الحياة داخل رَحِمٍ من قُماش

الحياة داخل  رَحِمٍ من قُماش

كيس‭ ‬قماش‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لديك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالَم،‭ ‬تنام‭ ‬فيه‭ ‬أنت‭ ‬وابنتك‭ ‬التي‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تضحّي‭ ‬بحياتك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سلامتها‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬براءتها،‭ ‬داخله‭ ‬ضوء‭ ‬خافت،‭ ‬ظُلمة‭ ‬رقيقة‭ ‬حنونة،‭ ‬هذا‭ ‬الكيس‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تمتلكه‭ ‬وتحتمي‭ ‬به،‭ ‬تنقله‭ ‬معك‭ ‬أينما‭ ‬ذهبت،‭ ‬تحيا‭ ‬فيه،‭ ‬داخله،‭ ‬يحيطك‭ ‬فَتُحْكِمه‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬فيحنو‭ ‬عليك‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬يسترك‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الكيس‭ ‬رحمك‭ ‬الدافئ،‭ ‬وملجأك‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬تنطلق‭ ‬منه‭ ‬وتعود‭ ‬إليه‭ ‬طَلَبًا‭ ‬لساعات‭ ‬تقضيها‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬ابنتك‭. ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تشاهد‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬Light of My Life‭ (‬ضوء‭ ‬حياتي‭) ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬وإخراج‭ ‬كيسي‭ ‬أفليك،‭ ‬وهو‭ ‬منتج‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬2019‭.‬

 

الأب،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬بدوره‭ ‬كيسي‭ ‬أفليك‭ ‬برهافة‭ ‬وقُدرة‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬انفعالاته‭ ‬وهدوء‭ ‬صوته،‭ ‬يهمس‭ ‬بدفء‭ ‬لابنته‭ ‬راغ،‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بدورها‭ ‬آنا‭ ‬بنوفسكي،‭ ‬المولودة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2006،‭ ‬يحكي‭ ‬لها‭ ‬حكاية‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬آرت‭ ‬عَلِمَ‭ ‬أنه‭ ‬لكي‭ ‬ينجو‭ ‬من‭ ‬الطوفان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬سفينته‭ ‬الخاصة‭ ‬‮«‬سفينة‭ ‬آرت‮»‬‭.‬

هل‭ ‬ستقودنا‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬لرحلة‭ ‬الفيلم‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬سفينة‭ ‬آرت‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تنجو‭ ‬من‭ ‬الطوفان؟‭ ‬هل‭ ‬يريد‭ ‬الفيلم‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ستنقذ‭ ‬العنصر‭ ‬البشري‭ ‬من‭ ‬الهلاك،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كأننا‭ ‬سنشاهد‭ ‬حالة‭ ‬هروب‭ ‬من‭ ‬طوفان‭ ‬كبير‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يُهْلِك‭ ‬النساء؟

يأتي‭ ‬صوت‭ ‬الأب‭ ‬حنونًا،‭ ‬عميقًا،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬صوته‭ ‬مزعجًا‭ ‬لنَفَرْنَا‭ ‬من‭ ‬الفيلم‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬ولَوَقَعَ‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬هُوّة‭ ‬الملل‭ ‬والقبح؛‭ ‬لأنّ‭ ‬أفليك‭ ‬كان‭ ‬يحكي‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم،‭ ‬كان‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬صوته‭ ‬رائقًا،‭ ‬دافئًا،‭ ‬يُخْرِج‭ ‬كل‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬لابنته‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬صوته‭ ‬المطمئن‭.‬

‭ ‬صوتُه‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬عاملًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬لاختفاء‭ ‬الموسيقى‭ ‬طوال‭ ‬فترات‭ ‬حديثه‭ ‬الطويل،‭ ‬فلم‭ ‬نسمع‭ ‬موسيقى‭ ‬تجذبنا؛‭ ‬لأنّه‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يُظْهِر‭ ‬دفء‭ ‬صوته،‭ ‬فقط‭ ‬صوتان‭ ‬وحيدان‭ ‬معظم‭ ‬الفيلم،‭ ‬يتحدثان‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬دفء‭ ‬وكأنهما‭ ‬آلتان‭ ‬وتريّتان‭ ‬تعزفان‭ ‬لحن‭ ‬النعومة،‭ ‬لم‭ ‬يزعجنا‭ ‬أيضًا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يبتسم‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم،‭ ‬لأننا‭ ‬شعرنا‭ ‬بأبوّته‭ ‬الحريصة‭ ‬على‭ ‬الفتاة‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬قادم‭.‬

يتحاور‭ ‬الأب‭ ‬والابنة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬ثابتًا‭ ‬لفترة‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬الساعة‭ ‬داخل‭ ‬قبو‭ ‬من‭ ‬القماش،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تصاب‭ ‬أنتَ‭ ‬كمُشَاهد‭ ‬بالملل،‭ ‬إضاءة‭ ‬ناعمة‭ ‬وحميمية‭ ‬لأقصى‭ ‬درجة،‭ ‬وكأنّها‭ ‬أشعّة‭ ‬داخل‭ ‬رَحِم،‭ ‬إضاءة‭ ‬تجعلك‭ ‬تحب‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬التودُّد‭ ‬بين‭ ‬الأب‭ ‬وابنه‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الكاميرا‭ ‬تتحرّك‭ ‬طوال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬سوى‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأب‭ ‬ووجه‭ ‬الفتاة‭ ‬وهي‭ ‬تبتسم‭ ‬وتتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬يرويها‭ ‬الأب،‭ ‬ربّما‭ ‬أردنا‭ ‬أن‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬قبو‭ ‬قماش‭ ‬بهذه‭ ‬الحميمية،‭ ‬كأنّ‭ ‬هذا‭ ‬الدفء‭ ‬والحنان‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬نبحث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬دنيانا،‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬مَن‭ ‬يحكي‭ ‬لنا‭ ‬حكاية‭ ‬تتصل‭ ‬بأصل‭ ‬الكون‭ ‬حتّى‭ ‬ننعس‭ ‬في‭ ‬غفوة‭ ‬رائقة‭ ‬وننام‭ ‬في‭ ‬هدوء،‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬الضيقة‭ ‬كرَحِم‭ ‬هي‭ ‬براح‭ ‬الحنان‭ ‬الذي‭ ‬نرغب‭ ‬فيه‭ ‬بقوّة‭ ‬وشغف‭.‬

هل‭ ‬يقول‭ ‬الفيلم‭ ‬بقناعة‭ ‬راضية‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاجه‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬كي‭ ‬يعيش‭ ‬سعيدًا؟‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬تحته،‭ ‬وغطاء‭ ‬فوق‭ ‬رأسه،‭ ‬وشخص‭ ‬يؤنسه،‭ ‬يغسل‭ ‬ملابسه‭ ‬وملابس‭ ‬ابنته‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬الجاري‭ ‬بنعمة‭ ‬الله،‭ ‬يُشعل‭ ‬النار‭ ‬بحجَرين،‭ ‬ثم‭ ‬ندرك‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬الرحم‭ ‬أن‭ ‬الفتاة‭ ‬تعاني‭ ‬كونها‭ ‬فتاة،‭ ‬وأنّ‭ ‬هَمًّا‭ ‬ما‭ ‬يمنع‭ ‬الأب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتعامل‭ ‬معها‭ ‬كفتاة‭. ‬

بعد‭ ‬ما‭ ‬يتجاوز‭ ‬الـ‭ ‬10‭ ‬دقائق‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬الدافئ‭ ‬الممتع‭ ‬داخل‭ ‬القبو‭ ‬القماش،‭ ‬تُخرج‭ ‬الكاميرا‭ ‬ونعلَم‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬إحاطة‭ ‬كمّ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الأشجار‭ ‬الطبيعية‭ ‬البِكر،‭ ‬وكأننا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬صحا‭ ‬الآن‭ ‬وبدأ‭ ‬يتنفّس،‭ ‬لقد‭ ‬حصلنا‭ ‬على‭ ‬سعادة‭ ‬رائقة‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬ضيقة،‭ ‬ولم‭ ‬نشعر‭ ‬بالضّيق‭.‬

كانت‭ ‬الأشجار‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الأصفر‭ ‬الرمادي‭ ‬المخلوط‭ ‬بالخضرة‭ ‬الخفيفة،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬خضرتها‭ ‬زاهية،‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم‭ ‬أغنية،‭ ‬ولا‭ ‬موسيقى‭ ‬فرحة،‭ ‬لم‭ ‬نرَ‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬مُفرح،‭ ‬فقط‭ ‬كانت‭ ‬متعتنا‭ ‬الخالصة‭ ‬مع‭ ‬الأب‭ ‬وابنته‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم‭ ‬داخل‭ ‬الرّحم‭ ‬القماش،‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬سوى‭ ‬بعض‭ ‬الرجال،‭ ‬فلم‭ ‬نرَ‭ ‬أنثى‭ ‬سوى‭ ‬زوجة‭ ‬الأب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬ذكرياته‭ ‬عنها،‭ ‬فقط‭ ‬أمامنا‭ ‬وجه‭ ‬الأب‭ ‬ووجه‭ ‬ابنته‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬وكانت‭ ‬رغبتنا‭ ‬العارمة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬نهاية‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يسيران‭ ‬فيه،‭ ‬طريق‭ ‬محاولة‭ ‬الخلاص‭ ‬بأنثى‭ ‬نقية‭.‬

