الحياة داخل رَحِمٍ من قُماش

كيس قماش هو كل ما لديك في هذا العالَم، تنام فيه أنت وابنتك التي يمكنك أن تضحّي بحياتك من أجل سلامتها والحفاظ على براءتها، داخله ضوء خافت، ظُلمة رقيقة حنونة، هذا الكيس هو كل ما تمتلكه وتحتمي به، تنقله معك أينما ذهبت، تحيا فيه، داخله، يحيطك فَتُحْكِمه من الخارج، فيحنو عليك من الداخل، يسترك من العالم، يكون هذا الكيس رحمك الدافئ، وملجأك في الليل، تنطلق منه وتعود إليه طَلَبًا لساعات تقضيها في حضن ابنتك. يمكنك أن تشاهد هذا في فيلم Light of My Life (ضوء حياتي) من تأليف وإخراج كيسي أفليك، وهو منتج في أغسطس 2019.
الأب، الذي قام بدوره كيسي أفليك برهافة وقُدرة على التحكم في انفعالاته وهدوء صوته، يهمس بدفء لابنته راغ، التي قامت بدورها آنا بنوفسكي، المولودة في عام 2006، يحكي لها حكاية مفادها أن آرت عَلِمَ أنه لكي ينجو من الطوفان ينبغي أن يصنع سفينته الخاصة «سفينة آرت».
هل ستقودنا هذه الحكاية لرحلة الفيلم التي تشبه سفينة آرت التي تريد أن تنجو من الطوفان؟ هل يريد الفيلم أن يقول إن هذه الفتاة هي التي ستنقذ العنصر البشري من الهلاك، وبالتالي كأننا سنشاهد حالة هروب من طوفان كبير يريد أن يُهْلِك النساء؟
يأتي صوت الأب حنونًا، عميقًا، ولو كان صوته مزعجًا لنَفَرْنَا من الفيلم منذ البداية، ولَوَقَعَ الفيلم في هُوّة الملل والقبح؛ لأنّ أفليك كان يحكي طوال الفيلم، كان حريصًا على أن يظل صوته رائقًا، دافئًا، يُخْرِج كل الحب الذي يحمله لابنته عن طريق صوته المطمئن.
صوتُه يكاد يكون عاملًا أساسيًا لاختفاء الموسيقى طوال فترات حديثه الطويل، فلم نسمع موسيقى تجذبنا؛ لأنّه كان يريد أن يُظْهِر دفء صوته، فقط صوتان وحيدان معظم الفيلم، يتحدثان دائمًا في دفء وكأنهما آلتان وتريّتان تعزفان لحن النعومة، لم يزعجنا أيضًا أنه لم يبتسم طوال الفيلم، لأننا شعرنا بأبوّته الحريصة على الفتاة من خطر قادم.
يتحاور الأب والابنة في وضع يكاد يكون ثابتًا لفترة تقترب من ربع الساعة داخل قبو من القماش، دون أن تصاب أنتَ كمُشَاهد بالملل، إضاءة ناعمة وحميمية لأقصى درجة، وكأنّها أشعّة داخل رَحِم، إضاءة تجعلك تحب هذه الحالة من التودُّد بين الأب وابنه. لم تكن الكاميرا تتحرّك طوال هذه الفترة سوى على وجه الأب ووجه الفتاة وهي تبتسم وتتفاعل مع الحكاية التي يرويها الأب، ربّما أردنا أن نعيش في قبو قماش بهذه الحميمية، كأنّ هذا الدفء والحنان هو ما نبحث عنه في دنيانا، أن نجد مَن يحكي لنا حكاية تتصل بأصل الكون حتّى ننعس في غفوة رائقة وننام في هدوء، هذه المساحة الضيقة كرَحِم هي براح الحنان الذي نرغب فيه بقوّة وشغف.
هل يقول الفيلم بقناعة راضية أنّ هذا هو كل ما يحتاجه الإنسان من العالم كي يعيش سعيدًا؟ أن يحصل على فراش تحته، وغطاء فوق رأسه، وشخص يؤنسه، يغسل ملابسه وملابس ابنته في الماء الجاري بنعمة الله، يُشعل النار بحجَرين، ثم ندرك من داخل هذا الرحم أن الفتاة تعاني كونها فتاة، وأنّ هَمًّا ما يمنع الأب من أن يتعامل معها كفتاة.
بعد ما يتجاوز الـ 10 دقائق من الحوار الدافئ الممتع داخل القبو القماش، تُخرج الكاميرا ونعلَم أننا في إحاطة كمّ هائل من الأشجار الطبيعية البِكر، وكأننا في بداية العالم الذي صحا الآن وبدأ يتنفّس، لقد حصلنا على سعادة رائقة في مساحة ضيقة، ولم نشعر بالضّيق.
