بغداد ومنعطفات التاريخ
هل كُتب على بغداد التي كانت مركز الحضارة العربية الإسلامية، ومنها انطلق الإشعاع العلمي ليعمّ ربوع العالم، أن تكون هي بغداد نفسها التي تنبثق منها الويلات لتصبَّ غضبها على كل ربع من الوطن العربي الإسلامي؟ هل يحلو للتاريخ أن يداهنها بمكره ويعيد فيها نفسه مرات ومرات؟ وهل كان محتومًا أن تكون الأخطاء السياسية غير المحسوبة العواقب والتهور القاتل سببًا لكل الويلات التي عاشتها هذه المدينة وانتشرت منها إلى بقية ربوع الوطن العربي؛ ابتداء من العصر العباسي إلى عصرنا الحالي؟
لن نستعرض كل الويلات التي كانت بغداد مسرحًا لها، لكننا سنركز على ما وقع في العاشر من فبراير 1258م، والذي كان بسبب الرعونة السياسية التي تمخضت عواقبها في ذلك اليوم الذي صار جرحًا كبيرًا انعطف فيه التاريخ وحكم وفصل في مصائر البلدان العربية والإسلامية التي انحشر أغلبها في نفق طويل ومظلم لعدة قرون.
إن ما حدث في ذلك اليوم قد بصم على تاريخنا بالأحمر القاني والأسود القاتم، وحمل إلينا أعظم كارثة إنسانية وحضارية نزلت بنا منذ سبعة قرون ونيف، ومع ذلك تُنُوسيَ ما حدث، وبلغ إهمال دروس التاريخ بالبعض درجة جعلته لا يستطيع استرجاع ما مرّ بأمتنا خيرًا كان أو شرًّا لأخذ العبرة. فهل صار لا شعور بعض «الزعماء» يوحي لهم على الدوام أنهم أكبر من مكر التاريخ؟
لم يكن العاشر من فبراير عام 1258م يومًا عاديًا، بل كان ظرفًا انطبقت فيه فكّا الكارثة على البلدان العربية بأسرها، وإن كان مكان انبثاق المصيبة العظمى لا يتجاوز بلاد الرافدين.
يوم سقوط بغداد
يوم سقوط بغداد في يد المغول.. كان ذاك هو اليوم الذي قصدناه... لم يكن ما وقع فيه حدثًا عابرًا، ولا يضاهيه إلا سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون. لذلك حبّر المؤرخون والشعراء ما خلّد المأساة ورسخها في بطون الأسفار. فقد تناول كثير من صفوة المؤرخين غزو المغول لبغداد وتخريبها وتقتيل أهلها وطمس معالمها الحضارية. ومن بين الثقاة الذين يعتدّ بهم في هذا المجال ابن كثير وابن تغري وجلال الدين السيوطي وشمس الدين الذهبي وابن شاكر الكتبي وغيرهم كثير، وكلهم يؤكدون أن الكارثة الكبرى كانت وليدة الخيانة العظمى.
