الأخطل الصغير... الهوى والشباب

الأخطل الصغير... الهوى والشباب

توهب‭ ‬لإحدى‭ ‬ليالي‭ ‬العشرينيّات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬أهميّة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬الشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬بشارة‭ ‬عبدالله‭ ‬الخوري،‭ ‬المعروف‭ ‬بالأخطل‭ ‬الصغير‭. ‬ففي‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬يتعرّف‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬الجمهوري‭ ‬الصيفي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عاليه‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي،‭ ‬الذي‭ ‬سيبايع‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬عدّة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬أميرًا‭ ‬للشعراء،‭ ‬كما‭ ‬يتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬المطرب‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرافق‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة‭. ‬

 

في تلك الليلة أقام رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة شارل دبّاس مأدبة عشاء على شرف ضيوفه، أي شوقي وأدباء آخرين، ولكن شوقي وصل في أسوأ وضع. فقد نجا بأعجوبة من اصطدام كاد يودي بحياته، وعندما وجد الأخطل الصغير بقربه حزينًا على ما أصابه، قال له: «كنت سترثيني»... ولكن الرثاء حصل وإن متأخرًا زمنًا، وهو رثاء صادر من كبد الأخطل، كما يقول في قصيدته:

سألتنيهِ رثاءً خُذهُ من كبدي

لا يُؤخَذُ الشيءُ إلاّ من مصادِرِهِ

 

وقال الأخطل لاحقًا عن لقائه بشوقي: «وطالت صداقتنا إلى أن توفي فرثيته بحرقة لأنّي أحببته كثيرًا».

تلك ليلة تاريخيّة في سيرة الأخطل. فكما انعقدت مودّة عميقة بينه وبين شوقي، وهما الشاعران اللذان سيجري اختيارهما أميرين للشعراء، تنعقد أيضًا مودّة عميقة بين الأخطل ومحمّد عبدالوهاب، فيطلب الثاني من الأوّل الموافقة على أن يغنّي من شعره قصيدتين غزليتين شاعتا كثيرًا في تلك الفترة، هما «الهوى والشباب»، و«الصبا والجمال»، تتلوهما لاحقًا قصائد غزليّة أخرى، مثل «جفنه علّم الغزل»، و«يا ورد مين يشتريك»، التي لا يعلم أحد إلى اليوم حصّة كل من الشاعر والمطرب في نصّها الغريب المؤلّف من الفصيح والعامي المصري. فهل كتب الأخطل نصّ هذه الأغنية كلّه، أم كتب أبيات الفصحى، وكتب عبدالوهاب أبيات العاميّة كما يُقال؟

وكاد الأخطل يرث  دور شوقي في سيرة عبدالوهاب الفنيّة. فقد طلب من الأخطل مرةً الحضور إلى مصر فترة من الزمن، ليضع له فيها نصوص أغاني أحد أفلامه، وكاد الأخطل يلبّي الدعوة لولا قيام الحرب العالميّة الثانية. ولكن العلاقة استمرّت قويّة بينهما إلى أن توفي الأخطل عام 1968.

ولا شكّ أنّ للمغنين فضلًا على الشعراء في ذيوع شعرهم وانتقاله من رفوف المكتبات إلى أفواه الملايين. فكما غنّى عبدالوهاب للأخطل، غنّت له أسمهان وفريد الأطرش وفيروز. وكادت أمّ كلثوم تغنّي له أيضًا، ومن تلحين فريد الأطرش، قصيدته الشهيرة عن فلسطين. وكان مّما جعل المغنين يقتربون من الأخطل أنّه شاعر غزل، شعره قريب من الحياة والأحياء، ومفرداته مستلّة من الواقع. وقد سُئل عبدالوهاب مرةً عن كيفيّة تلحينه للقصائد التي يكتبها الأخطل فقال: «الواقع أنّها جاءتني ملحّنة من الشاعر»، وذلك لإيقاعيتها ونداوتها.

