الخطاب الشّعري العربي وتحديات العولمة في القرن 21

الخطاب الشّعري العربي  وتحديات العولمة في القرن 21

أسهمت فلسفات ما بعد الحداثة في الدفع بالممارسة الشعرية المعاصرة نحو أفق جديد أكثر تحررًا من القيود البلاغية، والنحوية، واللغوية؛ وحتى الأبعاد الوجدانية والجمالية، ومنفتح على التجربة الاجتماعية الجديدة للشاعر - كما مجتمعه - في سياق العولمة وتشابك الحدود بين العوالم المعاصرة. 
ولم تعد التجربة الشعرية مقترنة بمقولات الشعر للشعر (على غرار الأسس الفلسفية لمقولات الفنّ للفن)، وتمّ النظر إلى الخطاب الشعري الجديد بوصفه خطابًا نضاليًا وكفاحيًا يروم استثمار المقومات الإبداعية من أجل التأثير في شروط معيش الإنسان، والبحث عن حلول لحالة انعدام المعنى التي تميّز الفترة المعاصرة، سواء في سياق الشعر الغربي لما بعد الحداثة أو الشّعر العربي الجديد.

 

كان‭ ‬لحقبة‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬مع‭ ‬تطوّر‭ ‬الفلسفات‭ ‬النيوليبرالية،‭ ‬أثر‭ ‬بالغ‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬المسار‭ ‬البحثي‭ ‬والإبداعي‭ ‬العام‭ ‬للأدب‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجاوز‭ ‬مقولات‭ ‬الحداثة‭ ‬المتمحورة‭ ‬حول‭ ‬مركزية‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬والعالم،‭ ‬وتحوير‭ ‬نسق‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬من‭ ‬نقد‭ ‬المركزيات‭ ‬الأوربية‭ (‬العقل،‭ ‬العلم‭ ‬والفكر‭ ‬الغربي‭) ‬نحو‭ ‬نقد‭ ‬الشروط‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬المنتجة‭ ‬للمعيش‭ ‬واليومي‭ ‬المرتبط‭ ‬بتزايُد‭ ‬حدّة‭ ‬التهميش‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بدول‭ ‬الجنوب‭ (‬الدول‭ ‬العربية‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬حتى‭ ‬بالدول‭ ‬الغربية‭ ‬نفسها‭ (‬المرأة،‭ ‬السود‭...). ‬نبعت‭ ‬أشكال‭ ‬إبداعية‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬قضايا‭ ‬وإشكالات‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر‭ ‬ونماذج‭ ‬بحثية‭ ‬أكثر‭ ‬تركيزًا‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬البسيط‭ - ‬عوضًا‭ ‬عن‭ ‬الأنساق‭ ‬المعقّدة‭ - ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬فرض‭ ‬على‭ ‬جنس‭ ‬الرواية‭ ‬والشعر‭ ‬التكيّف‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الهموم‭ ‬النفسية،‭ ‬والوجدانية،‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬للأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الأشكال‭ ‬التعبيرية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المغرقة‭ ‬في‭ ‬التجريد‭ ‬والوجدانيات‭ ‬المتعالية‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭.‬

  ‬يظل‭ ‬الشاعر‭ ‬ابن‭ ‬بيئته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬ويظل‭ ‬الشعر‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬هموم‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأوطان‭ ‬والأزمان‭ ‬بلسان‭ ‬الشاعر‭ ‬وتوجيهات‭ ‬وتصويبات‭ ‬الناقد‭.‬

لهذا،‭ ‬حاول‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ (‬إبان‭ ‬الحقبة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬النكبة‭ ‬والنكسة‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭) ‬إعادة‭ ‬تعريف‭ ‬حدود‭ ‬الممكن‭ ‬بين‭ ‬الشّعر‭ ‬والشاعر،‭ ‬وربط‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬بالتجربة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والنفسية‭ ‬للمجتمع،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الشرط‭ ‬التاريخي‭ ‬والحضاري‭ ‬المميّز‭ ‬للعروبة‭ (‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬والكلاسيكي‭) ‬والتحولات‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬تمثّل‭ ‬ومراس‭ ‬الفعل‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬تطوّر‭ ‬شعر‭ ‬الصلام‭ (‬فنّ‭ ‬كلامي‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬بالشعر‭ ‬الملحون،‭ ‬يتطلّب‭ ‬مهارة‭ ‬خطابية،‭ ‬ويتناول‭ ‬الأحداث‭ ‬الآتية‭ ‬والحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬خلال‭ ‬الثمانينيات‭) ‬وشعر‭ ‬‮«‬الراب‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بأمريكا‭ (‬أشعار‭ ‬توباك‭ ‬نموذجًا‭).‬

‭ ‬

من‭ ‬فلسفة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬إلى‭ ‬شِعر‭ ‬ما‭ ‬بعدها

إذا‭ ‬كان‭ ‬شعر‭ ‬الحداثة‭ - ‬منذ‭ ‬الأشعار‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬الأوربية‭ ‬الحديثة‭ - ‬قد‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بذاته،‭ ‬والطبيعة‭ ‬والعالم‭ ‬مركزًا‭ ‬لاهتمامه؛‭ ‬ونظر‭ ‬إلى‭ ‬التجربة‭ ‬الوجودية‭ ‬للإنسان‭ ‬كلحظة‭ ‬فرادة‭ ‬وتميّز‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬مناحي‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬السعادة‮»‬‭ ‬والعيش‭ ‬الكريم‭ (‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬تطوّر‭ ‬الثورات‭ ‬الصناعية‭ ‬الثلاث‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬شِعْر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬قد‭ ‬نقد‭ ‬مركزية‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬كما‭ ‬مركزيّته‭ ‬في‭ ‬ذاته‭.‬

يذكرنا‭ ‬فلاسفة‭ ‬الاختلاف‭ (‬دولوز،‭ ‬دريدا‭...) ‬بكون‭ ‬مركزية‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬الحديثة‭ ‬تحيل‭ ‬إلى‭ ‬مركزية‭ ‬الإنسان‭ ‬الأوربي‭ ‬الأبيض‭ (‬على‭ ‬حساب‭ ‬الإنسان‭ ‬الهامشي‭ ‬والمهمش‭) ‬وليس‭ ‬الإنسان‭ ‬الكوني‭.‬

لهذا،‭ ‬كان‭ ‬لأحداث‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ (‬الحربين‭ ‬العالميتين،‭ ‬والأزمة‭ ‬المالية،‭ ‬والحرب‭ ‬الباردة‭...) ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬الاهتمام‭ ‬الفلسفي‭ ‬كما‭ ‬الشعري‭ ‬بالإنسان‭ ‬في‭ ‬كونيّته؛‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬في‭ ‬معيشه‭ ‬وحياته‭ ‬اليومية‭ ‬الأكثر‭ ‬بساطة‭ ‬وهامشية‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬فلاسفة‭ ‬الاختلاف‭ ‬ركّزوا‭ ‬على‭ ‬اللامُفكَّر‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسفة‭ (‬المرأة،‭ ‬والنوع،‭ ‬والجنسانية،‭ ‬والسجن،‭ ‬والجنون‭...)‬،‭ ‬فإنّهم‭ ‬بذلك‭ ‬فتحوا‭ ‬إمكانات‭ ‬جديدة‭ ‬للتجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬لملامسة‭ ‬اللامُفكَّر‭ ‬فيه‭ ‬شعريًا‭ ‬كذلك‭ (‬اليأس،‭ ‬والنكسة،‭ ‬وفقدان‭ ‬الوطن،‭ ‬والموت،‭ ‬والغربة‭ ‬والاستيلاب‭). ‬فالمُطالِع‭ ‬لأشعار‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية،‭ ‬وجماعة‭ ‬أبولو،‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش‭... ‬سيقف‭ ‬عند‭ ‬مظاهر‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬مظاهر‭ ‬شعر‭ ‬الأقدمين‭ ‬وشعر‭ ‬المحدثين؛‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشكلاني‭ ‬والبراني،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التيمات‭ ‬والموضوعات،‭ ‬والأساليب‭ ‬التعبيرية،‭ ‬والرهانات‭ ‬الشعرية‭ ‬والأفق‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬الشاعر‭ ‬بوجدانه‭ ‬وبيئته‭ ‬كما‭ ‬يربط‭ ‬الفيلسوف‭ ‬بالعقل‭ ‬والإنسان‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬ميّز‭ ‬حقبة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬هو‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الاختلاف‭ ‬نفسه‭: ‬الحق‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬الاختلاف‭ ‬المحلي‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الكونية‭ ‬والتعددية‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الممارسة‭ ‬الشعرية‭ ‬خاضعة‭ ‬لنسق‭ ‬تعبيري‭ ‬موحّد‭ ‬أو‭ ‬كوني‭ (‬سواء‭ ‬بالدول‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭) ‬وغابت‭ ‬النماذج‭ ‬الكابحة‭ ‬للتعبير‭ ‬المحدث‭ ‬لمصلحة‭ ‬تعدّد‭ ‬الروافد‭ ‬والمنابع‭ ‬المنضمة‭ ‬للفعل‭ ‬الإبداعي‭ (‬ينطبق‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬مناحي‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬من‭ ‬شعر،‭ ‬ورواية،‭ ‬وقصة،‭ ‬وأقصوصة‭). ‬

لقد‭ ‬أضحى‭ ‬الحوار‭ ‬والتعايش‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬العمودي‭ ‬والشعر‭ ‬الحر‭ ‬سمة‭ ‬الحقبة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬بالشكل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬الأول‭ ‬ولا‭ ‬يُعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الثاني،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬احترام‭ ‬الخصوصيات‭ ‬الوجودية‭ ‬والزمانية‭ ‬للعصر‭ ‬الحديث‭ ‬دون‭ ‬نسيان‭ ‬إسهامات‭ ‬الأقدمين‭ ‬والشرط‭ ‬التاريخي‭ ‬تحقيقًا‭ ‬للحوار‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬والحداثة‭ ‬في‭ ‬أرقى‭ ‬تجليّاته‭ ‬الإنسانية‭ ‬والإبداعية‭ ‬خلال‭ ‬حقبة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭.‬

 

الشعر‭ ‬الجديد‭ ‬وتحدّي‭ ‬العولمة

مع‭ ‬تحوّلات‭ ‬العولمة،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والثقافية،‭ ‬والثورة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬والمعلوماتية‭ ‬الرابعة‭ (‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬كوبرنيكوس،‭ ‬داروين‭ ‬وفرويد‭) ‬حدثت‭ ‬هناك‭ ‬تغيّرات‭ ‬فيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بمفهوم‭ ‬الإبداع،‭ ‬الكتابة‭ ‬والشهرة‭. ‬

أضحت‭ ‬هناك‭ ‬أنواع‭ ‬إبداعية‭ ‬ومبدعون‭ ‬مختلفون،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الإنسان‭ ‬يصنع‭ ‬نفسه‭ ‬ككاتب‭ ‬أو‭ ‬شاعر‭ ‬بمجرّد‭ ‬نشر‭ ‬كتاب‭ ‬أو‭ ‬ديوان،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬إجماع‭ ‬النقاد‭ ‬فقط،‭ ‬ولكنّ‭ ‬إجماع‭ ‬القراء‭ ‬ومجتمع‭ ‬المعلوميات‭ (‬الإنترنت‭). ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬سهّلت‭ ‬‮«‬الإنترنت‮»‬‭ ‬عملية‭ ‬النشر‭ ‬وتبادل‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية،‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬نمّطت‭ ‬الفعل‭ ‬والذوق‭ ‬الفني‭ ‬والإبداعي،‭ ‬وسمحت‭ ‬لأيّ‭ ‬كان‭ ‬بولوج‭ ‬عالَم‭ ‬الكتابة‭ ‬والنشر‭. ‬والتجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬نفسها‭ ‬لم‭ ‬تسلم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬

لقد‭ ‬أضحت‭ ‬الجودة،‭ ‬وبناء‭ ‬الاسم‭ ‬الشعري،‭ ‬والإبداعية،‭ ‬وملامسة‭ ‬الهامشي‭ ‬واللامفكر‭ ‬فيه،‭ ‬والتنميط‭ ‬وتراجُع‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬الإبداعي‭ ‬لمصلحة‭ ‬الفعل‭ ‬العلمي،‭ ‬وتحديات‭ ‬تواجه‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬الشعراء،‭ ‬ولكن‭ ‬معظم‭ ‬المشتغلين‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والإنسانية‭.‬

فإذا‭ ‬أخذنا‭ ‬النموذج‭ ‬الفرنسي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬مبيعات‭ ‬الروايات‭ (‬جنس‭ ‬الروايات‭ ‬الجديدة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بثيمات‭ ‬الهجرة،‭ ‬والاندماج،‭ ‬والتاريخ‭ ‬والذاكرة‭) ‬تفوّق‭ ‬مبيعات‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ (‬مع‭ ‬تراجُع‭ ‬مبيعات‭ ‬الشعر‭) ‬في‭ ‬دلالة‭ ‬قوية‭ ‬على‭ ‬الترابط‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬والمعيش‭ ‬والتجربة‭ ‬الروائية‭. ‬علمًا‭ ‬بأنّ‭ ‬الدخول‭ ‬الأدبي‭ ‬الفرنسي‭ ‬يعرف‭ ‬سيطرة‭ ‬قوية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الروائيات‭ ‬العربيات‭ ‬والأجانب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭ ‬أنفسهم‭ (‬تتويج‭ ‬ليلى‭ ‬سليماني‭ ‬بغونكور‭ ‬السنة‭ ‬الماضية‭)‬،‭ ‬سنصادف‭ ‬أنّ‭ ‬الكتب‭ ‬العلمية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬الصدارة‭ (‬المتمثّلة‭ ‬والواقعية‭).‬

 

الترابط‭ ‬التاريخي

فتحت‭ ‬العولمة‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعين‭ ‬أمام‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬الحقول‭ ‬المعرفية‭ ‬والأدبية‭ ‬والفنية‭ ‬كافة،‭ ‬وسهّلت‭ ‬عملية‭ ‬النشر‭ ‬والتوزيع‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الجودة‭ ‬والدقة،‭ ‬لكنّها‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬الترابط‭ ‬التاريخي‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬والمعيش‭ ‬والفعل‭ ‬الإبداعي‭ ‬والإمكانات‭ ‬المتاحة‭ ‬أمام‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الراهن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬التاريخي‭ ‬وربطه‭ ‬بمتطلبات‭ ‬العصر؛‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الانفتاح‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬الواقعي‭ ‬والمعيش‭ ‬لحياة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تزايُد‭ ‬حدة‭ ‬اللامساواة‭ ‬واللاتكافؤ‭ ‬بين‭ ‬العالمَين‭ ‬الغربي‭ ‬والشرقي‭ ‬وبين‭ ‬إنسان‭ ‬اليوم‭ ‬وإنسان‭ ‬الأمس‭ (‬على‭ ‬مستوى‭ ‬تمثُّل‭ ‬الذات‭ ‬والعلاقة‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬والطبيعة‭).‬

ختامًا،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بأيّ‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬التغاضي‭ ‬عن‭ ‬الدور‭ ‬الكبير‭ ‬للتجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان،‭ ‬وضرورة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الترابط‭ ‬بين‭ ‬التجربة‭ ‬الإبداعية‭ ‬والتجربة‭ ‬العاطفية‭ ‬والوجدانية‭. ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬والإنسان‭ ‬العربي‭ ‬يولد‭ ‬شاعرًا‭ ‬حتى‭ ‬يثبت‭ ‬العكس‭ (‬بلغة‭ ‬المفكر‭ ‬المغربي‭ ‬عبدالإله‭ ‬بلقزيز‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تحديد‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭ ‬خارج‭ ‬الشعر‭ ‬والإبداع،‭ ‬لهذا‭ ‬فالمطلوب‭ ‬هو‭ ‬الاستفادة‭ ‬القصوى‭ ‬من‭ ‬الإمكانات‭ ‬التي‭ ‬تتيحها‭ ‬العولمة‭ ‬والثورة‭ ‬المعلوماتية‭ ‬وتفادي‭ ‬حالة‭ ‬الصدمة‭ ‬والصدام‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الحداثة‭ (‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬العلاقة‭ ‬الوثيقة‭ ‬مع‭ ‬التراث‭ ‬والأقدمين‭) ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توجيه‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ - ‬وحتى‭ ‬الروائية‭ - ‬نحو‭ ‬الإنسان‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬إنسان‭ ‬هامشي،‭ ‬ومقصى‭ ‬ومهمّش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭. ‬لا‭ ‬يتعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬هنا‭ ‬بالاختيار‭ ‬من‭ ‬عدمه‭ ‬وإنّما‭ ‬بالفرصة‭ ‬والأفق‭ ‬المتاح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الاستمرارية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬عالمي‭ ‬منمّط‭ ‬ومفتقر‭ ‬للمعنى‭ ‬