الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعًا

الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعًا

كان‭ ‬ابن‭ ‬سينا‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬اللهمّ‭ ‬هبني‭ ‬حياة‭ ‬عريضة‭ ‬لا‭ ‬حياة‭ ‬طويلة‮»‬،‭ ‬ولعلّ‭ ‬الأمر‭ ‬ذاته‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ (‬1849‭ - ‬1905‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭ (‬56‭ ‬عامًا‭)‬،‭ ‬لكنّه‭ ‬انفرد‭ ‬بلقب‭ ‬الإمام؛‭ ‬فإذا‭ ‬ذُكِر‭ ‬خِلوًا‭ ‬من‭ ‬الاسم‭ ‬صار‭ ‬علمًا‭ ‬عليه‭. ‬

وُلد‭ ‬الإمام‭ ‬لأب‭ ‬تركماني‭ ‬الأصل،‭ ‬وأم‭ ‬ذات‭ ‬نسب‭ ‬عربيّ‭ ‬شريف‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬بني‭ ‬عدي،‭ ‬وحاز‭ ‬أبوه‭ ‬بعض‭ ‬الوجاهة‭ ‬والمال‭ ‬أورثاه‭ ‬صلابة‭ ‬ترسّبت‭ ‬داخل‭ ‬تجارب‭ ‬ولده،‭ ‬فصار‭ ‬ذا‭ ‬أنَفَة‭ ‬من‭ ‬الانصياع‭ ‬لأمور‭ ‬قد‭ ‬يراها‭ ‬البعض‭ ‬مقبولة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الضرورات،‭ ‬فتجده‭ - ‬مثلًا‭ - ‬لم‭ ‬يأسره‭ ‬عفو‭ ‬اللورد‭ ‬كرومر‭ ‬عنه‭ ‬وقت‭ ‬إعادته‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬نفيه،‭ ‬فظلّ‭ ‬على‭ ‬مقاومته‭ ‬للإنجليز،‭ ‬وإن‭ ‬رفع‭ ‬محاولاته‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬التعليم‭ ‬إلى‭ ‬كرومر،‭ ‬دون‭ ‬الخديوي‭ ‬توفيق؛‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عنده‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬من‭  ‬أمر‭ ‬نفسه‭ ‬شيئًا‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الإمام‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬جلاء‭ ‬الإنجليز‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬دون‭ ‬الاستعانة‭ ‬بتطوير‭ ‬الشخصية‭ ‬وتعليمها،‭ ‬وكانت‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬أن‭ ‬الإصلاح‭ ‬هو‭ ‬طريق‭ ‬جلاء‭ ‬المستعمر‭.‬

تجربة‭ ‬الإمام‭ ‬واسعة‭ ‬وعريضة،‭ ‬تتنوع‭ ‬بين‭ ‬الأزهر‭ ‬وإصلاحه،‭ ‬والسياسة‭ ‬ومرارتها،‭ ‬والتعليم‭ ‬وتطويره،‭ ‬والصحافة‭ ‬وهمومها،‭ ‬والقضاء‭ ‬ومسؤوليته،‭ ‬والأفغاني‭ ‬وتأثيره‭ ‬الكبير،‭ ‬والثورة‭ ‬العرابية‭ ‬وموقفه‭ ‬المتأرجح‭ ‬تجاهها‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الشمول،‭ ‬فإنّه‭ ‬يمكن‭ ‬الجزم‭ ‬بكون‭ ‬الإمام‭ ‬محاولًا‭ ‬في‭ ‬اتجاهين‭ ‬كانا‭ ‬عنده‭ ‬متلازمين‭: ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تحرير‭ ‬الفكر‭ ‬من‭ ‬قيد‭ ‬التقليد،‭ ‬وإصلاح‭ ‬أساليب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية؛‭ ‬فكان‭ ‬مصلحًا‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬وتربويًا‭ ‬ولغويًا،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬سياسيًا،‭ ‬يحارب‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬خرافات‭ ‬دخلت‭ ‬الدين،‭ ‬كعبادة‭ ‬الأضرحة‭ ‬والأولياء‭ ‬والتشفّع‭ ‬بأهل‭ ‬القبور،‭ ‬وإقامة‭ ‬الموالد‭ ‬والنذور،‭ ‬محاولًا‭ ‬تنقية‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬البدع‭ ‬والأوهام‭.‬

