المنظور السّردي في رواية أيّام بغداد للجيزاوي

المنظور السّردي  في رواية أيّام بغداد للجيزاوي

يصنَّف الروائي خليل الجيزاوي بأنه من كتّابِ الواقعيةِ التي تمْتزِج في أحايين كثيرة بعناصر من التخْيِّيلِ الذي ينتمي في تأسيسه إلى أفكار واقعيّة أيضًا، مع أشكال من الفانتازيا القريبة من الواقعيةِ السحريةِ. بدا ذلك مع روايته الأولى يوميات مدرّسِ البناتِ التي صدرت عام 2000، ومرورًا برواية أحلام العايشة (وهي قرية مصرية بمحافظة الغربية) عام 2003، و«الألاضيش» (2004)، و«مواقيت الصمت» (2007)، و«سيرة بني صالح» (2011)، وحتى رواية أيام بغداد، التي صدرت عن سلسلة روايات دار المعارف بالقاهرة عام 2019؛ وتنتمي للتفكير الواقعي الذي يتزين بأفكار من التراث والأفكار الشعبية، وأحيانًا الأسطورة، والفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة إحسان عبدالقدوس للرواية عام 2019.

 

 

 

المنظور‭ ‬السردي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬المعاصرة‭ ‬مكونٌ‭ ‬بلاغي‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬عليها‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحدِد‭ ‬نقاط‭ ‬تمركُز‭ ‬الدلالة،‭ ‬وتوزيعها‭ ‬داخل‭ ‬الممرات‭ ‬السردية،‭ ‬والمكونات‭ ‬المصاحبة‭ ‬والسياقات‭ ‬التي‭ ‬يعتمد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬جماليات‭ ‬الرواية،‭ ‬وإذا‭ ‬أضيفت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬حكاية‭ ‬الحركة‭ ‬الواحدة‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬والإيقاع‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬لُبّ‭ ‬هذه‭ ‬الحركة،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬نتحدّث‭ ‬عن‭ ‬مفرداتِ‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬الروائية،‭ ‬ولماذا‭ ‬تضامنت‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬ليمكن‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬واحدة،‭ ‬في‭ ‬الأثر‭ ‬الدلالي،‭ ‬وفي‭ ‬المكون‭ ‬الحكائي،‭ ‬وفي‭ ‬الخطوط‭ ‬السردية،‭ ‬وفي‭ ‬الذوات‭ ‬التي‭ ‬تتحرك،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الخلفيات‭ ‬السياسية‭ ‬والتراثية‭ ‬والأسطورية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬ركائز‭ ‬لهذا‭ ‬المنظور‭.‬

تبدأ‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬الحيّز‭ ‬المكاني‭ (‬مصر‭) ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬المرجعية‭ ‬المادية‭ ‬للراوي،‭ ‬ويسيطر‭ ‬سيطرةً‭ ‬تامةً‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬السرد،‭ ‬وينتهي‭ - ‬أيضًا‭ - ‬بالحيّز‭ ‬المكاني‭ ‬نفسه،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬الحيّزين‭ ‬الماديين،‭ ‬تأتي‭ ‬الدلالة‭ ‬المركزية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬بُعدين‭ ‬ظاهرين‭: ‬الأول‭ (‬الزماني‭): ‬الأيام‭. ‬والثاني‭ (‬المكاني‭): ‬بغداد‭. ‬

وما‭ ‬بين‭ ‬البُعدين‭ ‬تبدأ‭ ‬الحركة‭ ‬السردية‭ ‬الواحدة‭ ‬وتنتهي‭: (‬بغداد‭/ ‬الحِلّة‭/ ‬المسيب‭/ ‬جِسْر‭ ‬المسيب‭/ ‬النجف‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬صاحب‭ ‬هذه‭ ‬المرتكزات‭ ‬الدلالية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬ماديّة‭ ‬الحركة،‭ ‬أو‭ ‬مادية‭ ‬الحدث‭ ‬الروائي‭.‬

تصنّف‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬حالة‮»‬‭ ‬يمثِّلها‭ ‬الراوي‭ ‬الذي‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأبعاد‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬الوعي‭ ‬الحكائي‭ ‬للنص‭:‬

‭- ‬كل‭ ‬الأفعال‭ ‬الوصفية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬السيطرة‭ ‬السردية‭ ‬تخص‭ ‬الراوي‭.‬

‭- ‬كل‭ ‬الأفعال‭ ‬السياقية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬السيطرة‭ ‬الدلالية‭ ‬تخصّ‭ ‬المكان‭.‬

‭- ‬كل‭ ‬الأفعال‭ ‬المحايدة‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬السيطرة‭ ‬الفكرية‭ ‬تمثّل‭ ‬خلفيات‭ ‬المكان‭.‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نصِفَ‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬قدّمها‭ ‬النص‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬حركة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تطرح‭ ‬مجموعةً‭ ‬من‭ ‬التساؤلات‭ ‬التي‭ ‬نشاهدها‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬السردي‭.‬

‭- ‬التساؤلات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تمتلئ‭ ‬بها‭ ‬الحكاية‭.‬

