الولادة المتعثرة: في السينما المصرية رؤوف توفيق

الولادة المتعثرة: في السينما المصرية

إنها حقا ولادة صعبة يخوضها شباب السينما العربية من المخرجين الجدد - خاصة في مصر - في مواجهة سينما تقليدية تحكمها الاعتبارات التجارية السائدة والتي لا تسمح للفن السينمائي بالخروج إلى آفاق التجريب والمغامرة.

حالة الارتباك التي تمر بها السينما المصرية، لم تؤثر فقط على كبار المخرجين في تعطيل مشروعاتهم الفنية، إنما أثرت أيضا وبدرجة كبيرة على مسار المخرجين الجدد الذين يقفون بأبواب الانتظار للدخول إلى عالم السينما.

ثمة يقين أن الدخول صعب، والاستمرار أكثر صعوبة. وهذا اليقين لم يأت من فراغ، وإنما أكدته تجارب الأعوام الخمسة السابقة، عندما بدأ معدل الإنتاج السينمائي في الانخفاض عاما بعد آخر.

وهذا الانخفاض في الإنتاج السينمائي جاء نتيجة عدة أسباب أولها وأهمها هو عجز شركات الإنتاج في مصر عن تدبير السيولة المالية التي تمكنها من مواصلة العمل، وهذا العجز جعلها تحجم عن مغامرة إنتاج الأفلام ذات الميزانيات الكبيرة، وتكتفي بإنتاج أفلام صغيرة، قليلة التكلفة، أو التوقف مؤقتا عن العمل، وكلتا الحالتين تقف حجر عثرة أمام طموحات وأحلام المخرجين الشبان الجدد.

أفلام سريعة..قليلة التكلفة

والتوقف عن الإنتاج معروف أمره بالنسبة للجميع. أما إنتاج أفلام صغيرة قليلة التكلفة، فهذا معناه أن شركة الإنتاج تريد نوعية من الأفلام تحقق دورة سريعة لرأس المال، أفلام يتم تجهيزها وتصويرها بسرعة (في حدود أسبوعين فقط)،. وأيضا يتم تسويقها بسرعة (من خلال أشرطة الفيديو). ليس من المهم المستوى الفني أو الفكري، وإنما المهم هو سرعة الإنجاز. وقواعد هذه النوعية من الأفلام لا تسمح بالإجادة، ولا تسمح أيضا بالخروج على إطار الموضوعات التقليدية. ومن هنا كان المأزق الصعب للمخرجين الجدد.

فحلم التميز وإثبات الوجود لا يتحقق بالاستسلام للتيار السائد، والسير على القضبان نفسها، والتي كثيرا ما تمردوا عليها أثناء دراستهم لفنون السينما، أو عن تجارب ومحاولات شباب السينما في أمريكا وأوربا.

ففن السينما يتطور ويتجدد يوما بعد يوم، وتتعدد الأشكالى والأساليب، فهل يظلون في مكانهم "محلك سر" يكررون ما قدمته السينما المصرية منذ خمسين أو أربعين عاما؟ وهل يصبح الجديد مثل القديم؟ أو أن الجديد سيكون "مسخا مشوها" للقديم، بينما يظل القديم محتفظا بمكانته وذكرياته؟.

ومن الذي يجرؤ على مغامرة الجديد، ويتحمل تكاليفها ونتائجها؟

أسئلة كثيرة مرهقة ومحيرة، ولا توجد إجابات محددة في خضم سوق متقلب، شديد الشراسة أحيانا، وأيضا لا توجد معلومات متوافرة عن جمهور السينما، نوعياته، وثقافاته، ورغباته، بينما هذه المعلومات تعتبر العماد الأساسي لأي صناعة تخاطب الجماهير.

وفي ظل كل هذه المتاهات، يصبح قرار الدخول إلى عالم السينما قرارا فرديا مبنيا على اجتهادات شخصية.

وهكذا شهدت صناعة السينما المصرية في الآونة الأخيرة محاولات مختلفة يمكن تصنيفها إلى ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول:

وهو ما يمكن أن نسميه السباحة على حافة الشاطئ خوفا من المغامرة في الأعماق، وأصحاب هذا الاتجاه كثيرون، آثروا السلامة، وكبتوا أحلامهم، وارتضوا أن ينفذوا طلبات ومحاذير بعض شركات الإنتاج وتقديم ما يرضي أذواقهم وحساباتهم المادية، دون أي اهتمام بالقيمة الفكرية.