قد‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬شيئًا‭ ‬عاديًا،‭ ‬لكنّه‭ ‬كان‭ ‬بطولة‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التقليد‭ ‬حتى‭ ‬احتاج‭ ‬جرأة‭ ‬مجدد‭ ‬كالإمام‭ ‬ليفتي‭ ‬بجواز‭ ‬ارتداء‭ ‬‮«‬البرنيطة‮»‬‭. ‬وعلى‭ ‬الهامش‭ ‬نذكر‭ ‬أن‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬لم‭ ‬تصدر‭ ‬عنه‭ ‬فتوى‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬صنّف‭ ‬صفحة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتولّى‭ ‬منصب‭ ‬الإفتاء،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تستدعي‭ ‬عشرات‭ ‬المبادرين‭ ‬بالإفتاء‭ ‬على‭ ‬قلّة‭ ‬أدواتهم،‭ ‬وضيق‭ ‬تجاربهم‭.‬

 

جدل‭ ‬حقيقي

‭ ‬‮«‬دخول‭ ‬الجمل‭ ‬في‭ ‬البندقة‮»‬‭ ‬كان‭ ‬تعبير‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬عن‭ ‬مماحكة‭ ‬الأزهريين‭ ‬المتركزة‭ ‬حول‭ ‬الألفاظ‭ ‬دون‭ ‬جدل‭ ‬حقيقي‭ ‬يخصّ‭ ‬المعاني،‭ ‬وتركيز‭ ‬على‭ ‬قشور‭ ‬الأمور‭ ‬دون‭ ‬لبابها،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬يُناقَش‭ ‬فيه‭ - ‬ببطولة‭ ‬زائفة‭ - ‬جوازُ‭ ‬استخدام‭ ‬‮«‬الحنفيّة‮»‬‭ ‬للوضوء،‭ ‬وتيار‭ ‬يصرّ‭ - ‬مدعيًا‭ ‬الأصالة‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحذاء‭ ‬بدعة،‭ ‬وطائفة‭ ‬ترى‭ ‬قراءة‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والطبيعة‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬الحرام،‭ ‬وليس‭ ‬أسهل‭ ‬من‭ ‬الاتهام‭ ‬بالزندقة؛‭ ‬فهي‭ - ‬عندهم‭ - ‬علوم‭ ‬ترتبط‭ ‬بالتوجّه‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬التوحيد‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬السحر‭ ‬والشعوذة‭. ‬

في‭ ‬سياق‭ ‬كهذا‭ ‬جدّد‭ ‬الإمام،‭ ‬فأطلّ‭ ‬برأسه‭ ‬خارج‭ ‬الأزهر،‭ ‬فقرأ‭ ‬في‭ ‬المنطق‭ ‬والفلسفة،‭ ‬والتوحيد،‭ ‬وقرأ‭ ‬مترجمات‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬يجاورها‭ ‬ابن‭ ‬الأثير‭ ‬والطبري‭ ‬وابن‭ ‬خلدون،‭ ‬وساعده‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬مزجه‭ ‬في‭ ‬مجالسه‭ ‬ومعارفه‭ ‬وأصدقائه‭ ‬الأقربين‭ ‬بين‭ ‬الشيوخ‭ ‬وغيرهم،‭ ‬مثل‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬والهلباوي‭ ‬والبارودي‭ ‬وأديب‭ ‬إسحاق‭ ‬والمويلحي‭. ‬وظل‭ ‬هذا‭ ‬الطموح‭ ‬الوثّاب‭ ‬دأبه؛‭ ‬فتعلّم‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسيةَ‭ ‬في‭ ‬الأربعين‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬ليعرف‭ ‬القوانين‭ ‬الفرنسية‭ ‬وشروحها‭ ‬بعد‭ ‬تعيينه‭ ‬قاضيًا،‭ ‬فترجم‭ ‬كتابًا‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬لا‭ ‬ينفكّ‭ ‬عن‭ ‬التعليم‭ ‬والتربية،‭ ‬ولا‭ ‬يرضى‭ ‬بغيرهما‭ ‬طريقًا‭ ‬للإصلاح‭. ‬

