«دجانغـو طليقـًا» .. الحريـة السـوداء تحـت الوصايـة البيضـاء

كثيرة هي الأفلام التي تحمل عنوان «دجانغو» (Django)، لكنها جميعها عالةٌ على أول فيلم سمي بذلك العنوان المبهم المثير، قدمه سيرجيو كربوتشي (Sergio Carbucci) لهوليود سنة 1966. وبعدها مباشرة تتالت عدة أفلام بالعنوان نفسه، نظرًا إلى الشعبية الواسعة التي حققها، وصولًا إلى فيلم «دجانغو طليقًا» (Django Unchained) (2012) لمـــــــخــــرجــــه كوينتين ترانتينو (Quentin Tarantino).
يعالج فيلم «دجانغو طليقًا» الذي تدور أحداثه في ولايتي تكساس والميسيسيبي سنة 1858، عاميْن قبل الحرب الأهلية، قضيةَ العبودية والتحرر في الولايات المتحدة؛ غير أنه على خلاف كثير من الأعمال السينمائية التي تناولت الموضوع لم يفلح الفيلم بتاتا في طرح هذه القضية الإنسانية من زاوية تاريخية وفنية موضوعية تصور الكفاح المرير الذي خاضه السود من أجل نيل حريتهم الأصلية، ولكنه نجح ــ بالمقابل، وبشكل فني بارع ــ في إسناد تحرر سود أمريكا إلى العنصر الأبيض من خلال الوصاية الأبوية التي اضطلع بها الدكتور شولتز على دجانغو طيلة مسار الفيلم وأحداثه، حتى إنه ليصح أن يَعتبر المشاهدُ شولتز – الذي جسَّد دوره ببراعة كريستوف والتز (C.Waltz) - هو البطل، لا دجانغو (جسده جيمي فوكس (J.Foxx؛ وهذا ما يطرح كثيرا من علامات الاستفهام حول الغاية التي راهن عليها الفيلم، والرسالة التي حملها، رغم التقدير الكبير الذي حازه لدى رواد موقع الطماطم الفاسدة (Rotten Tomatoes) المتخصص في النقد السينمائي والسمعي البصري، إذ اعتبروه جديرا بالرتبة الثالثة على لائحة أفضل الأفلام لكل الأزمنة، بعلامة 8/10!
لنغضَّ الطرف عن اختيار اسم «دجانغو» ذي النبرة اللاتينية/ الرومانية لوسمِ زنجيٍّ، مما لا يرتبط من قريب أو بعيد لا بإفريقيا، ولا بنظام الرموز والقيم الذي أقامه السود المجلوبون منها في مجتمعاتهم المصغَّرة المحاصرة داخل غيتوهاتهم في «العالم الجديد»، وهو ما بدا معه الاسم مُقحمًا، تمامًا كإقحام المخرج، وهو كاتب السيناريو كذلك، لعبة صراع الماندينغو (Mandingo) ــ وهم شعب قبيلة كبرى غربَ إفريقيا ــ التي يتقاتل فيها زنجيان حتى الموتِ أمام سيدهما الأبيض الذي يستمتع بذلك، رغم أن هذا الأمر لم يثبت في التاريخ المحقَّق للاستعباد في أمريكا بحسب المؤرخ إدنا مدفورد (E.G.Medford)، لأن الغرض من الرق لدى الإقطاعيين والمُلاك الأمريكيين كان اقتصاديًا ربحيًا، ولم يكن مجرد هدر للمال على مُتعة لا طائل منها.
