الأمراض الجماعية والإبداع.. الوباء حقٌّ لكل مواطن!

الأمراض الجماعية والإبداع..  الوباء حقٌّ لكل مواطن!

وصار‭ ‬العالم‭ ‬صغيرًا‭ ‬جدًا،‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬انتقل‭ ‬الوباء‭ ‬عبر‭ ‬السفن‭ ‬والطائرات‭ ‬وأجسام‭ ‬البشر،‭ ‬وارتفعت‭ ‬أرقام‭ ‬ضحاياه،‭ ‬وأطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬العلمية‭ ‬والشعبيّة،‭ ‬لكنّه‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬وباء،‭ ‬وهذه‭ ‬المرة‭ ‬شاهده‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬قُرب،‭ ‬في‭ ‬ضحاياه‭ ‬والمصابين‭ ‬به،‭ ‬والناجين‭ ‬منه،‭ ‬وبدا‭ ‬عنيفًا‭ ‬قويًا‭ ‬كأنه‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬تسيّدت‭ ‬العالَم‭ ‬والتاريخ،‭ ‬وانتشر‭ ‬فينا‭ ‬ومن‭ ‬حولنا،‭ ‬كأنه‭ ‬يردّد‭ ‬بكل‭ ‬قوة‭: ‬

‭ ‬أنا‭ ‬المرضُ‭ ‬الجديد‭... ‬حقٌّ‭ ‬لكل‭ ‬البشر‭!‬

‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬بالجديد‭ ‬تمامًا،‭ ‬فمنذ‭ ‬أن‭ ‬رحل‭ ‬الممثل‭ ‬روك‭ ‬هدسون‭ ‬بسبب‭ ‬مرض‭ ‬فقدان‭ ‬المناعة‭ (‬الإيدز‭) ‬والبشرية‭ ‬تلاحقها‭ ‬الأخطار‭ ‬الجسيمة‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬أوبئة‭ ‬قاتلة‭ ‬مخيفة‭ ‬متتابعة‭ ‬ومتعددة‭ ‬الأسماء،‭ ‬مرّة‭ ‬اسارسب،‭ ‬ومرة‭ ‬إنفلونزا‭ ‬الطيور،‭ ‬أو‭ ‬إنفلونزا‭ ‬الخنازير،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬اكوفيد‭ ‬التاسع‭ ‬عشرب‭!‬

ومَن‭ ‬يتابع‭ ‬الإبداع‭ ‬البشري‭ ‬سيجد‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬كان‭ ‬يقدّم‭ ‬قرابينه‭ ‬للعدوى‭ ‬الجماعية‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬إبداع،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬التي‭ ‬تحوّل‭ ‬أغلبها‭ ‬إلى‭ ‬أفلام،‭ ‬وأيضًا‭ ‬في‭ ‬الشّعر،‭ ‬والمسرح،‭ ‬وبالطبع‭ ‬السينما‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬قطّ‭ ‬عن‭ ‬تتبُّع‭ ‬هذه‭ ‬الأمراض‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ولعلّ‭ ‬أبلغ‭ ‬مشهد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النطاق‭ ‬ما‭ ‬رأيناه‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬فيلم‭ ‬اعلى‭ ‬الشاطئب،‭ ‬إخراج‭ ‬ستانلي‭ ‬كرامر‭ ‬عام‭ ‬1959،‭ ‬وتمثيل‭ ‬جريجوري‭ ‬بيك‭ ‬وإيفا‭ ‬جاردنر‭ ‬وأنتوني‭ ‬بيركنز،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الوباء‭ ‬هنا‭ ‬كيميائي‭ ‬بسبب‭ ‬انتشار‭ ‬الغبار‭ ‬الذرّي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬ولم‭ ‬يَنجُ‭ ‬منه‭ ‬أحد،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنّ‭ ‬الناس‭ ‬وقفت‭ ‬طوابير‭ ‬طويلة‭ ‬جدًا‭ ‬أمام‭ ‬المستشفيات‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬العلاج‭ ‬المنشود،‭ ‬وبدت‭ ‬الحال‭ ‬بائسة‭ ‬للغاية،‭ ‬وهذا‭ ‬المشهد‭ ‬البالغ‭ ‬القسوة‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬مثله،‭ ‬ولله‭ ‬الحمد،‭ ‬في‭ ‬الشهور‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لكن‭ ‬تُرى‭ ‬هل‭ ‬يمكننا‭ ‬رؤيته‭ ‬لو‭ ‬صار‭ ‬لـ‭ ‬اكوروناب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬القادمة؟‭ ‬