شاعر غزل مطبوع على هذا النوع من الشعر، الذي غنّاه له المغنّون، ويكاد يكون متخصّصًا فيه أو مفطورًا عليه. ويقول رواة سيرته إنّه عندما بدأ ينظم الشعر في شبابه ظلّ يهذي حتى قال في قصيدة له: 

عشتَ فالعبْ بشعرها يا نسيمُ

واضحكي في خدودها يا نجومُ

 

منجم من المعاني

ومن يقرأ ديوانه يعثر على منجم للكثير من المعاني التي تأثّر بها الشعراء اللاحقون، وفي طليعتهم الشاعر نزار قبّاني، الذي كان يعتبره أحد أساتذته. والواقع أنّ اسم الأخطل الصغير بين شعراء زمانه كان مثل اسم نزار قبّاني بين شعراء زمانه من حيث الاهتمام بالمرأة والحب وشتّى المشاعر الدافئة، وهو ما أمّن له ولشعره العبور، لا إلى عالم الغناء وحده، بل إلى العالم الحديث قبل كل شيء، وهو ما عجز عن تحقيقه شعراء كبار من جيله، مثل بدوي الجبل والجواهري والقروي وحافظ إبراهيم وأمين نخلة، الذين جبّت أواصرهم مع الماضي أواصرهم مع الحاضر.

ويحسن إيراد بعض الأمثلة من غزله لوصفه والبحث في كنفه... فمنه أو من أشهره:

كفاني يا قلبُ ما أحملُ

أفي كلّ يومٍ هوى أوّلُ؟

ومنه:

رسالة من فمه لفمها

كذا رسالاتُ الهوى تُختصرُ

ومنه:

أيّها الخافق المعذّبُ يا قلبي

نزحتَ الدموعَ من مقلتيّا

أأنا العاشق الوحيد لتُلقى

تبعاتُ الهوى على كتفيّا؟

ومنه:

تحلم الحلم لؤلؤيا فتمليه

طهورًا على الصبا شفتاها

ومنه:

أنت ذوّبتَ في محاجرها السحرَ

ورصّعتَ باللآلئ قاها

أنت عسّلت ثغرها فقلوب الناس

نحلٌ أكمامها شفتاها

ومنه:

تعجّب الليل منها عندما برزت

تسلسل النور في عينيه عيناها

وما لا يُحصى من هذه التشابيه والتعابير التي لم تكن مألوفة يومها:

قمّ ننهنه شفتينا

ونذوّب مهجتينا

رضي الحبُّ علينا يا حبيبي

 

أو كقوله:

يا صارفَ الكأسِ عنّا لا تضنَّ بها

ويا أخا الوترِ المكسالِ لا تنمِ

 

نلاحظ أوّلًا التأثير الذي تحدثه كلمات، مثل: نزحت الدموع من مقلتيّا، ترشف مقلتاها الكرى، والحلم اللؤلؤي، أنت ذوّبت في محاجرها السحر، وعسّلت ثغرها، وتسلسل النور عيناها، قمّ ننهنه شفتينا، ويا أخا الووتر المكسال.

ولا ينسى فضل الشعر على الحسن، فعندما يفاضل بينهما يكلّل جبين الشعر بغار السبق:

ما الحسنُ لولا الشعرُ إلاّ زهرةٌ

يلهو بها في لحظتين النظرُ

لكنّها إن أدركتها رقةٌ

من شاعر أو دمعةٌ تنحدرُ

سالت دماء الخلد في أوراقها

ونام تحت قدميها القمرُ

 

مزج الغزل والوطني

وقد تسلّلت مفردات غزله إلى شعره الوطني فمزج بينهما مزج العاجز عن الفصل بين عالمين مختلفين، فقال في عيد الجهاد:

قُمّ نقبّل ثغرَ الجهاد وجيدَه

أشرق الكونُ يوم جدّد عيدَه

فكأنّه لفرط ما استخدم مفردات الغزل في غزله ولم يتمكّن من كبح جماحها عندما أهلّ عيد وطني فبدا للجهاد ثغر وجيد، وهو ما لم يعرفه الجهاد يومًا ولا أوصافه.

