فاوستو زونارو خاتم المصورين في بلاط العثمانيين

«الآن أشتاق إلى تلك الأيام الحزينة التي يؤلمني تذكرها. بيد أن تلك الأوقات العصيبة لم تحطمني ولن تحطمني أبدًا. فسأظل أعمل بكل قواي. وسأظل أولي فني كل احترامي وعاطفتي. ولكن غموض الشرق لايزال يستلبني ويأسرني في قبضته». كانت تلك كلمات الفنان «فاوستو زونارو»، التي أودعها مذكراته واصفًا مشاعره المختلطة لدى تذكره لحظات فراقه مدينة إسطنبول التي عشقها وارتبط بها لسنين طوال.
قضى فاوستو زونارو طفولته وصباه في بلدية اماسيب بمقاطعة ابادوفاب، التي كانت تحت الحكم النمساوي إلى العام 1866، ثم أصبحت تابعة لإيطاليا. ولم يكن أبواه ميسورَيْ الحال؛ فقد عمل أبوه بنّاء وأراد له أن يصبح بنّاء مثله، إلا أن الابن أظهر شغفًا بفن الرسم والتصوير، وتفتقت موهبته في سن باكرة، فراح يدرس الفن في معهد الفنون الجميلة بمدينة افيروناب، ذلك المعهد الذي كان يديره الفنان الإيطالي نابوليوني ناني. وقد زامله في تلك الفترة كل من دالوكا بيانكا وجاكومو فافريتو، وغيرهما ممن ذاع صيتهم في السنوات اللاحقة. وبعد أن أتم زونارو خدمته العسكرية درس في كلية الفنون الجميلة بروما، وظل فيما بين عامي 1885 و1888 يقضي أوقاته بين مدينتي االبندقيةب وانابوليب؛ إذ استهواه تصوير مختلف مظاهر الحياة في نابولي. لكن كان عليه العودة إلى البندقية بين الحين والآخر لبيع لوحاته. وفي تلك الأثناء أبدع لوحته الرائعة امنادي المدينةب، التي تصور ذلك الرجل الموكل إليه إذاعة الأخبار للعامة. وفي العام 1888 سافر زونارو إلى باريس وقضى بها عامًا استأجر خلاله مرسمًا، وكان المذهب الانطباعي في باريس حينذاك ملء السمع والبصر، فتأثر به زونارو تأثرًا كبيرًا، ثم عاد إلى البندقية وأنشأ بها مدرسة صغيرة لتعليم الرسم، وهناك تعرف إلى إليزابيتا بانته، تلميذته التي أحبها وتزوجها لاحقًا. وقد استهوى الحبيبان سحر الشرق وقرآ كتبًا عن إسطنبول لكل من اغوتييهب والوتيب. كما قرآ كتاب االقسطنطينيةب لـاإدموندو دي أميجيسب، الذي شحذ لديهما الرغبة في السفر إلى تلك المدينة الساحرة. ولم يكن لديهما من المال حينذاك إلا القليل. وكانت القسطنطينية وقتئذٍ عاصمة لإمبراطورية مترامية الأطراف هي الإمبراطورية العثمانية التي امتدت من البصرة إلى البوسنة، ومن طرابلس حتى طرابزون، وكانت مركزًا سياسيًا وتجاريًا وثقافيًا لمنطقة البلقان والشرق الأدنى. وقد زاد عدد سكانها على خمسة ملايين نسمة ما بين أتراك وأكراد وعرب ويونانيين وإيطاليين وأرمن، ما جعلها من أكبر المدن الكوزموبوليتانية على امتداد العالم؛ ففيها يرى المرء الأزياء الإفرنجية جنبًا إلى جنب الأزياء الشرقية، ويرى المعممين بجانب المطربشين ومعتمري القبعات. فإسطنبول كانت كالبوتقة التي انصهر بها الماضي والحاضر وامتزج فيها الشرق بالغرب.