تعالوا‭ ‬نرى‭ ‬كيف‭ ‬جسّدت‭ ‬السينما‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬صراعات‭ ‬الإنسان‭ ‬مع‭ ‬الأوبئة‭ ‬أيًا‭ ‬كانت‭ ‬أسماؤها،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬الإبداع‭ ‬البشري،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬تلاشت‭ ‬الأمراض‭ ‬الإنسانية‭ ‬الجماعية،‭ ‬أو‭ ‬ولدت‭ ‬غيرها،‭ ‬فإنّ‭ ‬الإبداع‭ ‬ماثل‭ ‬لنا‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬عاشه‭ ‬الإنسان‭.‬

 

تطورات‭ ‬سريعة‭ ‬ومخيفة

فوجئ‭ ‬أبناء‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬وصُدموا‭ ‬بشدّة‭ ‬من‭ ‬التطورات‭ ‬السريعة‭ ‬المخيفة‭ ‬للغاية‭ ‬لسرعة‭ ‬تغلغل‭ ‬الوباء‭ ‬القاتل‭ ‬الذي‭ ‬حلّ‭ ‬علينا‭ ‬ضيفًا‭ ‬ثقيلًا‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نراه‭ ‬أو‭ ‬نلمسه،‭ ‬لكنّه‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬بشكل‭ ‬مكثف،‭ ‬يسيطر‭ ‬علينا،‭ ‬ويهددنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُخرج‭ ‬لنا‭ ‬لسانه‭!‬

لقد‭ ‬أتانا‭ ‬كي‭ ‬يحقق‭ ‬خيالات‭ ‬المبدعين‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬العشرين‭ ‬والواحد‭ ‬والعشرين‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬متعددة،‭ ‬منها‭ ‬الرواية‭ ‬والسينما‭ ‬وأيضًا‭ ‬الدراما‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬وبالطبع‭ ‬الفنّ‭ ‬التشكيلي،‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬بالإبداع‭ ‬التحذيري،‭ ‬أو‭ ‬التنبؤي،‭ ‬إنه‭ ‬قادم‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬الأنحاء،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬استئذان،‭ ‬وهو‭ ‬يجلب‭ ‬معه‭ ‬قدرًا‭ ‬من‭ ‬الأدوات‭ ‬والمصطلحات،‭ ‬منها‭ ‬العدوى‭ ‬والكمامات،‭ ‬وأرقام‭ ‬الإصابة،‭ ‬وأعداد‭ ‬الوفيات،‭ ‬وينتقل‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬كثيرة‭ ‬كانت‭ ‬حتى‭ ‬الأمس‭ ‬القريب‭ ‬مكتظة‭ ‬بالحياة،‭ ‬فصارت‭ ‬مظلمة‭ ‬تمامًا‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خواء‭ ‬وظلام‭ ‬وأشباح‭ ‬مرئية‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭.‬

الأمر‭ ‬يختلف‭ ‬بالنسبة‭ ‬للقارئ‭ ‬أو‭ ‬المشاهد،‭ ‬فكل‭ ‬من‭ ‬قرأ‭ ‬الروايات‭ ‬المهمة،‭ ‬أو‭ ‬شاهد‭ ‬الأفلام‭ ‬الضخمة‭ ‬محليًّا‭ ‬وعربيًّا‭ ‬وعالميًّا‭ ‬يعرف‭ ‬جيدًا‭ ‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬الحياة‭ ‬تحت‭ ‬السماوات‭ ‬المسكونة‭ ‬الآن‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬الوباء،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سوف‭ ‬نتحدث‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬الأمور‭ ‬المشتركة‭. ‬

  ‬لفت‭ ‬الوباء‭ ‬أنظار‭ ‬كتّابٍ‭ ‬بالغي‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬المكانة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬كتّابًا‭ ‬مهمين‭ ‬آخرين‭ ‬مرّت‭ ‬عليهم‭ ‬الأمور‭ ‬فتجاهلوها‭ ‬تمامًا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬واحدًا‭ ‬منهم،‭ ‬هو‭ ‬أكثرهم‭ ‬أهمية،‭ ‬استخدم‭ ‬اسم‭ ‬وباء‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬إحدى‭ ‬رواياته،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬كوليرا‭ ‬حقيقية،‭ ‬وهو‭ ‬جابرييل‭ ‬جارثيا‭ ‬ماركيز‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬االحب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الكوليراب،‭ ‬وفي‭ ‬مصر،‭ ‬حيث‭ ‬زارها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وباء‭ ‬عبر‭ ‬القرون،‭ ‬فإن‭ ‬أصحاب‭ ‬أقلام‭ ‬كبيرة‭ ‬لم‭ ‬يلتفتوا‭ ‬إلى‭ ‬الوباء‭ ‬الذي‭ ‬حصد‭ ‬الأرواح‭ ‬من‭ ‬آلاف‭ ‬وملايين‭ ‬الأحياء‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬معهم،‭ ‬ومنهم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬المعاصرة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وإحسان‭ ‬عبدالقدوس،‭ ‬وتوفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬ويوسف‭ ‬إدريس،‭ ‬ويوسف‭ ‬السباعي،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬فإن‭ ‬التجربة‭ ‬تركت‭ ‬أثرها‭ ‬لدى‭ ‬كاتبة‭ ‬مصرية‭ ‬كانت‭ ‬تكتب‭ ‬بالفرنسية،‭ ‬هي‭ ‬أندريه‭ ‬شديد،‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬العالمية‭ ‬المشهورة‭ ‬عن‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا‭ ‬1947،‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬الدقيقة،‭ ‬علمًا‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كان‭ ‬محفوظ‭ ‬ينشر‭ ‬ازقاق‭ ‬المدقب،‭ ‬واخان‭ ‬الخليليب،‭ ‬ويكتب‭ ‬االسرابب،‭ ‬أما‭ ‬السباعي‭ ‬فنشر‭ ‬االسقّا‭ ‬ماتب‭ ‬واأرض‭ ‬النفاقب،‭ ‬والأمثلة‭ ‬كثيرة‭.‬