وفي غزله من العبارات ما يحمل جوازًا للعبور إلى أزمنة لا انقضاء لها، مثل: «إيهٍ خيالَ المانعي طيب الكرى»، أو مثل هذا الاستفهام الساذج: «ما للأقاحية السمراء قد صرفت عنّا هواها أرقُ الحسن ما سمحا»، وهو استفهام لا ينقضي ويتكرّر على الدوام.

على أنّ الطرافة وحدها ليست كافية لإنارة السمات المميّزة لغزله، فمن مميّزاته كذلك أنّه ليس غزلًا وصفيًا تصويريًا في الغالب، بل يغلب فيه التحوّل إلى حركة وجدانيّة تتعمّق الحسّ الجمالي في الداخل. وهذا التحوّل يجعل من الوصف الخارجي ظاهرة حركيّة تشارك مشاركة أساسيّة في التعبير عن امتلاء الوجدان بنبضات الشاعر الجماليّة. وقد تساءل الناقد حسين مروّة مرّة: ماذا يعني أن يقول الأخطل مثلًا وهو يتغزّل:

إيهِ ريحانة الرياحين فيضي

مرحًا واملأي الجوانح وجدا

امسحي جبهة الظلام تفض نورا

ومُرّي على الصخور فتندى

 

هل يعني مثل هذا لتصوّر للجمال سوى الشعور الداخلي بالاندهاش من روعة الجمال المعيّن؟

جمع شعر الأخطل الصغير بين فنون شعريّة مختلفة، وإذا كانت «قصيدة المناسبة» في طليعة هذه الفنون، فإنّها ليست القصيدة الأبرز في شعره... فهذه القصيدة هي قصيدة الغزل التي تختلف في كثير أو قليل عن قصيدة الغزل العربيّة التقليديّة، لأنّها في أحيان كثيرة ترجمة دقيقة لتجربة الشاعر نفسه لا مجرّد تكرار لتجارب أو للغة شعريّة سابقة.

وقد حمل شعره أحيانًا نفحات لم تكن مألوفة من شاعر نواسي مثله، مثلّت جديدًا في الشعر وفي الفكر معًا. ففي قصيدة بعنوان «حكمة الدهر» يقول:

حكمةُ الدهر أن نعيش سكارى

فاجمعا لي الكؤوس والأوتارا

واجلواها دنيا ممتعة الحسن

كما تجلون إحدى العذارى

فانهب العيش لا أبا لك نهبا

واطرّح عنك وجهك المستعارا

لستَ مهما عُمرّتَ غير جناحٍ

حطّ في الدوح لحظة ثم طارا

 

فهو في هذه الأبيات يجمع بين النواسيّة والخياميّة. وتتعزّز هذه الأخيرة بأدلّة من قصائد أخرى، له منها هذان البيتان:

من كان من دنياه ينفض راحه

فأنا على دنياي أقبض راحي

إنّي أفدّي شمس كلّ أصيلةٍ

حذَر المغيب بألف شمس صباحِ

هذا الحب للحياة يتجاوز التعلّق بالعيش وإيثار العافية إلى الولع بالجانب الشعري من الحياة، وتحسّب لفقده، وقلق إزاء خلو العالم منه عند الغياب عن هذا العالم وليس شيئًا آخر. والواقع أنّ الأخطل الصغير كان فنّانًا أصيلًا غنى عواطف قلبه فأطرب وأشجى، وصوّر اختبارات نفسه في حالتي المرح والأسى فارتفع به الشعر الغنائي إلى أعلى مستوى. إنّ سرّ الفن في شعره هو تلك الشاعريّة التي تتناول الحروف فتنسج منها ديباجة مشرقة الألوان والظلال، وتستوحي المعاني فتخرجها بصور رائعة الجمال.

