ماذا لو قرأ عبدالناصر.. شخصيَّته روائيًا؟

ماذا لو قرأ عبدالناصر.. شخصيَّته روائيًا؟

انتهيت‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬مسبار‭ ‬الخلود‮»‬‭ ‬للأديب‭ ‬المصري‭ ‬شريف‭ ‬العصفوري‭ (‬مركز‭ ‬المحروسة‭ ‬للنشر‭ ‬والخدمات‭ ‬الصحفية‭ ‬والمعلومات‭ - ‬القاهرة‭ ‬2019‭)‬،‭ ‬فأسرعت‭ ‬إلى‭ ‬مكتبتي‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬أهدانيها‭ ‬الأديب‭ ‬العُماني‭ ‬الصديق‭ ‬سليمان‭ ‬المعمري‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬2019،‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬اشتراكنا‭ ‬بفعاليات‭ ‬ملتقى‭ ‬الرواية‭ ‬بالمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة،‭ ‬وهي‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬مؤسسة‭ ‬الانتشار‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ (‬الطبعة‭ ‬الثانية‭ ‬2014‭)‬،‭ ‬فالروايتان‭ ‬تتّخذان‭ ‬من‭ ‬الفانتازيا‭ ‬إطارًا‭ ‬لهما،‭ ‬وتستعيدان‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬وعصره،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬اعتبار‭ ‬عبدالناصر‭ ‬نفسه‭ ‬شخصية‭ ‬روائية،‭ ‬ثم‭ ‬تسير‭ ‬كل‭ ‬رواية‭ ‬منهما،‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬التشابه‭ ‬بينهما،‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬مختلف‭.‬

لا‭ ‬تزال‭ ‬شخصية‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬وأعماله‭ ‬مؤثرة‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬المصري‭ ‬والعربي،‭ ‬وهو‭ ‬بحقّ‭ ‬رجل‭ ‬الأعمال‭ ‬العظيمة‭ ‬في‭ ‬أثرها،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬إيجابيًا‭ ‬أم‭ ‬سلبيًا،‭ ‬وسواء‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التقييم‭ ‬بالسلب‭ ‬أو‭ ‬الإيجاب،‭ ‬متّفق‭ ‬عليه‭ ‬أم‭ ‬مُختلف‭ ‬عليه،‭ ‬حسب‭ ‬انتماء‭ ‬وزاوية‭ ‬نظر‭ ‬من‭ ‬يُقَيِّم،‭ ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬نستغرب‭ ‬استدعاء‭ ‬الروائيين‭ ‬لهذا‭ ‬العصر‭ ‬وأحداثه،‭ ‬وإعادة‭ ‬النظر‭ ‬فيه‭ ‬وتحليله،‭ ‬لأنّ‭ ‬به‭ ‬الجذور‭ ‬القريبة‭ ‬والمهمة‭ ‬التي‭ ‬تحرّك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬حياتنا‭ ‬الحاضرة،‭ ‬لكنّ‭ ‬العصفوري‭ ‬والمعمري‭ ‬لم‭ ‬يكتفيا‭ ‬بالكتابة‭ ‬عن‭ ‬العصر،‭ ‬بل‭ ‬استدعيا‭ ‬عبدالناصر‭ ‬نفسه‭ ‬وحوّلاه‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬روائية،‭ ‬فكيف‭ ‬تم‭ ‬ذلك؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬حققاه‭ ‬بهذا‭ ‬الاستدعاء؟

افترض‭ ‬المعمري‭ ‬أن‭ ‬عبدالناصر‭ ‬يحقّ‭ ‬له‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬وزيارة‭ ‬الأحياء،‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬هُم‭ ‬مَن‭ ‬يستدعونه،‭ ‬وبشرط‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المستدعي‭ ‬من‭ ‬كارهي‭ ‬عبدالناصر‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬محبيه‭.‬

يقول‭ ‬حارس‭ ‬قبر‭ ‬عبدالناصر‭ ‬له‭: ‬‮«‬الأعداء‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬يطلبون‭ ‬عودة‭ ‬أعدائهم‭ ‬إلى‭ ‬الحياة،‭ ‬ولهذا‭ ‬يتم‭ ‬التساهل‭ ‬في‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬طلباتهم‭ ‬بُغية‭ ‬غسل‭ ‬القلوب‭ ‬من‭ ‬الأدران‭ ‬ونشر‭ ‬التسامح‭ ‬في‭ ‬الأرض‮»‬‭ (‬ص12‭). ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬مرور‭ ‬ستين‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬قيام‭ ‬ثورة‭ ‬23‭ ‬يوليو‭ ‬1952،‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬عبدالناصر‭ ‬لإسقاط‭ ‬المَلَكية‭ ‬بمصر،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬على‭ ‬وفاة‭ ‬عبدالناصر‭ ‬اثنان‭ ‬وأربعون‭ ‬عامًا‭. ‬