 

‭ ‬حق‭ ‬للجميع‭!‬

بكل‭ ‬الصدمة،‭ ‬فإنّ‭ ‬الوباء‭ ‬حق‭ ‬للجميع،‭ ‬ومهما‭ ‬اختفى‭ ‬فسيظهر‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬هو‭ ‬أو‭ ‬غيره،‭ ‬إنه‭ ‬ظاهرة‭ ‬حياتية‭ ‬قديمة‭ ‬جدًّا‭ ‬ارتبطت‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال‭ ‬بالحروب‭ ‬الطويلة‭ ‬والغزوات‭ ‬المتتابعة‭ ‬التي‭ ‬اشتعلت‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬اطروادةب،‭ ‬حين‭ ‬قام‭ ‬جنود‭ ‬اليونان‭ ‬بمحاصرة‭ ‬المدينة‭ ‬شهورًا‭ ‬عديدة،‭ ‬وتفشّت‭ ‬الأمراض‭ ‬تارة‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬طروادة‭ ‬وبين‭ ‬جنود‭ ‬اليونان،‭ ‬حتى‭ ‬تفتّق‭ ‬ذهن‭ ‬قائد‭ ‬من‭ ‬اليونان‭ ‬لابتكار‭ ‬فكرة‭ ‬الحصان‭ ‬الخشبي،‭ ‬فتم‭ ‬الفتح‭ ‬في‭ ‬أسوأ‭ ‬حالات‭ ‬النصر‭ ‬والهزيمة،‭ ‬وقد‭ ‬سجّل‭ ‬هوميروس‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬الآثار‭ ‬في‭ ‬ملحمته‭ ‬االإلياذةب،‭ ‬مشيرًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأوبئة‭ ‬جاءت‭ ‬أثناء‭ ‬الانتظار‭ ‬الطويل‭.‬

وعبر‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬كان‭ ‬نيكولاي‭ ‬جوجول‭ ‬أكثر‭ ‬وعيًا‭ ‬وهو‭ ‬يصوّر‭ ‬الحصار‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬تراس‭ ‬بولبا‭ ‬حول‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬يسكن‭ ‬فيها‭ ‬ابنه،‭ ‬الذي‭ ‬خان‭ ‬العهد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬اتراس‭ ‬بولباب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬تولستوي‭ ‬لم‭ ‬يهتم‭ ‬أبدًا‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬وباء‭ ‬أم‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬احرب‭ ‬وسلامب،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬أخرى‭ ‬متعددة‭ ‬كان‭ ‬الوباء‭ ‬موجودًا‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬مختلفة،‭ ‬وفي‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬السلّ‭ ‬أو‭ ‬الدّرن‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬وباء‭ ‬مرَضي‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬الغانية‭ ‬مرجريت‭ ‬جوتييه،‭ ‬عبر‭ ‬علاقاتها‭ ‬ولياليها‭ ‬الماجنة،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الأب‭ ‬دوفال‭ ‬يخشى‭ ‬على‭ ‬ابنه،‭ ‬فذهب‭ ‬إلى‭ ‬الغانية،‭ ‬وتوسّل‭ ‬إليها‭ ‬أن‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬ابنه‭.‬

وفي‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬أيضًا‭ ‬عبّر‭ ‬الأدباء‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬البشر‭ ‬مع‭ ‬الأوبئة،‭ ‬مثلما‭ ‬فعلت‭ ‬الروائية‭ ‬البريطانية‭ ‬ماري‭ ‬شيلي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬االإنسان‭ ‬الأخيرب،‭ ‬ومثلما‭ ‬كتب‭ ‬إدجار‭ ‬ألن‭ ‬بو‭ ‬قصته‭ ‬االموت‭ ‬الأحمرب‭. ‬

 