ويرى أنيس الخوري المقدسي أنّ الأخطل الصغير تأثّر بالرومانسيّة الغربيّة، ولكن هذه الرومانسيّة لم تفصله عن تراثه العربي الصميم، فعاش في جوّها حاملًا رسالته الشعريّة في ألفاظ مصفاة وتعابير موسيقيّة ومعارض جديدة من الأوزان والمعاني. وقد أصاب الشاعر عبدالمنعم الرفاعي عندما قال فيه:

 

لم يزل صوته كأنّ الليالي

سكبت صفوها على تحنانِهْ

كالنسيم العليل خفقُ جناحيه

ووقعُ الندى رقيقُ بيانِهْ

 

بين القديم والحديث

وقد أربك بشعره النقّاد، فاعتبره بعضهم كلاسيكيًا ملحقًا بالقديم، واعتبره البعض الآخر جسرًا بين القديم والحديث، أو خاتمة لزمن وبداية لزمن آخر، وإن أجمعوا على أنّ السمة الغنائيّة، بمفهومها المدرسي وبمفهومها الأعم، هي السمة الشائعة في شعره. ولكنّ غنائيته لم تستسلم إلاّ قليلًا إلى الخطابيّة أو إلى الخواء الفكري. فقد استطاع أن يُضفي على خطابيّته حيث وُجدت، أو على الخواء الفكري حيث وُجد في شعره، تلك الخاصيّة الجماليّة المستقلّة التي اجتمعت لها مجموعة من العناصر أبعدت عن شعره تلك العيوب التي تشوب غنائيّة الشعر العربي في الجيلين السابقين بالخصوص. من هذه العناصر مزيّة الصدق، ومزيّة الصفاء النفسي والتعبيري، ومزيّة الجدّة والطرافة لا في النغمة واللفظة والعبارة وحسب، بل في الصورة الشعريّة كذلك، وفي طريقة التصوير الإيحائي للموضوع الشعري. إنّ عنصر الجدّة والطرافة هذا، بجملة مقوّماته، كثيرًا ما يُنقذ شعره من النثريّة أو التقريريّة حين ينزلق إليهما. فهناك مثلًا ألوان من الغزل عنده لا تخرج بمضمونها عن الغزل التقليدي المكرور في شعرنا. ولكن الشاعر يخلع على مثل هذا الغزل طرافة في التصوير وفي العبارة تهيء له مناخًا شعريًا خاصًا يخفي وجهه التقليدي حتى ليوحي لنا بأنّه جديد.

كان الأخطل الصغير معجبًا بالأخطل الكبير الأموي ويجد صلات روحيّة كثيرة تصله به استنادًا إليها سمّى نفسه «الأخطل الصغير». ففي مقدّمة ديوانه «الهوى والشباب» يقول: «وكان يعجبني من الأخطل (أي الشاعر الأموي القديم) خفّة روحه وإبداعه في اصطياد المعاني، يقودها ذليلة إلى فصيح بيانه. وفوق ذلك فقد كان الشاعر المسيحي الفذّ تنفتح له أبواب الخلائق يملأها لذّة وطربًا وإدلالا». وذلك ما رآه الشاعر المصري محمود أبوالوفا، إذ قال: «إنّ المثل الأعلى للأخطل الصغير في الشعر كان الأخطل الكبير شاعر بني أميّة، الذي قال فيه المعرّي إنّ سادات بني أميّة كانوا يطربون لشعره ويقدّمونه. فكان للأخطل الصغير ذلك الأسلوب المنفرد بين شعراء لبنان كما كان لشوقي بين شعراء مصر، فكلاهما نسيج وحده».

ولا شكّ في أنّ هناك سببًا آخر دفعه لأن يُطلق على نفسه هذا اللقب. فقد تمثّل له ما كان للأخطل القديم من موقف سياسي تجاه الدولة الأمويّة، فرأى أن يقف مثله تجاه الحركة العربيّة الجديدة التي كان يواليها. فها هو يتابع حديثه في مقدّمة «الهوى والشباب»، فيقول: «فلم أر كاسم الأخطل أوقع به ما كانت تقطره القريحة المتألّمة من شعر لم يبق منه إلاّ كبقيّة الوشم في اليد. وكيف يُستطاع حفظ ذلك الشعر الذي لم أكن أجرؤ على الاحتفاظ به بين أوراقي». والأخطل يتحدّث بذلك عن الفترة الأخيرة من الحكم العثماني للبنان التي اضطرّ فيها للاختباء في الجبل حتى زالت تلك الفترة، بعدها عاد إلى بيروت ليتابع كتابة الشعر وإصدار مجلّة «البرق»، التي كان قد أصدرها عام 1908. وقد تحدّث عنها مرّةً بقوله: «لقد سعت إلى إحياء الروح العربيّة وإلى الإسهام قدر طاقتها في النهضة القوميّة العربيّة، التي كانت تباشيرها تلوح في الأفق».

