مفهوم الكرامة والبحث عن الدفء الإنساني قراءة في رواية «بقايا اليوم» لإيشيجورو

مفهوم الكرامة والبحث عن الدفء الإنساني  قراءة في رواية «بقايا اليوم» لإيشيجورو

يعتبر‭ ‬الكاتب‭ ‬كازو‭ ‬إيشيجورو‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الروائيين‭ ‬البريطانيين،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقول‭ ‬اليابانيين،‭ ‬رغم‭ ‬أصوله‭ ‬اليابانية،‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أهم‭ ‬الروائيين‭ ‬المعاصرين‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أعمالًا‭ ‬لفتت‭ ‬إليه‭ ‬الأنظار،‭ ‬وحظي‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬بجوائز‭ ‬مهمة،‭ ‬مثلما‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬اليوم‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬نالت‭ ‬جائزة‭ ‬البوكر‭ ‬البريطانية‭ ‬سنة‭ ‬1989،‭ ‬وروايته‭ ‬‮«‬الذي‭ ‬لا‭ ‬عزاء‭ ‬له‮»‬‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬شلتنهام‭. ‬وقد‭ ‬أشاد‭ ‬بكتاباته‭ ‬كتّاب‭ ‬معروفون‭ ‬وذوو‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬عالَم‭ ‬الآداب،‭ ‬حيث‭ ‬اعتبرت‭ ‬أنيتا‭ ‬بروكنر،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬رواية‭ ‬أصيلة‭ ‬متميزة‭ ‬حين‭ ‬أصدر‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬الذي‭ ‬لا‭ ‬عزاء‭ ‬له‮»‬‭ ‬وقُل‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬رواياته‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬نذكر‭ ‬منها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الروايتين‭ ‬السابقتين،‭ ‬روايات‭ ‬‮«‬منظر‭ ‬شاحب‭ ‬للتلال‮»‬،‭ ‬و«فنان‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الطليق‮»‬،‭ ‬و«عندما‭ ‬كنا‭ ‬يتامى‮»‬،‭ ‬و«لا‭ ‬تدعني‭ ‬أرحل‮»‬‭.‬

نظرًا‭ ‬لأهمية‭ ‬رواية‭ ‬إيشيجورو‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬اليوم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترجمها‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬طلعت‭ ‬الشايب،‭ ‬ونشرها‭ ‬المركز‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة‭ ‬بمصر‭ ‬في‭ ‬طبعتها‭ ‬الثانية‭ ‬سنة‭ ‬2009،‭ ‬فإننا‭ ‬سنخصص‭ ‬لها‭ ‬هنا‭ ‬قراءة‭ ‬نوعية‭ ‬تركّز‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬على‭ ‬تفكيك‭ ‬مفهوم‭ ‬الكرامة،‭ ‬كما‭ ‬يقدّمها‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬ستيفنس‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬الخاصة،‭ ‬حسب‭ ‬تجربته‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ووفق‭ ‬مهنته‭ ‬كرئيس‭ ‬للخدم‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وكما‭ ‬تراها‭ ‬بعض‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬الأخرى،‭ ‬لاسيما‭ ‬شخصية‭ ‬مستر‭ ‬هاري‭ ‬سميث‭ ‬وشخصية‭ ‬د‭. ‬كارلسلي،‭ ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬ستركّز‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬شعرية‭ ‬الدفء‭ ‬الإنساني‭ ‬وكيفية‭ ‬شعور‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬به،‭ ‬وتأثيره‭ ‬على‭ ‬نظرتها‭ ‬للعالم‭ ‬المحيط‭ ‬بها‭. ‬

 

‭ ‬مفهوم‭ ‬الكرامة‭ ‬والتحولات‭ ‬السردية

  ‬ينبني‭ ‬المسار‭ ‬السردي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬توالي‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬تأويلات‭ ‬متباينة‭ ‬لبعض‭ ‬المفاهيم‭/ ‬الأهواء‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تحدّد‭ ‬رؤية‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬العوالم‭ ‬المحيطة‭ ‬بها‭. ‬