وسافرت إليزابيتا إلى إسطنبول في العام 1891، وكانت ذات حماسة متقدة فشرعت تكسب قوتها عن طريق إعطاء دروس في الرسم واللغة الإيطالية. كذا فقد كونت دائرة من الأصدقاء والمعارف هناك. وبعد حوالي شهرين لحق بها زونارو، ليتزوج الحبيبان ويستقرا في منزل بمنطقة اتقسيمب، بالقرب من جبانة عياض باشا. وكان من أوائل الأصدقاء الذين تعرف إليهم زونارو لدى وصوله إلى إسطنبول امحمود بكب، مدير الجمارك الذي ساعده كثيرًا. إذ لدى الوصول كان زونارو يحمل معه العديد من اللوحات التي رسمها قبلًا، فسأله مدير الجمارك أن يدفع رسومًا جمركية لقاء تلك اللوحات، فأفهمه زونارو أنها جميعًا من إبداعه هو، لذا ينبغي ألا يدفع رسومًا جمركية. وقد تفهم الرجل ذلك وقنع منه برسوم رمزية. وتناولا معًا فنجانين من القهوة التركية. ومنذ ذلك الحين نشأت بينهما صداقة وثيقة العرى. وكان من بين تلك اللوحات التي قدم بها زونارو إلى إسطنبول لوحة افتاة تحمل يقطينةب، التي أنجزها في إيطاليا في العام 1889. ويصور فيها زونارو فتاة جميلة رشيقة تبدو عليها سيماء النقاء والبراءة ترتدي ثوبًا أبيض. وتظهر الفتاة حاملة بيديها الجميلتين يقطينة - كبيرة نسبيًا - في خفة ورشاقة ترمزان إلى مرح الشباب وحيويته.
لوحات صادقة
وفي مستهل حياة الزوجين بإسطنبول واجهتهما مصاعب جمة؛ إذ شرعا يكسبان قوتهما عن طريق رسم لوحاتٍ بألوان مائية، وإصلاح إطارات بعض اللوحات، وطباعة صور فوتوغرافية. وشرع زونارو يبيع ما يرسم في مكتبة كان يمتلكها رجل يدعى زليتش، وقد جاء على لسان زونارو: القد وضع الرجل لوحاتي في نافذة عرضه الكبيرة، وثمّن كل لوحة بليرة واحدة، فباع أربعة منها وأنقدني الثمن على الفور، وكان ذلك أول مبلغ أتقاضاه في إسطنبولب.
لقد فتنت تلك المدينة الساحرة زونارو وخلبت لبه حتى أنه وصفها بجنة الله في أرضه، فراح يصور كل ما وقعت عليه عيناه فيها، ولم يدع مظهرًا من مظاهر الحياة في إسطنبول إلا وصوره في لوحاته. لذا فإننا نجد في لوحات زونارو أصدق تمثيل للناس والعادات والتقاليد والمعمار، فضلاً عن الملابس والاحتفالات والمراسم وغيرها من المظاهر التي تند عن الحصر. وقد استطاع الفنان بمعونة زوجته أن ينشر صورًا فوتوغرافية لعدد من أعماله في الصحف الفنية. وبذا لفت إليه الأنظار في الأوساط الدبلوماسية والمجتمعات الراقية بإسطنبول، وذاع صيته حتى أن السفير الروسي بإسطنبول األيكساندر نيليدوفب - من شدة إعجابه بأعماله - قد خصص له غرفة في السفارة الروسية لإقامة مدرسة لتعليم الرسم لأبناء الطبقة الأرستقراطية. وكان من بين أولئك الأرستقراطيين ابنة السفير البلجيكي آنذاك، وأيضًا عدد من الفنانين الأتراك الذين ذاعت شهرتهم لاحقًا. وقد تعرّف زونارو إلى الفنان المرموق وقتذاك عثمان بك حمدي، وأعجب بدماثة الرجل وثقافته، فجمعتهما صداقة حميمة وشرعا يذهبان لصيد السمك معًا في البوسفور. فكان زونارو يتفكه قائلًا: الم تعد زرقة البوسفور الرائقة وحدها التي تسعدني بل سمكه اللذيذ أيضًاب.