قلت لنغض الطرف عن عدم مناسبة الاسم للزنوجة، ولنتأمل الملامح التربوية والنفسية لدجانغو التي قلَّ منها أيضًا ما يناسب ملامح البطولة، مما يخيِّب أفق انتظار المشاهد الفطن. فرغم أننا نعلم من حيثيات الفيلم أنه سبق لدجانغو الهروب رفقة زوجته من مزرعة سيده الأول، العجوز كاروكان، وهذا ما دفع به إلى وسمهما على الوجه بميسم الآبقين، كما دفعه إلى بيعهما مُفَرَّقيْن في سوق غرينْفيلد للعبيد، فإن المخرج يقدمه لنا ــ رغم بنيته الجسدية الصلبة والموشومة بسياط التعذيب في الوقت نفسه ــ مجرد شخص خاضع أو معتاد على الخضوع، ينزع الدكتور شولتز عنه الأصفاد، ويطرح عليه صفقة يعمل بمقتضاها معه في قتل ثلاثة هاربين من العدالة، مقابل حريته و75 دولارًا، ثم لما يتحقق هذا الأمر يُحرِّره، ويطرح عليه شراكة للعمــل معه في «صـــيد الجوائز» (قتل المحكومين مقابل مكافآت حكومية) طيلة الشتاء، على أن يعطيه الثلث من الربح، ويصطحبه حتى يجد زوجته، وهو ما يقبله بسرعة، دون أن يفكر طويلًا، ولا أن يبدي تحرقًا إلى إنقاذها في أقرب وقت. ومنذ ذلك الحين، ورغم حريته المكتسبة، يصير دجانغو مؤتمرًا بالكلية بأوامر شولتز الذي أصبح صديقًا له، ومجرد منصت إلى خططه، ومطبق لتعليماته وحيَله، بل لا يُظهر أي تعاطف حتى مع مَن مرَّ بهم من إخوانه السود المنكل بهم: «اسمعوا أيها الزنوج، أنا أسوأ من هؤلاء البيض... حرّكوا أكفالكم، وكفوا عن النظر إليّ»، ويرفض عرض شولتز افتداءَ العبد دارتانيان بـ500 دولار، ويتركه للكلاب المفترسة التي أرسلها عليه سيدُه الأبيض!
ثغرة فنية
بمقابل هذه السلبية الزنجية شبه التامة التي لم تتخللها إلا صور إيجابية قليلة للغاية، (مما يبرز ثغرة فنية بسبب تفاوت التشخيص)، تظهر شخصية كينغ شولتز، وهو طبيب أسنان ألماني الأصل، شيخ ستيني ذو لحية أنيقة، مرح فطن سريع البديهة، رافض للعبودية، ويقدِّمه المخرج على أنه نموذج للإنسان الأبيض الرحيم المثقف المخاطر في سبيل مبادئه. ففي المشاهد الأولى من الفيلم يفك شولتز الأغلال عن مجموعة من العبيد، ومن بينهم دجانغو، بعد أن يردي مالكيْهما قتيلين، ويحثهم على الفرار والتحرر، ثم يشتري دجانغو، ويصاحبه وفق الصفقتين اللتين ذكرناهما من قبل. وأثناء رفقتهما الطويلة يرُكبه فرسًا متحديًا بذلك قوانين الجنوب الأمريكي التي تحظر ذلك على الزنوج، ويعلِّمه التهجئة، وآداب الهندام والطعام والتواصل، ويثقفه، ويفكر له، ويمكر له، ويشجع موهبته في الرمي، بل يخدمه أحيانًا، ويدافع عنه، ويخاطر لتحقيق هدفه المتمثل في إنقاذ زوجته برومهيلدا من عقر مزرعة قُطن السيد كاندي (جسده الممثل ليوناردو ديكابريو L.DiCaprio) المسماة «كانديلاند»، مما يكلفه حياته نفسها (في ثغرة فنية أخرى واضحة لا تتناسب لا مع موقف الحذر الذي كان فيه، ولا مع سرعة رد فعله المتميزة!). وكم هو دال جواب شولتز له لما سأله: «لماذا تكترث بما يحل بي؟ ماذا يهمك في أن أجد زوجتي؟»، قائلًا: «بصراحة لم أعتق أحدًا من قبل، والآن وقد فعلت أشعر أنني مسؤول عنك... بصفتي ألمانياً أراني مرغمًا على مساعدتك»، وذلك بحسب مقتضيات الأسطورة الألمانية عن الأميرة «برومهيلدا»، التي ينقذها سيغفريد من سجنٍ أعْلى الجبل بعد قتل التنين... جوابٌ دال حقًا، لكنه قد يفتقد إلى الإقناع حينما يصدُر من «صائد جوائز» همُّه الذي ترك من أجله الطبَّ هو البحث عن الربح!