وقدم بعض هؤلاء عدة أفلام لم يتوقف أمامها الجمهور أو النقاد، إنها أفلام هلامية مبعثرة. الأشلاء، لا ترقى إلى مستوى القديم، ولا تطول بالتأكيد قامات التجديد والابتكار، وهي في حقيقتها عبارة عن ثرثرة فارغة تم تصويرها للاستهلاك السريع على أشرطة الفيديو في أمسيات الملل، ولمجرد التعود أن هناك صوتا وصورة ينبعثان من جهاز ما.

ولم يكن المقابل الذي حصل عليه هؤلاء المخرجون الشبان نظير هذه الأفعال، سوى بعض الفتات، فقد عاملتهم شركات الإنتاج كمنفذين فقط لطلباتهم، وبأقل الأجور بمنطق العرض والطلب، فالمعروض في سوق العمل من شباب المخرجين الذين تخرجوا من معهد السينما، أو الذين تدرجوا في سلسلة العمل السينمائي ويسعون للعمل في الإخراج، هؤلاء جميعا يفوق عددهم احتياجات السوق، خصوصا بعد الانخفاض المتوالي في حجم الإنتاج.

وأصحاب هذا الاتجاه، الذين اختاروا وارتضوا هذا الأسلوب في العمل، قد نقسو عليهم ونعتبرهم مشاركين في جريمة إفساد الذوق العام، وانحدار المستوى الفني. وقد نترفق بهم ونعتبرهم ضحايا فوضى وارتباك صناعة السينما، وهم يسعون إلى هذا التصنيف الأخير، باعتبارهم ضحايا سوق العمل. ولكن السؤال الأمين الذي لا بد أن يطرح هو: أي عمل يمكن أن يبيع الإنسان نفسه وأحلامه لقاءه؟!

الاتجاه الثاني:

أصحاب هذا الاتجاه أكثر تماسكا وصلابة، فنانون موهوبون لديهم الحلم الجميل، والرغبة الجارفة لتحقيق الحلم مهما تعرضوا للمضايقات والإحباطات.

من بين أصحاب هذا الاتجاه، المخرج منير راضي الذي قدم أول أفلامه السينمائية (أيام الغضب) بعد فترة طالت لأكثر من ثماني سنوات منذ تخرجه في معهد السينما. ورغم نجاح هذا الفيلم على المستويين الجماهيري والنقدي، إلا أنه وللسنة الرابعة مازال يحاول دون أي تنازلات. وبالمثل نجد حالة المخرج عادل عوض الذي قدم أول أفلامه (العقرب) وكشف عن موهبة فنية حقيقية، ولكن تعثر فيلمه الثاني وتعرض لإحباطات قاسية استمرت لعامين حتى بدأ يتماسك من جديد، ودون أي تنازلات ليقدم فيلمه الثالث (كريستال) وسط خضم من المفاجآت القاسية في عملية الإنتاج.

ومن أبرز أسماء هذا الاتجاه، المخرج شريف عرفة، الذي قدم أول أفلامه (الأقزام قادمون) في محاولة جريئة للخروج على النمط التقليدي للفيلم المصري، سعى إليها مع رفيق مشواره الكاتب الشاب "ماهر عواد". وكان الفيلم مفاجأة أسعدت النقاد وعشاق تجديد روح وشكل السينما المصرية. ولكن هذه المفاجأة لم يستقبلها الجمهور بالحماس نفسه. وتكررت المغامرة بشكل أعمق في فيلمهما التالي (سمع.. هس) ولكن فيما يبدو كان الجمهور غير مستعد لتقبل صدمة التجديد والاختلاف عما تعود مشاهدته، فكانت النتيجة غير مشجعة تجاريا. ومع ذلك تحمست لهما النجمة ليلى علوي لتغامر بأول إنتاج سينمائي لها. وكان فيلم ( يا مهلبية.. يا..) والذي حقق نجاحا نسبيا، ثم واصل المخرج شريف عرفة طريقه مع النجم عادل إمام لثلاثة أفلام (اللعب مع الكبار- الإرهاب والكباب - المنسي).ولم يتخل المخرج شريف عرفة عن طريقه، بل استطاع أن يؤكد بصمته الفنية كمخرج بارع في إثارة الخيال وتجسيده على الشاشة.