أما نقطة التحول في حياة زونارو فكانت في العام 1896 حينما عرض السفيران الإيطالي ابانزاب والروسي انيليدوفب لوحة افرسان كتيبة أرطغرل يعبرون جسر غالاتاب على السلطان عبدالحميد الثاني، الذي كان مهتمًا بالفن والثقافة اهتمامًا كبيرًا، فأعجب بها أيما إعجاب حتى أنه ابتاعها منه وقلده النيشان المجيدي من الطبقة الثانية، وفي اللوحة نرى حشدًا من الفرسان العثمانيين يعبرون جسر غالاتا على صهوات جيادهم البيضاء، يشهدهم جمع من الناس، ويظهر من بينهم طفل رفقة أمه يلبس طربوشًا، بينما تشير أمه نحوهم كيما يراهم الطفل. ومن الجدير بالذكر أن تلك اللوحة قد أعجب بها ابول ديشانيلب، عضو البرلمان الفرنسي آنذاك، إعجابًا كبيرًا لدى حضوره الحفل المقام لمناسبة اليوبيل الفضي لجلوس السلطان عبدالحميد الثاني على العرش، فما كان من السلطان إلا أن أهداها له وكلف زونارو بعمل نسخة أخرى. ويذكر زونارو في مذكراته أن اللوحة الأصلية عُلقت في مقر البرلمان الفرنسي بباريس في قصر بوربون.
مصور البلاط العثماني
أما منصب مصور البلاط فكان لايزال شاغرًا منذ وفاة الويجي أكوارونب، فلم يلبث السلطان عبدالحميد الثاني أن عين زونارو مصورًا للبلاط العثماني خلفا له في العام نفسه، ومنذ ذلك الحين طفق زونارو ينغمس في الثقافة التركية فارتدى الطربوش، وتعلم اللغة التركية، وأبدع بورتريهات لأفراد حاشية البلاط العثماني. وشرع يعطي دروسًا في الفن للأمراء بمرسمه المقام في فناء قصر ايلدزب. وكان فناء ذلك القصر حينذاك يضم سرادقًا بمنزلة معهدٍ للفنون يعمل فيه الفنانون من مختلف الجنسيات دون تمييز ديني أو عرقي. كما أقيم فيه أيضًا مصنع للخزف الملكي لإنتاج التحف الخزفية وأدوات المائدة وهدايا من الخزف للسفراء. وقد عمل أهم فناني إسطنبول في زخرفة خزف المصنع، وكان من بينهم زونارو. وقد أعجب مدير المصنع بالوحدات الخزفية التي زخرفها زونارو، وابتاع معظمها، لذا فلم يتبق منها سوى طبق واحد معروض الآن ضمن مجموعة قصر يلدز الخزفية بمتحف قصر اطوب قابيب. وكان الابن الأكبر للسلطان عبدالحميد اشهزاد برهان الدين أفنديب ممن يرتادون فناء القصر لرؤية زونارو وهو يعمل، وقد اشترى منه عدة لوحات، من بينها لوحتا اذيل الشيطانب التي أحضرها معه من إيطاليا، واالأرجوحةب التي أبدعها في إسطنبول. هذا، ومما يدل على مدى تشجيع السلطان للفنون ورعايته إياها، إقامته المعهد الوطني للفنون الجميلة في العام 1883، وكان أول رئيس للمعهد الفنان التركي اعثمان بك حمديب.