 

أكواب‭ ‬معدنية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحماية

يبدو‭ ‬أن‭ ‬التكوين‭ ‬العصبي‭ ‬لهذا‭ ‬الأب‭ ‬بان‭ ‬أمامنا‭ ‬قويًّا،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتحكَّم‭ ‬في‭ ‬طبقات‭ ‬صوته‭ ‬ويجعلها‭ ‬هادئة‭ ‬لأقصى‭ ‬درجة،‭ ‬كي‭ ‬تشعر‭ ‬ابنته‭ ‬دائمًا‭ ‬بالأمان،‭ ‬فهو‭ ‬يدرك‭ ‬أنّ‭ ‬نبرة‭ ‬صوته‭ ‬لو‭ ‬صدر‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يوحي‭ ‬القلق‭ ‬سيجعل‭ ‬الفتاة‭ ‬تتوتر،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬طبيعية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬نتعامل‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬ذكية‭ ‬ولمَّاحة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬الاستيعاب،‭ ‬وتقرأ‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعطيها‭ ‬حساسية‭ ‬كبيرة‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬حولها،‭ ‬وأيضًا‭ ‬يعطيها‭ ‬وعيًا‭ ‬حساسًا،‭ ‬كان‭ ‬الأب‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬تصاب‭ ‬ابنته‭ ‬بالعُقَد‭ ‬والتوتّر،‭ ‬مما‭ ‬يؤثر‭ ‬على‭ ‬حالتها‭ ‬النفسية‭ ‬البريئة‭ ‬الرقيقة‭.‬

بدا‭ ‬حرص‭ ‬الأب‭ ‬على‭ ‬ابنته‭ ‬نافذًا‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬تصرفاته،‭ ‬فهو‭ ‬يضع‭ ‬بعض‭ ‬الأكواب‭ ‬المعدنية‭ ‬الرنانة‭ ‬المربوطة‭ ‬بسلك‭ ‬كمنبّه‭ ‬يحيط‭ ‬بالمكان‭ ‬الذي‭ ‬يوجدان‭ ‬وينامان‭ ‬فيه؛‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬اقترب‭ ‬منهما‭ ‬أحد‭ ‬أيقظه‭ ‬رنين‭ ‬الأكواب‭ ‬المعدنية،‭ ‬فيستطيع‭ ‬النجاة‭ ‬بابنته‭... ‬كانت‭ ‬حماية‭ ‬ابنته‭ ‬تمثّل‭ ‬له‭ ‬هاجسًا‭ ‬حقيقيًا‭.‬

لقد‭ ‬عاتب‭ ‬الأب‭ ‬ابنته‭ ‬برقَّة‭ ‬داخل‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬وجداه‭ ‬مصادفة،‭ ‬وكانت‭ ‬هي‭ ‬ترتدي‭ ‬ملابس‭ ‬فتاة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬ولم‭ ‬نره‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم‭ ‬يغضب‭ ‬إلّا‭ ‬حين‭ ‬ارتدت‭ ‬ابنته‭ ‬راغ‭ ‬ملابس‭ ‬لامعة،‭ ‬كانت‭ ‬الفتاة‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تشعر‭ ‬بالأنوثة‭ ‬التي‭ ‬داخلها،‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تُظْهِر‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وللمرة‭ ‬الأولى‭ ‬رأينا‭ ‬غَضْبة‭ ‬حقيقية‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬لأجل‭ ‬حماية‭ ‬فتاته‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬متوقَّع‭.‬

