زمن ما بعدَ «كورونا»
لا شكّ في أنّ العالَم بعد «كورونا» سيكون مختلفًا عمّا قبله، هذا الأمر بات محسومًا من قبل كثير من المراقبين وذوي الاختصاص، لكن كيف تأثّر العالم بـ «كورونا»؟ وما النواحي التي تركّز تأثير انتشار الوباء عليها أكثر من غيرها، ولماذا؟ وهل تعدّى كونه آنيًا واتصف بالديمومة والثبات، مما يجعله ممتدًا إلى فتراتٍ طويلةٍ قادمة؟ وهل سيعيش البشر - بعد انقضاء الوباء بإذن الله - في زمن يُطلق عليه اصطلاحًا «ما بعد كورونا»؟!
لا جدال في أنّ تفشي الوباء وما صاحَبه من إجراءاتٍ احترازيةٍ واجبة لمنع تفاقم الوضع، أو زيادة أعداد المصابين والضحايا، ممّا قد يؤدي إلى انهيار النظام الصحي القائم؛ فلا دولة في العالم مهما كانت قوّتها الاقتصادية وجاهزيتها وجدّيتها ومهنيتها في التعامل مع حالات الطوارئ قادرة ومهيأة لأن تستقبل الحالات المتزايدة مثل سلسلة لا تنتهي، والمحتاجة إلى رعاية طبية خاصة، وشروط عزل، وأحيانًا يستدعي وضعها الحرج دخولها غرفة العناية المركزة وجهاز التنفس الاصطناعي، وهذه حقيقة أدركتها دولُ العالم كافة، فسعت بخطواتٍ متفاوتة لاحتواء الوباء، والتباعد بين الناس، ووسائل الوقاية؛ مثل ارتداء الكمامات والقفازات وتعطيل العمل، وتوقّف عجلة الاقتصاد وتعطيل المؤسسات الرسمية والخاصة؛ فالإنسان أهمّ من الاقتصاد، أو هكذا ينبغي أن يكون!
كان لهذه الإجراءات الاحترازية المبررة صحيًا وإنسانيًا ثمنُها الباهظ وانعكاسها المباشر على الاقتصاد؛ فقد امتد تأثيرُ الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجرّدة، ويسمى بـ االفيروس التاجيب، نسبة إلى شكله الذي يحوي تيجانًا متعددة؛ فكأنّه يطمح لفرض سلطته التي لن تطول أمام جبهة الوعي الجمعي، وتكاتف الجهود وتوحُّد البشر في وقف استفحاله وتهديده لقدسية الحياة.
التأثيرُ الاقتصادي هو الأبرز، والذي يحتاج إلى ذوي الاختصاص في تحديد نتائجه القريبة والبعيدة المدى، مع الإشارة إلى الاختلاف بين دولة وأخرى في كيفية التعاطي مع الوضع، وفي تقديم الإنسان على المال أو العكس!، والإشارة كذلك إلى استفادة جهات متعددة اقتصاديًا من هذه الجائحة؛ ففي وقت الشدة والأزمات تغتني جهات على حساب أخرى، وثمّة مَن يستغل الوضع العام وخوف الناس، فيحتكر البضائع التي يتزايد عليها الطلب، مثل الكمامات والمعقمات والمواد الغذائية الأساسية، وغيرها.
أثر الفيروس على العلاقات الاجتماعية
في بداية انتشاره لم يكن ممكنًا التكهن بما سيؤول إليه الوضع، لكن مع تفاقم المرض وتفشّي العدوى، بدأت سلسلةٌ من الإجراءات الاحتزارية والحظر والعزلة الاجتماعية، مما فرض الأوضاع الصعبة والاستثنائية التي طالت قطاعات واسعة من المتأثرين، ووجد الفرد المعاصر نفسه مُجبرًا على مواجهة ذاته المغيّبة والنظر في مرآة العالَم المشروخة!