هذا، وقد حازت انتصارات العثمانيين في الماضي والحاضر نصيب الأسد من لوحات زونارو، فها هي لوحة االسلطان محمد الثاني يفتح القسطنطينيةب يصور فيها زونارو السلطان محمد الفاتح ممتطيًا صهوة جواده، وبجواره جنده وحاشيته، وقبالته جثث القتلى من الأعداء. وقد صوره أيضًا في لوحة احصار القسطنطينيةب. أما لوحة اهجومب التي أبدعها في العام 1897 فصور بطولة الجيش العثماني وبسالته في الحرب العثمانية - اليونانية؛ إذ يظهر الجند وقد تملكتهم روح الاستماتة في القتال غير عابئين بالموت. وإبان عمل زونارو في تلك اللوحة طلب أن يزور بنفسه ساحة القتال، لكن طلبه قوبل بالرفض، فطلب بعض الجنود للمثول أمامه كي يتمكن من إبداع اللوحة كما ينبغي، وقد أجيب سؤله وأرسل إليه رحمي باشا كبير المعلمين بالمدرسة الحربية أربعة من الجنود الأشداء لهذا الغرض. ولشدة ما أحب السلطان تلك اللوحة حتى أنه قلد زونارو وسامًا عثمانيًا آخر من الطبقة الرابعة، وأنزله في مسكن فاخر بشارع اأكاريتليرب، الذي يقع خلف قصر اضلمة باغتشهب مباشرة، ذلك المسكن الذي أقام زونارو في جزء منه معرضًا دائمًا عرض فيه معظم لوحاته، وسمح للزوار بزيارته في أوقات ما بعد الظهيرة، وكان أولئك الزوار من صفوة المجتمع التركي ومثقفيه ورجال الدين والأجانب، وكان من أبرز أولئك الزوار أنور باشا، وونستون تشرشل. وكانت زوجته تقدم إليهم ما تطهو من الأكلات الإيطالية الشهية فيفتنون بروعة الفن وطيب الطعام معًا. لقد أحبّ زونارو زوجته حبًا جمًا حتى أنه أبدع بورتريها لها مبرزًا جمالها الباهر وحيويتها البادية.
لم يكن زونارو الفنان الأوربي الوحيد الذي حاز مكانة رفيعة في البلاط العثماني، بل سبقه العديد من المصورين الأوربيين كان أولهم المصور الإيطالي جنتيلي بيلليني، الذي حاز المجد والشهرة والمال في ذلك البلاط، وأبدع بورتريها للسلطان امحمد الفاتحب معروضًا الآن في متحف لندن الوطني. أما السلطان عبدالعزيز الذي حكم فيما بين عامي 1861-1876 فقد كان يهوى الموسيقى والتصوير. وحينما زار فرنسا وإنجلترا ابتاع عددًا كبيرًا من اللوحات الفنية لأشهر الفنانين، ليزين بها جدران قصره، كما دعا المصور الروسي إيفازوفسكي إلى إسطنبول وطلب إليه تصوير أربعين لوحة تصف مدى ضخامة جيشه وأسطوله. وكذا فقد عين الفنان البولندي اشليبوفسكيب مصورًا للبلاط آنذاك. وقد أبدع له الفنان الفرنسي ابيير ديزيريه غيميب بورتريهًا حصل لقاءه على دعم سلطاني لإقامة معهد للفنون في ابك أوغلوب في العام 1874. كما طلب السلطان عبدالعزيز من النحات الإنجليزي تشارلز فولر خلال زيارته إسطنبول في العام 1869 نحت تمثال صغير له ممتطيًا صهوة جواده وتمثال آخر نصفي له.