‭- ‬التساؤلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬منعطفات‭ ‬فكرية‭.‬

‭- ‬التساؤلات‭ ‬الوجودية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬مرتكزات‭ ‬نفسيّة‭ ‬وإنسانية‭.‬

 

منظور‭ ‬وجودي

لا‭ ‬يقدّم‭ ‬الراوي‭ ‬صورة‭ ‬لمكان‭ ‬وزمان‭ ‬محدّدين‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬يقدّم‭ ‬تصورًا،‭ ‬أو‭ ‬منْظورًا‭ ‬وجوديًا،‭ ‬وإذا‭ ‬حاولنا‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬التساؤلات‭ ‬التي‭ ‬يطرحها‭ ‬المنظور‭ ‬السردي‭ ‬في‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬بغداد‮»‬،‭ ‬فسوف‭ ‬تلاحقنا‭ ‬الدلالات‭ ‬المتضامنة‭ ‬وهي‭ ‬تمثّل‭ ‬في‭ ‬بعضها،‭ ‬وبخاصّة‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬لطالب‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬عين‭ ‬شمس،‭ ‬وهو‭ ‬يتردد‭ ‬بين‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬خلفية‭ ‬مكانية‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬الخلفية‭ ‬الحكائية‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭ ‬المركزية‭ ‬‮«‬بغداد‮»‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬القاهرة،‭ ‬المكان‭ ‬المؤسِس‭ ‬للذاتِ،‭ ‬وبغداد‭ ‬المكان‭ ‬المصاحب،‭ ‬وبالتأمل‭ ‬ندرك‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬صورة‭ ‬وجودية‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬المفْردات‭ ‬التي‭ ‬تمثّلها‭ ‬الحركة‭ ‬الروائية‭ ‬الواحدة‭:‬

‭- ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الاختيار‭... ‬القاهرة‭ + ‬بغداد

‭- ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الجبر‭...  ‬القاهرة‭ + ‬بغداد

‭- ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬الزمانية‭...  ‬القاهرة‭ + ‬بغداد

‭- ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬السردية‭... ‬القاهرة‭ + ‬بغداد

‭- ‬الوجود‭ ‬المحايد،‭ ‬والذي‭ ‬يمثّل‭ ‬هنا‭ ‬بغداد‭ ‬

والأخير‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سياق‭ ‬سردي‭:‬

السياق‭ ‬الأول‭: ‬الشعبي،‭ ‬ممثلًا‭ ‬في‭ ‬الحكايات‭ ‬والأغاني‭ ‬التي‭ ‬ساقها‭ ‬الراوي‭.‬

السياق‭ ‬الثاني‭: ‬الأسطوري‭ ‬ممثلًا‭ ‬في‭ ‬أبجديات‭ ‬أسطورة‭ ‬عشتار‭ ‬الباسلة‭.‬

السياق‭ ‬الثالث‭: ‬الإنساني‭: ‬ممثلًا‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬العلاقات‭.‬

السياق‭ ‬الرابع‭: ‬الوجودي‭ ‬ممثلًا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭.‬

سواء‭ ‬كان‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬جسر‭ ‬المسيّب،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬الإيرانية‭ ‬العراقية،‭ ‬يقول‭ ‬الراوي‭: ‬‮«‬كاد‭ ‬الليل‭ ‬أن‭ ‬ينتصف‭ ‬عندما‭ ‬قام‭ ‬من‭ ‬غفوته‭ ‬فزِعًا‭ ‬على‭ ‬أصوات‭ ‬عالية‭ ‬وصاخبة‭ ‬وهرَج،‭ ‬سريعًا‭ ‬سأل‭ ‬يوسف‭ ‬عندما‭ ‬شعر‭ ‬أنّ‭ ‬المرْكِب‭ ‬تهتز‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬البحر‭: ‬إيه‭ ‬يا‭ ‬يوسف‭ ‬هنموت‭ ‬ولا‭ ‬إيه»؟‭! (‬الرواية‭ ‬ص‭ ‬27‭).‬

وعلى‭ ‬ذِكْر‭ ‬الموت‭ ‬واهتزاز‭ ‬السفينة،‭ ‬تذكر‭ ‬كيف‭ ‬تعرّض‭ ‬للموتِ‭ ‬عندما‭ ‬عمِل‭ ‬مع‭ ‬مقاول‭ ‬الكهرباء‭ ‬في‭ ‬كفر‭ ‬الجبل‭ ‬بالهرم،‭ ‬فعندما‭ ‬ضرب‭ ‬الأجَنَة‭ ‬بالمطرقة،‭ ‬لمست‭ ‬الأجنة‭ ‬كابل‭ ‬السّلك‭ ‬الرئيسي‭ ‬للكهرباء‭ ‬بطريق‭ ‬الخطأ،‭ ‬فلسعه‭ ‬السلك‭ ‬واهتزّ‭ ‬به‭ ‬السلّم‭ ‬وكاد‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬المَنور،‭ ‬لولا‭ ‬ستر‭ ‬الله،‭ ‬وتعلّق‭ ‬بنطلونه‭ ‬في‭ ‬مسمار‭ ‬كبير‭ ‬بالسلّم،‭ ‬فوقع‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬البسطة‭ ‬التي‭ ‬بين‭ ‬الشقتين‭. (‬الرواية‭ ‬ص‭ ‬28‭).‬