وجد أنه في مواجهة واقعٍ جديد مفروض بشكلٍ متسارع، وعليه أن يتقبّله ويتعايش معه شاءَ أم أبى؛ فبدأ البحثَ عن نوافذ للتنفيس عن حالةِ التأزم النفسي، بسبب الخوف من المرض، والتخوف من وصوله إلى الأحباء، والقلق على الوضع المادي للعائلة، خاصة مع وجود مهن وأبواب رزق تعتمد على المردود اليومي؛ سواء من المهن البسيطة، مثل عمّال اليومية، أو أصحاب محالّ بيع الملابس والإكسسوارات، وحتى المهن الطبية، مثل أطباء القطاع الخاص وغيرهم، والأمثلة كثيرة، ولا مجال لحصرها أو الإحاطة بها؛ فالقلق على الوضع المادي جاء مصحوبًا بالحاجة إلى تخزين المواد الغذائية والمستلزمات الأساسية، في ظلّ الخوف من الآتي المجهول المحمّل بكلّ الاحتمالات المغرقة في السوداوية؛ والمتاحة في الفضاء المفتوح أمام سيل الإشاعات والتكهّنات والمبالغات والتهويل غير المعتمد إلّا على الخيال أو التوقّع الشخصي من فئات يعجبها أن تكون راويةً للقصة لا قارئة لها!
ضغوط هائلة
تعرّضت العائلةُ العربيةُ لضغوط هائلةٍ شملت جميع أفرادها؛ صغيرها وكبيرها، وجاء القلق المادي مصاحبًا لحالة من الخوف من الإصابة بالمرض؛ فإمكانية العدوى قائمة، والفيروس عدو غير مرئي ومجهول، ويعتمد على الجسم البشري ليكون حاضنًا وناقلاً له، وبالتالي يمكن لأقرب الناس التسبُّب لك بالأذى دونما قصد، والعكس صحيح، مما أثار حالة مبررة من القلق واالسرسبةب في التنظيف، وتصدّرت الأم المشهد في التضحية والقلق والتعقيم والتطهير، ومحاولة امتصاص قلق الزوج وعصبيته، وإرضاء الأبناء وحالات الصدام وغيرها؛ فكانت صمام الأمان وبوصلة الأمن وخط الدفاع للعائلة.
وقد أدت حالة العزلة الاجتماعية المفروضة إلى التقوقع على الذات والعائلة الصغيرة، وانتشار حالة عامة من الخوف من مخالطة الآخرين ومن الإصابة بالعدوى، وتراوحت الحالةُ، وفق ثقافة الفرد وتنشئته ودرجة وعيه، ما بين المرونة والحديّة والوسطية، مما خلّف أثرًا في العلاقات الاجتماعية قد يصل إلى هدمها وإعادة تشكيلها وفق منظور جديد بتفحُّص جدوى ديمومتها. وتطورت فكرة غربلة الفرد لعلاقاته الاجتماعية، واتّخاذه منحى التفكير في ماهية العلاقة، ووضعها تحت مجهر دقيق للفحص وضرورة اجتيازها ما يمكن أن يُطلق عليه ااختبار كوروناب؛ فالمحنة غربلت تلك العلاقات، وأظهرت للفرد الذي وجد نفسه غارقًا في العزلة والوحدة والفراغ وثقل الهمّ المادي والخوف من العدوى، والحاجة إلى التعاطف والمحبة وطاقة المساندة من الآخرين، وجد نفسه يسأل ويتساءل عمّن استطاع حقًا مساعدته ومن مدَّ له بصدق يد العون؟!
أدبيات جديدة
يمكن القول إنّ زمن اكوروناب أسهم في فرض أدبيات جديدة في طرق التواصل والاتصال بين الناس؛ فالاتصالات الهاتفية التي تزايدت الحاجة إليها في ظلّ العزلة المفروضة باتت تتمحور في أغلبها حول المرض وظروف الحجْر ومعلّبات الشكوى المكرورة، وقلّة هي التي أتقنت وسط الألم نسج ثوب الفرح، وبثّ الرجاء وإشراقة التفاؤل، رغم الألم الشخصي والرغبة في تقديم الدعم والمساندة النفسية والعاطفية، وبثّ الطاقة الإيجابية في نفس الآخر، لكنّ الغالبية العظمى من الناس تستسهل الشكوى والتذمّر دون التفكير في أثره على الآخر المصغي بصبر! وبعض المعزولين باتت اهتماماتهم محصورة في تتبُّع تحديث أرقام المصابين كلَّ يوم، وعدد المتوفين بالوباء، وبثّها للآخرين في رسائل أو مكالمات مطولة، وكأنَّهم وكالة الأنباء الوحيدة في ظلِّ التكنولوجيا الحديثة المتسارعة التطور، وشبكات التواصل الاجتماعي التي تتناقل الأخبار في لحظات.