ومن‭ ‬هنا،‭ ‬ووفق‭ ‬جوليان‭ ‬غريماس‭ ‬وجاك‭ ‬فونتاني‭ ‬في‭ ‬كتابهما‭ ‬المشترك‭ ‬سيميائية‭ ‬الأهواء،‭ ‬فإنّ‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ / ‬الأهواء‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاتها‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬عوامل‭ ‬فاعلة‭ ‬ومؤثرة،‭ ‬وهي‭ ‬بالتالي‭ ‬تشكّل‭ ‬قوى‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬الأمور‭ ‬وكيفية‭ ‬النظر‭ ‬إليها‭.‬

وفي‭ ‬مقدمة‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭/ ‬الأهواء‭ ‬سنقف‭ ‬عند‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الكرامة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬عنصرًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬توترات‭ ‬أهوائية‭ ‬لدى‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وغيَّر‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬مساراتها‭ ‬السردية‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأهواء‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬المسار‭ ‬السردي‭ ‬للشخصيات‭.‬

‭ ‬في‭ ‬المسار‭ ‬السردي‭ ‬المتعلّق‭ ‬بالشخصية‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬شخصية‭ ‬رئيس‭ ‬الخدم‭ ‬ستيفنس،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬عظمة‭ ‬الشخص‭ ‬ترتبط‭ ‬أساسًا‭ ‬بهذه‭ ‬الصفة‭.‬

ولكي‭ ‬يظل‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بموضوعه‭ ‬الأثير‭ ‬عنده،‭ ‬أي‭ ‬الخدمة،‭ ‬فإنه‭ ‬يحوّل‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬عظمة‭ ‬الشخص‭ ‬بشكل‭ ‬مطلق‭ ‬إلى‭ ‬العظمة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يحوزها‭ ‬رئيس‭ ‬الخدم‭ ‬أمام‭ ‬أنداده‭ ‬من‭ ‬رؤساء‭ ‬الخدم‭ ‬الآخرين‭.‬

هكذا‭ ‬يطرح‭ ‬ستيفنس‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭: ‬‮«‬ما‭ ‬هو‭ ‬رئيس‭ ‬الخدم‭ ‬العظيم؟‭ ‬أتذكر‭ ‬أننا‭ ‬كنّا‭ ‬نجلس‭ ‬حول‭ ‬المدفأة‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الخدم‭ ‬ونحن‭ ‬نتناقش‭ ‬حول‭ ‬ذلك‭ ‬بالساعات‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬يوم‭ ‬العمل‭.‬

لاحظ‭ ‬أنني‭ ‬أقول‭: ‬‮«‬ما‭ ‬هو‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬‮«‬مَن‭ ‬هو‮»‬‭ ‬رئيس‭ ‬الخدم‭ ‬العظيم؟‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر‭ ‬جدل‭ ‬كبير‭ ‬حول‭ ‬هويّة‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬وضعوا‭ ‬تلك‭ ‬المقاييس‭ ‬في‭ ‬جيلنا‮»‬‭ (‬الرواية‭ ‬ص‭ ‬59‭)‬،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬يُقرّ‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬بأن‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬تفوق‭ ‬مستواه،‭ ‬فإنّه‭ ‬يربطها‭ ‬بمسألة‭ ‬الكرامة‭.‬

 

الكرامة‭ ‬حدٌّ‭ ‬فاصل

‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬‮«‬ما‭ ‬هي‭ ‬العظمة‭ ‬بالضبط؟‭ ‬وفيم‭ ‬توجد؟‭ ‬أثق‭ ‬بأنَّ‭ ‬إجابة‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عقل‭ ‬أكثر‭ ‬حكمة‭ ‬من‭ ‬عقلي‮»‬‭ (‬ص‭. ‬58‭)‬،‭ ‬فإنّه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يربط‭ ‬هذه‭ ‬العظمة‭ ‬بمفهوم‭ ‬الكرامة‭. ‬فهو‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬بعملية‭ ‬السرد‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يستحضر‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬سِيَر‭ ‬بعض‭ ‬رؤساء‭ ‬الخدم‭ ‬الذين‭ ‬سمع‭ ‬بهم‭ ‬أو‭ ‬تعرّف‭ ‬إليهم،‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬مسألة‭ ‬الكرامة‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التمييز‭ ‬بينهم‭ ‬وتفضيل‭ ‬البعض‭ ‬منهم‭ ‬عن‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬حيث‭ ‬إنّ‭ ‬الكرامة‭ ‬كانت‭ ‬حدًا‭ ‬فاصلًا‭ ‬بين‭ ‬العظماء‭ ‬منهم‭ ‬وبين‭ ‬الجيدين‭ ‬فحسب‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بعملهم‭. ‬