 

حكاية‭ ‬المنظور‭ ‬السردي‭ ‬

تقوم‭ ‬بلاغة‭ ‬المنظور‭ ‬الحكائي‭ ‬في‭ ‬النصّ‭ ‬الأدبي‭ ‬مقام‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬رقعة‭ ‬البيت‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬البلاغة‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬رقعة‭ ‬النصّ‭ ‬كلّه،‭ ‬يقْصر‭ ‬أو‭ ‬يطول‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬الأدوات‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬اعتمد‭ ‬عليها‭ ‬الراوي،‭ ‬فهناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬تعْتمِد‭ ‬على‭ ‬منظور‭ ‬سردي‭ ‬واحد،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضًا‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬المنظور‭ ‬الحكائي‭ ‬داخل‭ ‬المنظور‭ ‬السردي؛‭ ‬لأنّ‭ ‬المفْردات‭ ‬والمكونات‭ ‬هي‭ ‬المهاد‭ ‬الدلالي‭ ‬للنص،‭ ‬ومفرداته‭ ‬أكثر‭ ‬انبساطًا‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬والثاني‭ ‬يرتبط‭ ‬بما‭ ‬ترتبط‭ ‬الحكاية،‭ ‬بشكل‭ ‬واضح،‭ ‬وقد‭ ‬يتقاطع‭ ‬المنظوران‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المكونات،‭ ‬وقد‭ ‬يتوازيان‭ ‬في‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬رواية‭ ‬أيام‭ ‬بغداد‭ ‬للجيزاوي،‭ ‬حيث‭ ‬يتوازى‭ ‬المنظور‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬رحلة‭ ‬استبطانية‭ ‬داخل‭ ‬مفردات‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬مع‭ ‬المنظور‭ ‬الحكائي‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬صورةً‭ ‬مصغرةً‭ ‬للمنظور‭ ‬السردي‭ ‬من‭ ‬ناحيته،‭ ‬وضرورة‭ ‬حكائية‭ ‬للأفعال‭ ‬التي‭ ‬يعْتمِد‭ ‬عليها‭ ‬كلا‭ ‬المنظورين،‭ ‬فنرى‭:‬

‭- ‬ذاكرة‭ ‬الصبا‭ ‬بين‭ ‬القاهرة‭ ‬وبغداد‭ ‬وما‭ ‬تمثِّله‭ ‬من‭ ‬أبعاد‭ ‬وجودية‭.‬

‭- ‬الرموز‭ ‬الحكائية‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬الراوي‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬المنظور‭.‬

‭- ‬المحددات‭ ‬الثقافية‭ ‬والبيئية‭ ‬التي‭ ‬تمثِل‭ ‬المكانين‭.‬

‭- ‬اللغة‭ ‬المحكية‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬العراق‭.‬

‭- ‬الشخصيات‭ ‬العراقية‭ ‬وما‭ ‬تمثِّله‭ ‬من‭ ‬امتداد‭ ‬للشخصية‭ ‬المصرية‭.‬

‭- ‬الارتباط‭ ‬الذهني‭ ‬والعقلي‭ ‬بين‭ ‬الشخصيتين‭.‬

‭- ‬تجليّات‭ ‬المشهد‭ ‬الطائفي‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬السنّة‭ ‬والشيعة‭.‬

‭- ‬القوة‭ ‬المذهبية‭ ‬وما‭ ‬تمثّله‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬اجتماعي‭.‬

‭- ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬مفردات‭ ‬التفاصيل‭ ‬الحكائية‭ ‬بين‭ ‬المكانين‭.‬

 

محور‭ ‬دلالي

لذلك‭ ‬إذا‭ ‬اتخذنا‭ ‬مِحْورًا‭ ‬دلاليًا‭ ‬نبدأ‭ ‬به‭ ‬مع‭ ‬ذاكرة‭ ‬الراوي‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وكيف‭ ‬تتحول‭ ‬الشخصية‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬المحددات‭ ‬الدلالية‭ ‬التي‭ ‬استقرت‭ ‬عليها‭ ‬عقلية‭ ‬الراوي‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬سوف‭ ‬نرى‭ ‬ملامح‭ ‬المنظور‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إليها‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭:‬

