«دجانغـو طليقـًا» .. الحريـة السـوداء تحـت الوصايـة البيضـاء

«دجانغـو طليقـًا» .. الحريـة السـوداء تحـت الوصايـة البيضـاء

كثيرة‭ ‬هي‭ ‬الأفلام‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬دجانغو‮»‬‭ (‬Django‭)‬،‭ ‬لكنها‭ ‬جميعها‭ ‬عالةٌ‭ ‬على‭ ‬أول‭ ‬فيلم‭ ‬سمي‭ ‬بذلك‭ ‬العنوان‭ ‬المبهم‭ ‬المثير،‭ ‬قدمه‭ ‬سيرجيو‭ ‬كربوتشي‭ (‬Sergio Carbucci‭) ‬لهوليود‭ ‬سنة‭ ‬1966‭. ‬وبعدها‭ ‬مباشرة‭ ‬تتالت‭ ‬عدة‭ ‬أفلام‭ ‬بالعنوان‭ ‬نفسه،‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬الشعبية‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬حققها،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬دجانغو‭ ‬طليقًا‮»‬‭ (‬Django Unchained‭) (‬2012‭) ‬لمـــــــخــــرجــــه‭ ‬كوينتين‭ ‬ترانتينو‭ (‬Quentin Tarantino‭).‬

 

يعالج‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬دجانغو‭ ‬طليقًا‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬في‭ ‬ولايتي‭ ‬تكساس‭ ‬والميسيسيبي‭ ‬سنة‭ ‬1858،‭ ‬عاميْن‭ ‬قبل‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬قضيةَ‭ ‬العبودية‭ ‬والتحرر‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة؛‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬السينمائية‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬الموضوع‭ ‬لم‭ ‬يفلح‭ ‬الفيلم‭ ‬بتاتا‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬تاريخية‭ ‬وفنية‭ ‬موضوعية‭ ‬تصور‭ ‬الكفاح‭ ‬المرير‭ ‬الذي‭ ‬خاضه‭ ‬السود‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نيل‭ ‬حريتهم‭ ‬الأصلية،‭ ‬ولكنه‭ ‬نجح‭ ‬ــ‭ ‬بالمقابل،‭ ‬وبشكل‭ ‬فني‭ ‬بارع‭ ‬ــ‭ ‬في‭ ‬إسناد‭ ‬تحرر‭ ‬سود‭ ‬أمريكا‭ ‬إلى‭ ‬العنصر‭ ‬الأبيض‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوصاية‭ ‬الأبوية‭ ‬التي‭ ‬اضطلع‭ ‬بها‭ ‬الدكتور‭ ‬شولتز‭ ‬على‭ ‬دجانغو‭ ‬طيلة‭ ‬مسار‭ ‬الفيلم‭ ‬وأحداثه،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬ليصح‭ ‬أن‭ ‬يَعتبر‭ ‬المشاهدُ‭ ‬شولتز‭ ‬–‭ ‬الذي‭ ‬جسَّد‭ ‬دوره‭ ‬ببراعة‭ ‬كريستوف‭ ‬والتز‭ (‬C‭.‬Waltz‭) - ‬هو‭ ‬البطل،‭ ‬لا‭ ‬دجانغو‭ (‬جسده‭ ‬جيمي‭ ‬فوكس‭ (‬J‭.‬Foxx؛‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يطرح‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الاستفهام‭ ‬حول‭ ‬الغاية‭ ‬التي‭ ‬راهن‭ ‬عليها‭ ‬الفيلم،‭ ‬والرسالة‭ ‬التي‭ ‬حملها،‭ ‬رغم‭ ‬التقدير‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬حازه‭ ‬لدى‭ ‬رواد‭ ‬موقع‭ ‬الطماطم‭ ‬الفاسدة‭ (‬Rotten‭ ‬Tomatoes‭) ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬السينمائي‭ ‬والسمعي‭ ‬البصري،‭ ‬إذ‭ ‬اعتبروه‭ ‬جديرا‭ ‬بالرتبة‭ ‬الثالثة‭ ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬أفضل‭ ‬الأفلام‭ ‬لكل‭ ‬الأزمنة،‭ ‬بعلامة‭ ‬8‭/‬10‭!‬