من‭ ‬خلال‭ ‬استدعاء‭ ‬الأم‭ ‬بالذكريات،‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬إصابة‭ ‬مرضية‭ ‬خطيرة،‭ ‬وأن‭ ‬هناك‭ ‬وباء‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬سكان‭ ‬العالم،‭ ‬وأنه‭ ‬يتمّ‭ ‬حجز‭ ‬النساء،‭ ‬أو‭ ‬التخلُّص‭ ‬منهن،‭ ‬كان‭ ‬كيسي‭ ‬أفليك‭ ‬حزينًا‭ ‬حزنًا‭ ‬شفيفًا‭ ‬ككوب‭ ‬ماء‭ ‬صافٍ،‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬الحزن‭ ‬النبيل،‭ ‬ولا‭ ‬يبتسم‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬تبتسم‭ ‬راغ‭.‬

حين‭ ‬هاجمهم‭ ‬رجال‭ ‬أشرار‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الفتاة،‭ ‬حاول‭ ‬تهدئتها‭ ‬وطمأنة‭ ‬قلبها‭ ‬الأخضر،‭ ‬فحتّى‭ ‬في‭ ‬أقسى‭ ‬لحظات‭ ‬الشدة‭ ‬والخطر‭ ‬يسكب‭ ‬داخل‭ ‬روحها‭ ‬الطمأنينة،‭ ‬ويخبرها‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬مات‭ ‬سيطارد‭ ‬الذين‭ ‬يأخذونها‭ ‬ويحميها‭ ‬وهو‭ ‬ميّت‭.‬

عندما‭ ‬اعترف‭ ‬للعجوز‭ ‬بأن‭ ‬ابنته‭ ‬فتاة‭ ‬وليست‭ ‬فتى،‭ ‬كانت‭ ‬لحظة‭ ‬اعتراف‭ ‬قاسية،‭ ‬وحنونة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬فطوال‭ ‬الفيلم‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يقابله‭ ‬إنها‭ ‬فتى،‭ ‬ويناديها‭ ‬بصيغة‭ ‬المذكّر،‭ ‬لكنّ‭ ‬العجوز‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬خبرة‭ ‬بالبشر،‭ ‬ويستطيع‭ ‬أن‭ ‬يميّز‭ ‬بين‭ ‬الفتى‭ ‬والفتاة،‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تعبث‭ ‬في‭ ‬الثلج،‭ ‬فنكّس‭ ‬الأب‭ ‬رأسه‭ ‬وكأنّه‭ ‬خجل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الاعتراف،‭ ‬وظهرت‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬مشاعر‭ ‬غريبة‭. ‬

بعد‭ ‬هذا‭ ‬الاعتراف‭ ‬تحوَّلت‭ ‬صورة‭ ‬الفتى‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬وصارت‭ ‬فتاة‭ ‬حقيقية،‭ ‬كان‭ ‬المكياج‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬باهرًا‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يخلط‭ ‬علينا‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الفتاة،‭ ‬فنراها‭ ‬صبيًّا،‭ ‬ثم‭ ‬نراها‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬الاعتراف‭ ‬مورَّدة‭ ‬الخدود‭ ‬رقيقة‭ ‬الحُسن،‭ ‬وشعرنا‭ ‬أن‭ ‬الفتاة‭ ‬وُلدت‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأنها‭ ‬فتاة،‭ ‬وكأنها‭ ‬كانت‭ ‬تنتظر‭ ‬أن‭ ‬يعترف‭ ‬بها‭ ‬أحد‭ ‬حتى‭ ‬تُظهر‭ ‬أنوثتها‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يتغيّر‭ ‬فيها‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬فقط‭ ‬طَفَرَتْ‭ ‬الأنثى‭ ‬من‭ ‬داخلها‭.‬

 

بُرعم‭ ‬صغير‭ ‬أخضر

‭ ‬الفتاة‭ ‬راغ،‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بدورها‭ ‬الممثلة‭ ‬آنا‭ ‬بنوفسكي‭ ‬بريئة‭ ‬كورقة‭ ‬ورد‭ ‬بنفسجية،‭ ‬تتحرّك‭ ‬أمامنا‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬ببراءة،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬تكسب‭ ‬تعاطفنا‭ ‬ومحبتنا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬طلّة،‭ ‬كانت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬ترتدي‭ ‬ملابس‭ ‬أنثى،‭ ‬وأن‭ ‬تعلن‭ ‬أنها‭ ‬أنثى،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬النقطة‭ ‬الغائرة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الفتاة‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم،‭ ‬إنها‭ ‬فتاة‭ ‬وترتدي‭ ‬ملابس‭ ‬الصبيان،‭ ‬ويعاملها‭ ‬والدها‭ ‬على‭ ‬أنّها‭ ‬فتى،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فمحاولات‭ ‬الأب‭ ‬من‭ ‬الدفاع‭ ‬وحماية‭ ‬نفسية‭ ‬البنت‭ ‬لم‭ ‬تسلم‭ ‬كليّة،‭ ‬فداخلها‭ ‬رغبة‭ ‬غائرة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تتخلَّص‭ ‬من‭ ‬معاملة‭ ‬الأب‭ ‬لها‭ ‬كفتى،‭ ‬رغم‭ ‬إدراكها‭ ‬حساسية‭ ‬الموقف‭ ‬والرحلة‭ ‬التي‭ ‬يقومان‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سلامتها‭. ‬