كان‭ ‬عبدالناصر‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬25‭ ‬يناير2011،‭ ‬لكنّ‭ ‬القانون‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بذلك،‭ ‬كان‭ ‬حزينًا‭ ‬جدًا،‭ ‬فتعاطف‭ ‬معه‭ ‬الحارس،‭ ‬لأنّ‭ ‬هناك‭ ‬قانونًا‭ ‬آخر‭ ‬ينص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬‮«‬من‭ ‬يُسعد‭ ‬طفلًا‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬مَن‭ ‬يُسعده‭ ‬في‭ ‬قبره‮»‬‭ (‬ص‭ ‬13‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬أسعد‭ ‬عبدالناصر‭ ‬طفلًا‭ ‬اسمه‭ ‬أحمد‭ ‬زويل،‭ ‬أرسل‭ ‬له‭ ‬رسالة‭ ‬‮«‬ربنا‭ ‬يوفقك‭ ‬ويوفّق‭ ‬مصر‮»‬،‭ ‬فردّ‭ ‬عليه‭ ‬عبدالناصر‭ ‬وشكره،‭ ‬داعيًا‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يحفظه‭ ‬ليكون‭ ‬عدّة‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬مستقبله‭ ‬الزاهر،‭ ‬وقد‭ ‬حصل‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الكيمياء‭.‬

قلّب‭ ‬الحارس‭ ‬في‭ ‬الدفاتر‭ ‬فوجد‭ ‬‮«‬رجلًا‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬يكنّ‭ ‬لك‭ ‬كراهية‭ ‬شديدة،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنها‭ ‬لو‭ ‬وُضعت‭ ‬وحدها‭ ‬في‭ ‬كفّة‭ ‬ميزان‭ ‬ووضع‭ ‬بُغض‭ ‬جميع‭ ‬الناس‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬الكفّة‭ ‬الأخرى‭ ‬لرجحت‭ ‬كفّته‭... ‬إنه‭ ‬مصري،‭ ‬ولكن‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬عُمان‭... ‬سنسمح‭ ‬لك‭ ‬بخروج‭ ‬مؤقت‭ ‬من‭ ‬القبر‭ ‬لزيارة‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭. ‬إن‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬تسلّ‭ ‬من‭ ‬قلبه‭ ‬ولو‭ ‬1‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬حقده‭ ‬الشديد‭ ‬عليك،‭ ‬فستكون‭ ‬مكافأتك‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬حيًا‭ ‬معززًا‭ ‬مكرّمًا‮»‬‭ (‬ص‭ ‬14‭ ‬و15‭).‬

 

أبطال‭ ‬الرواية‭ ‬يتحدثون

يذهب‭ ‬عبدالناصر‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يكرهه،‭ ‬واسمه‭ ‬بسيوني‭ ‬سلطان،‭ ‬يعمل‭ ‬مصححًا‭ ‬لغويًا‭ ‬بصحيفة‭ ‬عُمانية‭ ‬كبرى،‭ ‬يرى‭ ‬بسيوني‭ ‬عدوّه‭ ‬فيُغمى‭ ‬عليه،‭ ‬ويُنقل‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى،‭ ‬ليظل‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬لعدة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬أحدٌ‭ ‬سببها،‭ ‬وتكون‭ ‬هذه‭ ‬الغيبوبة‭ ‬هي‭ ‬فرصة‭ ‬الروائي‭ ‬سليمان‭ ‬المعمري‭ ‬ليترك‭ ‬أبطال‭ ‬الرواية‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬بسيوني‭ ‬سلطان،‭ ‬ابنه،‭ ‬صديق‭ ‬ابنه‭ ‬المختلف‭ ‬مع‭ ‬الأب‭ ‬سياسيًا،‭ ‬زملاء‭ ‬الجريدة،‭ ‬رئيس‭ ‬تحريرها،‭ ‬زوجة‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬عضو‭ ‬اللجنة‭ ‬الوطنية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وبسيوني‭ ‬سلطان‭ ‬نفسه‭ ‬يتحدث‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬يخصّه،‭ ‬ويكون‭ ‬عبدالناصر‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الفصول‭ ‬مجرّد‭ ‬شبح،‭ ‬مجرد‭ ‬مثير‭ ‬روائي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬الغيبوبة‭ ‬التي‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬انفجار‭ ‬حكائي‭ ‬اعترافي‭ ‬حميم،‭ ‬يظهر‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬صفحة،‭ ‬ليكرر‭ ‬الفصل‭ ‬الأول،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬مرور‭ ‬ستة‭ ‬آلاف‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬قيام‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو،‭ ‬ليعود‭ ‬القارئ‭ ‬إلى‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬لاستكمال‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬عبدالناصر‭ ‬والحارس‭ ‬بانتظار‭ ‬زيارة‭ ‬جديدة‭ ‬لعدوّ‭ ‬آخر‭.‬

أما‭ ‬شريف‭ ‬العصفوري‭ ‬فيجعل‭ ‬عبدالناصر‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬الراوي‭ ‬باسم‭ ‬أحمد‭ ‬جمال،‭ ‬يجعله‭ ‬مؤسسًا‭ ‬للشركة‭ ‬المتحدة‭ ‬هو‭ ‬وبعض‭ ‬رفاقه‭ ‬وأهمهم‭: ‬عبدالواسع‭ ‬عميرة‭ (‬عبدالحكيم‭ ‬عامر‭) ‬وإسماعيل‭ ‬أنور‭ (‬أنور‭ ‬السادات‭) ‬وجابر‭ (‬حسني‭ ‬مبارك‭). ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬يبدو‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬العصفوري‭ ‬ترميزًا‭ ‬ساذجًا‭ ‬استُخدم‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬لكنّ‭ ‬توغّلك‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬يوضّح‭ ‬لك‭ ‬أنه‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬ليقدم‭ ‬بناءً‭ ‬روائيًا‭ ‬بالغ‭ ‬التعقيد،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إتاحة‭ ‬تشريح‭ ‬روائي‭ ‬سياسي‭ ‬اقتصادي‭ ‬اجتماعي‭ ‬ذي‭ ‬صبغة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬يقدمه‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بنفسه‭. ‬فالراوي‭ ‬أحمد‭ ‬جمال‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الشركة‭/ ‬الثورة‭/ ‬مصر،‭ ‬وما‭ ‬تم‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬صراعات،‭ ‬وما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬مجيدة‭ ‬وأخرى‭ ‬حقيرة،‭ ‬بأسلوب‭ ‬اعترافي‭ ‬لرجل‭ ‬يعيش‭ ‬أحداث‭ ‬ثورة‭ ‬25‭ ‬يناير‭ ‬2011،‭ ‬وكان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬سنة‭ ‬1970‭ (‬وكأن‭ ‬رغبة‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬المعمري‭ ‬تحققت‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬العصفوري‭!)‬،‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬علاج‭ ‬سرّي‭ ‬يمنحه‭ ‬الخلود‭.‬

هذه‭ ‬الفصول‭ ‬هي‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬لعبدالناصر،‭ ‬عائلته،‭ ‬علاقاته‭ ‬الشخصية،‭ ‬أفكاره،‭ ‬علاقاته‭ ‬مع‭ ‬زملاء‭ ‬الثورة،‭ ‬الانقلابات‭ ‬الداخلية‭ ‬والخيانات،‭ ‬تشريح‭ ‬حقيقة‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬كما‭ ‬أُريدَ‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسية‭... ‬إلخ‭.‬

ولكون‭ ‬الراوي‭ ‬هو‭ ‬أحمد‭ ‬جمال،‭ ‬فإنه‭ ‬يتحدث‭ ‬بالتوازي‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬وعبدالناصر‭ ‬والسادات‭ ‬وحسني‭ ‬مبارك‭ ‬وثورة‭ ‬يناير‭... ‬إلخ،‭ ‬محللًا‭ ‬المعلومات‭ ‬المعلنة،‭ ‬وموضحًا‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬فيها،‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬ولا‭ ‬يكتفي‭ ‬الروائي‭ ‬بذلك،‭ ‬لكنّه‭ ‬يضع‭ ‬عدة‭ ‬فصول‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬خارج‭ ‬السياق،‭ ‬أو‭ ‬يمكن‭ ‬حذفها‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تؤثّر‭ ‬فيها،‭ ‬لكنّها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬تمنح‭ ‬الرواية‭ ‬بنيتها‭ ‬المعقّدة‭ ‬وعمقها‭ ‬التاريخي،‭ ‬وتكمل‭ ‬الظلال‭ ‬المعتمة‭ ‬للصورة‭ ‬التي‭ ‬يرسمها‭ ‬أحمد‭ ‬جمال‭ (‬اعترافات‭ ‬الشتاء‭ ‬ص‭ ‬65‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الأميرة‭ ‬شويكار،‭ ‬الزوجة‭ ‬الأولى‭ ‬للملك‭ ‬فؤاد‭ ‬والد‭ ‬الملك‭ ‬فاروق،‭ ‬الذي‭ ‬أطاح‭ ‬عبدالناصر‭ ‬بحكمه‭ - ‬اعترافات‭ ‬الربيع‭ ‬ص‭ ‬129‭ ‬عن‭ ‬الملكة‭ ‬نازلي‭ ‬أمّ‭ ‬الملك‭ ‬فاروق‭ ‬وفضائحها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬زوال‭ ‬حكمه‭ - ‬اعترافات‭ ‬الصيف‭ ‬ص‭ ‬185‭ ‬عن‭ ‬جيهان‭ ‬السادات‭ ‬الزوجة‭ ‬الثانية‭ ‬لأنور‭ ‬السادات‭ - ‬اعترافات‭ ‬الخريف‭ ‬ص‭ ‬257‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الاغتيالات‭ ‬في‭ ‬المستويات‭ ‬السياسية‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬كاليجولا‭ ‬حتى‭ ‬سعاد‭ ‬حسني،‭ ‬الممثلة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬مع‭ ‬المخابرات‭ ‬المصرية،‭ ‬وأشرف‭ ‬مروان‭ ‬زوج‭ ‬ابنة‭ ‬عبدالناصر‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬تجّار‭ ‬السلاح‭)‬،‭ ‬وليزيد‭ ‬الكاتب‭ ‬بناءه‭ ‬الروائي‭ ‬تعقيدًا؛‭ ‬أراه‭ ‬ممتعًا،‭ ‬لا‭ ‬يسرد‭ ‬الأحداث‭ ‬بتسلسلها‭ ‬التاريخي،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يراوح‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬رجوعًا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬وانطلاقًا‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر،‭ ‬باختيار‭ ‬سنوات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الراوي‭ ‬أو‭ ‬البلاد،‭ ‬ويجعل‭ ‬عناوين‭ ‬فصول‭ ‬الرواية‭ ‬كلها؛‭ ‬عدا‭ ‬المعنونة‭ ‬بكلمة‭ ‬اعترافات،‭ ‬أرقامًا‭ ‬لسنوات‭: ‬2018‭ - ‬1969‭ - ‬1926‭ - ‬1982‭ - ‬2011‭ - ‬1971‭ ‬وهكذا‭.‬

 

تقييم‭ ‬التجربة‭ ‬الناصرية

كان‭ ‬استدعاء‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬المعمري‭ ‬وسيلة‭ ‬لتحقيق‭ ‬أمرين؛‭ ‬الأول‭ ‬إعادة‭ ‬تقييم‭ ‬التجربة‭ ‬الناصرية‭ ‬من‭ ‬وجهتي‭ ‬نظر‭ ‬المؤيدين‭ ‬والمعارضين‭ ‬لها،‭ ‬والثاني‭ ‬فضح‭ ‬طرق‭ ‬التفكير‭ ‬وآليات‭ ‬التعامل‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الصحفي‭ ‬العماني،‭ ‬بغرض‭ ‬التعرُّف‭ ‬إلى‭ ‬سلبياته‭ ‬بما‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬تجاوزها،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬إشارات‭ ‬نقدية‭ ‬قوية‭ ‬إلى‭ ‬مشاكل‭ ‬الأداء‭ ‬السياسي‭ ‬العام‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬فيما‭ ‬سمّي‭ ‬بالربيع‭ ‬العماني‭. ‬فقدّم‭ ‬المعمري‭ ‬رواية‭ ‬أصوات‭ ‬بامتياز،‭ ‬لا‭ ‬يتشابه‭ ‬فيها‭ ‬صوت‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬رواية‭ ‬ساخرة‭ ‬فاضحة‭ ‬للعيوب‭ ‬الشخصية‭ ‬والمثالب‭ ‬العامة،‭ ‬ولا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬العماني‭ ‬كان‭ ‬يفكر،‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬الرواية،‭ ‬في‭ ‬الشخصيات‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬استلهم‭ ‬منها‭ ‬الكاتب‭ ‬شخصيات‭ ‬روايته،‭ ‬ولم‭ ‬ينخدع‭ ‬هذا‭ ‬القارئ‭ ‬بما‭ ‬قاله‭ ‬الكاتب‭ ‬ص7‭ ‬‮«‬شخصيات‭ ‬وأحداث‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬خيال‭ ‬الكاتب‭... ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬تشابهت‭ ‬مع‭ ‬شخصيات‭ ‬أو‭ ‬أحداث‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬فذلك‭ ‬لا‭ ‬يعدو‭ ‬كونه‭ ‬مصادفة‭ ‬قدَريّة‭ ‬محضة‮»‬،‭ ‬وكأن‭ ‬الكاتب‭ ‬يسخر‭ ‬ممن‭ ‬سيظن‭ ‬بوجود‭ ‬هذه‭ ‬المصادفة‭ ‬القدرية،‭ ‬وينبّه‭ ‬القارئ‭ ‬ليفتش‭ ‬بنفسه‭ ‬عن‭ ‬مشاكل‭ ‬واقعه،‭ ‬ليحقق‭ ‬الغرض‭ ‬الأساس‭ ‬من‭ ‬الرواية،‭ ‬وهو‭ ‬الحضّ‭ ‬على‭ ‬التغيير‭.‬

وقد‭ ‬اختار‭ ‬المعمري‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬أبطاله‭ ‬اعترافاتهم‭ ‬بأسلوب‭ ‬صحفي‭ ‬بسيط،‭ ‬محققًا‭ ‬ما‭ ‬أراده‭ ‬من‭ ‬سخرية،‭ ‬ومتوائمًا‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬عمل‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الصحفي،‭ ‬ومشيرًا‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬خفيٍّ‭ ‬إلى‭ ‬سطحية‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬يصعُب‭ ‬أن‭ ‬تتعمّق‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬مُجريات‭ ‬الحياة‭.‬

أما‭ ‬العصفوري‭ ‬فيقدّم‭ ‬رواية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬المعلوماتية‭ ‬والتحليل،‭ ‬فصول‭ ‬كاملة‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬فيها‭ ‬أحداثًا‭ ‬تمرّ‭ ‬بالشخصيات‭ ‬الروائية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تجد‭ ‬شرحًا‭ ‬وتحليلًا‭ ‬ومعلومات‭ ‬غير‭ ‬متداولة‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع‭ ‬لما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬بالشركة‭ ‬المتحدة،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬ممتعة‭ ‬لقارئ‭ ‬خاص،‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُختصر‭ ‬قليلًا،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬شرح‭ ‬فيه‭ ‬الكاتب‭ ‬فكرة‭ ‬البطولة‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أحمد‭ ‬جمال‭ ‬بإسهاب‭ ‬شديد‭ ‬أوقف‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬الصفحات‭ ‬الأولى،‭ ‬وكان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصرفَ‭ ‬القارئ‭ ‬عن‭ ‬متعة‭ ‬حقيقية‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬السردي‭ ‬والتاريخي‭ ‬قدّمهما‭ ‬له‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬المتميزة‭.‬

سيجد‭ ‬القارئ‭ ‬متعة‭ ‬فنية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬العملين،‭ ‬وسيجد‭ ‬لذّة‭ ‬عقلية‭ ‬فيما‭ ‬تثيره‭ ‬الروايتان‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭ ‬بتاريخه‭ ‬الشخصي‭ ‬وتاريخه‭ ‬العام،‭ ‬ولا‭ ‬بدّ‭ ‬سيسأل‭ ‬نفسه،‭ ‬كما‭ ‬سألت‭ ‬نفسي‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأهما‭: ‬لو‭ ‬أتيح‭ ‬لعبدالناصر؛‭ ‬أو‭ ‬لأيّ‭ ‬حاكم‭ ‬آخر،‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬نفسه‭ ‬كشخصية‭ ‬روائية،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬سيغيّر‭ ‬بعض‭ ‬أو‭ ‬كل‭ ‬قراراته،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬سيمنحه‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬مختلفة‭ ‬تجعل‭ ‬تأثيره‭ ‬التاريخي‭ ‬أكثر‭ ‬إيجابية‭ ‬وأعظم‭ ‬أثرًا؟‭ ‬خصوصًا‭ ‬وأن‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ألّف‭ ‬رواية‭ ‬في‭ ‬شبابه‭ ‬ولم‭ ‬يكملها‭ (‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الحريّة‭)‬،‭ ‬فهو‭ ‬يعرف‭ ‬صعوبة‭ ‬وأهمية‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬رواية‭.‬

ستبقى‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬معلّقة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أقتدي‭ ‬بالكاتبين‭ ‬المبدعين،‭ ‬وأستدعي‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬لأتحاور‭ ‬معه‭ ‬بنفسي‭ ■‬