الوباء‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي

وفي‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭ ‬بالقرن‭ ‬العشرين،‭ ‬لدينا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفائزين‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬الوباء،‭ ‬ومنهم‭ ‬الألماني‭ ‬توماس‭ ‬مان‭ ‬وروايته‭ ‬االموت‭ ‬في‭ ‬فينسياب،‭ ‬ثم‭ ‬الروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬ألبير‭ ‬كامي‭ ‬ورواية‭ ‬االطاعونب،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬جابرييل‭ ‬جارثيا‭ ‬ماركيز‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬رواية‭ ‬االحب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الكوليراب‭ ‬التي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬نشر‭ ‬الفرنسي‭ ‬لوكليزيو‭ ‬روايته‭ ‬ازمن‭ ‬المرض‭ ‬المعلّقب،‭ ‬وإضافة‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء،‭ ‬هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬جان‭ ‬جيونو‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬االفارس‭ ‬على‭ ‬السطحب،‭ ‬ومارسيل‭ ‬بانيول‭ ‬وفيليب‭ ‬روث‭.‬

ولم‭ ‬تكن‭ ‬السينما‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الحقل،‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬أفلام‭ ‬سينمائية،‭ ‬ورغم‭ ‬صعوبة‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬وقسوة‭ ‬موضوعاتها،‭ ‬فإنّ‭ ‬المخرجين‭ ‬الذين‭ ‬قدّموها‭ ‬لنا‭ ‬هم‭ ‬الأساتذة؛‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬لوكينو‭ ‬فيسكونتي‭ ‬االموت‭ ‬في‭ ‬فينسياب،‭ ‬ويوسف‭ ‬شاهين‭ ‬في‭ ‬االيوم‭ ‬السادسب،‭ ‬ثم‭ ‬توفيق‭ ‬صالح‭ ‬الذي‭ ‬أخرج‭ ‬اصراع‭ ‬الأبطالب‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬أمريكية‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬أدغال‭ ‬إفريقيا‭.‬

في‭ ‬بداية‭ ‬العقد‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحالي،‭ ‬يوجد‭ ‬حولنا،‭ ‬في‭ ‬أنفاسنا،‭ ‬وأطعمتنا،‭ ‬وملابسنا،‭ ‬ومشاعرنا،‭ ‬وأفئدتنا،‭ ‬كأنه‭ ‬الرفيق‭ ‬الذي‭ ‬مهما‭ ‬توارى‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬حضوره‭ ‬وظهوره‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬لآخر،‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬الأشباح‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬الظلام،‭ ‬وينثر‭ ‬الموت‭ ‬والرعب‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬كي‭ ‬يختفي‭ ‬مجددًا،‭ ‬ليعود‭ ‬حاملًا‭ ‬اسمًا‭ ‬جديدًا‭. ‬

 

بيئة‭ ‬خصبة

الكائنات‭ ‬الحية‭ ‬هي‭ ‬البيئة‭ ‬الخصبة‭ ‬لهذه‭ ‬الفيروسات،‭ ‬تهدد‭  ‬استمرار‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التاريخ،‭ ‬ورغم‭ ‬شراسة‭ ‬تلك‭ ‬الفيروسات‭ ‬وقدرتها‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬تطبيق‭ ‬شعارها‭ ‬أن‭ ‬المرض‭ ‬للجميع،‭ ‬خاصة‭ ‬الأوبئة،‭ ‬نتائجها‭ ‬وآثارها،‭ ‬فإنّ‭ ‬الحياة‭ ‬مازالت‭ ‬مستمرة‭.‬

وفي‭ ‬عصر‭ ‬السينما‭ ‬حكت‭ ‬القصص‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬للإنسان‭ ‬من‭ ‬الأوبئة‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬المآسي‭ ‬الجماعية‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬والمخلوقات‭ ‬الحيّة،‭ ‬والكثيرون‭ ‬منّا‭ ‬لم‭ ‬يعيشوا‭ ‬أوبئة‭ ‬التاريخ،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬إلّا‭ ‬أننا‭ ‬شاهدنا‭ ‬السينما‭ ‬تعيد‭ ‬تجسيد‭ ‬تلك‭ ‬الظواهر‭ ‬وكأننا‭ ‬كنّا‭ ‬هناك،‭ ‬رغم‭ ‬بشاعة‭ ‬الأمر،‭ ‬والكآبة‭ ‬التي‭ ‬تسبّبها‭ ‬الأفلام‭ ‬للمشاهدين،‭ ‬فقد‭ ‬نقلت‭ ‬السينما‭ ‬العالمية‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تحدّثت‭ ‬عن‭ ‬الأوبئة‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬مثل‭ ‬اساحرات‭ ‬ساليمب‭ ‬عن‭ ‬مسرحية‭ ‬لآرثر‭ ‬ميلر،‭ ‬واالطاعونب‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬للكاتب‭ ‬الفرنسي‭ ‬ألبير‭ ‬كامي،‭ ‬وأيضًا‭  ‬رواية‭ ‬االموت‭ ‬في‭ ‬فينسياب‭ ‬لتوماس‭ ‬مان‭.‬

