الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعًا
كان ابن سينا يقول «اللهمّ هبني حياة عريضة لا حياة طويلة»، ولعلّ الأمر ذاته ينطبق على الشيخ محمد عبده (1849 - 1905)، فقد عاش فترة قصيرة (56 عامًا)، لكنّه انفرد بلقب الإمام؛ فإذا ذُكِر خِلوًا من الاسم صار علمًا عليه.
وُلد الإمام لأب تركماني الأصل، وأم ذات نسب عربيّ شريف يمتد إلى بني عدي، وحاز أبوه بعض الوجاهة والمال أورثاه صلابة ترسّبت داخل تجارب ولده، فصار ذا أنَفَة من الانصياع لأمور قد يراها البعض مقبولة في إطار الضرورات، فتجده - مثلًا - لم يأسره عفو اللورد كرومر عنه وقت إعادته إلى مصر بعد نفيه، فظلّ على مقاومته للإنجليز، وإن رفع محاولاته في إصلاح التعليم إلى كرومر، دون الخديوي توفيق؛ فقد كان عنده لا يملك من أمر نفسه شيئًا. لقد كان الإمام يرى أن جلاء الإنجليز لن يتم دون الاستعانة بتطوير الشخصية وتعليمها، وكانت وجهة نظره أن الإصلاح هو طريق جلاء المستعمر.
تجربة الإمام واسعة وعريضة، تتنوع بين الأزهر وإصلاحه، والسياسة ومرارتها، والتعليم وتطويره، والصحافة وهمومها، والقضاء ومسؤوليته، والأفغاني وتأثيره الكبير، والثورة العرابية وموقفه المتأرجح تجاهها.
وعلى الرغم من ذلك الشمول، فإنّه يمكن الجزم بكون الإمام محاولًا في اتجاهين كانا عنده متلازمين: الدعوة إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، وإصلاح أساليب اللغة العربية؛ فكان مصلحًا اجتماعيًا وتربويًا ولغويًا، وأخيرًا سياسيًا، يحارب ما يراه من خرافات دخلت الدين، كعبادة الأضرحة والأولياء والتشفّع بأهل القبور، وإقامة الموالد والنذور، محاولًا تنقية الدين من البدع والأوهام.
قد ترى في الأمر شيئًا عاديًا، لكنّه كان بطولة في عصره القائم على التقليد حتى احتاج جرأة مجدد كالإمام ليفتي بجواز ارتداء «البرنيطة». وعلى الهامش نذكر أن محمد عبده لم تصدر عنه فتوى واحدة أو صنّف صفحة واحدة في الفقه قبل أن يتولّى منصب الإفتاء، ولك أن تستدعي عشرات المبادرين بالإفتاء على قلّة أدواتهم، وضيق تجاربهم.
جدل حقيقي
«دخول الجمل في البندقة» كان تعبير الشيخ محمد عبده عن مماحكة الأزهريين المتركزة حول الألفاظ دون جدل حقيقي يخصّ المعاني، وتركيز على قشور الأمور دون لبابها، فقد كان في عصر يُناقَش فيه - ببطولة زائفة - جوازُ استخدام «الحنفيّة» للوضوء، وتيار يصرّ - مدعيًا الأصالة – على أن الحذاء بدعة، وطائفة ترى قراءة الجغرافيا والطبيعة تدخل في الحرام، وليس أسهل من الاتهام بالزندقة؛ فهي - عندهم - علوم ترتبط بالتوجّه القديم في التوحيد بينها وبين السحر والشعوذة.
في سياق كهذا جدّد الإمام، فأطلّ برأسه خارج الأزهر، فقرأ في المنطق والفلسفة، والتوحيد، وقرأ مترجمات في التاريخ، يجاورها ابن الأثير والطبري وابن خلدون، وساعده على ذلك مزجه في مجالسه ومعارفه وأصدقائه الأقربين بين الشيوخ وغيرهم، مثل سعد زغلول والهلباوي والبارودي وأديب إسحاق والمويلحي. وظل هذا الطموح الوثّاب دأبه؛ فتعلّم اللغة الفرنسيةَ في الأربعين من عمره، ليعرف القوانين الفرنسية وشروحها بعد تعيينه قاضيًا، فترجم كتابًا في التربية لا ينفكّ عن التعليم والتربية، ولا يرضى بغيرهما طريقًا للإصلاح.