لنغضَّ‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬اختيار‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬دجانغو‮»‬‭ ‬ذي‭ ‬النبرة‭ ‬اللاتينية‭/ ‬الرومانية‭ ‬لوسمِ‭ ‬زنجيٍّ،‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يرتبط‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد‭ ‬لا‭ ‬بإفريقيا،‭ ‬ولا‭ ‬بنظام‭ ‬الرموز‭ ‬والقيم‭ ‬الذي‭ ‬أقامه‭ ‬السود‭ ‬المجلوبون‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬المصغَّرة‭ ‬المحاصرة‭ ‬داخل‭ ‬غيتوهاتهم‭ ‬في‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬معه‭ ‬الاسم‭ ‬مُقحمًا،‭ ‬تمامًا‭ ‬كإقحام‭ ‬المخرج،‭ ‬وهو‭ ‬كاتب‭ ‬السيناريو‭ ‬كذلك،‭ ‬لعبة‭ ‬صراع‭ ‬الماندينغو‭ (‬Mandingo‭) ‬ــ‭ ‬وهم‭ ‬شعب‭ ‬قبيلة‭ ‬كبرى‭ ‬غربَ‭ ‬إفريقيا‭ ‬ــ‭ ‬التي‭ ‬يتقاتل‭ ‬فيها‭ ‬زنجيان‭ ‬حتى‭ ‬الموتِ‭ ‬أمام‭ ‬سيدهما‭ ‬الأبيض‭ ‬الذي‭ ‬يستمتع‭ ‬بذلك،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يثبت‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬المحقَّق‭ ‬للاستعباد‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬بحسب‭ ‬المؤرخ‭ ‬إدنا‭ ‬مدفورد‭ (‬E‭.‬G‭.‬Medford‭)‬،‭ ‬لأن‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬الرق‭ ‬لدى‭ ‬الإقطاعيين‭ ‬والمُلاك‭ ‬الأمريكيين‭ ‬كان‭ ‬اقتصاديًا‭ ‬ربحيًا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬هدر‭ ‬للمال‭ ‬على‭ ‬مُتعة‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬منها‭.‬

قلت‭ ‬لنغض‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬مناسبة‭ ‬الاسم‭ ‬للزنوجة،‭ ‬ولنتأمل‭ ‬الملامح‭ ‬التربوية‭ ‬والنفسية‭ ‬لدجانغو‭ ‬التي‭ ‬قلَّ‭ ‬منها‭ ‬أيضًا‭ ‬ما‭ ‬يناسب‭ ‬ملامح‭ ‬البطولة،‭ ‬مما‭ ‬يخيِّب‭ ‬أفق‭ ‬انتظار‭ ‬المشاهد‭ ‬الفطن‭. ‬فرغم‭ ‬أننا‭ ‬نعلم‭ ‬من‭ ‬حيثيات‭ ‬الفيلم‭ ‬أنه‭ ‬سبق‭ ‬لدجانغو‭ ‬الهروب‭ ‬رفقة‭ ‬زوجته‭ ‬من‭ ‬مزرعة‭ ‬سيده‭ ‬الأول،‭ ‬العجوز‭ ‬كاروكان،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬وسمهما‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬بميسم‭ ‬الآبقين،‭ ‬كما‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬بيعهما‭ ‬مُفَرَّقيْن‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬غرينْفيلد‭ ‬للعبيد،‭ ‬فإن‭ ‬المخرج‭ ‬يقدمه‭ ‬لنا‭ ‬ــ‭ ‬رغم‭ ‬بنيته‭ ‬الجسدية‭ ‬الصلبة‭ ‬والموشومة‭ ‬بسياط‭ ‬التعذيب‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ــ‭ ‬مجرد‭ ‬شخص‭ ‬خاضع‭ ‬أو‭ ‬معتاد‭ ‬على‭ ‬الخضوع،‭ ‬ينزع‭ ‬الدكتور‭ ‬شولتز‭ ‬عنه‭ ‬الأصفاد،‭ ‬ويطرح‭ ‬عليه‭ ‬صفقة‭ ‬يعمل‭ ‬بمقتضاها‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬ثلاثة‭ ‬هاربين‭ ‬من‭ ‬العدالة،‭ ‬مقابل‭ ‬حريته‭ ‬و75‭ ‬دولارًا،‭ ‬ثم‭ ‬لما‭ ‬يتحقق‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يُحرِّره،‭ ‬ويطرح‭ ‬عليه‭ ‬شراكة‭ ‬للعمــل‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬‮«‬صـــيد‭ ‬الجوائز‮»‬‭ (‬قتل‭ ‬المحكومين‭ ‬مقابل‭ ‬مكافآت‭ ‬حكومية‭) ‬طيلة‭ ‬الشتاء،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعطيه‭ ‬الثلث‭ ‬من‭ ‬الربح،‭ ‬ويصطحبه‭ ‬حتى‭ ‬يجد‭ ‬زوجته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقبله‭ ‬بسرعة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬طويلًا،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يبدي‭ ‬تحرقًا‭ ‬إلى‭ ‬إنقاذها‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬وقت‭. ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬ورغم‭ ‬حريته‭ ‬المكتسبة،‭ ‬يصير‭ ‬دجانغو‭ ‬مؤتمرًا‭ ‬بالكلية‭ ‬بأوامر‭ ‬شولتز‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬صديقًا‭ ‬له،‭ ‬ومجرد‭ ‬منصت‭ ‬إلى‭ ‬خططه،‭ ‬ومطبق‭ ‬لتعليماته‭ ‬وحيَله،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬يُظهر‭ ‬أي‭ ‬تعاطف‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬مَن‭ ‬مرَّ‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬إخوانه‭ ‬السود‭ ‬المنكل‭ ‬بهم‭: ‬‮«‬اسمعوا‭ ‬أيها‭ ‬الزنوج،‭ ‬أنا‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬البيض‭.‬‭.. ‬حرّكوا‭ ‬أكفالكم،‭ ‬وكفوا‭ ‬عن‭ ‬النظر‭ ‬إليّ‮»‬،‭ ‬ويرفض‭ ‬عرض‭ ‬شولتز‭ ‬افتداءَ‭ ‬العبد‭ ‬دارتانيان‭ ‬بـ500‭ ‬دولار،‭ ‬ويتركه‭ ‬للكلاب‭ ‬المفترسة‭ ‬التي‭ ‬أرسلها‭ ‬عليه‭ ‬سيدُه‭ ‬الأبيض‭!‬

 