وفي الوقت نفسه، تلاقت طموحات مخرج شاب جديد مع المؤلف ماهر عواد ليقدما فيلم "الحب في الثلاجة" وكالة هذا المخرج سعيد حامد، قد ظل لأكثر من ثلاثة أعوام يخطط للفيلم الذي سيتقدم من خلاله للجمهور لأول مرة. انشغل بأدق التفاصيل الفنية، وسعى جاهدا للبحث عن التمويل المناسب وقاوم بقدر استطاعته كل الضغوط حتى يحفظ لحلمه الصورة التي تمناها، وعرض الفيلم أخيرا، واستقبل بحفاوة من المثقفين والنقاد، بينما تعثرت مسيرته وسط الجمهور العريض، ولم يصمد الفيلم سوى لأسبوعين فقط في دار العرض، وأصيب المخرج بصدمة نفسية قاسية. هل أخطأ الطريق، أين وقع الخطأ، كيف يمكن مواصلة العمل بعد ما حدث، وهل انهارت كل الآمال؟.

تساؤلات متلاطمة كموج بحر هائج، من الممكن أن تفقد التوازن لأي إنسان، ولكن بقدر الحلم كان الإصرار على تجاوز الصدمة، وتدريجيا يجمع المخرج "سعيد حامد" شتات نفسه لكي يعاود التجربة.

وعلى الطريق نفسه، يتقدم مخرج شاب جديد هو "رضوان الكاشف" لينهي عام 92 بمفاجأة فيلمه ( ليه.يا بنفسج) أول أفلامه السينمائية متعرضا للهامشيين في المجتمع المصري، من خلال علاقة صداقة تجمع بين ثلاثة شبان بكل محاولاتهم للتوافق مع الحياة. وقد ظل هذا المخرج لسنوات طويلة يعمل في الظل مساعدا للإخراج، وأحيانا كثيرة بلا عمل حتى جاءته الفرصة ليعلن عن نفسه ويحقق أول أفلامه وسط احتفال من النقاد، وأيضا من جمهور السينما. وتنفتح أمام الفيلم أبواب المهرجانات السينمائية ليحصد المخرج أولى ثمار سنوات الانتظار والأمل.

فمنذ متى كان طريق الفن سهلا أو بسيطا؟!

الاتجاه الثالث:

أصحاب هذا الاتجاه وجدوا أن الإنقاذ لأحلامهم هو الاتصال بالشمال، بأوربا، عن طريق المشاركة في التمويل من خلال هيئات حكومية أو محطات تلفزيونية.

هؤلاء عددهم قليل - حتى الآن - وكلهم يدينون بالفضل للمخرج الكبير يوسف شاهين إذ عملوا معه لسنوات، واستطاع عن طريق مكانته وسمعته العالمية أن يحقق لهم هذا التعاون الأوربي (من فرنسا وألمانيا).

ي هذا الطريق، سار المخرج "يسري نصر الله" وحقق فيلمه الأول (سرقات صيفية) واستقبل بحفاوة في المهرجانات السينمائية، ويدفعه النجاح ليحقق فيلمه الثاني (مرسيدس).

هناك أيضا المخرجة "أسماء البكري" التي حققت فيلمها الأول (شحاتون ونبلاء)، وحصدت من خلاله جوائز متعددة من المحافل السينمائية.

أخيرا يدخل المخرج "خالد الحجر" الطريق نفسه بفيلمه الأول (أحلام صغيرة) الذي تعاونت في تمويله شركة أفلام يوسف شاهين مع إحدى محطات التلفزيون الألمانية. والفيلم يقدم صورة إنسانية شديدة العذوبة عن أحلام صبي صغير شهد العدوان الثلاثي على مدينة السويس، ثم حرب 67 وما استتبعها من آلام وانكسار وتهجير السكان من المدينة الباسلة، وهذه  النوعية من الأفلام أحجمت شركات الإنتاج السينمائي في مصر عن الاقتراب منها لصعوبة تمويلها وعدم ضمان تسويقها. ولكن هذا الحلم تحقق بإصرار ذلك المخرج الشاب ومجموعة أصدقائه الذين عاونوه بصدق وحب. وتم الميلاد بفرح.

ن هذا العالم المتشابك من الفن الجميل، مازال يشهد في كل عام ميلادا جديدا، أحيانا يكون الميلاد متعثرا، والمولود مشوها، وأحيانا يصبح الميلاد إيذانا بنبض جديد، وروح مشعة بالأمل والتغيير، وهذا ما يدعو للفرح.

قليل من الفرح أفضل من البكاء المستمر على الأطلال.

 

رؤوف توفيق 







لقطات من أفلام السينما المصرية





لقطة من فيلم أيام الغضب إخراج منير راضي





لقطة من فيلم أحلام صغيرة إخراج خالد الحجر





لقطة من فيلم ليه يا بنفسيج أخراج  رضوان الكاشف