وفي‭ ‬مصر‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الأوبئة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬الناس‭ ‬بالبشاعة‭ ‬نفسها،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬مثلًا‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬آسيا‭.‬

والغريب‭ ‬أن‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬قدّمتها‭ ‬السينما‭ ‬أغلبها‭ ‬عن‭ ‬روايات‭ ‬عالمية،‭ ‬حتى‭ ‬رواية‭ ‬اليوم‭ ‬السادس‭ ‬للكاتبة‭ ‬أندريه‭ ‬شديد‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالفرنسية،‭ ‬فهي‭ ‬رواية‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬حيث‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬المدن‭ ‬المصرية‭ ‬عام‭ ‬1947‭.‬

أما‭ ‬الفيلمان‭ ‬المأخوذان‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬الطريق‭ ‬اللولبي،‭ ‬فمع‭ ‬الأسف‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬المصدر‭ ‬العالمي،‭ ‬والفيلمان‭ ‬هما‭ ‬اعاصفة‭ ‬على‭ ‬الريفب‭ ‬إخراج‭ ‬توجو‭ ‬مزراحي‭ ‬عام‭ ‬1941،‭ ‬ثم‭ ‬اصراع‭ ‬الأبطالب‭ ‬إخراج‭ ‬توفيق‭ ‬صالح‭ (‬1963‭)‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬فإن‭ ‬فيلم‭ ‬امن‭ ‬أحبب،‭ ‬الذي‭ ‬أخرجته‭ ‬ماجدة‭ ‬عام‭ ‬1965،‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬فيه‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬مقتبس‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬وفيلم‭ ‬اذهب‭ ‬مع‭ ‬الريحب‭.‬

 

بين‭ ‬الخيال‭ ‬السياسي‭ ‬والعلمي

وقبل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬الأوبئة‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬بلادنا‭ ‬العربية،‭ ‬وأهمها‭ ‬وباء‭ ‬الطاعون،‭ ‬ثم‭ ‬الكوليرا‭ ‬في‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬وباعتبار‭ ‬أن‭ ‬الوباء‭ ‬ظاهرة‭ ‬عالمية‭ ‬تنتقل‭ ‬بسهولة‭ ‬بين‭ ‬الأوطان،‭ ‬فإنّ‭ ‬السينما‭ ‬العالمية‭ ‬كلّها‭ ‬قدّمت‭ ‬صورًا‭ ‬متعددة‭ ‬للوباء،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬البعض‭ ‬يتصور‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬أفلام‭ ‬الخيال‭ ‬السياسي،‭ ‬وهي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬منبثقة‭ ‬عن‭ ‬أفلام‭ ‬الخيال‭ ‬العلمي،‭ ‬فإنّ‭ ‬هناك‭ ‬فرقًا‭ ‬ملحوظًا‭ ‬بين‭ ‬أفلام‭ ‬الحرب‭ ‬الجرثومية‭ ‬التي‭ ‬يشنّها‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬ومنها‭ ‬فيلم‭ ‬كوكب‭ ‬القردة،‭ ‬الذّي‭ ‬يحذّر‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثالثة،‭ ‬أو‭ ‬لعلّه‭ ‬الغبار‭ ‬الذرّي‭ ‬الذي‭ ‬ينتشر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العالم‭ ‬مثل‭ ‬فيلم‭ ‬اعلى‭ ‬الشاطئب،‭ ‬واعالم‭ ‬وجسد‭ ‬وشيطانب،‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬حروب‭ ‬يشنّها‭ ‬علماء‭ ‬مجانين‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬كثيرة،‭ ‬ومنها‭ ‬اعدوىب،‭ ‬فإنّ‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬يسمى‭ ‬بسينما‭ ‬التحذير‭. ‬بمعنى‭ ‬أنّها‭ ‬تتضمن‭ ‬تحذيرات‭ ‬للقادة‭ ‬السياسيين‭: ‬اإياكم‭ ‬والحروب‭ ‬الجرثوميةب‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬النوع‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الأفلام،‭ ‬فهو‭ ‬مأخوذ‭ ‬عن‭ ‬حكايات‭ ‬دارت‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬البيئات‭ ‬البدائية،‭ ‬كما‭ ‬أشرنا،‭ ‬مثل‭ ‬مسرحية‭ ‬اساحرات‭ ‬ساليمب،‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬آخرها‭ ‬عام‭ ‬1993،‭ ‬لكنّ‭ ‬رواية‭ ‬االموت‭ ‬في‭ ‬فينسياب‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬لعدّة‭ ‬أسباب؛‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬مؤلّفها‭ ‬توماس‭ ‬مان‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬عام‭ ‬1929،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬قصيرة‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الموسيقار‭ ‬الألماني‭ ‬جوستاف‭ ‬مالر،‭ ‬الذي‭ ‬تحوّل‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬أديب‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬آشنباخ،‭ ‬والسبب‭ ‬الثاني‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬الإيطالي‭ ‬لوكينو‭ ‬فيسكونتي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حوّلها‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬ديرك‭ ‬بوجارد‭ ‬وسيلفانا‭ ‬مانجانو،‭ ‬والفيلم‭ ‬أعاد‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬إلى‭ ‬موسيقار،‭ ‬وهو‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬البندقية‭ (‬فينيسيا‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬يذهب‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬رحلة،‭ ‬وتصاب‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬وجوده‭ ‬بوباء‭ ‬يغلّفه‭ ‬ضباب‭ ‬كثيف،‭ ‬وأجواء‭ ‬ترقّب‭ ‬الموت‭ ‬والخوف‭ ‬الممزوج‭ ‬بالصمت‭ ‬الذي‭ ‬يملأ‭ ‬الشوارع،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬المصابيح‭ ‬مضاءة‭ ‬ليل‭ ‬نهار،‭ ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬آشنباخ‭ ‬وسط‭ ‬طرقات‭ ‬المدينة،‭ ‬ولا‭ ‬يلتفت‭ ‬إليه‭ ‬أحد،‭ ‬ويبدو‭ ‬الجميع‭ ‬مصابًا‭ ‬بمرض‭ ‬آخر‭ ‬معدٍ‭ ‬اسمه‭ ‬اللامبالاة‭.‬