وانطلاقًا مما كتبه هؤلاء المؤرخون، نلمس حجم خيانة محمد بن أحمد بن علي العلقمي، وزير الخليفة العباسي المستعصم بالله الموسوم بالرعونة والسذاجة والضعف، الذي وضع أسرار الدولة وشؤونها بين يدي ابن العلقمي، مما جعله يتصرف في كل الأمور حسب ميولاته وأطماعه، فقد كان له طموح كبير في الاستيلاء على الحكم، ولما لمس في نفسه عجزًا عن تحقيق ذلك بمفرده، عمد أولًا إلى إضعاف الجيش حتى أن الجنود كانوا يقبلون على أعمال السُّخرة المُهينة ليوّفروا أقوات أسرهم، فخبت في أنفسهم روح الحماسة ونوازع الوطنية والغيرة على الأمة. ولقد تمادى ابن العلقمي في إلهاء الخليفة وجعله يسير على درب التهلكة الذي رسمه له بإحكام، بعد ذلك بحث عمّن يستقوي به هو وأنصاره، فلم يجد سوى المغول الذين كانت لهم في ذلك الحين السطوة الكبرى والطغيان الأعظم الذي تجلّى في سيطرتهم على كل البلدان التي غزوها في سهولة ويسر، ورغم أنه يعلم مقدار وحشيّتهم العظيمة، وقساوتهم الفريدة، وتنكيلهم الفظيع بالأوطان التي احتلوها، فإنّه لم يتورع عن الاتصال بهولاكو لما وجده من هوى لديه في مزيد من التوسّع، فصار يكاتبه ويحفّزه ويغريه بغزو بغداد عاصمة الخلافة العباسية، مستعينًا في ذلك بنصير الدين الطوسي المقرّب من هولاكو، والذي ساهم في إقناعه بذلك الغزو، فظلّ يحثّه على ذلك حتى لبّى رغبته، وتحققت أمنية صديقه ابن العلقمي، فدخل المغول بسهولة إلى بغداد وخربوها. ولقد ظنّ ابن العلقمي أن المغول سيمكّنونه من حظوة عندهم بعد الغزو، لكن ذلك لم يتأتَّ له، لأنّ هولاكو تخلّص منه بعد ذلك، لأنه يعرف أن الخونة لا ولاء لهم.
فظائع هولاكو وجرائمه
لنعد إلى ما حدث في ذلك اليوم من تاريخنا العربي الإسلامي. فبعد دخول المغول إلى بغداد وقتلهم الخليفة المستعصم وكل الأمراء العباسيين رفسًا بالأرجل، عاثوا فسادًا في أرضها، ونشروا الرعب في ربوعها، وفعلوا بأهلها ما عجز المؤرخون عن وصفه، حتى أن القتل استمر أسابيع عديدة، ولم ينجُ إلّا الهاربون والمختفون عن الأنظار في المغارات والمطامير والأنفاق.
أما الجرائم التي ارتكبها هولاكو في حق المقدسات فأعظِمْ بها وأكْبِرْ، فقد أمر بإراقة دنان الخمور في المساجد، ومنع رفع الأذان على المآذن التي عمد جنوده إلى تحطيمها ونزع جواميرها ظنًّا منهم أنها مصنوعة من الذهب، وأرغموا المسلمين على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير واقتراف المحرمات. وقد ساهم ذلك في إذاعة الفواحش واستشراء المناكر، واستباحة المحرمات بأنواعها وضروبها وأشكالها. أما نهب الأموال، وغصب الممتلكات، وهتك الأعراض، فلا تسَل عن مدى استفحالها وتفشّيها في كل مكان.
كان غباء المستعصم واستهتاره واستهانته بالمغول صفاقة خطيرة، أما جريمة ابن العلقمي وأنصاره فقد كانت مغامرة مجنونة، لكنّها غير محمودة العواقب، لأنّ الجميع يعرف أن المغول مجبولون على التعطش إلى سفك الدماء، وكل البلدان التي غزوها تركوها بلاقع خالية من الحياة. وهكذا استدعوا الموت إلى ديار الإسلام، وكان بالإمكان ردّ المغول على أعقابهم لو تضافرت الجهود وتوحدت في اتجاه الكفاح ضد الأعداء، لكن ما كانت تعيشه الخلافة العباسية في ذلك الحين من فساد مستشرٍ تسبّب في نخرها وضعفها، وشجع المغول على التطاول عليها وإزالتها من الوجود إلى الأبد.
انهيار الحضارة
ولعلّ أكبر خطب نزل بالمسلمين، وأعظم مصيبة ضربت عمق كيانهم، لا يتجلّى في ما تكبّده إخوانهم في بغداد من خسائر في الأرواح والممتلكات فحسب، بل في الانهيار الذي حاق بالحضارة العربية الإسلامية التي كانت شمسها قد عمّت بلاد الغرب، وسطعت في كل بقاعها. فبعدما أنهى هولاكو مذبحة البشر، وخرب كل ما أسس على الحجر، قام بأكبر مجزرة في حق العلوم والمعارف في التاريخ. تلك كانت مجزرة الكتب.