ويبدو أنّ جريدة «البرق» ساهمت في تطوير تجربة الأخطل وربط شعره بالحياة وما يمور فيها، ونأت به عن كتاب «الأغاني» كرمز لمرجعيّة ثقافيّة شبه وحيدة له كان يعود إليها في شبابه. ويصف لنا الشاعر أمين تقيّ الدين إدارة هذه الجريدة التي كانت تعجّ يوميًّا بالأدباء والشعراء اللبنانيين والعرب على النحو التالي: «ما رأيت كإدارة «البرق» فيما رأيت إلى اليوم من إدارات الجرائد، فلا هي إدارة جريدة، ولا هي نادٍ أدبي، ولا هي قهوة المنادمة، ولا هي خان للمسافرين. أتيتها عند الظهر فإذا بمائدتها الكبرى المغطّاة أبدًا بالجرائد والمجلاّت لتفكهة الزائرين وتسليتهم، قد تحوّلت إلى مائدة للأكل، وصارت المجلاّت صحافًا للحم، والجرائد مناشف للصحون. وزرتها في العصر فإذا إخوان الأدب قد التقوا فيها على موعد، وكأنّما هي مزار يتبرّك به، فهناك الأديب التاجر، والأديب العامل، والأديب المحامي، وحملة الأقلام من كلّ صنف وطراز».

وكان حظّ «البرق» مع السلطة حظًا سيئًا. فلأنّها رفضت ممالأة الحكم العثماني عُطّلت من عام 1914 حتى عام 1918، وعندما عادت إلى الصدور زمن الانتداب الفرنسي عطّلها الفرنسيون نهائيًا إثر نشرها قصيدة «مصرع النسر» التي يرثي فيها الأخطل الصغير الملك فيصل الأوّل عام 1932 ومطلعها:

لبست بعدك السوادَ العواصمْ

واستقلّت لك الدموعَ المآتمْ

ودّ لو يفتديك صقرُ قريشٍ

بالخوافي من الردى والقوادمْ

 

سيرة وطنيّة وقوميّة

وهكذا كانت سيرة الأخطل الصغير سيرةً وطنيّةً وقوميّةً لا أيّة سيرة أخرى. ومع الوقت تكرّست له صفتان: صفة الشاعر اللبناني الأبرز، وصفة ممثل لبنان في المناسبات العربيّة الكبرى. ففي سنة 1931 دُعي إلى القدس لرثاء الشريف حسين بن علي، وفي عام 1932 اشترك في حفلة تأبين أمير الشعراء شوقي في القاهرة، وقصد العراق سنة 1933 لرثاء الملك فيصل الأوّل، كما رثى سنة 1936 إبراهيم هنانو في حلب، واشترك لاحقًا في مهرجان المتنبّي في حلب والزهاوي في بغداد.

وتُشكّل بعض هذه القصائد علامات فارقة في مسيرة الشعر المعاصر... فمن قصيدته في شوقي:

قال الملائك: من هذا؟ فقيل لهم:

هذا هوى الشرق هذا ضوء ناظره

هذا الذي نظم الأرواح فانتظمت

عقدًا من الحب سلك من خواطره

هذا الذي رفع الأهرام من أدبٍ

وكان في تاجها أغلى جواهره

هذا الذي لمس الآلام فابتسمت

جراحها ثمّ ذابت في محاجره

كم في ثغور العذارى من بوارقه

وفي جفون اليتامى من مواطره

ومن قصيدته في الزهاوي:

بغداد ما حمل السرى

مني سوى شبحٍ مريبِ

جفلت له الصحراء والتفت

الكثيبُ إلى الكثيبِ

وتنصّتت زمرُ الجنادب

من فُويهاتِ الثقوبِ

يتساءلون وقد رأوا

قيس الملوّح في شحوبي

والتمتمات على الشفاه

مضرّجاتٍ بالنسيبِ

تبكي لها قُبَلُ الصبا

ويذوب فيها كلُّ طيبِ

يتساءلون: من الفتى العربي

في الزيّ الغريبِ؟

 

وهي قصيدة سيحاكيها الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري عند مشاركته في يوم تكريم الأخطل، فيلقي قصيدة على وزنها وقافيتها يرد فيها:

أبشارة، أنذا لديك

محملًا برد القلوبِ

من سوح دجلة والفرات

منابت المجد الذهيبِ

من نخله لزيوته

ومن الشمال إلى الجنوبِ

من دار هارون الرشيد

لــــــــــــــــــــــدارة الأدب الحـــــــســــــــــــيـــــــــبِ

من ألف ليلتها: لليلتك

العريقة في الطيوبِ

 

وقد أذكت الثورة الفلسطينيّة في شعره لهيبًا من فخر قومي كقوله من قصيدةٍ له في فلسطين:

سائل العلياء عنا والزمانا 

هل خفرنا ذمَّةً مُذْ عرفانا

المـروءاتُ التي عـاشت بنـا لم 

تزل تجري سعيرًا في دِمانا

 

والواقع أنّ من يقرأ شعره يجد أنّ له تاريخًا سوريًا وعراقيًا وفلسطينيًا ومصريًا وعربيًا. فهو لبناني موزّع على كلّ بلد عربي يتعامل معه كما لو أنّه بلده بالذّات. فعدد قصائده في الشام لا يقلّ عن عدد قصائده في لبنان، وإذا سُئل عن الشام أجاب:

قالوا تُحبّ الشام، قُلتُ جوانحي

مقصوصة فيها، وقُلتُ فؤادي!

 

وترد مصر كثيرًا في شعره، بل إنّ لبنان نفسه هو مصر: «لبنان يا مصر مصر في مطامحه، كما علمت، ومصر في مفاخره».

ويلخّصه إحسان عبّاس تلخيصًا جيّدًا، عنــــدما يقــــول إنّ الآفـــاق الرحبة التي استشرفها إلى أن أصبح وجودها في شعره كأمواج الصوت حين تبتعد عن مصدرها هي تلك الأقاليم الثلاثة التي تصله بالدائرة الجماعيّة: الشعور بآلام الإنسانيّة، والشعور بلبنان، والشعور بالعروبة. ولا ريب أنّ هذه الثلاثة مجتمعة هي مفتاح الاتّجاه الأصيل في شعره، ذلك لأنّه ترعرع أوّل أمره في أحضان الإحساس بآلام الجماعة، وفي ظلّ الفكرة العربيّة، وفي ظلّ التجارب النفسيّة بينه وبين الوطن.

ولا ننسى وقفـــاته إلى جانب الفقراء في عدّة قصــائد، مثل «الفقـــراء» و«ربّ قـــل للـــجـوع» و«الجابي»، ولا نبــالغ إذا زعمنا أنّه كان ملتزمًا قبل عصر الالتزام الذي أدركه في أواخر حياته، فلمّا رووا له مرّة ما ينـــصّ عليه، أجاب: «إذا كان هذا هــو الالتـــزام فقد كنّا ملتزمين دون أن نـــدري... صحيح أنّنـــا كنّا شعراء مناسبات، ولكنّـــنا كنّا نتـــوسّل المناسبة لإبـــداء رأيــنا فـــي الأجــنبي المستعمر وفــــي الفـــئات الحاكـــمة وفي قضايا اجتماعيّة كثـــيرة تجعـــل منّا شعـــراء تقــدّمييــن لا شعراء رجعيين»■

الموسيقار‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬والأخطل‭ ‬الصغير