استوعب‭ ‬سريعًا‭ ‬تجربته‭ ‬القديمة‭ ‬حين‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬بين‭ ‬طريقة‭ ‬الأذن‭ ‬والذاكرة،‭ ‬وطريقة‭ ‬الذهن‭ ‬والوجدان،‭ ‬فخلع‭ ‬عباءة‭ ‬الأزهر،‭ ‬وظلّ‭ ‬قلبه‭ ‬معلّقًا‭ ‬بمحبته،‭ ‬وكان‭ ‬إصلاح‭ ‬الأزهر‭ ‬قضيته‭ ‬الأولى،‭ ‬ولم‭ ‬يلتفت‭ ‬لإشفاق‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬وقاسم‭ ‬أمين‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬محاولاته‭ ‬المستميتة،‭ ‬وانتهت‭ ‬به‭ ‬الحال‭ ‬بائسًا،‭ ‬مُجبرًا‭ ‬على‭ ‬الاستقالة‭. ‬

ساءه‭ ‬كثيرًا‭ ‬ردّة‭ ‬فعل‭ ‬بعضهم‭ ‬تجاه‭ ‬تجديد‭ ‬اللغة‭ ‬والبلاغة،‭ ‬وكان‭ ‬يهوله‭ ‬أن‭ ‬تتصلّب‭ ‬شرايين‭ ‬علوم‭ ‬قديمة‭ ‬مستقرة‭ ‬عندنا،‭ ‬فكيف‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬علوم‭ ‬لم‭ ‬نعرفها‭ ‬بعدُ؟‭ ‬فاستعاد‭ ‬نفوره‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الجامع‭ ‬الأحمدي‭ ‬بطنطا،‭ ‬برغم‭ ‬حفظ‭ ‬القرآن‭ ‬صغيرًا،‭ ‬ولولا‭ ‬احتضان‭ ‬الشيخ‭ ‬درويش‭ ‬خضر‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الإمام‭ ‬شيئًا‭ ‬مذكورًا‭.‬