ما‭ ‬مصير‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬نسير‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬والدها‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم؟‭ ‬الفيلم‭ ‬بجعلك‭ ‬مشوقًا‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الشغف‭ ‬لتتبُّع‭ ‬البراءة،‭ ‬هل‭ ‬سيحصل‭ ‬عليها‭ ‬الرجال؟‭ ‬هل‭ ‬سيغتصبونها،‭ ‬هل‭ ‬سيتخلصون‭ ‬منها؟‭ ‬هذه‭ ‬البرعم‭ ‬الصغير‭ ‬الأخضر‭ ‬تسير‭ ‬بجانب‭ ‬والدها‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬الخطورة‭ ‬المحدقة‭ ‬بها،‭ ‬ويحتفظ‭ ‬بهذا‭ ‬الإحساس‭ ‬داخل‭ ‬أعماقه،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬خطر،‭ ‬يريد‭ ‬لنفسها‭ ‬الخضراء‭ ‬الشفافة‭ ‬أن‭ ‬تستقر‭ ‬على‭ ‬الهدوء،‭ ‬وأن‭ ‬تعيش‭ ‬حياتها‭ ‬بمنتهى‭ ‬الطبيعية،‭ ‬يحاول‭ ‬جاهدًا‭ ‬ألّا‭ ‬يجعلها‭ ‬تشعر‭ ‬أن‭ ‬شيئًا‭ ‬ما‭ ‬يترقّبها،‭ ‬وأن‭ ‬أناسًا‭ ‬ما‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬يحصلوا‭ ‬عليها،‭ ‬فقط‭ ‬لو‭ ‬عرفوا‭ ‬أنّها‭ ‬فتاة‭... ‬لماذا‭ ‬فتاة؟‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬التساؤل‭ ‬المحيّر‭ ‬الذي‭ ‬يدور‭ ‬حوله‭ ‬الفيلم‭.‬

‭ ‬يظهر‭ ‬خدّها‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم‭ ‬ورديًّا‭ ‬ناصع‭ ‬البهجة،‭ ‬يعطيك‭ ‬إحساسًا‭ ‬بكامل‭ ‬البراءة،‭ ‬لم‭ ‬نرَ‭ ‬من‭ ‬ملامحها‭ ‬غضبة‭ ‬شديدة‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم،‭ ‬ولم‭ ‬نشاهد‭ ‬توتّر‭ ‬علاقتها‭ ‬بوالدها‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬المرة‭ ‬التي‭ ‬أدرك‭ ‬فيها‭ ‬والدها‭ ‬أنها‭ ‬تعرف‭ ‬بعض‭ ‬المعلومات‭ ‬عن‭ ‬الجنس،‭ ‬فأخبرها‭ ‬بكل‭ ‬الحقائق‭ ‬الجنسية‭ ‬ببساطة،‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬تجلس‭ ‬أمامه‭ ‬تتناول‭ ‬عشاءها،‭ ‬وإذا‭ ‬بنا‭ ‬نراها‭ ‬بعد‭ ‬حديث‭ ‬والدها،‭ ‬وكأنه‭ ‬أصابها‭ ‬البرود‭ ‬والذّعر،‭ ‬لقد‭ ‬شعرنا‭ ‬أن‭ ‬حديث‭ ‬والدها‭ ‬تَدخَّل‭ ‬في‭ ‬أخصّ‭ ‬خصائص‭ ‬الأنوثة،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬المتغيّر‭ ‬الشهري‭ ‬لفتاة‭ ‬صغيرة،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬لها‭: ‬‮«‬لو‭ ‬رأيتِ‭ ‬ذلك‭ ‬أخبريني‮»‬،‭ ‬الفتاة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العمر‭ ‬وهذه‭ ‬الظروف‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أمّ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أب؛‭ ‬لأنّ‭ ‬هذه‭ ‬أسرار‭ ‬أنثوية‭ ‬تريد‭ ‬الفتاة‭ ‬أن‭ ‬تجعلها‭ ‬سرّها‭ ‬الخاص،‭ ‬لقد‭ ‬رأينا‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬الفتاة‭ ‬راغ‭ ‬أنها‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أم‭ ‬تُعَلِّمها‭ ‬أمور‭ ‬الأنوثة،‭ ‬أما‭ ‬الأب،‭ ‬فهناك‭ ‬جدار‭ ‬بين‭ ‬الذكورة‭ ‬والأنوثة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬تخصّ‭ ‬النساء‭.‬

