واقع المرأة بين التقليد والمُحدَث من خلال رواية «خمسة صبيان وصبي»
هل ما زالت قضية المرأة تشغل المجتمع العربي؟ وإلى أيّ مدى بدتْ في إبداعاتهم؟ وكيف يُسقط المثقّف العربي قضيّتها في إبداعاته، ويصوّبها إلى ما يحبّ أن تكون عليه؟ وهل نجحت هي في إثبات ذاتها؟ فكيف جعلت رواية خمسة صبيان وصبي قضيّتها متجدّدة في ظلّ غياب الجنس الأنثوي من عنوانها؟ وكيف جدّد الكاتب في صوغ السيرة الغيرية؟
حين تتحدّث عن رواية الكاتب اللبناني
د. رياض عثمان «خمسة صبيان وصبيّ»، تحار بين وصف واقعٍ اجتماعيٍّ مفروض، أو الكشف عن هويّة إرثٍ ثقافي متوارث، أو أنك تقرأ رواية أو سيرة غيريّة.
إنّها سيرة غيريّة تخبّئ في حناياها ثورة شعبيّة مُكنِزة، كما ينقل أبطالها واقعهم المعيش بكلّ أمانةٍ، انطلاقًا من قناعاتهم وتجاربهم في الحياة.
وهي سياحةٌ معرفيّة من خلال الأماكن اللبنانية المتغيّرة (طرابلس، والبقاع، وبيروت) لأنّها فضاء الرّواية، والأزمنة التي تتناسب مع واقع السّرد من خلال استرجاع الزمن أو استباقه.
أما الحقول المعجميّة فهي متبنّاة من الحياة القرويّة بامتياز، وقد ساعدت الكاتب في تعزيز رؤيته، والحكم على عالمه الثابت في الذهن والمتغيّر في العقل/ صراع الأجيال.
واقع المرأة في الرّيف
اخترتُ من منظومة القيم المطروحة في رواية خمسة صبيان وصبيّ واقع المرأة الضنّاويّة (الضنيّة منطقة في شرق طرابلس)، لأُبرز من خلاله المنظور الرؤيويّ على مستوى التعبير، أي عندما تتبادل الشخصيّات الحوارات في موقفٍ تواصليّ.
يقول د. رياض عثمان: «يتوجّه الكاتب إلى الأجيال الجديدة لاطلاعهم على طوطميّة العادات الرّيفيّة»، وقد اختصرتُ هذه الفكرة انطلاقًا من واقع المرأة.
لاحظتُ أنّ الشخصيّات النسائيّة، انطلاقًا من عنوانها، في رواية خمسة صبيان وصبيّ محدودة، لكنّها تجسّد صفاتٍ أنثويّةً تلتقي جميعها في هويّة واحدة: المرأة الموجودة، وقد تتخذ مدلولات سيمائية متعددة، وفقًا للظروف والتكيّف والثبات على هدفٍ واحدٍ قوامه إرادة الحياة، منها:
المرأة الخاضعة
تجلّت هذه الصّورة من خلال تحديد مصير الفتاة واختيار عريسها: «هل تعلم أن البنت في الرّيف تُزوّج بغير إرادتها؟».
وكأنّ المرأة مغيّبة عن جسدها قبل أي شيء بوصفها مادةً مِطوَاعة بين يديّ شخصيّة مفروضة عليها. أمّا التغييب العقليّ فيتجسّد في قمع الشهوة من الجسد الأنثويّ ليصل إلى قمّة الفكر، فتُصاب المرأة بالجمود (اللا موجود) كما حصل مع من تَقرّر مصيرهنّ عنوةً:
«ما ضروري تحبّي زوجك... حبّي ابنو».
المرأة البطلة
لم يغفل الكاتب عن إبراز دور قوي للمرأة، كما يقول: «الريف مليء ببطولات النساء، إذ جعل منها امرأة قويّة لتكون جديرة بالبقاء، فأنت لا يغرُبُ عن بالك مشهد بطنٍ تكوّر بهيئة طفل لأمٍّ انحنى ظهرها يحمل ولدًا ملتفًّا على البطن، وتجد أخاه بين يديها، والأكبر منه مربوطًا بشَملة شروال أو حبل أرجوحة».
إنّ البطولة الأنثويّة الريفيّة تحوك مداميكها من الطبيعة والعمل اليوميّ في الخارج والدّاخل، لكنّها تمنح صاحبتها قوّة الصّبر من أجل احتمال وجع الحياة.
من هنا يدعو الكاتب أبناء جيله إلى الابتعاد عن حضارة العقوق التي تتخلّى عن حضور الأم في سبيل كسب رضا الدّنيا أو الزّوجة أو الأبناء:
«إنّ لغة الأمّ تختزل رقّة الشعور وقصائد الشّعراء، يتقنها كل الأسوياء، فماذا جنيتم من بنطلون الجينز والفيزو؟ وما هي حالنا بعد تنورتها؟ وأي ذكرى؟ «من مقطع بعنوان «تنورة الأم».