حاول‭ ‬الرجل‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬التقاليد‭ ‬الفكرية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬وسائل‭ ‬للنهوض‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تلبية‭ ‬السياقات‭ ‬الجديدة،‭ ‬وفي‭ ‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬اتبع‭ ‬مع‭ ‬تلميذه‭ ‬رشيد‭ ‬رضا‭ ‬تطبيق‭ ‬مدخل‭ ‬هرمنيوطيقي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التناصّ،‭ ‬أو‭ ‬التفسير‭ ‬المتكامل‭ ‬للقرآن،‭ ‬وقراءاته‭ ‬كله‭ ‬وحدة‭ ‬واحدة،‭ ‬كتابًا‭ ‬واحدًا؛‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬الآيات‭ ‬تقدّم‭ ‬عرضًا‭ ‬لآيات‭ ‬أخرى‭ ‬وتفسيرًا‭ ‬لها،‭ ‬واتخذ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬درعًا‭ ‬لدعوته‭ ‬الإصلاحية،‭ ‬وهي‭ ‬دعوة‭ ‬كانت‭ ‬سابقة‭ ‬لعصرها،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬يسيرة‭ ‬تدرّبت‭ ‬على‭ ‬مخاطبة‭ ‬المتلقي‭ ‬العادي‭ ‬بعدما‭ ‬خبرها‭  ‬بمراسلة‭ ‬الصحف‭ ‬مبكرًا،‭ ‬وكتب‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬الأهرام‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬تخرُّجه‭ ‬في‭ ‬الأزهر،‭ ‬فأثّرت‭ ‬الصحافة‭ ‬على‭ ‬لغته‭ ‬وطموحاته‭ ‬الواقعية،‭ ‬وجعلته‭ ‬يتابع‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬وله‭ ‬أيادٍ‭ ‬بيضاء‭ ‬على‭ ‬‮«‬المقتطف‮»‬‭ ‬و«الشفاء‮»‬‭ ‬و«دائرة‭ ‬المعارف‮»‬‭. ‬والأثر‭ ‬الأكبر‭ ‬أنه‭ - ‬تبعًا‭ ‬لتعبير‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ - ‬حوّل‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬مسجوعة‭ ‬متكلّفة‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬مرسلة‭ ‬منسابة،‭ ‬ومن‭ ‬كتابة‭ ‬فارغة‭ ‬المعاني‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬يُعنى‭ ‬فيها‭ ‬بالمعاني‭. ‬ولا‭ ‬نرى‭ ‬ذلك‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬طموحاته‭ ‬الإصلاحية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬مع‭ ‬اكتمال‭ ‬أدواته‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬كافة،‭ ‬فتشهد‭ ‬مقالاته‭ ‬عن‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي‭ ‬والبارودي‭ ‬وغيرهما‭ ‬بإحساس‭ ‬شاعري‭ ‬ولغوي‭ ‬عال،‭ ‬لا‭ ‬يبتعد‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬منطق‭ ‬العصر‭ ‬وذائقته‭ ‬عند‭ ‬قضاة‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬والأزهريين،‭ ‬واضعًا‭ - ‬لكل‭ ‬مقالة‭ ‬يحررها‭ - ‬ما‭ ‬يناسبها‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬وحرارة،‭ ‬فتختلف‭ ‬مقالاته‭ ‬في‭ ‬‮«‬الوقائع‭ ‬المصرية‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أختها‭ ‬في‭ ‬‮«‬العروة‭ ‬الوثقى‮»‬‭.‬

 

تجربة‭ ‬مؤلمة

يبدو‭ ‬أن‭ ‬تجربته‭ ‬مع‭ ‬الثورة‭ ‬العرابية‭ ‬كانت‭ ‬مؤلمة‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬يراجع‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬برمّتها،‭ ‬فاختصارًا‭ ‬نجده‭ ‬قد‭ ‬توقّف‭ ‬عن‭ ‬مساندة‭ ‬الثورة‭ ‬العرابية‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬التدخّل‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وتم‭ ‬نفيه‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬النفي‭ ‬القاسية‭ ‬بخيبة‭ ‬أمل‭ ‬عن‭ ‬مردود‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬صلاح‭ ‬الأمم،‭ ‬وليكمل‭ ‬مشواره‭ ‬مراهنًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الاعتماد‭ ‬الحق‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاجتماعي‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬‮«‬أعوذ‭ ‬بالله‭ ‬من‭ ‬السياسة‭ ‬ومن‭ ‬لفظ‭ ‬السياسة‭ ‬ومن‭ ‬ساس‭ ‬ويسوس‭ ‬وسائس‭ ‬ومسوس‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬مكث‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬ست‭ ‬سنوات،‭ ‬ورجع‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬مبتعدًا‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬والأفغاني‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ديونه‭ ‬تجاهه،‭ ‬وتأصل‭ ‬هواجس‭ ‬الحريّة‭ ‬والشورى‭ ‬عنده‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬العرابية‭. ‬

