عطايا الله في الجزيرة العربية.. رصد لكتابات وصور الرحالة ويلفريد ثيسجر

ولد الرحالة البريطاني ويلفريد باتريك ثيسجر في أديس أبابا عام 1910، وتُوفي عام 2003؛ سافر إلى كل من الجزيرة العربية، السعودية والإمارات، والعراق وإيران وباكستان وغرب إفريقيا، وكتب عنها عدة كتب أشهرها كتاب «الرمال العربية» Arabian Sands.
عَبَرَ ويلفريد ثيسجر الربع الخالي مرتين بين عامى 1945 و1950 للميلاد. وكان من أهم مرافقيه شابان من قبيلة الرواشد الكثيرية، وهما سالم بن كبينة الراشدي الكثيري، وسالم بن غبيشة الراشدي الكثيري، وأطلق ثيسجر على نفسه «مبارك بن لندن».
وقد منحه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وساماً تقديراً لجهوده الثمينة في اكتشاف المناطق العربية، عندما زار مرافقيه القدامى في مدينة أبوظبي، وهما سالم بن كبينة الراشدي الكثيري وسالم بن غبيشة الراشدي الكثيري سنة 1990.
ثيسجر في ضيافة الشيخ زايد
يحكي ثيسجر تفاصيل لقائه بالشيخ زايد (طيب الله ثراه) في شتاء سنة 1949م، فيقول: «وصلنا إلى قصر الشيخ زايد، وهو رجل تبدو عليه مخايل الفطنة، يتميز بعقاله الأسود، وبالطريقة التي يلبس بها كوفيته منسدلة على كتفيه بدلاً من أن تكون ملفوفة حول الرأس، وكان ذا شهرة كبيرة يُحبه الناس لبساطته ودماثة خُلقه».
ثم يستطرد فيقول «وقدَّم لنا خادم الشيخ زايد (طيب الله ثراه) القهوة والتمر، وسألني الشيخ زايد عن رحلتي، واهتم كثيرًا لسماعها، وعجب كيف استطعت أن أجتاز الصعاب التي واجهتني في العديد من دروب الصحراء، ومن القبائل، فقلت له: إنني ادعيتُ أنني تاجر سوري، فقال الشيخ زايد (طيب الله ثراه) ضاحكًا: لو فعلت هذا معي لاكتشفت أمرك في الحال»؛ ويدل هذا على شدة ذكاء وفطنة وحكمة الشيخ زايد.
هبة الله في الجزيرة العربية
الجمل سفينة البدوي في الصحراء، فالصحراء بحر من الرمال، ويقول ثيسجر «قرأت لكثير من الإنجليز عن الإبل، ولكنني أعتقد أنَّ كل ما كُتب عن الإبل، إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على جهل الكاتب بحقيقة هذه الحيوانات، وعلى أنه لم يعش بين البدو، ليعرف قيمتها، فالبدوي يُسمي الجمل «هبة الله»، «عطية الله»، وطبيعة الصبر عند الإبل تجعلها مُحببة عند العرب، وما رأيت أعرابيًا قط يضرب جملًا أو يقسو عليه، ولا يرجع السبب في هذا إلى اعتماد العربي على الإبل فحسب، بل إن الأعرابي يُكن حُبًا صادقًا للجمل، لقد رأيت زملائي يُقبلون الجمال، ويربتون على ظهورها، وهم يُتمتمون بعبارات الحب... وفي هذا تقدير شديد من البدوي لناقته.
ثم يستكمل ثيسجر حديثه عن مدى ارتباط الإبل بمُربيها فيقول: «وفي أثناء سيرنا عبر الصحراء، وعلى مسيرة نحو ثلاثين ياردة من إبلنا، تحدى سلطان (أحد الأفراد المرافقين لثيسجر) زميلًا له أن يدعو إليه ناقته، ودعا الرجل الناقة فأتت إليه مُسرعة، وناقة أخرى كانت شديدة الحب لصاحبها إلى حد التعلق به، فكانت تأتيه وهو نائم لتشمه قبل العودة إلى المرعى، وأنبأني أحد الرفاق أن هذه الناقة لا تسمح لغريب أن يمتطيها ما لم تكن معه قطعة من ثياب صاحبها.
والإبل جميلة في أعين البدو، يتغزلون فيها، ويشببون بها، ولا ريب أن هناك شعورًا بالقوة والتناسق والرشاقة في تكوين هذا الحيوان.
حالة نادرة
يعرض الدكتور جمال حجر في كتابه «الرحالة الغربيون في المشرق الإسلامي» تسجيل ثيسجر لحالة نادرة لإساءة أحد البدو لجمله، فيُشير في اقتضاب إلى استنكار معاملة الجمل معاملة سيئة فيقول في عام 1945م: «كنا نسير في أرض محروثة قرب تريم، صادفنا قرويًا كان يضرب جملاً، فقفز عدة رجال من الرواشد من على ظهور نياقهم واحتجوا عليه بغضب، وتابعنا سيرنا، وقد عبروا عن احتقارهم لهذا الرجل». ويدل هذا الأمر على رصد الرحالة لكل ما يراه، وكان يلفت انتباهه ما يبدو خارجاً على العادة، فكان يُسجله، ويُوثقه، ويحلله.
سباق الإبل من أجمل المشاهد
يقول ثيسجر «لم أر مشهدًا في حياتي أجمل من مشهد العرب وهم يتسابقون على نياقهم الأصيلة». ويدخل الجمل في أدبيات البدو وأشعارهم، فهم يستخدمون كثيرًا من العبارات الجميلة للتعبير عن سلالات الجمال، وألوانها، وجنسها، وعمرها، ومراحل نموها، وغير ذلك مما يتعلق بالجمال، والنياق لطيفة لا تعض، أما الجمال فإنها تعض، وتسبب جروحًا بالغة، وخصوصًا خلال فترة نزوتها، وقد سبق ثيسجر أن عالج رجلًا في السودان كان جملًا قد عضه، وفتت منه العظم.
أول ركوب ثيسجر للإبل
يقول ثيسجر «أذكر أنني عندما ركبت الجمل أول مرة في السودان، تألمت أشد الألم، حتى لم يعد بإمكاني التحرك في اليوم التالي، ثم اعتدت الركوب بعد ذلك فلم أعد أحس تعبًا ولا نصبًا. ويستطرد ثيسجر في وصف سير الإبل فيقول «إن الجمل الجيد يسير بسرعة تتراوح بين خمسة وستة أميال في الساعة، وهذا المعدل يُريح الراكب، والركوب البطيء يرهق ويتعب ظهر الراكب». ومن عادة البدو أنهم لا يعدون بإبلهم أبداً ما داموا في رحلة، لأن الإبل لا تأكل إلا عندما تجد ما تأكله، وهذا نادر جدًا؛ وكنت قد تعلمت من رحلاتي في «بير النطرون» و«تيبستي» ألا أعدو بالجمل إلى أكثر من معدل سيره العادي عند السفر في الصحراء، وأدركت مدى تقدير البدو لجمالهم، فقد كانوا على استعداد دائم لمقاساة المتاعب في سبيل راحتها، وهذا ما اكتشفته مرارًا أثناء مرافقتي لهم.
كل بدوي بإمكانه التعرف على أثر جمله
يُوثق ثيسجر العلاقة القوية بين البدوي وإبله، فيقول «إن كل بدوي يعرف الآثار الخاصة بجمله، ويستطيع بعض البدو أن يتعرفوا على آثار كل جمل رأوه تقريبًا؛ فمن نظرة وحيدة إلى عمق آثار قدم الجمل يعرفون إن كان طليقًا، أو على ظهره راكب، أو محملًا، ومن استقصاء الآثار يُدركون الجهة التي أتى منها الجمل، فلجمال الصحراء مثلًا كعوب ناعمة في أقدامها يدل عليها جلد مسلوخ. بينما الجمال التي تأتي من سهولٍ ذات حصى تكون أقدامها مصقولة ناعمة.
كما أن البدو يستطيعون معرفة القبيلة التي ينتمي إليها الجمل؛ فلكل قبيلة نوع من الجمال يختلف عن نوع غيرها؛ وهم يستنتجون مكان رعي الجمل من روثه، ويعرفون متى شرب آخر مرة وأين، وهم على علم تام بمجريات الأمور في الصحراء».
ويذكر ثيسجر بعضًا من صفات البدو فيقول «وقد لاحظت أثناء معاشرتي للبدو؛ أنَّ المناقشات يحمى وطيسها بسرعة بين هؤلاء القوم، ولكن حدتها سرعان ما تخف، ويجلس الجميع معًا في صفاءٍ تام يشربون القهوة؛ إن البدو لا يعرفون الحقد، ولكنهم يغارون لشرفهم، وكرامتهم، فينتقمون».
شاهد عيان على كرم المرأة البدوية
يتحدث ثيسجر عن كرم المرأة البدوية فيقول «ووصلنا صحراء الرياض، ومررنا في طريقنا باثنتي عشرة ناقة ترعاها أعرابية وولداها الصغيران، وقال العوف (أحد مرافقي قافلة ثيسجر): هيا بنا نشرب، وذهبنا إلى العجوز (يقصد صاحبة النياق) وأقرأناها السلام، فأعطته وعاء ذهب به إلى ناقة ليحلبها، ولكنَّ المرأة صرخت في ولديها: أسرعا وأحضرا لهما الناقة بنت العامين، ثم البرشاء (والبرشاء لغةً: أي كثيرة العشب)، ثم ذات الأعوام الستة؛ أهلًا بكم وسهلًا؛ أهلًا بضيوفنا، ودار علينا العوف بالوعاء فجلسنا القرفصاء لنشرب، فالأعرابي لا يشرب وهو واقف...».
دراية بخير النياق
يقول ثيسجر «وفي صباح عثــرنا على مرعى خصيــب ففككنـــا أحمالنــا، وتركنـــا الإبــل تـــرعى، وأعدَّ لنا الطعام ابن قبينة وابــن غبيشة ثم انطلقا للصيد، ولكنهما عادا وقت الغروب بخفي حنيــن»، ثم يستطرد فيقــــول «وقــــد لاحظنا أنَّ الحمراء وهي خير نياق الجمل، قد شردت، وهذه عادة الإبل فلا ترضى إحداها أن تظل في مكانها طويلًا مهما بلغ المرعى من خصوبة».
وتحضرني ملاحظة أدركتها من طول عشرتي للبدو وهي خاصة بالنوق «فالبدو يسمحون للناقة بإرضاع صغيرها ستة أسابيع تقريبًا، ثم بعد ذلك يخفون ضرعها ويسمحون لوليدها بالرضاعة قبل أن تحلب صباحًا ومساءً، ويُمنع الوليد من الرضاعة بعد الشهر التاسع، وتظل الناقة حلوبًا مدة أربع سنوات على ألا يقربها ذكر، وتستطيع الناقة أن تلد ست مرات في خلال عشرين عاماً».
وتدل المعلومة السابقة على دراية ثيسجر بأنواع الإبل وأثمنها عند العرب لكثرة عشرته لهم؛ فخير الإبل عندهم: الإبل الحمراء؛ لأنها أصبر من غيرها على الهواجر، والعرب تفتخر بعدد ما عندها من الجمال الحمر، لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الجمال الأخرى، ومن هنا ضرب العرب بها المثل حين قالوا: «ما أحب أن لي بمعاريض الكلم حمر النعم»، فالمراد بحمر النعم: الإبل الحمراء ■