مصور لمظاهر الحياة
أما زونارو فلم يكن كسابقيه ممن شغلوا منصب مصور البلاط؛ إذ إنه لم يكتفِ برسم ما يُطلب إليه من البلاط من تصوير انتصارات الدولة وشخصياتها البارزة فحسب، بل لقد صور الكثير من مظاهر الحياة في إسطنبول كما ذكرنا آنفًا. فقد صور مآذن الجوامع تعانق زرقة السماء، وصور الفتيات التركيات وهن يجمعن الأزهار من المروج، والقمر وضوءه المتلألئ على صفحة البوسفور، والأسر في المتنزهات والحمامات العامة. وصوّر كذلك الدراويش والباعة الجائلين وسائقي المركبات والسقائين والصيادين كما في لوحة اصيادون يجمعون صيدهمب. ومن المواكب الدينية التي أثارت إعجاب زونارو أيضا موكب المحمل الشريف أو موكب الصرة في موسم الحج كل عام... وهو الموكب الذي كان يوليه السلاطين العثمانيون اهتمامًا بالغًا؛ فقد كان المحمل يحوي أستار الكعبة المشرفة وهدايا ثمينة وصرة سلطانية كبيرة مملوءة بأموال وقطع ذهبية توزع على أهل الحجاز، وتصلح لهم الطرق ومرافق الحرم الشريف. وكان يحيط بالمحمل كتائب من الفرسان المسلحين في موكب جليل مهيب يغادر إسطنبول صوب الحجاز.
ومن لوحات زونارو كذلك ما يتناول تيمة تصوير النساء وهن يقمن بالأعمال المنزلية اليومية داخل بيوتهن كلوحة اامرأة تلف خيطًا من الصوفب؛ إذ يصور زونارو امرأة منهمكة في لف الخيط وهي جالسة على مقعد صغير وظهرها في اتجاه المُشاهد. وقد شاعت تلك التيمة في النصف الثاني من القرن السابع عشر في لوحات المصور الهولندي فيرمير؛ وتجدد ظهورها في القرن التاسع عشر في لوحات بعض الواقعيين الفرنسيين من أمثال دومييه وكوربيه وكذا في أعمال بعض الانطباعيين، مثل إدغار ديغا، كما في لوحته اامرأة تكويب. ويبدو في اللوحة قدرة زونارو على إظهار وضعية الجسد في صورة توافق نوع العمل الذي تؤديه المرأة، وهو هنا لف خيوط الصوف؛ فنجد قدمي المرأة متأخرتين إلى الوراء بعض الشيء لإحداث توازن مع ذراعيها وكتفيها المشدودة والمائلة إلى الأمام لإنجاز العمل. وثمة جو من الغموض يغشى اللوحة مرده الخلفية الداكنة والإضاءة الهادئة الخافتة. وفي لوحة ااسترخاء على شاطئ البحرب يصور سيدة تجلس وحيدة على كرسي بجانب البحر، تعبث ببعض الأزهار على حجرها، وتبدو مستغرقة في أفكارها وتعلو محياها أمارات الحزن والشعور بالوحدة، غير ملقية بالًا لجمال الطبيعة من حولها. ويبدو تناغم خفي بين الأزهار الصفراء والخضرة الكثيفة حول السيدة. وثمة كلب على الشاطئ يشارك السيدة شعور الوحدة ذاته. أما الحمائم التي تطير ثم تحط على الشاطئ فتضفي شعورًا بالحركة إلى اللوحة التي يغلب عليها طابع الحزن والركود.