استوعب سريعًا تجربته القديمة حين وجد نفسه بين طريقة الأذن والذاكرة، وطريقة الذهن والوجدان، فخلع عباءة الأزهر، وظلّ قلبه معلّقًا بمحبته، وكان إصلاح الأزهر قضيته الأولى، ولم يلتفت لإشفاق سعد زغلول وقاسم أمين عليه من محاولاته المستميتة، وانتهت به الحال بائسًا، مُجبرًا على الاستقالة.
ساءه كثيرًا ردّة فعل بعضهم تجاه تجديد اللغة والبلاغة، وكان يهوله أن تتصلّب شرايين علوم قديمة مستقرة عندنا، فكيف الحال مع علوم لم نعرفها بعدُ؟ فاستعاد نفوره في بدايته من طريقة التعليم في الجامع الأحمدي بطنطا، برغم حفظ القرآن صغيرًا، ولولا احتضان الشيخ درويش خضر له ما كان الإمام شيئًا مذكورًا.
حاول الرجل إعادة قراءة التقاليد الفكرية الإسلامية، بحثًا عن وسائل للنهوض بها من أجل تلبية السياقات الجديدة، وفي تفسير القرآن اتبع مع تلميذه رشيد رضا تطبيق مدخل هرمنيوطيقي يقوم على التناصّ، أو التفسير المتكامل للقرآن، وقراءاته كله وحدة واحدة، كتابًا واحدًا؛ إذ إن بعض الآيات تقدّم عرضًا لآيات أخرى وتفسيرًا لها، واتخذ القرآن الكريم درعًا لدعوته الإصلاحية، وهي دعوة كانت سابقة لعصرها، وذلك في لغة يسيرة تدرّبت على مخاطبة المتلقي العادي بعدما خبرها بمراسلة الصحف مبكرًا، وكتب
بـ «الأهرام» قبل تخرُّجه في الأزهر، فأثّرت الصحافة على لغته وطموحاته الواقعية، وجعلته يتابع الحركة الأدبية وله أيادٍ بيضاء على «المقتطف» و«الشفاء» و«دائرة المعارف». والأثر الأكبر أنه - تبعًا لتعبير أحمد أمين - حوّل الكتابة من كتابة مسجوعة متكلّفة إلى كتابة مرسلة منسابة، ومن كتابة فارغة المعاني إلى كتابة يُعنى فيها بالمعاني. ولا نرى ذلك بمنأى عن طموحاته الإصلاحية، وبخاصة مع اكتمال أدواته على المستويات كافة، فتشهد مقالاته عن الشريف الرضي والبارودي وغيرهما بإحساس شاعري ولغوي عال، لا يبتعد فيه عن منطق العصر وذائقته عند قضاة ذلك العصر والأزهريين، واضعًا - لكل مقالة يحررها - ما يناسبها من أسلوب وحرارة، فتختلف مقالاته في «الوقائع المصرية» عن أختها في «العروة الوثقى».
تجربة مؤلمة
يبدو أن تجربته مع الثورة العرابية كانت مؤلمة إلى الحد الذي جعله يراجع الموقف من السياسة برمّتها، فاختصارًا نجده قد توقّف عن مساندة الثورة العرابية في بدايتها خوفًا من التدخّل الأجنبي، وتم نفيه إلى فرنسا، وخرج من تجربة النفي القاسية بخيبة أمل عن مردود السياسة في صلاح الأمم، وليكمل مشواره مراهنًا على أن الاعتماد الحق يكون على الإصلاح الاجتماعي حتى قال «أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس»، وهكذا مكث في المنفى ست سنوات، ورجع إلى مصر، مبتعدًا عن السياسة والأفغاني في الوقت ذاته، على الرغم من ديونه تجاهه، وتأصل هواجس الحريّة والشورى عنده قبل الثورة العرابية.