‭- ‬المنظور‭ ‬الحكائي‭ ‬الحي‭.‬

‭- ‬المنظور‭ ‬الحكائي‭ ‬الثابت‭.‬

‭- ‬المنظور‭ ‬الحكائي‭ ‬النفسي‭.‬

‭- ‬المنظور‭ ‬الحكائي‭ ‬الاجتماعي‭.‬

وكل‭ ‬منظور‭ ‬منها‭ ‬يمثّل‭ ‬فكرة‭ ‬وجودية،‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬إنسانية‭ ‬تتحدد‭ ‬ملامحها‭ ‬حسب‭ ‬خلفية‭ ‬الراوي‭ ‬وقناعاته‭ ‬الشخصية،‭ ‬وارتباط‭ ‬الفكرة‭ ‬الأساسية‭ ‬عنده‭ ‬بما‭ ‬يمثّل‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬حكائية‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬ففي‭ ‬بداية‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭ ‬يقدّم‭ ‬الراوي‭ ‬صورةً‭ ‬المصريين‭ ‬الراحلين‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين،‭ ‬بما‭ ‬تمثّله‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬هجرة‭ ‬جماعية‭ ‬اختيارية،‭ ‬تمثّل‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬التحول‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للمنظورين‭ ‬الماديين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والعراق،‭ ‬الأولي‭ ‬بعدد‭ ‬سكانها‭ ‬وأعبائها‭ ‬السياسية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬والثانية‭ ‬بطموحات‭ ‬حكامها‭ ‬واختياراتها‭ ‬الوجودية‭ ‬التي‭ ‬تمثّلت‭ ‬في‭ ‬حربين‭ ‬عظيمتين‭ ‬غيّرتا‭ ‬تاريخ‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬عقود‭ ‬قادمة،‭ ‬ولا‭ ‬أظنّ‭ ‬أننا‭ ‬سنتخلص‭ ‬من‭ ‬آثارها‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬القريب‭.‬

 

حالة‭ ‬نادرة

هنا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقدّم‭ ‬المنظور‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬منظور‭ ‬حكائي‭/ ‬سردي‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬نقدّمه‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنه‭ ‬منظور‭ ‬وجودي‭ ‬حيّ‭ ‬ليس‭ ‬لحركة‭ ‬هجرة‭ ‬جماعية‭ ‬كما‭ ‬رأينا‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬لكنّه‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنه‭ ‬حالة‭ ‬وجودية‭ ‬نادرة‭ ‬المثال،‭ ‬خلّفتْ‭ ‬وراءها‭ ‬في‭ ‬البلدين‭ ‬سياقات‭ ‬وجودية‭ ‬أكثر‭ ‬رعبًا‭ ‬في‭ ‬التحولات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية،‭ ‬وحتى‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬تتساوى‭ ‬بهذين‭ ‬المنظورين‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭ ‬مع‭ ‬بدايته‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الثالث،‭ ‬برغم‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬والثاني‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬يقول‭ ‬الراوي‭: ‬‮«‬نزل‭ ‬يجرّ‭ ‬حقيبة‭ ‬السفر،‭ ‬وسلّم‭ ‬على‭ ‬زملاء‭ ‬الرحلة،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حزينًا‭ ‬حزْنًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السائق،‭ ‬تأمل‭ ‬الساحة‭ ‬الواسعة؛‭ ‬ساحة‭ ‬جامع‭ ‬سيدي‭ ‬علي‭ ‬الهادي،‭ ‬كانت‭ ‬الساحة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬ممْتلئةً‭ ‬بالمصريين،‭ ‬رأى‭ ‬محلًا‭ ‬يبيع‭ ‬الكباب‭ ‬والكفتة‭ ‬والفراخ‭ ‬المشوية،‭ ‬وسمع‭ ‬عاملًا‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬المطعم‭ ‬ينادِي‭ ‬على‭ ‬الزبائن‭ ‬القليلة‭ ‬بصوت‭ ‬منّغم‭:‬

تكة‭ ‬وكباب‭.. ‬أبو‭ ‬الشباب‭ ‬اتفضل‭ / ‬تكّة‭ ‬وكباب‭.. ‬أبو‭ ‬الشباب‭ ‬ادلّل

وقرأ‭ ‬يافطةً‭ ‬طويلةً‭ ‬ملونةً‭ ‬تقول‭: ‬مطعم‭ ‬أبناء‭ ‬طنطا‭ ‬للفول‭ ‬والفلافل،‭ ‬وشاهد‭ ‬رجلًا‭ ‬مسِنًا‭ ‬يدفع‭ ‬عربةً‭ ‬صغيرةً‭ ‬عليها‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬الفاكهة،‭ ‬خطوات‭ ‬ووقف‭ ‬أمام‭ ‬مقهى‭ ‬المصريين،‭ ‬وشاهد‭ ‬التلفزيون‭ ‬وهو‭ ‬يبثّ‭ ‬أخبار‭ ‬الحرب،‭ ‬وكانت‭ ‬صورة‭ ‬جنود‭ ‬صدام‭ ‬تتدفق‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ ‬الشاشة،‭ ‬والأغنية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تتردد‭ ‬مع‭ ‬الموسيقى‭ ‬العسكرية‭: ‬

العراق‭... ‬العراق‭... ‬احنا‭ ‬مشينا‭ ‬للحرب‮»‬‭. (‬الرواية‭ ‬ص57‭).‬

 

رؤيتان‭ ‬مركزيتان

هنا‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الراوي‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يمزج‭ ‬أربعة‭ ‬عناصر‭ ‬فنية‭ ‬تخصّ‭ ‬المنظورين‭ ‬الماديين‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬روائية‭ ‬واحدة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفْسِهِ‭ ‬تمثِّل‭ ‬مكونًا‭ ‬مصاحِبًا‭ ‬للمنظورين‭:‬