‭ ‬

الوباء‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬المصرية

لدينا‭ ‬في‭ ‬القائمة‭ ‬المصرية‭ ‬فيلمان‭ ‬مأخوذان‭ ‬عن‭ ‬مصدر‭ ‬واحد،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يذكر‭ ‬ذلك‭ ‬أحد،‭ ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬اعاصفة‭ ‬على‭ ‬الريفب،‭ ‬وهو‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬المصري،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬إنتاجه‭ ‬عام‭ ‬1941،‭ ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬توجو‭ ‬مزراحي،‭ ‬والفيلم‭  ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬الخط‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬مزراحي،‭ ‬سواء‭ ‬السينما‭ ‬الكوميدية،‭ ‬أو‭ ‬التاريخية،‭ ‬أو‭ ‬الغنائية‭.‬

ففي‭ ‬وسط‭ ‬الريف‭ ‬المصري،‭ ‬يصل‭ ‬طبيب‭ ‬شاب‭ ‬يجسّده‭ ‬يوسف‭ ‬وهبي،‭ ‬تعاني‭ ‬القرية‭ ‬مظاهر‭ ‬الفقر‭ ‬والتخلّف‭ ‬الشديدة،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انتشار‭ ‬مرض‭ ‬وبائي،‭ ‬ومع‭ ‬الأسف،‭ ‬فإن‭ ‬الفيلم‭ ‬غير‭ ‬متوافر‭ ‬لدينا،‭ ‬لكنّ‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الأمريكي‭ ‬جان‭ ‬دو‭ ‬هارتوج‭ ‬باسم‭ ‬االطريق‭ ‬الحلزونيب‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬نُشرت‭ ‬في‭ ‬الثلاثينيات،‭ ‬وأغلب‭ ‬الظنّ‭ ‬أن‭ ‬مزراحي‭ ‬قرأها‭ ‬أو‭ ‬قرأ‭ ‬عنها‭ ‬أو‭ ‬شاهد‭ ‬الفيلم،‭ ‬لكنّ‭ ‬المؤكد‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬السينما‭ ‬الأمريكية‭ ‬أعادت‭ ‬إخراج‭ ‬الرواية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬عام‭ ‬1962،‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬روبرت‭ ‬موليجان،‭ ‬وبطولة‭ ‬روك‭ ‬هدسون‭ ‬حول‭ ‬طبيب‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬غابات‭ ‬إفريقيا‭ ‬لمكافحة‭ ‬وباء‭ ‬يرفض‭ ‬أبناء‭ ‬الغابة‭ ‬الاعتراف‭ ‬به‭.‬