كانت الأشجار في الفيلم تميل إلى الأصفر الرمادي المخلوط بالخضرة الخفيفة، ولم تكن خضرتها زاهية، لم نسمع طوال الفيلم أغنية، ولا موسيقى فرحة، لم نرَ أي شيء مُفرح، فقط كانت متعتنا الخالصة مع الأب وابنته طوال الفيلم داخل الرّحم القماش، لم يظهر في الفيلم سوى بعض الرجال، فلم نرَ أنثى سوى زوجة الأب في بعض ذكرياته عنها، فقط أمامنا وجه الأب ووجه ابنته في الفيلم، وكانت رغبتنا العارمة في أن نعرف نهاية هذا الطريق الذي يسيران فيه، طريق محاولة الخلاص بأنثى نقية.
أكواب معدنية من أجل الحماية
يبدو أن التكوين العصبي لهذا الأب بان أمامنا قويًّا، حتى أنه كان يتحكَّم في طبقات صوته ويجعلها هادئة لأقصى درجة، كي تشعر ابنته دائمًا بالأمان، فهو يدرك أنّ نبرة صوته لو صدر منها ما يوحي القلق سيجعل الفتاة تتوتر، وفي تلك الحالة لن تكون طبيعية، خصوصًا أن الفتاة التي نتعامل معها في هذا الفيلم ذكية ولمَّاحة وقادرة على الاستيعاب، وتقرأ كثيرًا، وهذا ما يعطيها حساسية كبيرة لما يحدث حولها، وأيضًا يعطيها وعيًا حساسًا، كان الأب يخشى أن تصاب ابنته بالعُقَد والتوتّر، مما يؤثر على حالتها النفسية البريئة الرقيقة.
بدا حرص الأب على ابنته نافذًا في كلّ تصرفاته، فهو يضع بعض الأكواب المعدنية الرنانة المربوطة بسلك كمنبّه يحيط بالمكان الذي يوجدان وينامان فيه؛ حتى إذا اقترب منهما أحد أيقظه رنين الأكواب المعدنية، فيستطيع النجاة بابنته... كانت حماية ابنته تمثّل له هاجسًا حقيقيًا.
لقد عاتب الأب ابنته برقَّة داخل المنزل الذي وجداه مصادفة، وكانت هي ترتدي ملابس فتاة موجودة في المنزل، ولم نره طوال الفيلم يغضب إلّا حين ارتدت ابنته راغ ملابس لامعة، كانت الفتاة تريد أن تشعر بالأنوثة التي داخلها، تريد أن تُظْهِر الطبيعة، وللمرة الأولى رأينا غَضْبة حقيقية من أب لأجل حماية فتاته من خطر متوقَّع.
من خلال استدعاء الأم بالذكريات، علمنا أن هناك إصابة مرضية خطيرة، وأن هناك وباء أدّى إلى القضاء على نصف سكان العالم، وأنه يتمّ حجز النساء، أو التخلُّص منهن، كان كيسي أفليك حزينًا حزنًا شفيفًا ككوب ماء صافٍ، يبدو عليه الحزن النبيل، ولا يبتسم إلا حين تبتسم راغ.
حين هاجمهم رجال أشرار من أجل الحصول على الفتاة، حاول تهدئتها وطمأنة قلبها الأخضر، فحتّى في أقسى لحظات الشدة والخطر يسكب داخل روحها الطمأنينة، ويخبرها أنه حتى لو مات سيطارد الذين يأخذونها ويحميها وهو ميّت.
عندما اعترف للعجوز بأن ابنته فتاة وليست فتى، كانت لحظة اعتراف قاسية، وحنونة في الوقت ذاته، فطوال الفيلم وهو يقول لكل من يقابله إنها فتى، ويناديها بصيغة المذكّر، لكنّ العجوز كانت له خبرة بالبشر، ويستطيع أن يميّز بين الفتى والفتاة، كانت هي في تلك اللحظة تعبث في الثلج، فنكّس الأب رأسه وكأنّه خجل من هذا الاعتراف، وظهرت في وجهه مشاعر غريبة.
بعد هذا الاعتراف تحوَّلت صورة الفتى أمام أعيننا على الشاشة، وصارت فتاة حقيقية، كان المكياج في البداية باهرًا في قدرته على أن يخلط علينا الأمر في حقيقة الفتاة، فنراها صبيًّا، ثم نراها الآن بعد الاعتراف مورَّدة الخدود رقيقة الحُسن، وشعرنا أن الفتاة وُلدت الآن من الاعتراف بأنها فتاة، وكأنها كانت تنتظر أن يعترف بها أحد حتى تُظهر أنوثتها على الشاشة، على الرغم من أنّه لم يتغيّر فيها أي شيء، فقط طَفَرَتْ الأنثى من داخلها.