‭- ‬تتمة‭ ‬الحركة‭ ‬الروائية‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬بها‭ ‬الراوي‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬والعراق‭.‬

‭- ‬تحويل‭ ‬المنظور،‭ ‬ومكوناته‭ ‬إلى‭ ‬رموز‭ ‬سردية‭.‬

‭- ‬تحويل‭ ‬الرموز‭ ‬السردية‭ ‬إلى‭ ‬مفاتيح‭ ‬للحالة‭ ‬التي‭ ‬يمثّلها‭.‬

‭- ‬ثم‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬تحويل‭ ‬الحالة‭ ‬السردية‭ ‬إلى‭ ‬منظور‭ ‬جامع‭.‬

بدا‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬يحاوِل‭ ‬ربط‭ ‬الأفكار‭ ‬والمفردات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تصاحِب‭ ‬المنظورين،‭ ‬ثم‭ ‬بدا‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬يجْعل‭ ‬من‭ ‬المنظورين‭ ‬حالة‭ ‬سردية‭ ‬واحدة،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬فإن‭ ‬توصيف‭ ‬الرواية‭ ‬بأنها‭ ‬رواية‭ ‬حالة‭ ‬توصيف‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬رؤيتين‭ ‬مركزيتين‭ ‬في‭ ‬النص‭:‬

الرؤية‭ ‬الأولى‭: ‬رؤية‭ ‬التفاصيل‭ ‬الحكائية‭ ‬في‭ ‬المنظورين‭.‬

الرؤية‭ ‬الثانية‭: ‬رؤية‭ ‬الأفكار‭ ‬المصاحبة‭ ‬للمنظورين‭.‬

وسوف‭ ‬نأخذ‭ ‬مثالين‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬ذلك‭: ‬

الرؤية‭ ‬الأولى‭: ‬رؤية‭ ‬الامتزاج‭ ‬المادي‭ ‬والثقافي‭ ‬بين‭ ‬المنظورين‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬الفصل‭ ‬الرابع،‭ ‬عندما‭ ‬تحوّل‭ ‬الراوي‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الجذب‭ ‬التي‭ ‬لقيها‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬العمل،‭ ‬وهذا‭ ‬توحيد‭ ‬للتفصيل‭ ‬الحكائي،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬حالة‭ ‬النفور‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يلقاها‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاسترجاع‭ ‬من‭ ‬ذاكرته‭ ‬وهو‭ ‬طالب‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مصر‭.‬

يقول‭ ‬الراوي‭: ‬‮«‬خلال‭ ‬أيام‭ ‬عاشوراء‭ ‬تأتي‭ ‬الوفود‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬محافظات‭ ‬العراق،‭ ‬ومن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬يكثر‭ ‬فيها‭ ‬مذهب‭ ‬أهل‭ ‬الشيعة،‭ ‬مثل‭ ‬إيران‭ ‬وسورية‭ ‬والبحرين‭ ‬والكويت‭ ‬ولبنان،‭ ‬إلى‭ ‬زيارة‭ ‬جامع‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬في‭ ‬كربلاء،‭ ‬ثم‭ ‬تتجه‭ ‬هذه‭ ‬الوفود‭ ‬إلى‭ ‬زيارة‭ ‬جامع‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬النجف،‭ ‬وبالطبع‭ ‬يمتلئ‭ ‬الفندق‭ ‬بالزائرين،‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬تستمر‭ ‬مدة‭ ‬أربعين‭ ‬يومًا‮»‬‭. (‬الرواية‭ ‬ص‭ ‬100‭).‬

 

تحفيز‭ ‬حكائي

ولأن‭ ‬هذا‭ ‬التفصيل‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬منظورًا‭ ‬تاريخيًا‭ ‬محايدًا‭ ‬للنص،‭ ‬برغم‭ ‬انتمائه‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬التفصيل‭ ‬الحكائي،‭ ‬حاول‭ ‬الراوي‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬منه‭ ‬صورةً‭ ‬مِنْ‭ ‬صورِ‭ ‬الجذب‭ ‬الدلالي‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬تحفيزًا‭ ‬حكائيًا‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬المنظور‭ ‬مكونًا‭ ‬فكريًا،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬مكونًا‭ ‬اجتماعيًا‭ ‬ونفسيًا؛‭ ‬لأن‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬تمثّلها‭ ‬عاشوراء‭ ‬ومقتل‭ ‬الحسين‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬تعد‭ ‬حالةً‭ ‬غرائبية‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬العقيدة،‭ ‬وحالة‭ ‬معيشية،‭ ‬وطريقة‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬كسب‭ ‬العيش‭ ‬لملايين‭ ‬العراقيين،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بقليل،‭ ‬فعل‭ ‬الراوي‭ ‬المنظور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للحرب،‭ ‬والذي‭ ‬جعل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬رجال‭ ‬العراق‭ ‬أرقامًا‭ ‬على‭ ‬الجبهة،‭ ‬وجعل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬البلد‭ ‬صورة‭ ‬متناقضة‭ ‬للفكر‭ ‬الاجتماعي‭.‬