إنَّ‭ ‬السرد‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬يتحوّل‭ ‬عن‭ ‬مساره‭ ‬الخطّي‭ ‬لينهج‭ ‬مسارًا‭ ‬استرجاعيًا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الذاكرة‭. ‬إن‭ ‬ستيفنس‭ ‬باعتباره‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبكونه‭ ‬أيضًا‭ ‬ساردًا‭ ‬لهذه‭ ‬الرواية،‭ ‬يعتمد‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬البناء‭ ‬السردي‭ ‬تارة‭ ‬على‭ ‬التسلسل‭ ‬الخطي،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬الاسترجاع‭ ‬السردي‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬حين‭ ‬قدّم‭ ‬لنا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬سيَر‭ ‬بعض‭ ‬رؤساء‭ ‬الخدم،‭ ‬رابطًا‭ ‬إياها‭ ‬بما‭ ‬قد‭ ‬تحقق‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكرامة‮»‬‭ ‬في‭ ‬سيرهم‭ ‬تلك‭.‬

وهو‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬قد‭ ‬اعتبر‭ ‬أنّ‭ ‬أباه‭ ‬كان‭ ‬عظيمًا‭ ‬كرئيس‭ ‬سابق‭ ‬للخدم‭. ‬يقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬ذلك‭ ‬الطموح‮»‬‭ (‬ص‭. ‬70‭). ‬

وفي‭ ‬موقع‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الرواية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سرد‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬أبوه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬رئيسًا‭ ‬للخدم‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬تتعلّق‭ ‬بحرصه‭ ‬الشديد‭ ‬على‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بعمله‭ ‬كما‭ ‬يجب،‭ ‬وكما‭ ‬يتطلّبه‭ ‬مفهوم‭ ‬الكرامة‭ ‬في‭ ‬نظره،‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭: ‬‮«‬بعد‭ ‬هاتين‭ ‬الحكايتين‭ ‬اللتين‭ ‬رويتهما‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬والدي،‭ ‬وكلاهما‭ ‬موثّق‭ ‬ومنقول‭ ‬بدقّة،‭ ‬أعتقد‭ ‬أنك‭ ‬ستوافق‭ ‬معي‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬والدي‭ ‬لا‭ ‬يمثّل‭ ‬الكرامة‭ ‬فقط،‭ ‬كما‭ ‬تصفها‭ ‬جمعية‭ ‬هايز،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬تجسيد‭ ‬حيّ‭ ‬لكل‭ ‬ذلك‮»‬‭ (‬ص‭. ‬77‭).‬

‭ ‬إن‭ ‬مفهوم‭ ‬الكرامة‭ ‬سيتحكم‭ ‬في‭ ‬المسار‭ ‬السردي‭ ‬لهذه‭ ‬الرواية‭ ‬بأكمله،‭ ‬فهو‭ ‬أيضًا‭ ‬سيحضر‭ ‬في‭ ‬النقاش‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬بين‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬ستيفنس‭ ‬وبين‭ ‬مستر‭ ‬هاري‭ ‬سميث‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبينه‭ ‬وبين‭ ‬
د‭. ‬كارلسلي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

 

مفهوم‭ ‬المواطنة‭ ‬والكرامة

‭ ‬في‭ ‬إجابة‭ ‬لبطل‭ ‬الرواية‭ ‬ستيفنس‭ ‬من‭ ‬لدُن‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬حلّ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬عن‭ ‬مميزات‭ ‬شخصية‭ ‬الجنتلمان،‭ ‬معتقدين‭ ‬بأنّه‭ ‬أحد‭ ‬الأشخاص‭ ‬المهمّين،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السيارة‭ ‬الثمينة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يركبها،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬سيارة‭ ‬مخدومه‭ ‬الحالي،‭ ‬مالك‭ ‬القصر‭ ‬الجديد‭ ‬السيد‭ ‬فراداي،‭ ‬حيث‭ ‬يشتغل‭ ‬ستيفنس،‭ ‬أجاب‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬أحدد‭ ‬صفات‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬لديّ،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تكون،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬يعبّر‭ ‬عنه‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬فإنّ‭ ‬المرء‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬الصفة‭ ‬التي‭ ‬تشيرون‭ ‬إليها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تسمّى‭ ‬‮«‬الكرامة‮»‬‭. (‬ص‭. ‬274‭). ‬