ثغرة‭ ‬فنية

بمقابل‭ ‬هذه‭ ‬السلبية‭ ‬الزنجية‭ ‬شبه‭ ‬التامة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتخللها‭ ‬إلا‭ ‬صور‭ ‬إيجابية‭ ‬قليلة‭ ‬للغاية،‭ (‬مما‭ ‬يبرز‭ ‬ثغرة‭ ‬فنية‭ ‬بسبب‭ ‬تفاوت‭ ‬التشخيص‭)‬،‭ ‬تظهر‭ ‬شخصية‭ ‬كينغ‭ ‬شولتز،‭ ‬وهو‭ ‬طبيب‭ ‬أسنان‭ ‬ألماني‭ ‬الأصل،‭ ‬شيخ‭ ‬ستيني‭ ‬ذو‭ ‬لحية‭ ‬أنيقة،‭ ‬مرح‭ ‬فطن‭ ‬سريع‭ ‬البديهة،‭ ‬رافض‭ ‬للعبودية،‭ ‬ويقدِّمه‭ ‬المخرج‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬نموذج‭ ‬للإنسان‭ ‬الأبيض‭ ‬الرحيم‭ ‬المثقف‭ ‬المخاطر‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬مبادئه‭. ‬ففي‭ ‬المشاهد‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفيلم‭ ‬يفك‭ ‬شولتز‭ ‬الأغلال‭ ‬عن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العبيد،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬دجانغو،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يردي‭ ‬مالكيْهما‭ ‬قتيلين،‭ ‬ويحثهم‭ ‬على‭ ‬الفرار‭ ‬والتحرر،‭ ‬ثم‭ ‬يشتري‭ ‬دجانغو،‭ ‬ويصاحبه‭ ‬وفق‭ ‬الصفقتين‭ ‬اللتين‭ ‬ذكرناهما‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬وأثناء‭ ‬رفقتهما‭ ‬الطويلة‭ ‬يرُكبه‭ ‬فرسًا‭ ‬متحديًا‭ ‬بذلك‭ ‬قوانين‭ ‬الجنوب‭ ‬الأمريكي‭ ‬التي‭ ‬تحظر‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الزنوج،‭ ‬ويعلِّمه‭ ‬التهجئة،‭ ‬وآداب‭ ‬الهندام‭ ‬والطعام‭ ‬والتواصل،‭ ‬ويثقفه،‭ ‬ويفكر‭ ‬له،‭ ‬ويمكر‭ ‬له،‭ ‬ويشجع‭ ‬موهبته‭ ‬في‭ ‬الرمي،‭ ‬بل‭ ‬يخدمه‭ ‬أحيانًا،‭ ‬ويدافع‭ ‬عنه،‭ ‬ويخاطر‭ ‬لتحقيق‭ ‬هدفه‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬إنقاذ‭ ‬زوجته‭ ‬برومهيلدا‭ ‬من‭ ‬عقر‭ ‬مزرعة‭ ‬قُطن‭ ‬السيد‭ ‬كاندي‭ (‬جسده‭ ‬الممثل‭ ‬ليوناردو‭ ‬ديكابريو‭ ‬L‭.‬DiCaprio‭) ‬المسماة‭ ‬‮«‬كانديلاند‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬يكلفه‭ ‬حياته‭ ‬نفسها‭ (‬في‭ ‬ثغرة‭ ‬فنية‭ ‬أخرى‭ ‬واضحة‭ ‬لا‭ ‬تتناسب‭ ‬لا‭ ‬مع‭ ‬موقف‭ ‬الحذر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه،‭ ‬ولا‭ ‬مع‭ ‬سرعة‭ ‬رد‭ ‬فعله‭ ‬المتميزة‭!). ‬وكم‭ ‬هو‭ ‬دال‭ ‬جواب‭ ‬شولتز‭ ‬له‭ ‬لما‭ ‬سأله‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬تكترث‭ ‬بما‭ ‬يحل‭ ‬بي؟‭ ‬ماذا‭ ‬يهمك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬زوجتي؟‮»‬،‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬بصراحة‭ ‬لم‭ ‬أعتق‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬والآن‭ ‬وقد‭ ‬فعلت‭ ‬أشعر‭ ‬أنني‭ ‬مسؤول‭ ‬عنك‭... ‬بصفتي‭ ‬ألمانياً‭ ‬أراني‭ ‬مرغمًا‭ ‬على‭ ‬مساعدتك‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بحسب‭ ‬مقتضيات‭ ‬الأسطورة‭ ‬الألمانية‭ ‬عن‭ ‬الأميرة‭ ‬‮«‬برومهيلدا‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬ينقذها‭ ‬سيغفريد‭ ‬من‭ ‬سجنٍ‭ ‬أعْلى‭ ‬الجبل‭ ‬بعد‭ ‬قتل‭ ‬التنين‭... ‬جوابٌ‭ ‬دال‭ ‬حقًا،‭ ‬لكنه‭ ‬قد‭ ‬يفتقد‭ ‬إلى‭ ‬الإقناع‭ ‬حينما‭ ‬يصدُر‭ ‬من‭ ‬‮«‬صائد‭ ‬جوائز‮»‬‭ ‬همُّه‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬الطبَّ‭ ‬هو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الربح‭!‬

 