الرؤية‭ ‬الثانية‭: ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تمزج‭ ‬الفكر‭ ‬المصاحب‭ ‬للسياق‭ ‬السردي،‭ ‬فنراها‭ ‬ممثلةً‭ ‬في‭ ‬الرموز‭ ‬التراثية‭ ‬التي‭ ‬اتخذ‭ ‬منها‭ ‬الراوي‭ ‬مواطن‭ ‬جمالية‭ ‬لتزيين‭ ‬المنظور‭ ‬السردي،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬يصِف‭ ‬جمال‭ ‬جسر‭ ‬الرصافة‭. ‬

يقول‭ ‬الراوي‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬سِحرًا‭ ‬بالليل‭ ‬والأنوار‭ ‬مع‭ ‬جسر‭ ‬الرصافة،‭ ‬ذلك‭ ‬الجسر‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬حي‭ ‬الكرخ‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الغربي‭ ‬لنهر‭ ‬دجلة،‭ ‬وحي‭ ‬الرصافة‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الشرقي‭ ‬لنهر‭ ‬دجلة،‭ ‬آه‭ ‬يا‭ ‬بغداد،‭ ‬ما‭ ‬أجملك‭ ‬يا‭ ‬عروس‭ ‬الرشيد،‭ ‬وحاضرة‭ ‬العباسيين،‭ ‬كانت‭ ‬أيامًا‭ ‬جميلة‭ ‬ورائعة،‭ ‬ولا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬بيت‭ ‬الشعر‭ ‬الجميل‭ ‬الذي‭ ‬أنشده‭ ‬الأعرابي‭ ‬على‭ ‬مسمع‭ ‬الخليفة‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد،‭ ‬حتى‭ ‬خشي‭ ‬الرشيد‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يذوب‭ ‬من‭ ‬رقّته‭ ‬ولطافته،‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬

عيون‭ ‬المها‭ ‬بيْن‭ ‬الرصافةِ‭ ‬والجِسْرِ‭ ‬

جلِبْن‭ ‬الهوى‭ ‬مِنْ‭ ‬حيث‭ ‬ندْرِي‭ ‬ولا‭ ‬ندْرِي

وما‭ ‬إن‭ ‬سمع‭ ‬جسر‭ ‬الرصافة،‭ ‬حتى‭ ‬تذكّر‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬صاحبه‭ ‬عماد‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬الحب‭ ‬على‭ ‬جِسْرِ‭ ‬المسيّبِ،‭ ‬فهزّ‭ ‬رأسه‭ ‬حزينًا‭.‬

وسأله‭ ‬الحاج‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬حزنه‭ ‬المفاجئ‭.‬

فقال‭ ‬بأسى‭: ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬جسر‭ ‬الرصافة‭ ‬تذكّرت‭ ‬صاحبي‭ ‬عماد‭ ‬وجِسْرِ‭ ‬المسيّبِ‭.‬

قال‭ ‬الحاج‭ ‬متأثرًا‭: ‬أقدار‭ ‬يا‭ ‬ولدي،‭ ‬أقدار،‭ ‬وما‭ ‬تدري‭ ‬نفس‭ ‬بأي‭ ‬أرض‭ ‬تموت‭! ‬

وكما‭ ‬قلت‭ ‬لك‭: ‬تمسّك‭ ‬بالسلام‭ ‬النفسي‭ ‬يا‭ ‬ولدي‮»‬‭. ‬

‭(‬الرواية‭ ‬ص‭ ‬164‭ ‬وص165‭).‬

 

تفعيلٌ‭ ‬للمسكوت‭ ‬عنه

يربط‭ ‬الراوي‭ ‬فكرة‭ ‬الموت‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬على‭ ‬جسد‭ ‬رفيقه‭ ‬عماد،‭ ‬وهو‭ ‬شخصية‭ ‬عابرة‭ ‬عندما‭ ‬قتِل‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬ضابط‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬العراقي،‭ ‬عندما‭ ‬رآه‭ ‬وهو‭ ‬يسِير‭ ‬مع‭ ‬زوجته،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الحادث‭ ‬الرامز‭ ‬تفعيل‭ ‬للمسكوت‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬السردي‭ ‬برواية‭ ‬أيام‭ ‬بغداد،‭ ‬وهنا‭  ‬تظهر‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬هي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العلامات‭ ‬تمثّل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬مرتكزات‭ ‬الدلالة،‭ ‬سواء‭ ‬اتّصل‭ ‬ذلك‭ ‬بفكرة‭ ‬المنظور،‭ ‬أو‭ ‬اتصل‭ ‬بالأفكار‭ ‬المصاحبة‭ ‬له،‭ ‬وكلّها‭ ‬تكون‭ ‬منظورات‭ ‬بين‭ ‬المادية‭ ‬وغير‭ ‬المادية،‭ ‬والتي‭ ‬أصفها‭ ‬بأنها‭ ‬منظورات‭ ‬وجودية،‭ ‬لأنّ‭ ‬الجيزاوي‭ ‬يروي‭ ‬حكاية‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬وأغنى‭ ‬وأجمل‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬الراوي‭ ‬قد‭ ‬استبق‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬لهذا‭ ‬البلد‭ ‬العظيم،‭ ‬وبخاصة‭ ‬فكرة‭ ‬الموت‭ ‬التي‭ ‬تتجلّى‭ ‬في‭ ‬مكانين‭ ‬بصورة‭ ‬وجودية‭:‬