بُرعم صغير أخضر
الفتاة راغ، التي قامت بدورها الممثلة آنا بنوفسكي بريئة كورقة ورد بنفسجية، تتحرّك أمامنا على الشاشة ببراءة، مما جعلها تكسب تعاطفنا ومحبتنا لها من أول طلّة، كانت تريد أن ترتدي ملابس أنثى، وأن تعلن أنها أنثى، وهذه هي النقطة الغائرة في قلب الفتاة طوال الفيلم، إنها فتاة وترتدي ملابس الصبيان، ويعاملها والدها على أنّها فتى، وبالتالي فمحاولات الأب من الدفاع وحماية نفسية البنت لم تسلم كليّة، فداخلها رغبة غائرة في أن تتخلَّص من معاملة الأب لها كفتى، رغم إدراكها حساسية الموقف والرحلة التي يقومان بها من أجل سلامتها.
ما مصير هذه الفتاة التي نسير معها إلى جانب والدها طوال الفيلم؟ الفيلم بجعلك مشوقًا من منطقة الشغف لتتبُّع البراءة، هل سيحصل عليها الرجال؟ هل سيغتصبونها، هل سيتخلصون منها؟ هذه البرعم الصغير الأخضر تسير بجانب والدها الذي يعرف الخطورة المحدقة بها، ويحتفظ بهذا الإحساس داخل أعماقه، كي لا تعرف أنها في خطر، يريد لنفسها الخضراء الشفافة أن تستقر على الهدوء، وأن تعيش حياتها بمنتهى الطبيعية، يحاول جاهدًا ألّا يجعلها تشعر أن شيئًا ما يترقّبها، وأن أناسًا ما يريدون أن يحصلوا عليها، فقط لو عرفوا أنّها فتاة... لماذا فتاة؟ هذا هو التساؤل المحيّر الذي يدور حوله الفيلم.
يظهر خدّها طوال الفيلم ورديًّا ناصع البهجة، يعطيك إحساسًا بكامل البراءة، لم نرَ من ملامحها غضبة شديدة طوال الفيلم، ولم نشاهد توتّر علاقتها بوالدها سوى في المرة التي أدرك فيها والدها أنها تعرف بعض المعلومات عن الجنس، فأخبرها بكل الحقائق الجنسية ببساطة، لقد كانت تجلس أمامه تتناول عشاءها، وإذا بنا نراها بعد حديث والدها، وكأنه أصابها البرود والذّعر، لقد شعرنا أن حديث والدها تَدخَّل في أخصّ خصائص الأنوثة، بداية من المتغيّر الشهري لفتاة صغيرة، حتى أنه قال لها: «لو رأيتِ ذلك أخبريني»، الفتاة في هذه العمر وهذه الظروف تحتاج إلى أمّ أكثر من أب؛ لأنّ هذه أسرار أنثوية تريد الفتاة أن تجعلها سرّها الخاص، لقد رأينا من وجه الفتاة راغ أنها تحتاج إلى أم تُعَلِّمها أمور الأنوثة، أما الأب، فهناك جدار بين الذكورة والأنوثة، خصوصًا في الأمور الدقيقة التي تخصّ النساء.
لا بأس يا أبي
ونحن نقترب من نهاية الفيلم، تنقذ الفتاة والدها بأن تطلقَ رصاصة على رجل أراد قتله، وفي تلك اللحظة كان والدها حريصًا على أن تظل ببراءتها وألّا تنظر للدم أو للقتل، كما فعل معها حين رأت جثّة المرأة وابنها في الحظيرة، كان حريصًا على ألّا تتلوّث ذاكرة فتاته بالعنف، وألا تصبح مشوشة كي تعيش حياتها في سلام دون عذابات.
عندما يصاب الأب ويصبح عُرْضَة للموت، يخبرها أنهم سيذهبون إلى مكان آخر دافئ وهادئ ليس بعيدًا عن هنا، به أناس ودودون، هو مكان لطيف، ثم يضع يده على وجهه ويبدأ في البكاء المكتوم، تقف أمامه راغ، فيرتمي في حضنها، فتستقبله وكأنها في وضع القوة، وكأنه في حاجة إلى حمايتها، كأنه كان طوال الطريق يبحث عن سبب يحميه هو، مع أننا طوال الفيلم فهمنا أنه يريد حماية الفتاة، الآن فقط يبكي ويرتمي في حضنها يطلب حمايتها من ضعفه الإنساني، ومن شك ربّما دار داخله بأنه لا يستطيع حمايتها وحماية نفسه في هذا العالم المتوحش الذي يبحث عنها ليتخلَّص منها، وبالتالي يُحْرَم من ضوء حياته. رأيناها في لحظة انكسار والدها هادئة تربت على ظهره، وكأنها تشدّ من قوته، وتحتضنه بقوة وتقول كلمة الفيلم الأخيرة: «لا بأس يا أبي»، تطمئنه وتحتضنه وهو مُلْقَى في حضنها مسترخيًا مغمض العينين، كأنما استراح من عناء، وينتهي الفيلم ووجهها موجّه نحو النور البعيد، تريد أن تبتسم للقادم الذي لا يراه غيرها ■