لكن‭ ‬مستر‭ ‬هاري‭ ‬سميث،‭ ‬يردّ‭ ‬عليه‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬انتبه‭ ‬يا‭ ‬سيدي،‭ ‬مع‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير‭ ‬لما‭ ‬تقول،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬الكرامة‭ ‬ليست‭ ‬شيئًا‭ ‬موجودًا‭ ‬في‭ ‬الجنتلمان‭. ‬الكرامة‭ ‬شيء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكافح‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬رجلًا‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيقه‮»‬‭ (‬ص‭. ‬275‭). ‬ثم‭ ‬يضيف‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حاربنا‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ربحناه‭. ‬ربحنا‭ ‬حقّ‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مواطنين‭ ‬أحرارًا‮»‬‭ (‬ص‭. ‬275‭). ‬

أما‭ ‬رأي‭ ‬د‭. ‬كارسلي‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الكرامة‭ ‬فهو‭ ‬يعبّر‭ ‬عنه‭ ‬بالشكل‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬هناك‭ ‬حدود‭ ‬فعلية‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعرفه‭ ‬ويدركه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬العاديين،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬أن‭ ‬نطلب‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يسهم‭ ‬بآراء‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬البلاد‭ ‬الخلافية‭. ‬ومن‭ ‬العبث‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬حال‭ ‬أن‭ ‬يحاول‭ ‬أحد‭ ‬تعريف‭ ‬كرامة‭ ‬المرء‭ ‬وفقًا‭ ‬لتلك‭ ‬الشروط‮»‬‭. (‬ص‭. ‬287‭).‬

‭ ‬هكذا‭ ‬سيتعمق‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬مفهوم‭ ‬المواطنة‭ ‬والكرامة‭ ‬بين‭ ‬شخصيات‭ ‬أهل‭ ‬القرية،‭ ‬مما‭ ‬يمنح‭ ‬للرواية‭ ‬أبعادًا‭ ‬بوليفونية،‭ ‬بتعبير‭ ‬ميخائيل‭ ‬باختين،‭ ‬حيث‭ ‬تتكامل‭ ‬أصوات‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية‭ ‬تارة‭ ‬وتختلف‭ ‬تارات‭ ‬أخرى‭ ‬دون‭ ‬تدخُّل‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬يترك‭ ‬لسارد‭ ‬الرواية‭ ‬والشخصية‭ ‬الرئيسية‭ ‬فيها‭ ‬نقل‭ ‬هذه‭ ‬التعددية‭ ‬الأصواتية‭ ‬دون‭ ‬تدخّل‭ ‬مباشر‭ ‬منه‭.‬

‭ ‬

أهواء‭ ‬الشخصيات‭ ‬والدفء‭ ‬الإنساني

تتعدد‭ ‬أهواء‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تقدّم‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬ستيفنس،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬أنه‭ ‬يحرص‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬ربطها‭ ‬بالعمل‭ ‬والنظر‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬مثلًا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الخدم‭ ‬يقيمون‭ ‬علاقات‭ ‬بينهم‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬القيام‭ ‬بعملهم‭ ‬على‭ ‬الوجه‭ ‬الأكمل،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬حتمًا‭ ‬ستؤثر‭ ‬على‭ ‬مسارهم‭ ‬المهني،‭ ‬وتحول‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المكانة‭ ‬الرفيعة‭ ‬فيه‭.‬

يقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭: ‬‮«‬مس‭ ‬كنتون‭ ‬ووالدي‭ ‬كانا‭ ‬قد‭ ‬جاءا‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تقريبًا،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬عام‭ ‬1922،‭ ‬وكان‭ ‬مجيئهما‭ ‬نتيجة‭ ‬لفقداني‭ - ‬بضربة‭ ‬واحدة‭ - ‬مدبّرة‭ ‬القصر‭ ‬السابقة‭ ‬ومساعد‭ ‬رئيس‭ ‬الخدم‭. ‬

وكان‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬نتيجة‭ ‬أن‭ ‬الشخصين‭ ‬الأخيرين‭ ‬قررا‭ ‬الزواج‭ ‬وتركا‭ ‬المهنة‭ (‬ص‭. ‬88‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬يضيف‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬ولكن‭ ‬الأكثر‭ ‬مدعاة‭ ‬للقلق‭ ‬والإزعاج‭ ‬هم‭ ‬أولئك‭ ‬الأشخاص‭ - ‬ومدبرات‭ ‬البيوت‭ ‬والقصور‭ ‬هُنَّ‭ ‬المذنبات‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ - ‬الذين‭ ‬ليس‭ ‬لهم‭ ‬أيّ‭ ‬التزام‭ ‬حقيقي‭ ‬بالمهنة،‭ ‬والذين‭ ‬ينتقلون‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬لآخر‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬القصص‭ ‬الغرامية‮»‬‭ (‬ص‭. ‬88‭).‬

‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬فقد‭ ‬ظلّ‭ ‬حريصًا‭ ‬بشكل‭ ‬قوي‭ ‬على‭ ‬كبت‭ ‬عواطفه‭ ‬وعدم‭ ‬البوح‭ ‬بها‭ ‬لأيّ‭ ‬كان‭. ‬حتى‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬أحبّها،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬مدبّرة‭ ‬القصر‭ ‬السابقة،‭ ‬مس‭ ‬كنتون،‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يبوح‭ ‬لها‭ ‬بهذا‭ ‬الحب‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يتزوج‭ ‬بها،‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬الزواج‭ ‬على‭ ‬مساره‭ ‬المهني‭. ‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬حاولت‭ ‬مرارًا‭ ‬أن‭ ‬تلفت‭ ‬نظره‭ ‬إلى‭ ‬اهتمامها‭ ‬به،‭ ‬فإنّه‭ ‬كان‭ ‬يعاملها‭ ‬ببرودة‭ ‬أثارت‭ ‬غضبها،‭ ‬ودفعتها‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬والرحيل‭ ‬عن‭ ‬قصر‭ ‬دار‭ ‬لنجتون‭ ‬هول،‭ ‬حيث‭ ‬كانا‭ ‬يشتغلان‭ ‬معًا‭. ‬هكذا‭ ‬نرى‭ ‬أنّها‭ ‬حين‭ ‬زارته‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬مزهرية‭ ‬مليئة‭ ‬بالزهور‭ ‬وتقول‭ ‬له‭ ‬مبتسمة‭: ‬‮«‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬سيُضفي‭ ‬بعض‭ ‬البهجة‭ ‬على‭ ‬غرفتك‭ ‬يا‭ ‬مستر‭ ‬ستيفنس‮»‬‭ (‬ص‭. ‬90‭).‬

لم‭ ‬يستجب‭ ‬لها،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬أعلن‭ ‬عدم‭ ‬رغبته‭ ‬بزيارتها‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬غرفته‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬مس‭ ‬كنتون،‭ ‬أشكر‭ ‬لك‭ ‬اهتمامك،‭ ‬لكنّها‭ ‬ليست‭ ‬غرفة‭ ‬للترفيه،‭ ‬وأنا‭ ‬سعيد‭ ‬لأنها‭ ‬ليست‭ ‬مكتظة‭ ‬بأشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬قد‭ ‬تشتّت‭ ‬ذهني‮»‬‭ (‬ص‭. ‬90‭).‬

 

لحظة‭ ‬حاسمة

شكّل‭ ‬هذا‭ ‬الرد‭ ‬الجاف‭ ‬لحظة‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬تطوّر‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ستيفنس‭ ‬ومس‭ ‬كنتون‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬مرارًا‭ ‬أن‭ ‬تبيّن‭ ‬له‭ ‬بطريقتها‭ ‬الخاصة‭ ‬مدى‭ ‬اهتمامها‭ ‬به،‭ ‬لكنّه‭ ‬ظل‭ ‬مُصرًا‭ ‬على‭ ‬كبت‭ ‬عواطفه‭ ‬تجاهها‭ ‬وعدم‭ ‬البوح‭ ‬بها‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬لأيّ‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭.‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬مس‭ ‬كنتون‭ ‬للارتباط‭ ‬بشخص‭ ‬آخر‭ ‬والزواج‭ ‬به،‭ ‬وترك‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القصر‭. ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة‭ ‬على‭ ‬زواجها،‭ ‬تلقى‭ ‬ستيفنس‭ ‬منها‭ ‬رسالة‭ ‬تخبره‭ ‬فيها‭ ‬بالأيام‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬قضتها‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬دار‭ ‬لنجتون‭ ‬هول‭ ‬وهي‭ ‬تشتغل‭ ‬معه،‭ ‬مما‭ ‬أعاده‭ ‬إلى‭ ‬استحضار‭ ‬كل‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬قضياها‭ ‬معًا‭ ‬والخلافات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقع‭ ‬له‭ ‬معها‭ ‬حول‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالعمل‭.‬

لقد‭ ‬تمنّى‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لتشتغل‭ ‬فيه‭ ‬بالقرب‭ ‬منه،‭ ‬لاسيما‭ ‬أن‭ ‬القصر‭ ‬محتاج‭ ‬لخبرتها‭ ‬في‭ ‬تسيير‭ ‬الأمور‭. ‬وفي‭ ‬رحلته‭ ‬السياحية‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شجّعه‭ ‬عليها‭ ‬مخدومه‭ ‬الجديد‭ ‬الأمريكي‭ ‬السيد‭ ‬فراداي،‭ ‬التقى‭ ‬بها،‭ ‬وحين‭ ‬تجاذبا‭ ‬أطراف‭ ‬الحديث‭ ‬باحت‭ ‬له‭ ‬بأنّها‭ ‬كانت‭ ‬تتمنّى‭ ‬الزواج‭ ‬منه،‭ ‬فباح‭ ‬لها‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬بذلك،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭.‬

لقد‭ ‬تغيّرت‭ ‬حياتها،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬خصامها‭ ‬مع‭ ‬زوجها‭ ‬من‭ ‬فترة‭ ‬لأخرى،‭ ‬فقد‭ ‬رأت‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬مصلحتها‭ ‬ومصلحة‭ ‬أسرتها‭ ‬أن‭ ‬تكمل‭ ‬بقية‭ ‬حياتها‭ ‬مع‭ ‬الزوج‭ ‬الذي‭ ‬اختارها‭. ‬هكذا‭ ‬دار‭ ‬الحديث‭ ‬بينهما‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭. ‬

تقول‭ ‬مس‭ ‬كنتون،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى،‭ ‬مسز‭ ‬بن‭ ‬الآن،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حملت‭ ‬لقب‭ ‬زوجها،‭ ‬مخاطبة‭ ‬ستيفنس‭: ‬‮«‬أعتقد‭ ‬أنّ‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أجيب‭ ‬عن‭ ‬تساؤلك‭ ‬يا‭ ‬مستر‭ ‬ستيفنس،‭ ‬وكما‭ ‬تقول،‭ ‬فنحن‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬نلتقي‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭. ‬

نعم‭ ‬أنا‭ ‬أحب‭ ‬زوجي‭ ‬بالفعل‭. ‬في‭ ‬البداية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬ولبعض‭ ‬الوقت‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أحبه‭ ‬عندما‭ ‬تركت‭ ‬دار‭ ‬لنجتون‭ ‬هول‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬أبدًا‭ ‬بأنني‭ ‬سأتركها‭.‬

 

بداية‭ ‬جديدة

أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬فكرت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كحيلة‭ ‬أخرى‭ ‬يا‭ ‬مستر‭ ‬ستيفنس‭ ‬لكي‭ ‬أغيظك‭. ‬كانت‭ ‬صدمة‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬آتي‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬وأجد‭ ‬نفسي‭ ‬وقد‭ ‬تزوجت‭. ‬بقيت‭ ‬غير‭ ‬سعيدة‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭... ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬سعيدة‭ ‬بالمرة‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مرّت‭ ‬السنوات،‭ ‬وكانت‭ ‬الحرب‭ ‬وكبرت‭ ‬كاترين‭ (‬ابنتها‭)‬،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنني‭ ‬أحبّ‭ ‬زوجي‮»‬‭ (‬ص‭ ‬347‭).‬

‭ ‬ثم‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬صراحة‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬مثلًا‭ ‬كنتُ‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أعيشها‭ ‬معك‭ ‬يا‭ ‬مستر‭ ‬ستيفنس،‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬حال‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة‭ ‬لا‭ ‬تدور‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يظلّ‭ ‬المرء‭ ‬دائمًا‭ ‬يفكر‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭. ‬لا‭ ‬بُدّ‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬أنه‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬كثيرين‭... ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬شاكرًا‭ ‬لذلك‮»‬‭ (‬ص‭ ‬348‭). ‬

لحظتها‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬ستيفنس‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬اعترف‭ ‬بقوله‭ ‬لها‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬محقة‭ ‬تمامًا‭ ‬يا‭ ‬مسز‭ ‬بن،‭ ‬وكما‭ ‬تقولين،‭ ‬فإنّ‭ ‬الوقت‭ ‬قد‭ ‬فات‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬إعادة‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭...‬‮»‬‭ (‬ص‭ ‬348‭).‬

هكذا‭ ‬تنتهي‭ ‬قصة‭ ‬الحب‭ ‬هذه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تبتدئ،‭ ‬لأنَّ‭ ‬عملية‭ ‬كبت‭ ‬المشاعر‭ ‬حالت‭ ‬دون‭ ‬إتمامها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب‭ ‬لها‭. ‬وهكذا‭ ‬ضيّع‭ ‬ستيفنس،‭ ‬هذا‭ ‬الخادم‭ ‬المتفاني‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الهوس‭ ‬به،‭ ‬فرصة‭ ‬بناء‭ ‬أسرة‭ ‬سعيدة‭ ‬مع‭ ‬التي‭ ‬أحبّها‭ ‬بعمق‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصرّح‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬بحبّه‭ ‬هذا،‭ ‬وتركها‭ ‬رغم‭ ‬حبها‭ ‬له‭ ‬تتزوج‭ ‬واحدًا‭ ‬غيره‭ ‬وتغادر‭ ‬القصر‭ ‬دون‭ ‬رغبة‭ ‬حقيقية‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭. ‬

وحين‭ ‬أراد‭ ‬استعادة‭ ‬الزمن‭ ‬الضائع‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭. ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬نهاية،‭ ‬هناك‭ ‬بداية‭ ‬جديدة‭ ‬لحياة‭ ‬أخرى،‭ ‬فأحلى‭ ‬الأزمنة‭ ‬هو‭ ‬وقت‭ ‬المساء،‭ ‬أي‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬اليوم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يقضيه‭ ‬في‭ ‬الترفيه‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬ومنحها‭ ‬السعادة‭ ‬التي‭ ‬تستحقها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬اكتشفه‭ ‬ستيفنس‭ ‬أخيرًا‭ ‬وعزم‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬القصر،‭ ‬قصر‭ ‬دار‭ ‬لنجتون‭ ‬هول،‭ ‬ولقائه‭ ‬بمخدومه‭ ‬السيد‭ ‬فراداي‭ ‬بعد‭ ‬انقضاء‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬في‭ ‬التأمل‭ ‬بحياته‭ ‬الماضية،‭ ‬ومكّنته‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬اكتشاف‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وبرؤية‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬السابق‭.‬

‭ ‬

على‭ ‬سبيل‭ ‬الختام

‭ ‬تتميز‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بقوة‭ ‬سرديّة‭ ‬كبيرة‭ ‬يهيمن‭ ‬عليها‭ ‬ضمير‭ ‬المتكلم‭ ‬بشكل‭ ‬قوي،‭ ‬لكنّها،‭ ‬وعن‭ ‬طريق‭ ‬لعبة‭ ‬الاستذكارات،‭ ‬تدفعه‭ ‬للانفتاح‭ ‬على‭ ‬ضميرَي‭ ‬الغائب‭ ‬والمخاطب‭ ‬معًا،‭ ‬فاسحة‭ ‬المجال‭ ‬لظهور‭ ‬أصوات‭ ‬سردية‭ ‬أخرى‭ ‬تحمل‭ ‬رؤى‭ ‬متعددة‭ ‬للحياة،‭ ‬وتمنح‭ ‬لبقية‭ ‬الشخصيات‭ ‬حريّة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬هواجسها‭ ‬وأفكارها‭ ‬بكل‭ ‬حريّة‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬جانبها‭ ‬التيماتي‭ ‬تنفتح‭ ‬على‭ ‬أبعاد‭ ‬إنسانية‭ ‬مؤثّرة‭ ‬تتجلى‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬لقاءات‭ ‬الشخصيات‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬وسبر‭ ‬عميق‭ ‬لأغوارها،‭ ‬بالرغم‭ ‬مما‭ ‬تحاول‭ ‬التظاهر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جفاء‭ ‬أو‭ ‬قسوة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تحقق‭ ‬مستوى‭ ‬عاليًا‭ ‬في‭ ‬رصد‭ ‬هذه‭ ‬الأبعاد‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬تنوّعها‭ ‬وتعدديتها ■