لقد كان الخليفة هارون الرشيد مولعًا بالعلم والفكر والثقافة والأدب، وكرس لذلك جهودًا عظيمة، وأضاف إلى منجزات أبي جعفر المنصور في هذا المجال الشيء الكثير، واستمر ذلك وازدهر في عهد الخليفة المأمون ثم المتوكّل، وتجلّى ذلك في مكتبة بيت الحكمة التي جعلت من بغداد دار العلوم ومركز النور والتنوير، فازدهر الطب والفلك والرياضيات والهندسة والأدب والفنون والفلسفة والفكر الإسلامي والفقه والتفسير وعلم الأصول والحديث وعلم الميراث والعلوم اللغوية والشرعية... كما عرفت الترجمة من الفكر اليوناني وغيره نشاطًا كبيرًا. وساهم ذلك في تأسيس حضارة عربية أساسها العلوم والفنون والآداب، استفادت منها شعوب الأرض بمختلف أجناسها، في الوقت الذي كانت فيه أوربا خاملة باهتة الذكر في كل الميادين.
دماء وأحبار في نهر دحلة
لقد عمد هولاكو بعد دخوله إلى بغداد إلى إلقاء آلاف كتب بيت الحكمة في نهر دجلة الذي تحوّلت مياهه إلى اللون الأسود بسبب ما ترسّب فيها من حبر الكتب، وخالطه اللون الأحمر لكثرة الدماء المُراقة على الضفتين. أما ما تبقّى من نفائس الكتب، خاصة في مجال علم الفلك، فقد نقلها نصير الدين الطوسي إلى مدينة مراغة التي أسّس بها مرصدًا فلكيًّا كبيرًا، بينما احتفظ المغول بالكتب العلمية التي باعوها في أوربا التي استغلتها في بلوغ نهضتها التي انطلق إشعاعها وعمّ العالم بعد ذلك.
لم يكن غزو بغداد غزوًا عاديًا، بل كان نقطة الفصل في مصير الحضارة العربية الإسلامية التي كُتب لها أن تنهار بصورة مأساوية. ولم يؤثر الغزو على الدولة العباسية محليًّا فحسب، بل إنه مهّد الطريق لدخول العالم العربي كله إلى مرحلة مظلمة، أشبه بنفق طويل استمر امتداده وتعقّدت منعرجاته وتعددت تبعاته. إنه وضع كارثي توّج بعد ذلك بمطبّات تاريخية متعددة أوصلت البلدان العربية إلى عصر الانحطاط في كل مجال، ليتوّج ذلك كله بسقوط الدولة العثمانية وتقسيم تركتها بين الدول الغربية في أوج نشاط الحركات الإمبريالية.
دروس وعِبَر
إذا تمعّنا في كل هذه المصائب الطاحنة التي أناخت علينا بكلكلها، فحتمًا ستعود بنا الذاكرة إلى يوم دخول هولاكو إلى بغداد وهدم صرح حضارة كانت تساهم في إدارة دواليب الحياة الفكرية والعلمية والفنية في العالم المعمور آنذاك.
لن نستطيع استرجاع الزمان وإصلاح أعطابه، لكنّنا نملك القدرة على الاستفادة من عِبَر الماضي الذي ما تزال شظاياه تترى على ساحتنا العربية الإسلامية، وما تزال الشروط نفسها التي صنعت هزائمنا حاضرة بين أيدينا، ومطلوب ألّا نستمر في تكريس الأخطاء نفسها التي عصفت بنا يومًا. علينا أن نستذكر العلل التي بصمت بالقار على صفحات حياة أمتنا، فنتجنب مثيلات لها كثيرات ما تزال تراوغ غفلتنا وركوننا إلى التجاهل والرعونة والتهور... وما أشبه اليوم بالبارحة■