‭- ‬موت‭ ‬المصري‭ ‬عماد‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬ضابط‭ ‬عراقي‭.‬

‭- ‬موت‭ ‬العراقي‭ ‬كاظم‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الإيرانيين‭.‬

وما‭ ‬بين‭ ‬الموتين‭ ‬تقبع‭ ‬الفكرة‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬الرواية‭ ‬الوجودية،‭ ‬مثّلها‭ ‬الراوي‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬التراث‭ ‬بالحاضر،‭ ‬وربط‭ ‬الحاضر‭ ‬بمكونات‭ ‬غيبية،‭ ‬حتى‭ ‬يجعلنا‭ ‬نطلق‭ ‬السؤال‭ ‬المسكوت‭ ‬عنه‭: ‬لماذا‭ ‬كانت‭ ‬الحرب‭ ‬الإيرانية‭/ ‬العراقية؟

 

السياق‭ ‬السردي‭ ‬المصاحب

السياقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬المصاحبة‭ ‬للمنظور‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬أيام‭ ‬بغداد‭ ‬كثيرة،‭ ‬وهي‭ ‬بمنزلة‭ ‬تشكيلات‭ ‬جمالية‭ ‬تقدّم‭ ‬الحالة‭ ‬الحكائية‭ ‬الوجودية‭ ‬في‭ ‬أجلّ‭ ‬صور‭ ‬الامتزاج‭ ‬الروحي‭ ‬بين‭ ‬المكانين‭ ‬والزمانين‭ ‬والحالتين،‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الراوي‭ ‬كأداة‭ ‬جذب‭ ‬مع‭ ‬شخصين‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية،‭ ‬الأولى‭ ‬كريمة‭ ‬خريجة‭ ‬جامعة‭ ‬بغداد،‭ ‬والتي‭ ‬تعلّقت‭ ‬به،‭ ‬لكنّه‭ ‬قابل‭ ‬ذلك‭ ‬بفكرة‭ ‬الموت‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تقابل‭ ‬العشق،‭ ‬وكيف‭ ‬جرى‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬جسد‭ ‬صاحبه‭ ‬المصري،‭ ‬والثانية‭ ‬ابنة‭ ‬ربِّ‭ ‬عمله،‭ ‬ضحى،‭ ‬الطالبة‭ ‬بجامعة‭ ‬بغداد،‭ ‬التي‭ ‬أحبّته،‭ ‬لكنه‭ ‬أيضًا‭ ‬قابلها‭ ‬بفكرة‭ ‬المصري‭ ‬الذي‭ ‬تزوج‭ ‬من‭ ‬عراقية،‭ ‬وهو‭ ‬الآن‭ ‬يحارب‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬عبثية،‭ ‬هذه‭ ‬السياقات‭ ‬المصاحبة‭ ‬كدالّ‭ ‬من‭ ‬دوال‭ ‬تحفيز‭ ‬الراوي‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬مواصلة‭ ‬الحياة‭ ‬بكل‭ ‬تجلياتها‭ ‬ومرارتها‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬والعراق‭.‬

إن‭ ‬الرحلة‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيلها‭ ‬جزءٌ‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬المنظور‭ ‬السردي‭ ‬الذي‭ ‬يقدّمه،‭ ‬والمنظور‭ ‬بالسياقات‭ ‬المصاحِبة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية،‭ ‬جزءٌ‭ ‬مكملٌ‭ ‬لأول‭ ‬الرواية،‭ ‬ولو‭ ‬حذفنا‭ ‬العلاقات‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬الفصول‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬يتحول‭ ‬النص‭ - ‬وهو‭ ‬كذلك‭ - ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬حكائية‭ ‬واحدة‭ ‬تبدأ‭ ‬بتفعيل‭ ‬حركة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والسياقات‭ ‬المصاحِبة‭ ‬له،‭ ‬والراوي‭ ‬بين‭ ‬الحالتين‭ ‬يمثّل‭ ‬امتدادًا‭ ‬للدلالة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ثلاثة‭ ‬مرتكزات‭ ‬وجودية‭:‬

‭- ‬فكرة‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬مسار‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الاجتماعية‭.‬

‭- ‬فكرة‭ ‬التحولات‭ ‬المجتمعية‭ ‬في‭ ‬المنظورين‭.‬

‭- ‬فكرة‭ ‬استخدام‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬المنظور‭ ‬الواقعي‭ ‬بالأسطوري‭.‬