‭ ‬وقد‭ ‬انحرف‭ ‬إلى‭ ‬تيار‭ ‬السياسة‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬التردد،‭ ‬فساند‭ ‬عرابي‭ ‬برغم‭ ‬قلّة‭ ‬محبته‭ ‬له؛‭ ‬فهو‭ ‬عنده‭ ‬‮«‬شهم‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬ضعيف‭ ‬في‭ ‬الحرب‮»‬،‭ ‬لكنّه‭ ‬دفع‭ ‬ثمن‭ ‬ثورته‭ ‬على‭ ‬الخديوي‭ ‬توفيق‭ ‬الذي‭ ‬استعان‭ ‬بالدول‭ ‬الأجنبية‭ ‬لإخماد‭ ‬الثورة،‭ ‬فتم‭ ‬نفيه‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬ليُخرج‭ ‬‮«‬العروة‭ ‬الوثقى‮»‬‭ ‬مع‭ ‬أستاذه‭ ‬الأفغاني،‭ ‬فتؤثّر‭ ‬الجريدة‭ ‬في‭ ‬أفكار‭ ‬الناس‭ ‬وتكافح‭ ‬تصورات‭ ‬الإنجليز‭.‬

في‭ ‬فرنسا،‭ ‬يتأثر‭ ‬الشيخ‭ - ‬نسبيًا‭ - ‬شأن‭ ‬كل‭ ‬مواقفه‭ - ‬بشكل‭ ‬وسطي‭ - ‬فيرتدي‭ ‬الطربوش‭ ‬على‭ ‬الجبّة‭ ‬والقفطان،‭ ‬لكنّه‭ ‬لم‭ ‬يتعلّم‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وركز‭ ‬جهده‭ ‬في‭ ‬‮«‬العروة‭ ‬الوثقى‮»‬‭ ‬صوتًا‭ ‬جماعيًا‭ ‬للعالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬‮«‬الوقائع‭ ‬المصرية‮»‬‭.‬

‭ ‬غابت‭ ‬السياسة‭ ‬عنه،‭ ‬وهجر‭ ‬الإصلاح‭ ‬السياسي،‭ ‬وإن‭ ‬أتى‭ ‬عنده‭ - ‬بعد‭ ‬غياب‭ - ‬إثر‭ ‬تعيينه‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الشورى‭ ‬ضمن‭ ‬أهل‭ ‬الحلّ‭ ‬والعقد‭. ‬يعتمد‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬على‭ ‬التكوين‭ ‬الأفقي‭ ‬آملًا‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬النضج‭ ‬السياسي،‭ ‬ولم‭ ‬يبدأ‭ ‬‮«‬سياسته‮»‬‭ ‬من‭ ‬إلهاب‭ ‬العواطف‭ ‬دون‭ ‬أساس‭ ‬متين‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬أو‭ ‬ثقافة‭ ‬أو‭ ‬إصلاح‭. ‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬يتأخّر‭ ‬أثره‭ ‬في‭ ‬الناس،‭ ‬لكنه‭ ‬يجعله‭ ‬أكثر‭ ‬رسوخًا‭ ‬إن‭ ‬أتيح‭ ‬له‭ ‬الاستمرار،‭ ‬والنهج‭ ‬الإصلاحي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يريده‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وليس‭ ‬تهويمًا‭ ‬نظريًا‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭. ‬

جمعت‭ ‬مقالاته‭ ‬بين‭ ‬الإصلاح،‭ ‬لافتته‭ ‬الكبرى،‭ ‬فسعى‭ ‬لتوطيد‭ ‬إصلاح‭ ‬سلوك‭ ‬غير‭ ‬مناسب،‭ ‬أو‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬سيئة،‭ ‬وركّز‭ ‬على‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬احترام‭ ‬القوانين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتطرّف‭ ‬في‭ ‬دعوته‭ ‬الإصلاحية،‭ ‬ليقف‭ ‬على‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬لما‭ ‬يريد‭ ‬تغييره،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬الحريّة،‭ ‬فيفضل‭ ‬‮«‬الكبسة‮»‬‭ ‬على‭ ‬الحريّة‭ ‬الشخصية،‭ ‬والكبسة‭ ‬هي‭ ‬الرقابة‭ ‬الحكومية‭ ‬والحريّة‭ ‬السياسية‭ ‬دون‭ ‬‮«‬المستبد‭ ‬العادل‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬نقلها‭ ‬عن‭ ‬الأفغاني‭.‬