رسائل‭ ‬مشفرة

هذه‭ ‬الجملة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬تختصر‭ ‬صورة‭ ‬الوصاية‭ ‬البيضاء‭ ‬وفضْلها‭ ‬على‭ ‬تحقق‭ ‬الحرية‭ ‬للسود‭ ‬بأمريكا‭ ‬تزكيها‭ ‬تناقضات‭ ‬عدةٌ‭ ‬ترجح‭ ‬كفة‭ ‬السيد‭ ‬الأبيض‭ ‬على‭ ‬كفة‭ ‬الزنجي‭ ‬المحرَّر‭ ‬عبر‭ ‬رسائلَ‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬على‭ ‬المشاهد‭ ‬تفكيكُ‭ ‬شفرتها؛‭ ‬فشولتز‭ ‬حين‭ ‬يحرر‭ ‬رفاق‭ ‬دجانغو‭ ‬يريهم‭ ‬نجمة‭ ‬الشمال،‭ ‬الشمال‭ ‬الأمريكي‭ ‬حيث‭ ‬تحرر‭ ‬الزنوج‭ ‬رسميًا‭ ‬وتدريجيًا‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الولايات‭ ‬الشمالية،‭ (‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيتسبب‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الوشيكة‭ ‬1861‭/‬1865‭)‬،‭ ‬بينما‭ ‬دجانغو‭ ‬عندما‭ ‬يفتح‭ ‬سجن‭ ‬العربة‭ ‬الحديدي‭ ‬عن‭ ‬رفاقه‭ ‬يكتفي‭ ‬بأخذ‭ ‬الديناميت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بالعربة،‭ ‬ولا‭ ‬يلوي‭ ‬على‭ ‬أحد‭. ‬

وشولتز‭ ‬يحترق‭ ‬امتعاضًا‭ ‬من‭ ‬نهش‭ ‬الكلاب‭ ‬للزنجي‭ ‬دارتانيان،‭ ‬بينما‭ ‬دجانغو‭ ‬لا‭ ‬يعيره‭ ‬أي‭ ‬اهتمام،‭ ‬ويجيب‭ ‬كاندي‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬‮«‬هل‭ ‬أرسل‭ ‬عليه‭ ‬الكلاب؟‮»‬‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬إنه‭ ‬زنجيُّك‮»‬‭! ‬وحين‭ ‬يفرح‭ ‬دجانغو‭ ‬بتوقيع‭ ‬صك‭ ‬شراء‭ ‬شولتز‭ ‬لزوجته‭ ‬من‭ ‬كاندي‭ ‬باثني‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬دولار،‭ ‬يُغصُّ‭ ‬شولتز‭ ‬بتذكُّر‭ ‬صورة‭ ‬الكلاب‭ ‬الناهشة،‭ ‬ويهــــبُّ‭ ‬بغضــــب‭ ‬لإيقـــاف‭ ‬السيدة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعزف‭ ‬إحدى‭ ‬روائع‭ ‬بتهوفن،‭ ‬لأن‭ ‬المقام‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بالسمفونية‭! ‬هذا‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬تزكية‭ ‬دجانغو‭ ‬للأطاريح‭ ‬العنصرية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شائعة‭ ‬بين‭ ‬البيض،‭ ‬سواء‭ ‬منها‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬اصطبغت‭ ‬بصبغة‭ ‬سوسيولوجية،‭ ‬كاستغراب‭ ‬شولتز‭ ‬من‭ ‬كـــون‭ ‬دجانغو‭ ‬متزوجًا‭: ‬‮«‬هل‭ ‬يؤمن‭ ‬معظم‭ ‬الزنـــوج‭ ‬بالزواج؟‮»‬‭ ‬مجـــيبًا‭ ‬إياه‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬وزوجــــتي‭ ‬نؤمن‭ ‬به‮»‬،‭ ‬مع‭ ‬دلالة‭ ‬هذا‭ ‬الاستثناء‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬القاعدة‭! ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬التدثر‭ ‬برداء‭ ‬العلم،‭ ‬خاصة‭ ‬بعلم‭ ‬الجماجم‭ (‬Craniometry‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬احتجَّ‭ ‬به‭ ‬كاندي‭ ‬للبرهنة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬منطقة‭ ‬الخضوع‭ ‬عند‭ ‬السود‭ ‬تقابلها‭ ‬منطقة‭ ‬الإبداع‭ ‬عند‭ ‬البيض،‭ ‬وأن‭ ‬دجانغو‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬إلا‭ ‬استثناءً‭ ‬فريدًا‭ ‬بين‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬زنجي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيردده‭ ‬دجانغو‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قتل‭ ‬الجميع‭ ‬وفجَّرَ‭ ‬كانديلاند‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬الزنجي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬العشرة‭ ‬آلاف‮»‬‭! 