العودة إلى إيطاليا
وقد عُلق العديد من لوحات زونارو في قصر اضلمة باغتشهب وغيره من القصور الوطنية كقصر اطوب كابيب ومتحف إسطنبول العسكري ومتحف ابيراب ومتحف اشكيب صبنجيب وهي شاهدة على براعة هذا الفنان. ومن القصور التي تضم أعمال الفنان خارج تركيا قصر االأمير محمد علي بالمنيلب بمدينة القاهرة. هذا، وقد ارتبط اسم زونارو باسم السلطان عبدالحميد الثاني؛ إذ ظل مصور البلاط طيلة أربعة عشر عامًا. ولطالما كان يود لو يصور بورتريها للسلطان، وأخيرًا تمكن من إقناعه بذلك، وكان ذلك بعد إعلان الدستور الثاني. وبالفعل تمكن من إبداع ثلاثة بورتريهات للسلطان في ثلاثة أوضاع متباينة. ويذكر زونارو أن السلطان كان في تلك الجلسات صامتًا مفكرًا مقطبًا مهزومًا، ولا عجب في ذلك فقد كانت القلاقل وأحداث التمرد بادية في كل بقعة من بقاع السلطنة حينذاك. وقد فرغ زونارو من ذلك العمل خلال أحداث التمرد التي وقعت في 31 مارس من العام 1909. وما لبثت القلاقل والاضطرابات أن تزايدت في البلاد، وخُلع السلطان في 27 أبريل من العام نفسه، ونُفي بعدها إلى اسالونيكاب باليونان. ونُصّب السلطان محمد رشاد سلطانًا على البلاد. وهكذا لم تجر الرياح بما اشتهت سفن زونارو، فقد أُعفي من منصبه. ولم يطب له المقام بعد ذلك في إسطنبول؛ إذ سرعان ما سُحبت منه الامتيازات التي حازها في عهد السلطان المخلوع، ونشبت خلافات بينه وبين الحكومة الجديدة التي جاءت بها حركة اتركيا الفتاةب بشأن مسكنه، ما اضطره في العشرين من مارس من العام 1910 إلى مغادرة إسطنبول إلى إيطاليا بلا رجعة وقلبه يتفطر من الحزن والأسى، ليقيم في روما فترة ثم يتركها ليستقر في مدينة سان ريمو حتى وافته المنية في العام 1929. وبالرغم من انكباب زونارو في الفترة من 1911 إلى 1920 على تصوير مناظر إيطاليا الطبيعية إلا أن لوحاته التي صورت إسطنبول كانت الأشهر والأكثر مبيعًا، فقد ظلت إسطنبول تملأ قلبه وروحه حتى وهو في وطنه؛ فعكف على نسخ اللوحات التي تركها في إسطنبول؛ إذ كان يحتفظ بألبومات تحوي صورًا فوتوغرافية لها.
كان زونارو يعد ضمن المستشرقين من الفنانين الذين افتتنوا بسحر الشرق وغموضه، غير أنه اتبع أسلوبًا خاصًا في التصوير ميّزه عن غيره؛ فكان يمزج بين الانطباعية والواقعية، إلا أن أعماله قد نَزَعت في بداية إقامته في إسطنبول إلى الدقة التي طغت بعض الشيء على روح تلك الأعمال، لكنها نضجت شيئًا فشيئًا وأضحت تميل إلى اتباع المذهب الانطباعي على نحو أكبر.
وقد أسهم مع غيره من الفنانين إسهامًا كبيرًا في تطوير الفن التشكيلي بتركيا. وشارك في ثلاثين معرضًا. كما أقام خمسة عشر معرضًا فرديًا، أقيم أربعة منها في إسطنبول. وفي معرضه الأخير الذي نظمه في أثناء تجهيزاته للرحيل عن مدينته الأثيرة تمكن من بيع ثلاثمائة لوحة في غضون ثلاثة أيام فقط. وفي العام 1977 أقام ورثته معرضًا له في فلورنسا ضم ثلاثمئة عمل آخر، كان من بينها مئتا عمل يصور فيها إسطنبول، تلك المدينة التي استمد منها الإلهام. وفي العام 1987 صدر كتاب االمستشرقون الإيطاليونب من تأليف الكاتبة والمؤرخة الفنية كارولين جوليه، وقد أتت فيه على ذكر زونارو، واصفة إياه بأنه: افنان يشع الدفء من لوحاته بلا تعقيدب.
كما صدر كتاب عن زونارو في العام 2010، من تأليف كل من إيرول مخزوم وعثمان أونديش بمناسبة المعرض الاستعادي الذي أقيم له. لقد ظلت تلك الأعوام العشرون التي قضاها زونارو في إسطنبول وصور خلالها المدينة والحياة بكل تفاصيلها أصدق تصوير، هي النبع الذي رفده بالفن والإبداع، حتى استحق عن جدارة لقب امصور البوسفورب ■
فاوستو زونارو بريشته
لوحة فتاة تحمل يقطينة 1889