وللعلم،‭ ‬فإن‭ ‬مكانة‭ ‬موليجان‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬الأمريكية‭ ‬مقاربة‭ ‬لمكانة‭ ‬توفيق‭ ‬صالح،‭ ‬فهو‭ ‬صاحب‭ ‬فيلم‭ ‬امقتل‭ ‬طائر‭ ‬برّيب،‭ ‬الذي‭ ‬فاز‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬جوائز‭ ‬الأوسكار،‭ ‬وقد‭ ‬استوحى‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتّاب‭ ‬مصريون‭ ‬القصة‭ ‬من‭ ‬الفيلم‭ ‬الأمريكي،‭ ‬وهم‭ ‬عزالدين‭ ‬ذوالفقار‭ (‬منتج‭ ‬الفيلم‭)‬،‭ ‬ومحمد‭ ‬أبو‭ ‬يوسف،‭ ‬وعبدالحي‭ ‬أديب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كتب‭ ‬السيناريو‭ ‬المخرج‭ ‬توفيق‭ ‬صالح،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬اصراع‭ ‬الأبطالب،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬فيه‭ ‬شكري‭ ‬سرحان‭ ‬بدور‭ ‬الطبيب‭ ‬الذي‭ ‬يتوصّل‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬الوباء،‭ ‬إنه‭ ‬طعام‭ ‬أهل‭ ‬القرية،‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬يوّلد‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا‭ ‬الذي‭ ‬اجتاح‭ ‬إحدى‭ ‬قرى‭ ‬الدلتا‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ويُصدم‭ ‬عندما‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬المعسكر‭ ‬البريطاني‭ ‬يقدّم‭ ‬نفاياه‭ ‬طعامًا‭ ‬لسكان‭ ‬القرية،‭ ‬فيأتي‭ ‬المرض‭ ‬الذي‭ ‬يصيب‭ ‬الجميع‭.‬

ويرى‭ ‬الفيلم‭ ‬أن‭ ‬الوباء‭ ‬ينتشر‭ ‬بسبب‭ ‬خطأ‭ ‬بشري،‭ ‬فالإقطاعي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يتّفق‭ ‬مع‭ ‬رجال‭ ‬الاحتلال‭ ‬على‭ ‬بيع‭ ‬االدبشب‭ ‬إلى‭ ‬الناس،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يلعب‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬مغادرة‭ ‬الأهالي‭ ‬لقريتهم‭.‬

 

‮«‬ذهب‭ ‬مع‭ ‬الريح‮»‬

أما‭ ‬الطبيب‭ ‬شكري‭ ‬فإنه‭ ‬يواجه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خصم؛‭ ‬أوّلهم‭ ‬التقاليد‭ ‬القديمة،‭ ‬والجهل،‭ ‬وأطماع‭ ‬الإقطاعي،‭ ‬وإصرار‭ ‬الدلّالة‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬قديمه،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تخسر‭ ‬مكاسبها،‭ ‬كما‭ ‬يضطر‭ ‬الطبيب‭ ‬إلى‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬فتاة‭ ‬تطاردها‭ ‬إشاعات‭ ‬علاقة‭ ‬قديمة‭ ‬مع‭ ‬الإقطاعي‭ ‬عادل،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬تأتي‭ ‬نتائج‭ ‬تحليل‭ ‬العيّنات‭ ‬مخالفة‭ ‬لتوقّعاته،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يستسلم‭ ‬للفشل،‭ ‬حتى‭ ‬يأتي‭ ‬الخبر‭ ‬اليقين‭ ‬بأن‭ ‬القرية‭ ‬واقعة‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬وباء،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬تأتي‭ ‬قوات‭ ‬الأمن‭ ‬للمحاصرة،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬الموضوع‭ ‬صار‭ ‬خارج‭ ‬السيطرة،‭ ‬وأنه‭ ‬صار‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬الحكومة‭. ‬

ومن‭ ‬المهم‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فيلم‭ ‬امن‭ ‬أحبب،‭ ‬الذي‭ ‬أخرجته‭ ‬ماجدة‭ ‬عام‭ ‬1965مأخوذ‭ ‬عن‭ ‬الفيلم‭ ‬الأمريكي‭ ‬اذهب‭ ‬مع‭ ‬الريحب‭ ‬لفيكتور‭ ‬فلنمج‭ (‬1939‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬استغرقت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬سنوات،‭ ‬مثل‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬مصر‭ ‬لم‭ ‬تمرّ‭ ‬بحروب‭ ‬طويلة‭ ‬كهذه‭. ‬ولذا،‭ ‬فإن‭ ‬أحداث‭ ‬الفيلم‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬حين‭ ‬ذهب‭ ‬الرجال‭ ‬لمواجهة‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا،‭ ‬وفي‭ ‬الليلة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬خرج‭ ‬الرجال‭ ‬لمكافحة‭ ‬الوباء‭ ‬كان‭ ‬حفل‭ ‬زفاف‭ ‬المرأة‭ ‬على‭ ‬رجل‭ ‬لا‭ ‬تحبه،‭ ‬وامتدت‭ ‬الأحداث‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين‭ ‬حتى‭ ‬زمن‭ ‬العدوان‭ ‬الثلاثي‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬ولذا‭ ‬فإنّ‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا‭ ‬كان‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬تمرّ‭ ‬بها‭ ‬أسرة‭ ‬ريفية‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬أثنائها‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬رجل‭ ‬آخر‭ ‬يتزوج‭ ‬غيرها،‭ ‬ويترك‭ ‬المرأتين‭ ‬مسافرًا‭ ‬من‭ ‬وباء‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬ثم‭ ‬أخرى‭.‬