لا‭ ‬نعلم‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬كوينتين،‭ ‬المخرج‭ ‬الأمريكي‭ ‬ذا‭ ‬الأصول‭ ‬الإيطالية‭ ‬الإيرلندية،‭ ‬ينحاز‭ ‬إلى‭ ‬العنصر‭ ‬الأبيض‭ ‬الألماني‭ ‬بالضبط،‭ ‬ولكن‭ ‬أسوأ‭ ‬التأويلات‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أسطـورة‭ ‬تفوق‭ ‬الجنس‭ ‬الآري‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سند‭ ‬النازية‭! ‬ولا‭ ‬نعلم‭ ‬لمَ‭ ‬لمْ‭ ‬يجعل‭ ‬التحرر‭ ‬الزنجي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الكفاح‭ ‬الجماعي‭ ‬بدل‭ ‬الخلاص‭ ‬الفردي‭ (‬الفرار‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الزوجة‭) ‬الذي‭ ‬تطأ‭ ‬أنانيتُه‭ ‬بعمائِها‭ ‬المصيرَ‭ ‬المشترك‭ ‬للجماعة،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬عدوى‭ ‬الحرية‭ ‬الرائعة‭ ‬الــتي‭ ‬ذاقها‭ ‬زنوج‭ ‬الشمال‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬إلا‭ ‬لتصيب‭ ‬زنوج‭ ‬الجنوب‭ ‬بجنونها‭ ‬المتمرد‭ ‬اللاهب،‭ ‬ولكن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخفى‭ ‬تأويله‭ ‬على‭ ‬المشاهد‭ ‬هو‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬اختاره‭ ‬المخرج‭ ‬لشولتز،‭ ‬وهو‭ ‬King‭ (‬مَلِك‭)‬،‭ ‬والاسم‭ ‬الذي‭ ‬سمى‭ ‬به‭ ‬شولتز‭ ‬دجانغـــــو‭ ‬بعد‭ ‬تحريره‭ ‬Freeman‭ (‬الرجل‭ ‬الحر‭)‬،‭ ‬وكــــل‭ ‬الحكاية‭ ‬في‭ ‬رموز‭ ‬الأسماء،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الصيد‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬الفَرا،‭ ‬ولذا‭ ‬أصر‭ ‬البطل‭ ‬الزنجي‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬‮«‬جذور‮»‬‭ (‬Roots‭) ‬القديم‭ ‬على‭ ‬اسمه‭ ‬الإفريقي‭ ‬الأصلي‭ ‬‮«‬كونتا‭ ‬كينتي‮»‬‭ (‬Kunta‭ ‬Kinte‭) ‬بعنادٍ‭ ‬وهو‭ ‬يجلد‭ ‬بشراسة‭ ‬بســـبب‭ ‬تشبثه‭ ‬به‭ ‬بدل‭ ‬اسم‭ ‬توبي‭ ‬Topi‭ ‬الذي‭ ‬اختــــاره‭ ‬له‭ ‬مالكــه‭ ‬الأبيض،‭ ‬ولم‭ ‬يتنازل‭ ‬عنه‭ ‬إلا‭ ‬تحت‭ ‬إكــراه‭ ‬العــذاب‭ ‬الشديد‭ ■

 

الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬مزرعة‭ ‬كاندي‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬حرية‭ ‬برومهيلدا