 

لا‭ ‬بأس‭ ‬يا‭ ‬أبي

ونحن‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬الفيلم،‭ ‬تنقذ‭ ‬الفتاة‭ ‬والدها‭ ‬بأن‭ ‬تطلقَ‭ ‬رصاصة‭ ‬على‭ ‬رجل‭ ‬أراد‭ ‬قتله،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬كان‭ ‬والدها‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬ببراءتها‭ ‬وألّا‭ ‬تنظر‭ ‬للدم‭ ‬أو‭ ‬للقتل،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬معها‭ ‬حين‭ ‬رأت‭ ‬جثّة‭ ‬المرأة‭ ‬وابنها‭ ‬في‭ ‬الحظيرة،‭ ‬كان‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬ألّا‭ ‬تتلوّث‭ ‬ذاكرة‭ ‬فتاته‭ ‬بالعنف،‭ ‬وألا‭ ‬تصبح‭ ‬مشوشة‭ ‬كي‭ ‬تعيش‭ ‬حياتها‭ ‬في‭ ‬سلام‭ ‬دون‭ ‬عذابات‭.‬

عندما‭ ‬يصاب‭ ‬الأب‭ ‬ويصبح‭ ‬عُرْضَة‭ ‬للموت،‭ ‬يخبرها‭ ‬أنهم‭ ‬سيذهبون‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬دافئ‭ ‬وهادئ‭ ‬ليس‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬هنا،‭ ‬به‭ ‬أناس‭ ‬ودودون،‭ ‬هو‭ ‬مكان‭ ‬لطيف،‭ ‬ثم‭ ‬يضع‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬ويبدأ‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬المكتوم،‭ ‬تقف‭ ‬أمامه‭ ‬راغ،‭ ‬فيرتمي‭ ‬في‭ ‬حضنها،‭ ‬فتستقبله‭ ‬وكأنها‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬القوة،‭ ‬وكأنه‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬حمايتها،‭ ‬كأنه‭ ‬كان‭ ‬طوال‭ ‬الطريق‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬يحميه‭ ‬هو،‭ ‬مع‭ ‬أننا‭ ‬طوال‭ ‬الفيلم‭ ‬فهمنا‭ ‬أنه‭ ‬يريد‭ ‬حماية‭ ‬الفتاة،‭ ‬الآن‭ ‬فقط‭ ‬يبكي‭ ‬ويرتمي‭ ‬في‭ ‬حضنها‭ ‬يطلب‭ ‬حمايتها‭ ‬من‭ ‬ضعفه‭ ‬الإنساني،‭ ‬ومن‭ ‬شك‭ ‬ربّما‭ ‬دار‭ ‬داخله‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬حمايتها‭ ‬وحماية‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المتوحش‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭ ‬ليتخلَّص‭ ‬منها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يُحْرَم‭ ‬من‭ ‬ضوء‭ ‬حياته‭. ‬رأيناها‭  ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬انكسار‭ ‬والدها‭ ‬هادئة‭ ‬تربت‭ ‬على‭ ‬ظهره،‭ ‬وكأنها‭ ‬تشدّ‭ ‬من‭ ‬قوته،‭ ‬وتحتضنه‭ ‬بقوة‭ ‬وتقول‭ ‬كلمة‭ ‬الفيلم‭ ‬الأخيرة‭: ‬‮«‬لا‭ ‬بأس‭ ‬يا‭ ‬أبي‮»‬،‭ ‬تطمئنه‭ ‬وتحتضنه‭ ‬وهو‭ ‬مُلْقَى‭ ‬في‭ ‬حضنها‭ ‬مسترخيًا‭ ‬مغمض‭ ‬العينين،‭ ‬كأنما‭ ‬استراح‭ ‬من‭ ‬عناء،‭ ‬وينتهي‭ ‬الفيلم‭ ‬ووجهها‭ ‬موجّه‭ ‬نحو‭ ‬النور‭ ‬البعيد،‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تبتسم‭ ‬للقادم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬غيرها‭ ■