عطايا الله في الجزيرة العربية.. رصد لكتابات وصور الرحالة ويلفريد ثيسجر

عطايا الله في الجزيرة العربية.. رصد لكتابات وصور الرحالة ويلفريد ثيسجر

ولد‭ ‬الرحالة‭ ‬البريطاني‭ ‬ويلفريد‭ ‬باتريك‭ ‬ثيسجر‭ ‬في‭ ‬أديس‭ ‬أبابا‭ ‬عام‭ ‬1910،‭ ‬وتُوفي‭ ‬عام‭ ‬2003؛‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬السعودية‭ ‬والإمارات،‭ ‬والعراق‭ ‬وإيران‭ ‬وباكستان‭ ‬وغرب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬عدة‭ ‬كتب‭ ‬أشهرها‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الرمال‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬Arabian Sands‭.‬

عَبَرَ‭ ‬ويلفريد‭ ‬ثيسجر‭ ‬الربع‭ ‬الخالي‭ ‬مرتين‭ ‬بين‭ ‬عامى‭ ‬1945‭ ‬و1950‭ ‬للميلاد‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مرافقيه‭ ‬شابان‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬الرواشد‭ ‬الكثيرية،‭ ‬وهما‭ ‬سالم‭ ‬بن‭ ‬كبينة‭ ‬الراشدي‭ ‬الكثيري،‭ ‬وسالم‭ ‬بن‭ ‬غبيشة‭ ‬الراشدي‭ ‬الكثيري،‭ ‬وأطلق‭ ‬ثيسجر‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬مبارك‭ ‬بن‭ ‬لندن‮»‬‭.‬

‮ ‬وقد‭ ‬منحه الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬بن‭ ‬سلطان‭ ‬آل‭ ‬نهيان رئيس دولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة وساماً‭ ‬تقديراً‭ ‬لجهوده‭ ‬الثمينة‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬المناطق‭ ‬العربية،‭ ‬عندما‭ ‬زار‭ ‬مرافقيه‭ ‬القدامى‭ ‬في‮ ‬مدينة‭ ‬أبوظبي،‭ ‬وهما‭ ‬سالم‭ ‬بن‭ ‬كبينة‭ ‬الراشدي‭ ‬الكثيري‮ ‬وسالم‭ ‬بن‭ ‬غبيشة‭ ‬الراشدي‭ ‬الكثيري‮ ‬سنة‭ ‬1990‭.‬

 

ثيسجر‭ ‬في‭ ‬ضيافة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬

يحكي‭ ‬ثيسجر‭ ‬تفاصيل‭ ‬لقائه‭ ‬بالشيخ‭ ‬زايد‭ (‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭) ‬في‭ ‬شتاء‭ ‬سنة‭ ‬1949م،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬قصر‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬تبدو‭ ‬عليه‭ ‬مخايل‭ ‬الفطنة،‭ ‬يتميز‭ ‬بعقاله‭ ‬الأسود،‭ ‬وبالطريقة‭ ‬التي‭ ‬يلبس‭ ‬بها‭ ‬كوفيته‭ ‬منسدلة‭ ‬على‭ ‬كتفيه‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ملفوفة‭ ‬حول‭ ‬الرأس،‭ ‬وكان‭ ‬ذا‭ ‬شهرة‭ ‬كبيرة‭ ‬يُحبه‭ ‬الناس‭ ‬لبساطته‭ ‬ودماثة‭ ‬خُلقه‮»‬‭. ‬

ثم‭ ‬يستطرد‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬وقدَّم‭ ‬لنا‭ ‬خادم‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ (‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭) ‬القهوة‭ ‬والتمر،‭ ‬وسألني‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬عن‭ ‬رحلتي،‭ ‬واهتم‭ ‬كثيرًا‭ ‬لسماعها،‭ ‬وعجب‭ ‬كيف‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬أجتاز‭ ‬الصعاب‭ ‬التي‭ ‬واجهتني‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬دروب‭ ‬الصحراء،‭ ‬ومن‭ ‬القبائل،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬إنني‭ ‬ادعيتُ‭ ‬أنني‭ ‬تاجر‭ ‬سوري،‭ ‬فقال‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ (‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭) ‬ضاحكًا‭: ‬لو‭ ‬فعلت‭ ‬هذا‭ ‬معي‭ ‬لاكتشفت‭ ‬أمرك‭ ‬في‭ ‬الحال»؛‭ ‬ويدل‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬شدة‭ ‬ذكاء‭ ‬وفطنة‭ ‬وحكمة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭.‬

 

هبة‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية

الجمل‭ ‬سفينة‭ ‬البدوي‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬فالصحراء‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬الرمال،‭ ‬ويقول‭ ‬ثيسجر‭ ‬‮«‬قرأت‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الإنجليز‭ ‬عن‭ ‬الإبل،‭ ‬ولكنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أنَّ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كُتب‭ ‬عن‭ ‬الإبل،‭ ‬إن‭ ‬دلَّ‭ ‬على‭ ‬شيءٍ‭ ‬فإنما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬جهل‭ ‬الكاتب‭ ‬بحقيقة‭ ‬هذه‭ ‬الحيوانات،‭ ‬وعلى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬بين‭ ‬البدو،‭ ‬ليعرف‭ ‬قيمتها،‭ ‬فالبدوي‭ ‬يُسمي‭ ‬الجمل‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬الله‮»‬،‭ ‬‮«‬عطية‭ ‬الله‮»‬،‭ ‬وطبيعة‭ ‬الصبر‭ ‬عند‭ ‬الإبل‭ ‬تجعلها‭ ‬مُحببة‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬وما‭ ‬رأيت‭ ‬أعرابيًا‭ ‬قط‭ ‬يضرب‭ ‬جملًا‭ ‬أو‭ ‬يقسو‭ ‬عليه،‭ ‬ولا‭ ‬يرجع‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬اعتماد‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬الإبل‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الأعرابي‭ ‬يُكن‭ ‬حُبًا‭ ‬صادقًا‭ ‬للجمل،‭ ‬لقد‭ ‬رأيت‭ ‬زملائي‭ ‬يُقبلون‭ ‬الجمال،‭ ‬ويربتون‭ ‬على‭ ‬ظهورها،‭ ‬وهم‭ ‬يُتمتمون‭ ‬بعبارات‭ ‬الحب‭... ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬تقدير‭ ‬شديد‭ ‬من‭ ‬البدوي‭ ‬لناقته‭.‬

ثم‭ ‬يستكمل‭ ‬ثيسجر‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬ارتباط‭ ‬الإبل‭ ‬بمُربيها‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬سيرنا‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء،‭ ‬وعلى‭ ‬مسيرة‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثين‭ ‬ياردة‭ ‬من‭ ‬إبلنا،‭ ‬تحدى‭ ‬سلطان‭ (‬أحد‭ ‬الأفراد‭ ‬المرافقين‭ ‬لثيسجر‭) ‬زميلًا‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يدعو‭ ‬إليه‭ ‬ناقته،‭ ‬ودعا‭ ‬الرجل‭ ‬الناقة‭ ‬فأتت‭ ‬إليه‭ ‬مُسرعة،‭ ‬وناقة‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬شديدة‭ ‬الحب‭ ‬لصاحبها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التعلق‭ ‬به،‭ ‬فكانت‭ ‬تأتيه‭ ‬وهو‭ ‬نائم‭ ‬لتشمه‭ ‬قبل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المرعى،‭ ‬وأنبأني‭ ‬أحد‭ ‬الرفاق‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الناقة‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لغريب‭ ‬أن‭ ‬يمتطيها‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معه‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬ثياب‭ ‬صاحبها‭. ‬

والإبل‭ ‬جميلة‭ ‬في‭ ‬أعين‭ ‬البدو،‭ ‬يتغزلون‭ ‬فيها،‭ ‬ويشببون‭ ‬بها،‭ ‬ولا‭ ‬ريب‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬شعورًا‭ ‬بالقوة‭ ‬والتناسق‭ ‬والرشاقة‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬هذا‭ ‬الحيوان‭.‬

 

حالة‭ ‬نادرة‭ ‬

يعرض‭ ‬الدكتور‭ ‬جمال‭ ‬حجر‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الرحالة‭ ‬الغربيون‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬الإسلامي‮»‬‭ ‬تسجيل‭ ‬ثيسجر‭ ‬لحالة‭ ‬نادرة‭ ‬لإساءة‭ ‬أحد‭ ‬البدو‭ ‬لجمله،‭ ‬فيُشير‭ ‬في‭ ‬اقتضاب‭ ‬إلى‭ ‬استنكار‭ ‬معاملة‭ ‬الجمل‭ ‬معاملة‭ ‬سيئة‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1945م‭: ‬‮«‬كنا‭ ‬نسير‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬محروثة‭ ‬قرب‭ ‬تريم،‭ ‬صادفنا‭ ‬قرويًا‭ ‬كان‭ ‬يضرب‭ ‬جملاً،‭ ‬فقفز‭ ‬عدة‭ ‬رجال‭ ‬من‭ ‬الرواشد‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬ظهور‭ ‬نياقهم‭ ‬واحتجوا‭ ‬عليه‭ ‬بغضب،‭ ‬وتابعنا‭ ‬سيرنا،‭ ‬وقد‭ ‬عبروا‭ ‬عن‭ ‬احتقارهم‭ ‬لهذا‭ ‬الرجل‮»‬‭. ‬ويدل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬الرحالة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يراه،‭ ‬وكان‭ ‬يلفت‭ ‬انتباهه‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬خارجاً‭ ‬على‭ ‬العادة،‭ ‬فكان‭ ‬يُسجله،‭ ‬ويُوثقه،‭ ‬ويحلله‭. ‬

 

سباق‭ ‬الإبل‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬المشاهد

يقول‭ ‬ثيسجر‭ ‬‮«‬لم‭ ‬أر‭ ‬مشهدًا‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬العرب‭ ‬وهم‭ ‬يتسابقون‭ ‬على‭ ‬نياقهم‭ ‬الأصيلة‮»‬‭. ‬ويدخل‭ ‬الجمل‭ ‬في‭ ‬أدبيات‭ ‬البدو‭ ‬وأشعارهم،‭ ‬فهم‭ ‬يستخدمون‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬العبارات‭ ‬الجميلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬سلالات‭ ‬الجمال،‭ ‬وألوانها،‭ ‬وجنسها،‭ ‬وعمرها،‭ ‬ومراحل‭ ‬نموها،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالجمال،‭ ‬والنياق‭ ‬لطيفة‭ ‬لا‭ ‬تعض،‭ ‬أما‭ ‬الجمال‭ ‬فإنها‭ ‬تعض،‭ ‬وتسبب‭ ‬جروحًا‭ ‬بالغة،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬نزوتها،‭ ‬وقد‭ ‬سبق‭ ‬ثيسجر‭ ‬أن‭ ‬عالج‭ ‬رجلًا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كان‭ ‬جملًا‭ ‬قد‭ ‬عضه،‭ ‬وفتت‭ ‬منه‭ ‬العظم‭.‬

 

أول‭ ‬ركوب‭ ‬ثيسجر‭ ‬للإبل

يقول‭ ‬ثيسجر‭ ‬‮«‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬عندما‭ ‬ركبت‭ ‬الجمل‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬تألمت‭ ‬أشد‭ ‬الألم،‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بإمكاني‭ ‬التحرك‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬ثم‭ ‬اعتدت‭ ‬الركوب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬فلم‭ ‬أعد‭ ‬أحس‭ ‬تعبًا‭ ‬ولا‭ ‬نصبًا‭. ‬ويستطرد‭ ‬ثيسجر‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬سير‭ ‬الإبل‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الجمل‭ ‬الجيد‭ ‬يسير‭ ‬بسرعة‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬خمسة‭ ‬وستة‭ ‬أميال‭ ‬في‭ ‬الساعة،‭ ‬وهذا‭ ‬المعدل‭ ‬يُريح‭ ‬الراكب،‭ ‬والركوب‭ ‬البطيء‭ ‬يرهق‭ ‬ويتعب‭ ‬ظهر‭ ‬الراكب‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬عادة‭ ‬البدو‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يعدون‭ ‬بإبلهم‭ ‬أبداً‭ ‬ما‭ ‬داموا‭ ‬في‭ ‬رحلة،‭ ‬لأن‭ ‬الإبل‭ ‬لا‭ ‬تأكل‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬تجد‭ ‬ما‭ ‬تأكله،‭ ‬وهذا‭ ‬نادر‭ ‬جدًا؛‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬رحلاتي‭ ‬في‭ ‬‮«‬بير‭ ‬النطرون‮»‬‭ ‬و«تيبستي‮»‬‭ ‬ألا‭ ‬أعدو‭ ‬بالجمل‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬معدل‭ ‬سيره‭ ‬العادي‭ ‬عند‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬وأدركت‭ ‬مدى‭ ‬تقدير‭ ‬البدو‭ ‬لجمالهم،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬دائم‭ ‬لمقاساة‭ ‬المتاعب‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬راحتها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬اكتشفته‭ ‬مرارًا‭ ‬أثناء‭ ‬مرافقتي‭ ‬لهم‭. ‬

 

كل‭ ‬بدوي‭ ‬بإمكانه‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬جمله

يُوثق‭ ‬ثيسجر‭ ‬العلاقة‭ ‬القوية‭ ‬بين‭ ‬البدوي‭ ‬وإبله،‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬كل‭ ‬بدوي‭ ‬يعرف‭ ‬الآثار‭ ‬الخاصة‭ ‬بجمله،‭ ‬ويستطيع‭ ‬بعض‭ ‬البدو‭ ‬أن‭ ‬يتعرفوا‭ ‬على‭ ‬آثار‭ ‬كل‭ ‬جمل‭ ‬رأوه‭ ‬تقريبًا؛‭ ‬فمن‭ ‬نظرة‭ ‬وحيدة‭ ‬إلى‭ ‬عمق‭ ‬آثار‭ ‬قدم‭ ‬الجمل‭ ‬يعرفون‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬طليقًا،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬راكب،‭ ‬أو‭ ‬محملًا،‭ ‬ومن‭ ‬استقصاء‭ ‬الآثار‭ ‬يُدركون‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬أتى‭ ‬منها‭ ‬الجمل،‭ ‬فلجمال‭ ‬الصحراء‭ ‬مثلًا‭ ‬كعوب‭ ‬ناعمة‭ ‬في‭ ‬أقدامها‭ ‬يدل‭ ‬عليها‭ ‬جلد‭ ‬مسلوخ‭. ‬بينما‭ ‬الجمال‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬سهولٍ‭ ‬ذات‭ ‬حصى‭ ‬تكون‭ ‬أقدامها‭ ‬مصقولة‭ ‬ناعمة‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬البدو‭ ‬يستطيعون‭ ‬معرفة‭ ‬القبيلة‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها‭ ‬الجمل؛‭ ‬فلكل‭ ‬قبيلة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬غيرها؛‭ ‬وهم‭ ‬يستنتجون‭ ‬مكان‭ ‬رعي‭ ‬الجمل‭ ‬من‭ ‬روثه،‭ ‬ويعرفون‭ ‬متى‭ ‬شرب‭ ‬آخر‭ ‬مرة‭ ‬وأين،‭ ‬وهم‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬تام‭ ‬بمجريات‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬الصحراء‮»‬‭.‬

ويذكر‭ ‬ثيسجر‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬البدو‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬وقد‭ ‬لاحظت‭ ‬أثناء‭ ‬معاشرتي‭ ‬للبدو؛‭ ‬أنَّ‭ ‬المناقشات‭ ‬يحمى‭ ‬وطيسها‭ ‬بسرعة‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬القوم،‭ ‬ولكن‭ ‬حدتها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تخف،‭ ‬ويجلس‭ ‬الجميع‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬صفاءٍ‭ ‬تام‭ ‬يشربون‭ ‬القهوة؛‭ ‬إن‭ ‬البدو‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬الحقد،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يغارون‭ ‬لشرفهم،‭ ‬وكرامتهم،‭ ‬فينتقمون‮»‬‭.‬

 

شاهد‭ ‬عيان‭ ‬على‭ ‬كرم‭ ‬المرأة‭ ‬البدوية

يتحدث‭ ‬ثيسجر‭ ‬عن‭ ‬كرم‭ ‬المرأة‭ ‬البدوية‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬ووصلنا‭ ‬صحراء‭ ‬الرياض،‭ ‬ومررنا‭ ‬في‭ ‬طريقنا‭ ‬باثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬ناقة‭ ‬ترعاها‭ ‬أعرابية‭ ‬وولداها‭ ‬الصغيران،‭ ‬وقال‭ ‬العوف‭ (‬أحد‭ ‬مرافقي‭ ‬قافلة‭ ‬ثيسجر‭): ‬هيا‭ ‬بنا‭ ‬نشرب،‭ ‬وذهبنا‭ ‬إلى‭ ‬العجوز‭ (‬يقصد‭ ‬صاحبة‭ ‬النياق‭) ‬وأقرأناها‭ ‬السلام،‭ ‬فأعطته‭ ‬وعاء‭ ‬ذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬ناقة‭ ‬ليحلبها،‭ ‬ولكنَّ‭ ‬المرأة‭ ‬صرخت‭ ‬في‭ ‬ولديها‭: ‬أسرعا‭ ‬وأحضرا‭ ‬لهما‭ ‬الناقة‭ ‬بنت‭ ‬العامين،‭ ‬ثم‭ ‬البرشاء‭ (‬والبرشاء‭ ‬لغةً‭: ‬أي‭ ‬كثيرة‭ ‬العشب‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬ذات‭ ‬الأعوام‭ ‬الستة؛‭ ‬أهلًا‭ ‬بكم‭ ‬وسهلًا؛‭ ‬أهلًا‭ ‬بضيوفنا،‭ ‬ودار‭ ‬علينا‭ ‬العوف‭ ‬بالوعاء‭ ‬فجلسنا‭ ‬القرفصاء‭ ‬لنشرب،‭ ‬فالأعرابي‭ ‬لا‭ ‬يشرب‭ ‬وهو‭ ‬واقف‭...‬‮»‬‭.‬

 

دراية‭ ‬بخير‭ ‬النياق

يقول‭ ‬ثيسجر‭ ‬‮«‬وفي‭ ‬صباح‭ ‬عثــرنا‭ ‬على‭ ‬مرعى‭ ‬خصيــب‭ ‬ففككنـــا‭ ‬أحمالنــا،‭ ‬وتركنـــا‭ ‬الإبــل‭ ‬تـــرعى،‭ ‬وأعدَّ‭ ‬لنا‭ ‬الطعام‭ ‬ابن‭ ‬قبينة‭ ‬وابــن‭ ‬غبيشة‭ ‬ثم‭ ‬انطلقا‭ ‬للصيد،‭ ‬ولكنهما‭ ‬عادا‭ ‬وقت‭ ‬الغروب‭ ‬بخفي‭ ‬حنيــن‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يستطرد‭ ‬فيقــــول‭ ‬‮«‬وقــــد‭ ‬لاحظنا‭ ‬أنَّ‭ ‬الحمراء‭ ‬وهي‭ ‬خير‭ ‬نياق‭ ‬الجمل،‭ ‬قد‭ ‬شردت،‭ ‬وهذه‭ ‬عادة‭ ‬الإبل‭ ‬فلا‭ ‬ترضى‭ ‬إحداها‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬في‭ ‬مكانها‭ ‬طويلًا‭ ‬مهما‭ ‬بلغ‭ ‬المرعى‭ ‬من‭ ‬خصوبة‮»‬‭. ‬

وتحضرني‭ ‬ملاحظة‭ ‬أدركتها‭ ‬من‭ ‬طول‭ ‬عشرتي‭ ‬للبدو‭ ‬وهي‭ ‬خاصة‭ ‬بالنوق‭ ‬‮«‬فالبدو‭ ‬يسمحون‭ ‬للناقة‭ ‬بإرضاع‭ ‬صغيرها‭ ‬ستة‭ ‬أسابيع‭ ‬تقريبًا،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يخفون‭ ‬ضرعها‭ ‬ويسمحون‭ ‬لوليدها‭ ‬بالرضاعة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تحلب‭ ‬صباحًا‭ ‬ومساءً،‭ ‬ويُمنع‭ ‬الوليد‭ ‬من‭ ‬الرضاعة‭ ‬بعد‭ ‬الشهر‭ ‬التاسع،‭ ‬وتظل‭ ‬الناقة‭ ‬حلوبًا‭ ‬مدة‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يقربها‭ ‬ذكر،‭ ‬وتستطيع‭ ‬الناقة‭ ‬أن‭ ‬تلد‭ ‬ست‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬خلال‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‮»‬‭. ‬

وتدل‭ ‬المعلومة‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬ثيسجر‭ ‬بأنواع‭ ‬الإبل‭ ‬وأثمنها‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬لكثرة‭ ‬عشرته‭ ‬لهم؛‭ ‬فخير‭ ‬الإبل‭ ‬عندهم‭: ‬الإبل‭ ‬الحمراء؛‭ ‬لأنها‭ ‬أصبر‭ ‬من‭ ‬غيرها‭ ‬على‭ ‬الهواجر،‭ ‬والعرب‭ ‬تفتخر‭ ‬بعدد‭ ‬ما‭ ‬عندها‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬الحمر،‭ ‬لغلاء‭ ‬ثمنها‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الجمال‭ ‬الأخرى،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬ضرب‭ ‬العرب‭ ‬بها‭ ‬المثل‭ ‬حين‭ ‬قالوا‭: ‬‮«‬ما‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬لي‭ ‬بمعاريض‭ ‬الكلم‭ ‬حمر‭ ‬النعم‮»‬،‭ ‬فالمراد‭ ‬بحمر‭ ‬النعم‭: ‬الإبل‭ ‬الحمراء‭ ■