وقد انحرف إلى تيار السياسة بعد قليل من التردد، فساند عرابي برغم قلّة محبته له؛ فهو عنده «شهم في الكلام ضعيف في الحرب»، لكنّه دفع ثمن ثورته على الخديوي توفيق الذي استعان بالدول الأجنبية لإخماد الثورة، فتم نفيه بعد فشل الثورة إلى لبنان، ثم إلى باريس ليُخرج «العروة الوثقى» مع أستاذه الأفغاني، فتؤثّر الجريدة في أفكار الناس وتكافح تصورات الإنجليز.
في فرنسا، يتأثر الشيخ - نسبيًا - شأن كل مواقفه - بشكل وسطي - فيرتدي الطربوش على الجبّة والقفطان، لكنّه لم يتعلّم الفرنسية، وركز جهده في «العروة الوثقى» صوتًا جماعيًا للعالم الإسلامي على العكس من «الوقائع المصرية».
غابت السياسة عنه، وهجر الإصلاح السياسي، وإن أتى عنده - بعد غياب - إثر تعيينه في مجلس الشورى ضمن أهل الحلّ والعقد. يعتمد في السياسة على التكوين الأفقي آملًا الوصول إلى النضج السياسي، ولم يبدأ «سياسته» من إلهاب العواطف دون أساس متين من وعي أو ثقافة أو إصلاح.
صحيح أن هذا النهج يتأخّر أثره في الناس، لكنه يجعله أكثر رسوخًا إن أتيح له الاستمرار، والنهج الإصلاحي الذي كان يريده كان على الأرض، وليس تهويمًا نظريًا في الفضاء.
جمعت مقالاته بين الإصلاح، لافتته الكبرى، فسعى لتوطيد إصلاح سلوك غير مناسب، أو عادات وتقاليد سيئة، وركّز على الدعوة إلى احترام القوانين دون أن يتطرّف في دعوته الإصلاحية، ليقف على الطرف الآخر لما يريد تغييره، ومن ذلك موقفه من الحريّة، فيفضل «الكبسة» على الحريّة الشخصية، والكبسة هي الرقابة الحكومية والحريّة السياسية دون «المستبد العادل»، تلك الفكرة التي نقلها عن الأفغاني.
رغبة في الإصلاح
كانت الرغبة في الإصلاح تحدوه دومًا، وخصوصًا إصلاح التعليم، فقدّم مقترحات بذلك إلى «الأستانة»، مركّزًا على أن ضعف المسلمين مردود إلى سوء العقيدة وجهل بأصول الدين، وساعدته معرفته بالأفغاني على ترتيب أولوياته في توجهه الإصلاحي معتمدًا على التعليم، حتى حين قَبِل وظيفة القضاء، فظل وفيًّا لرهانه على التعليم، مقدمًا لمستقبل إصلاحي على مستقبله الذاتي، وظل معلمًا مصلحًا وهو يمارس القضاء، ومتعلمًا يطلب الفرنسية، ومن كان مطبوعًا على عبقرية التعليم، فليس قصاراه من الإفضاء بعلمه أن ينقل طائفة من المعلومات المحفوظة من رأسه إلى رؤوس غيره: «تلك رسالة لا نفحة فيها من الروح ولا مدد لها من السليقة.... وهو عمل كعمل المأجور المسخّر لإرادة غيره ولا إرادة له ولا غيرة عنده ولا إخلاص في تفهيم ما يلقيه في آذان مستمعيه، وسواء عنده عملوا بما يعملون أو لم يكن لهم عمل قط بعد فراغه من إلقاء تلك المعلومات وتقاضيه الأجر الذي سخّروه له، كأنه مُجبر عليه».
أفرط الإمام محمد عبده في مظنّة اعتماد الأمم على التربية والتعليم، فكان مؤمنًا أنّ الأمم - بتعبير العقاد - تستطيع على الدوام أن تعتمد على كلتا الخطتين، وأن ترشّح لكل منهما من هو أصلح لها وأقدر عليها ■