هذه‭ ‬الدلالات‭ ‬مجتمعة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكّون‭ ‬وحدةً‭ ‬دلاليةً‭ ‬يعمل‭ ‬الراوي‭ ‬عليها‭ ‬داخل‭ ‬الإطار‭ ‬الحكائي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الشخصيات‭ ‬تارةً،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الوصف‭ ‬والتفاصيل‭ ‬الحكائية‭ ‬تارةً‭ ‬أخرى،‭ ‬واستخدام‭ ‬الحوار‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المواقف،‭ ‬وهو‭ ‬برغم‭ ‬أنه‭ ‬حوار‭ ‬حكائي‭ ‬يتّسم‭ ‬بالبساطة‭ ‬فإنه‭ ‬يمثّل‭ ‬لبّ‭ ‬حركة‭ ‬البناء‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬الحكائي؛‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬المنظورِ‭ ‬تمثّل‭ ‬مكونًا‭ ‬بلاغيًا‭ ‬داخل‭ ‬الحكاية‭ ‬ومكونًا‭ ‬سياقًا‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭.‬

 

إشارات‭ ‬دالة

أما‭ ‬داخل‭ ‬الحكاية،‭ ‬فإن‭ ‬الراوي‭ ‬لم‭ ‬يعتمدْ‭ ‬على‭ ‬إطار‭ ‬حكائي‭ ‬ظاهر،‭ ‬وإنما‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفعال‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬مقام‭ ‬الحكاية،‭ ‬ففي‭ ‬بداية‭ ‬الفصل‭ ‬السابع‭ ‬يصنع‭ ‬الإشارات‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬السياق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والإنساني‭ ‬الذي‭ ‬يمثّله‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬حوارية‭ ‬واحدة‭: ‬تمْتم‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬نفسه‭ ‬قائلًا‭:‬

‮«‬آه‭ ‬يا‭ ‬مصر،‭ ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬الإيه،‭ ‬مِغرّبة‭ ‬ومعذِّبة‭ ‬ولادك،‭ ‬وبرضوا‭ ‬بيحبوكِ‮»‬‭. (‬الرواية‭ ‬ص‭ ‬220‭).‬

هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬الوجودية‭ ‬بامتياز‭ ‬جزْءٌ‭ ‬من‭ ‬التحول‭ ‬الإنساني‭ ‬للراوي،‭ ‬وجزْءٌ‭ ‬من‭ ‬العظمة‭ ‬التي‭ ‬أحاط‭ ‬الراوي‭ ‬بها‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحوار‭ ‬والوصف‭ ‬والرموز‭ ‬التي‭ ‬اتّخذ‭ ‬منها‭ ‬مداخل‭ ‬فكرية،‭ ‬وقد‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬عدّة‭:‬

الأول‭: ‬منها‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬إشارات‭ ‬حكائية،‭ ‬مثل‭ ‬حكاية‭ ‬الأغنية‭ ‬التي‭ ‬نسبها‭ ‬لناظم‭ ‬الغزالي،‭ ‬وهي‭ ‬تمثّل‭ ‬حكاية‭ ‬العشق‭ ‬والموت‭.‬

الثاني‭: ‬منها‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬نسَق‭ ‬فكري‭ ‬مثل‭: ‬

العراقي‭ ‬الذي‭ ‬حرّف‭ ‬الحديث‭ ‬الدال‭ ‬على‭ ‬الحبّة‭ ‬السوداء‭ ‬من‭ ‬حبة‭ ‬البركة‭ ‬إلى‭ ‬الباذنجانة،‭ ‬لأنه‭ ‬يبيع‭ ‬الباذنجان‭.‬

الثالث‭: ‬منها‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬هاجس‭ ‬نفسي‭ ‬أو‭ ‬حلم،‭ ‬مثل‭: ‬

العلاقة‭ ‬المفترضة‭ ‬بين‭ ‬كريمة‭ (‬عاملة‭ ‬الاستقبال‭ ‬في‭ ‬الفندق‭)‬،‭ ‬وبين‭ ‬الراوي‭.‬

الرابع‭: ‬منها‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬نسق‭ ‬مادي،‭ ‬مثل‭: ‬

اتخاذ‭ ‬الفندق‭ ‬جزْءًا‭ ‬من‭ ‬التركيبة‭ ‬الدلالية‭ ‬التي‭ ‬مثّل‭ ‬بها‭ ‬الراوي‭ ‬فكرة‭ ‬التطور‭ ‬الوجودي‭.‬

وهكذا‭ ‬يفعّل‭ ‬الراوي‭ ‬حركة‭ ‬المنظورِ‭ ‬السرْدِي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأفعال‭ ‬الحكائية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬كحالة،‭ ‬وظهرت‭ ‬كرموز‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسِهِ‭.‬

إن‭ ‬الكاتب‭ ‬الروائي‭ ‬خليل‭ ‬الجيزاوي‭ ‬اسْتبْطن‭ ‬في‭ ‬منْظورِهِ‭ ‬جزْءًا‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر،‭ ‬وفي‭ ‬بقعة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أرى‭ ‬أنّها‭ ‬ستبْقى‭ ‬في‭ ‬لبّ‭ ‬الأحداثِ‭ ‬العالميةِ‭ ‬مدى‭ ‬زمنيًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬وبمنهج‭ ‬واقعي‭ ‬اتّسم‭ ‬بالرمزية‭ ‬أحيانًا،‭ ‬وبالكشْفِ‭ ‬النفْسِي‭ ‬أحيانًا‭ ‬أخرى‭ ‬