المرأة الثائرة
هي الصورة النقيضة للتقاليد، إنّها الصورة المُستَحدثة في الرّيف الشّماليّ، ولا سيّما أنّ هذه الثّورة بدأت من العادات والتقاليد لتصل إلى الحياة بشكل عام، فتتحوّل تلك المرأة إلى شريكة الآخر في أيّام السّلم والحرب، صارخةً في وجه الفتنة:
«قبله، سمحت العادة - كما علّقت أم نجيب - ألّا تذهب العروس مع العريس إلى السّوق لشراء ما سبق ذكره، والتبضّع. وعلى العكس يحقّ لأختها المتزوّجة أن تذهب معهم أو أختها الأكبر منها إلا هي فلا، وذاك عيبٌ ومنقصة اجتماعيّة».
وبمجرّد أن تثور تلك الفتاة على هذا الواقع المفروض، (كانت أوّل عروس ترافق عريسها إلى السّوق قبيل زواجهما). ثم تبدأ رحلة الحريّة في مسار صعب يصل إلى صرخة المرأة غير المسلمة في مجتمعٍ تسيطر عليه الأكثرية المسلمة، صرخة في وجه العدو لتجعل صدرها متراسًا لتذود عن أبناء منطقتها:
«من يريد أن يجلب الدّماء إلى الضّنيّة فليُطلِق رصاصة حقده إلى صدري».
المرأة المدبّرة
تشكّل هذه المرأة مَقصدًا لكلّ شريك ينشد بناء حياة سَويّة:
«أنت تعرف أنّ المرأة المدبّرة يمكنها أن تصنع من لا شيء شيئًا».
وتنطلق صفة التدبير أساسًا من القناعة المطلقة بواقعٍ معيشيٍّ غير قابل للتغيير بسرعة. وهي صفة غابت عن واقع الحياة اليوم، ولا سيّما في المدن لتحلّ محلّها ثورة في الشّكل والمضمون.
الزيّ النسائيّ
أشار الكاتب من خلال الزيّ النسائيّ إلى حضارة غريبة أغرت عقولنا، فاختلفت الحال بين التغيير البسيط أو الموضة المُخرّبة، وقد اختار «التنورة» ليختصر من خلالها الوظيفة الأموميّة المتعددة المهام:
«ما زلت أذكر من صباي، يا سادة، تلك التنورة، متعددة المهام؛ فهي حضن ومئزر، وخيمة وبساط ومحطة إرسال ذي حدسٍ صادقٍ أقوى من الـ «واي فاي» والـ «فيس بوك».
وظّف الشّاعر عنصر «التنورة» ليشير إلى ظاهرةٍ كبرى أو فينومينولوجيا اللغة الأنثويّة الأموميّة. وبما أنّ الظّاهرة ترتبط بالأنا أفكّر = أنا ما لا أفكّر فيه، إذن هي النّقيض الموجود بالفعل على حساب الحقيقة الأولى = صراع الأمس واليوم.
ويعكس الكاتب في روايته صورة مجتمعه في مرآة النقد النفسيّ والاجتماعيّ، لأنّ العادات التي أشار إليها مرتبطة تلقائيًّا بالأفراد، إن كان بالفِطرة أو من كثرة التكرار.
المرأة والعَونة
«الحياة أخذ وردّ، والدنيا دور، وحياة الضيعة عَونة، والله المُعِين...».
العونة/ مرآة القرية، ترسم صورة التبادل العلائقيّ، وتعزّز الرّوابط الاجتماعيّة ضمن المجتمع الواحد.
وهي فريضة عند الكاتب، وانطلقت فكرتها من مفهوم الصداقة: «إيد وحدا ما بتزقّف»، «الناس ما بتستغني عن بعضها».
علاقة المرأة بمحيطها
هي ابنة بيئتها: «اشتاقت أم مصطفى لنعجاتها وأبقارها ودارها وجاراتها».
ونراها تتصرّف كما تتصرّف نساء قريتها في الظروف عينها، فالبيئة والجغرافية والتجارب التي مرّت بها تلك المرأة أثّرت في تكوين شخصيّتها وآرائها ومعتقداتها.
كما شكّلت المعتقدات والسلوكيّات والمفاهيم والطقوس (قصّة الضبع، الخوف من الحسد، ...)، ثقافة شعبيّة انتقلت من جيلٍ إلى جيل في قصة خمسة صبيان وصبي بالممارسة اليوميّة، ورسمت الإطار الشّعبيّ لأحداث القصّة.
انطلقت رسالة د. عثمان من جماليات الأمس لتستقرّ في واقعٍ ينشد التغيير. إنّه مفطور على حسّ الانتماء، وقد حافظ على هذا الرابط لأنّه ابن الأرض.
«خمسة صبيان وصبـــي»، رواية تستحقّ وقفة نقديّة لأنّ فرادتهـــا انعكست على نفــسيّة القارئ، وهي تشكّل في جوهرها قيمة لما كتب المبــدع أساسًا، وتصويبًا إلى واقع المرأة العربية مــن خلال تشظّـــي السيــرة الغيـــرية إلـــى التعميــــم ■
د. رياض عثمان