 

رغبة‭ ‬في‭ ‬الإصلاح

كانت‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الإصلاح‭ ‬تحدوه‭ ‬دومًا،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬إصلاح‭ ‬التعليم،‭ ‬فقدّم‭ ‬مقترحات‭ ‬بذلك‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الأستانة‮»‬،‭ ‬مركّزًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ضعف‭ ‬المسلمين‭ ‬مردود‭ ‬إلى‭ ‬سوء‭ ‬العقيدة‭ ‬وجهل‭ ‬بأصول‭ ‬الدين،‭ ‬وساعدته‭ ‬معرفته‭ ‬بالأفغاني‭ ‬على‭ ‬ترتيب‭ ‬أولوياته‭ ‬في‭ ‬توجهه‭ ‬الإصلاحي‭ ‬معتمدًا‭ ‬على‭ ‬التعليم،‭ ‬حتى‭ ‬حين‭  ‬قَبِل‭ ‬وظيفة‭ ‬القضاء،‭ ‬فظل‭ ‬وفيًّا‭ ‬لرهانه‭ ‬على‭ ‬التعليم،‭ ‬مقدمًا‭ ‬لمستقبل‭ ‬إصلاحي‭ ‬على‭ ‬مستقبله‭ ‬الذاتي،‭ ‬وظل‭ ‬معلمًا‭ ‬مصلحًا‭ ‬وهو‭ ‬يمارس‭ ‬القضاء،‭ ‬ومتعلمًا‭ ‬يطلب‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬مطبوعًا‭ ‬على‭ ‬عبقرية‭ ‬التعليم،‭ ‬فليس‭ ‬قصاراه‭ ‬من‭ ‬الإفضاء‭ ‬بعلمه‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬المحفوظة‭ ‬من‭ ‬رأسه‭ ‬إلى‭ ‬رؤوس‭ ‬غيره‭: ‬‮«‬تلك‭ ‬رسالة‭ ‬لا‭ ‬نفحة‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الروح‭ ‬ولا‭ ‬مدد‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬السليقة‭.... ‬وهو‭ ‬عمل‭ ‬كعمل‭ ‬المأجور‭ ‬المسخّر‭ ‬لإرادة‭ ‬غيره‭ ‬ولا‭ ‬إرادة‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬غيرة‭ ‬عنده‭ ‬ولا‭ ‬إخلاص‭ ‬في‭ ‬تفهيم‭ ‬ما‭ ‬يلقيه‭ ‬في‭ ‬آذان‭ ‬مستمعيه،‭ ‬وسواء‭ ‬عنده‭ ‬عملوا‭ ‬بما‭ ‬يعملون‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لهم‭ ‬عمل‭ ‬قط‭ ‬بعد‭ ‬فراغه‭ ‬من‭ ‬إلقاء‭ ‬تلك‭ ‬المعلومات‭ ‬وتقاضيه‭ ‬الأجر‭ ‬الذي‭ ‬سخّروه‭ ‬له،‭ ‬كأنه‭ ‬مُجبر‭ ‬عليه‮»‬‭. ‬

أفرط‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬في‭ ‬مظنّة‭ ‬اعتماد‭ ‬الأمم‭ ‬على‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬فكان‭ ‬مؤمنًا‭ ‬أنّ‭ ‬الأمم‭ - ‬بتعبير‭ ‬العقاد‭ - ‬تستطيع‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬أن‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬كلتا‭ ‬الخطتين،‭ ‬وأن‭ ‬ترشّح‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬أصلح‭ ‬لها‭ ‬وأقدر‭ ‬عليها‭ ■