 

‮«‬اليوم‭ ‬السادس‮»‬

وسوف‭ ‬يظل‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬يؤرق‭ ‬المصريين،‭ ‬والغريب‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نقرأ‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬المصري‭ ‬نصًّا‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬عن‭ ‬وباء‭ ‬ذلك‭ ‬العام،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬الأعمال‭ ‬الروائية‭ ‬للكاتبة‭ ‬أندريه‭ ‬شديد،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬لبناني،‭ ‬وعاشت‭ ‬طويلًا‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬تكتب‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬والمسرحية‭ ‬بالفرنسية،‭ ‬فإن‭ ‬أعمالها‭ ‬دومًا‭ ‬كانت‭ ‬ترصد‭ ‬جوانب‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬المصريين،‭ ‬مثلما‭ ‬فعلت‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬انوم‭ ‬الخلاصب،‭ ‬أما‭ ‬االيوم‭ ‬السادسب‭ ‬فهي‭ ‬كلها‭ ‬عن‭ ‬وباء‭ ‬الكوليرا،‭ ‬وقد‭ ‬ترجم‭ ‬د‭. ‬حمادة‭ ‬إبراهيم‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬السبعينيات‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬االرواية‭ ‬العالميةب،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬قصيرة‭ ‬بطلتها‭ ‬الجدة‭ ‬صدّيقة‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أحياء‭ ‬القاهرة‭ ‬الفقيرة،‭ ‬وتصاب‭ ‬المدينة‭ ‬بالكوليرا،‭ ‬وتنتقل‭ ‬العدوى‭ ‬إلى‭ ‬حفيدها،‭ ‬بسبب‭ ‬إهماله‭ ‬أثناء‭ ‬سفرها‭ ‬لحضور‭ ‬عزاء‭ ‬بمدينة‭ ‬أخرى،‭ ‬وأمام‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬إنقاذ‭ ‬الحفيد،‭ ‬فإنها‭ ‬تقلّ‭ ‬مركب‭ ‬صيد‭ ‬فوق‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬متجهًا‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬الوباء‭ ‬ينحسر‭ ‬عند‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬المالح،‭ ‬وأنّ‭ ‬أمام‭ ‬المريض‭ ‬ستة‭ ‬أيام‭ ‬فقط‭ ‬كي‭ ‬تُكتب‭ ‬له‭ ‬النجاة،‭ ‬وقد‭ ‬انتصرت‭ ‬الكاتبة‭ ‬للحياة،‭ ‬وتم‭ ‬إنقاذ‭ ‬الطفل‭ ‬حسن‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية‭.‬

أما‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬أخرجه‭ ‬يوسف‭ ‬شاهين‭ ‬عام‭ ‬1986،‭ ‬وقامت‭ ‬ببطولته‭ ‬داليدا‭ ‬قبل‭ ‬انتحارها‭ ‬بأشهر‭ ‬قليلة،‭ ‬فقد‭ ‬انتصر‭ ‬فيه‭ ‬الموت،‭ ‬حين‭ ‬مات‭ ‬الصغير‭ ‬بين‭ ‬ذراعي‭ ‬جدته،‭ ‬وقد‭ ‬أشرنا‭ ‬إلى‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬رواية‭ ‬قصيرة،‭ ‬لأنّ‭ ‬السيناريو‭ ‬أضاف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬ومنها‭ ‬صاحب‭ ‬دار‭ ‬السينما‭ ‬المعجب‭ ‬بالراقص‭ ‬جين‭ ‬كيلي،‭ ‬وأيضًا‭ ‬الممثلة‭ ‬التي‭ ‬تعشق‭ ‬الشاب‭ ‬الصغير،‭ ‬وكذا‭ ‬لاعب‭ ‬القرود‭ ‬عوكا‭ ‬المعجب‭ ‬بالعجوز‭ ‬صدّيقة،‭ ‬ويتتبعها‭ ‬في‭ ‬رحلتها‭ ‬فوق‭ ‬النهر،‭ ‬وقد‭ ‬صوّر‭ ‬الفيلم‭ ‬الكوليرا‭ ‬مغلّفة‭ ‬بضباب‭ ‬الوباء،‭ ‬حيث‭ ‬ينتشر‭ ‬الموت،‭  ‬ويتساقط‭ ‬المصريون،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬الأستاذ‭ ‬الذي‭ ‬يعتبره‭ ‬الطفل‭ ‬حسن‭ ‬رمزًا‭ ‬للحياة‭ ‬والعبور‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الشفاء،‭ ‬وتبدأ‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ■