ ‬إشعاعها‭ ‬وعمّ‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬غزو‭ ‬بغداد‭ ‬غزوًا‭ ‬عاديًا،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬نقطة‭ ‬الفصل‭ ‬في‭ ‬مصير‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬كُتب‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تنهار‭ ‬بصورة‭ ‬مأساوية‭. ‬ولم‭ ‬يؤثر‭ ‬الغزو‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية‭ ‬محليًّا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬مهّد‭ ‬الطريق‭ ‬لدخول‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬مظلمة،‭ ‬أشبه‭ ‬بنفق‭ ‬طويل‭ ‬استمر‭ ‬امتداده‭ ‬وتعقّدت‭ ‬منعرجاته‭ ‬وتعددت‭ ‬تبعاته‭. ‬إنه‭ ‬وضع‭ ‬كارثي‭ ‬توّج‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بمطبّات‭ ‬تاريخية‭ ‬متعددة‭ ‬أوصلت‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الانحطاط‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال،‭ ‬ليتوّج‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬بسقوط‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وتقسيم‭ ‬تركتها‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬نشاط‭ ‬الحركات‭ ‬الإمبريالية‭. ‬

 

دروس‭ ‬وعِبَر

إذا‭ ‬تمعّنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المصائب‭ ‬الطاحنة‭ ‬التي‭ ‬أناخت‭ ‬علينا‭ ‬بكلكلها،‭ ‬فحتمًا‭ ‬ستعود‭ ‬بنا‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬دخول‭ ‬هولاكو‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬وهدم‭ ‬صرح‭ ‬حضارة‭ ‬كانت‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬دواليب‭ ‬الحياة‭ ‬الفكرية‭ ‬والعلمية‭ ‬والفنية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المعمور‭ ‬آنذاك‭. ‬

لن‭ ‬نستطيع‭ ‬استرجاع‭ ‬الزمان‭ ‬وإصلاح‭ ‬أعطابه،‭ ‬لكنّنا‭ ‬نملك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬عِبَر‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬شظاياه‭ ‬تترى‭ ‬على‭ ‬ساحتنا‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬الشروط‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬هزائمنا‭ ‬حاضرة‭ ‬بين‭ ‬أيدينا،‭ ‬ومطلوب‭ ‬ألّا‭ ‬نستمر‭ ‬في‭ ‬تكريس‭ ‬الأخطاء‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬بنا‭ ‬يومًا‭. ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نستذكر‭ ‬العلل‭ ‬التي‭ ‬بصمت‭ ‬بالقار‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬حياة‭ ‬أمتنا،‭ ‬فنتجنب‭ ‬مثيلات‭ ‬لها‭ ‬كثيرات‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تراوغ‭ ‬غفلتنا‭ ‬وركوننا‭ ‬إلى‭ ‬التجاهل‭ ‬والرعونة‭ ‬والتهور‭... ‬وما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بالبارحة■