باتت المكالمات تسير في خط مدروس ومنحى طبيعي، يبدأ من السلام والسؤال المكرور عن الحال المعروف سلفًا، في ظل ظروف الحجر الصحي، يليهما وجبة التذمّر والشكوى، وذكر المعلومات حول المرض؛ الصحيحة منها والمغلوطة، وتناقل الإشاعات والفيديوهات والطرائف، وبات الحمل ثقيلًا على الفرد ما بين اضطراره للإصغاء إلى الآخرين، أو الإصغاء لوسوسات نفسه وصوت قلقه الذي يعلو أكثر كلّ يوم وينداح في فراغ عميق، وبين ساعات يومه المكدّسة التي تحتاج إلى ما يملأها بها، بعد اعتياده على روتين سارت عليه حياته؛ فكأنّ زمن ما قبل اكوروناب سكّة قطار انقطعت بشكلٍ مفاجئ، مما أدى إلى توقّف قطار الحياة ومكوثه في حالة سكون وتوقّف وترقُّب وقلق. وبات تذكّرُ العملِ وزحمة السير والأزمة المرورية والجمعات والرحلات والأوقات الصاخبة في الأفراح والأعراس، وحتى تجمّعات ومراسم العزاء يدعو إلى التحسّر والرغبة في العودة إلى الماضي القريب، ولكن ما أبعدَه!
البحث عن منافذ للتواصل
وقد أدت حالة العزلة والحصار المادي والنفسي التي فرضتها الجائحة بالكثيرين إلى البحث عن منافذ للتواصل مع الآخر؛ فبدأ التواصل من قبل أشخاص كانوا دائمي الانشغال والتشاغل، وبات الفراغُ يفرض عليهم إعادة نسج خيوط التحاور مع الآخرين. وميل الآخر إلى بثّ الشكوى والتذمر ما يمكن اعتباره ظاهرة اجتماعية بارزة.
تباينت درجةُ التأثر وكيفية التعاطي مع الظرف الاستثنائي في فترة العزلة من فرد لآخر وفق عوامل عديدة؛ منها عُمر الفرد إنْ كان في سنّ الدراسة أو العمل، وطبيعة عمله مصدر رزقه الذي يمثّل الأمن الاقتصادي له ولأسرته، وتنشئته ومدى ثقافته، وطبيعة الجو الأسري الذي يعيشه إن كان غالبًا مشحونًا ومنفّرًا أو مستقرًا ومحاطًا ببيئة آمنة ودافئة.
كما احتلت الهواتفُ المتنقلة ومنصات التواصل الاجتماعي في فترة اكوروناب مكان الصدارة في متابعة الأخبار والمستجدات الأخيرة حول الوباء، والتواصل والنشر والتعبير، وكانت متنفسًا فسيحًا بلا حدود وبلا حواجز، وامتلأت تلك المنصات بمنشورات البثّ المباشر، وعجّت بالآراء والتحليلات، وبمحاولة استغلال تفرُّغ الجميع، ويتفاوت المحتوى، بالطبع، في كيفية التقديم بين الثري إلى الضعيف، وبين المستحق للمتابعة إلى العادي، ولا علاقة طردية حاصلة بين ذلك وعدد المتابعين ومدى الصدى؛ فلذلك عوامل متنوعة لا يتّسع المجال لذكرها.
اختبار صعب
زادت نسبة العنف المنزلي؛ فالتعامل والبقاء مع أفراد العائلة كان ضمن فترة محددة قصيرة؛ سواء في وجبات الطعام أو خلال اللقاءات الصباحية السريعة، قبل التوجه إلى العمل والمدارس والجامعات، لكن البقاء طوال أيام وأسابيع في ظروف مشحونة بالفراغ والقلق والخوف، وضع أفراد العائلة في اختبارٍ صعبٍ، وكانت الأسئلةُ الأكثر صعوبة وإرهاقًا من نصيب الأم، باعتبارها المضطلعة بمهام النظافة والتعقيم والأكل والرعاية واحتواء حالات التشاحن والصدام بين أفراد العائلة؛ وربما بتنا بحاجة إلى برامج تدريب ووضع خطة بديلة لحالات الطوارئ وكيفية التعاطي الإيجابي مع الظروف المستجدة.