رسائل مشفرة
هذه الجملة الأخيرة التي تختصر صورة الوصاية البيضاء وفضْلها على تحقق الحرية للسود بأمريكا تزكيها تناقضات عدةٌ ترجح كفة السيد الأبيض على كفة الزنجي المحرَّر عبر رسائلَ من السهل على المشاهد تفكيكُ شفرتها؛ فشولتز حين يحرر رفاق دجانغو يريهم نجمة الشمال، الشمال الأمريكي حيث تحرر الزنوج رسميًا وتدريجيًا في أغلب الولايات الشمالية، (وهو ما سيتسبب في الحرب الأهلية الوشيكة 1861/1865)، بينما دجانغو عندما يفتح سجن العربة الحديدي عن رفاقه يكتفي بأخذ الديناميت الذي كان بالعربة، ولا يلوي على أحد.
وشولتز يحترق امتعاضًا من نهش الكلاب للزنجي دارتانيان، بينما دجانغو لا يعيره أي اهتمام، ويجيب كاندي الذي قال له: «هل أرسل عليه الكلاب؟» بقوله: «إنه زنجيُّك»! وحين يفرح دجانغو بتوقيع صك شراء شولتز لزوجته من كاندي باثني عشر ألف دولار، يُغصُّ شولتز بتذكُّر صورة الكلاب الناهشة، ويهــــبُّ بغضــــب لإيقـــاف السيدة التي كانت تعزف إحدى روائع بتهوفن، لأن المقام لا يليق بالسمفونية! هذا علاوة على تزكية دجانغو للأطاريح العنصرية التي كانت شائعة بين البيض، سواء منها تلك التي اصطبغت بصبغة سوسيولوجية، كاستغراب شولتز من كـــون دجانغو متزوجًا: «هل يؤمن معظم الزنـــوج بالزواج؟» مجـــيبًا إياه: «أنا وزوجــــتي نؤمن به»، مع دلالة هذا الاستثناء على خلاف القاعدة! أو تلك التي حاولت التدثر برداء العلم، خاصة بعلم الجماجم (Craniometry)، مما احتجَّ به كاندي للبرهنة على أن منطقة الخضوع عند السود تقابلها منطقة الإبداع عند البيض، وأن دجانغو لا يمثل إلا استثناءً فريدًا بين عشرة آلاف زنجي، وهو ما سيردده دجانغو بعد أن قتل الجميع وفجَّرَ كانديلاند قائلا: «أنا الزنجي من أصل العشرة آلاف»!
لا نعلم ما الذي جعل كوينتين، المخرج الأمريكي ذا الأصول الإيطالية الإيرلندية، ينحاز إلى العنصر الأبيض الألماني بالضبط، ولكن أسوأ التأويلات يكمن في أسطـورة تفوق الجنس الآري التي كانت سند النازية! ولا نعلم لمَ لمْ يجعل التحرر الزنجي من خلال الكفاح الجماعي بدل الخلاص الفردي (الفرار أو مجرد البحث عن الزوجة) الذي تطأ أنانيتُه بعمائِها المصيرَ المشترك للجماعة، مع أنه لا شك أن عدوى الحرية الرائعة الــتي ذاقها زنوج الشمال ما كانت إلا لتصيب زنوج الجنوب بجنونها المتمرد اللاهب، ولكن الذي لا يمكن أن يخفى تأويله على المشاهد هو الاسم الذي اختاره المخرج لشولتز، وهو King (مَلِك)، والاسم الذي سمى به شولتز دجانغـــــو بعد تحريره Freeman (الرجل الحر)، وكــــل الحكاية في رموز الأسماء، كما أن كل الصيد في جوف الفَرا، ولذا أصر البطل الزنجي في مسلسل «جذور» (Roots) القديم على اسمه الإفريقي الأصلي «كونتا كينتي» (Kunta Kinte) بعنادٍ وهو يجلد بشراسة بســـبب تشبثه به بدل اسم توبي Topi الذي اختــــاره له مالكــه الأبيض، ولم يتنازل عنه إلا تحت إكــراه العــذاب الشديد ■
الرحلة إلى مزرعة كاندي للبحث عن حرية برومهيلدا