بلا مقدمات!

بلا مقدمات!

يسكنني‭ ‬الشغف‭ ‬عند‭ ‬لقاء‭ ‬الكتب،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬الأرفف‭ ‬في‭ ‬المكتبات،‭ ‬أو‭ ‬حين‭ ‬تقع‭ ‬عيني‭ ‬عليها‭ ‬عند‭ ‬زيارة‭ ‬أحدهم‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬عمله،‭ ‬والشغف‭ ‬ذاته‭ ‬يتملّكني‭ ‬حين‭ ‬أقتني‭ ‬كتبًا‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شرائها‭ ‬أو‭ ‬استعارتها‭ ‬من‭ ‬أحدهم‭. ‬وكأن‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬يغويني‭ ‬بأهميته‭ ‬والمتعة‭ ‬التي‭ ‬تحتضنها‭ ‬دفتاه،‭ ‬بالكاتب‭ ‬القديم‭ ‬أو‭ ‬الجديد،‭ ‬الذي‭ ‬سأتعرف‭ ‬عليه،‭ ‬بالبصمات‭ ‬التي‭ ‬ستطبع‭ ‬بذاكرتي‭ ‬عنه،‭ ‬بجمله‭ ‬التي‭ ‬سأحفظها‭ ‬وأقتبسها‭ ‬منه،‭ ‬بالشخوص‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬ستصاحبني‭ ‬بعوالمي‭ ‬الافتراضية‭. ‬ولأجل‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬أنوي‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬الجديدة‭ ‬دون‭ ‬المرور‭ ‬على‭ ‬المقدمة‭.‬

في‭ ‬الصفحة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬ينتابني‭ ‬عتب‭ ‬المقدمة،‭ ‬بل‭ ‬ويصل‭ ‬إلى‭ ‬مسامعي،‭ ‬كيف‭ ‬فرّطتُ‭ ‬بكلمات‭ ‬أهداها‭ ‬الكاتب‭ ‬لي؟‭ ‬كيف‭ ‬أهملتُ‭ ‬رسالته‭ ‬حين‭ ‬اختصني‭ ‬بها؟‭ ‬لعله‭ ‬وَدَّ‭ ‬أن‭ ‬يمهّد‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬ستنفر‭ ‬منه‭ ‬آرائي‭ ‬ومعتقداتي،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬سيعرض‭ ‬فيها‭ ‬ظرفه‭ ‬وزمانه‭ ‬فيما‭ ‬خطته‭ ‬يده‭. ‬لقد‭ ‬أقدم‭ ‬وقدم‭ ‬المقدمة‭ ‬قبل‭ ‬الفصول،‭ ‬إذن‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يروي‭ ‬الفضول،‭ ‬فأعود‭ ‬بشغف‭ ‬أكبر‭ ‬لقراءة‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتاب‭.‬

وبين‭ ‬نية‭ ‬إهمال‭ ‬المقدمة‭ ‬وفعل‭ ‬العودة‭ ‬إليها،‭ ‬اكتشفتُ‭ ‬أهمية‭ ‬المقدمات‭ ‬حتى‭ ‬أحببتها،‭ ‬شعرت‭ ‬بحرص‭ ‬كاتبها‭ ‬على‭ ‬انتقاء‭ ‬كلماتها،‭ ‬وعباراتها،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الدقة‭ ‬والشمولية،‭ ‬ليخلق‭ ‬اتصالًا‭ ‬عالي‭ ‬الجودة‭ ‬مع‭ ‬القارئ،‭ ‬ويوصل‭ ‬له‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬وموجز‭. ‬أكاد‭ ‬أجزم‭ ‬بأن‭ ‬مقدمة‭ ‬الكتب‭ ‬هي‭ ‬بوابة‭ ‬تعريف‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬وكاتب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬وحالة،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تلجها‭ ‬ستضيع‭ ‬بين‭ ‬الفصول‭. ‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬يسكنني‭ ‬الحذر‭ ‬ويلازمني‭ ‬الترقب‭ ‬وأنا‭ ‬أستمع‭ ‬لحوارات‭ ‬وأحاديث‭ ‬شفهية‭ ‬تسبقها‭ ‬مقدمات‭ ‬أشبه‭ ‬بالمعلقات‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬طولها،‭ ‬وبكتب‭ ‬النحو‭ ‬وقواعد‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬تعقيدها‭. ‬وهذه‭ ‬المقدمات‭ ‬ذات‭ ‬الكلمات‭ ‬المرصوصة‭ ‬والعشوائية‭ ‬أحيانًا‭ ‬باعثة‭ ‬للملل‭ ‬ومثيرة‭ ‬للقلق،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬تأتي‭ ‬خلفها‭ ‬نقاشات‭ ‬لا‭ ‬يحمد‭ ‬عقباها،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬صادرة‭ ‬ممن‭ ‬نرتبط‭ ‬بهم‭ ‬بعلاقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬العائلة‭ ‬والأصدقاء،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬العمل‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬يستعين‭ ‬بالمقدمة‭ ‬لتمهيد‭ ‬أو‭ ‬صب‭ ‬أرضية‭ ‬كما‭ ‬يقولون،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬يفشلون‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬تقديمهم‭ ‬لمحور‭ ‬حديثهم‭ ‬وهدفه‭. ‬

مقدمات‭ ‬الأحاديث‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تثير‭ ‬الربكة‭ ‬عند‭ ‬المتحدث‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكتبها،‭ ‬والارتياب‭ ‬عند‭ ‬المستمع‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحدد‭ ‬المتحاوران‭ ‬عنوانًا‭ ‬أو‭ ‬هدفًا‭ ‬أو‭ ‬موضوعًا‭ ‬لحديثهما‭ ‬كالعمل‭ ‬أو‭ ‬الأسرة‭. ‬

هناك‭ ‬مثل‭ ‬إنجليزي‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬الجيد‭ ‬صديق‭ ‬حميم‮»‬‭... ‬وأقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬المقدمة‭ ‬المتقنة‭ ‬كتاب‭ ‬جيد‭ ‬وحديث‭ ‬ثري‮»‬‭ .‬ ■