ورغم صعوبة زمن اكوروناب وما خلّفه من آثار سلبية على الاقتصاد خاصة، فإنه فرض الكثير من الأسئلة المهمة، وترك بعض الآثار التي يمكن وصفها بالإيجابية؛ فهو طرح بقوة قضية االتعلُّم عن بُعدب، وهي من القضايا التربوية المهمة، وأضاء المساحة المعتمة الفاصلة بين الحديث النظري والواقع العملي؛ فهل نحن مستعدون فعلًا لتطبيق مُجدٍ للتعلّم عن بُعد؟ وهل نمتلك الأدوات والأجهزة والرغبة الحقيقية في جعله فاعلًا وناجعًا؟ أم نحتاج إلى تهيئة وتدريب وتوفير مستلزمات بصورة أكبر؟
تقييم حقيقي
ألقت الأزمة الأسئلة على بساط البحث، وأضاءت الواقع، وأدخلت الكلام النظري إلى اختبار تقييم حقيقي بمعايير حيّة؛ مما يشكّل فرصة حقيقة يمكن استغلالها في تطوير هذا الجانب، وتجاوز المعوقات والتحديات، وجعله ركنًا فاعلًا في التربية والتعليم.
كما ازداد تقديرُ الفرد المعاصر لأهمية ودور التكنولوجيا المتعاظم في الحياة المعاصرة، وهي تتطلّب الوعي والمواكبة والاستغلال الأمثل؛ وإدراك أنها أكبر من مجرد وسيلة للتسلية والتواصل، بل يمكن أن تكون عنصرًا مؤثرًا وفاعلًا في الأزمات، ومصدرًا للأخبار التي يمكن استقاؤها من مصادر مختلفة.
ومن المأمول أن تسهم الأزمة في إعادة النظر بقضية الاستهلاك الفائض عن الحاجة، وفي تقدير قيمة التقشف أو الاكتفاء، فكثير من الأسر والأفراد فوجئوا بإمكانية العيش باستهلاك أقلّ، ليس من المواد الغذائية فحسب، بل من الكماليات والإكسسوارات والألبسة والترفيه ووسائل الراحة والرفاهية المُبالغ فيها، والتي استمرت الحياة وتواصلت من دونها، بل ربما صارت أكثر نقاء وصحة، فقد وسّع تقليل الاستهلاك المساحة في الذات للتأمل والتفكير والتفكُّر.
كما أسمهت الأزمة، على ما نأمل، في تثمين وتقدير قيمة الصحة وثروة العافية ومقارنتها بثروة المال الذي لم يتمكّن من حماية أصحابه من الإصابة بالمرض، ولم يمنع حياتهم من التجمّد، ولم يصدّ عن فكرهم جحافلَ القلق والخوف، ووقفت ثروة المال عاجزة أمام اكتساح الوباء الذي سجن نصف سكان الكرة الأرضية خلف قضبان الخوف والترقّب والعزلة، ولم تستطع الأرصدة في البنوك شراء هواء نقي لرئة مُتعَبة!
إعادة النظر في الأولويات
إن إعادة النظر في أهمية المال وتقييم دوره في الحياة، قضية عجزت عشراتُ الكتب عن القيام بها، في حين استطاع فيروس لا يُرى بالعين المجرّدة أن يكون مقنعًا، ويجعل منها قضية لا تحتاج إلى عين ثاقبة لإدراكها!
وقد ساعد الوباء في كشف معادن الناس، وعرّى صورهم المستعارة من أطرها النفيسة والمزيّفة، ثمّة مَن أعطى من ماله ووقته وجهده، وهو لا يملك إلا القليل، وهناك مَن بخل وأغلق خزائنه وأرصدته، واختبأ خلف جدران خوفه وذاتيته المريضة؛ فمِن القوي المستقوي على غيره إلى إنسان خائف يفكر في جدوى حياته السابقة، وقد كشف الوباء عن ضعف البشر أمام المرض، وعرّى هشاشتهم التي طالما سترتها الملابس الفاخرة والأقنعة.
كما أسهمت الأزمة في تعزيز مفهوم أهمية العائلة، وأهمية إعادة بناء العلاقات بين أفرادها، وتنامي الشعور بقرب وأهمية كلّ فرد في العائلة الصغيرة والممتدة وحاجة الفرد إلى الآخرين، وأهمية التكافل في الأسرة الواحدة، وهي اللبنة الأساسية في المجتمع.
وتعاظم تقدير أهمية صلة القربى والرّحم والعلاقات الاجتماعية الصحية والصداقات الحقيقية؛ لأنّ افتقادها في زمن اكوروناب جعل الفرد يدرك أهميتها وحاجته إليها؛ فليست البرودة في غياب الأشياء، لكنّه الدفء المحتمل■ !