مفهوم الكرامة والبحث عن الدفء الإنساني قراءة في رواية «بقايا اليوم» لإيشيجورو
يعتبر الكاتب كازو إيشيجورو من بين الروائيين البريطانيين، حتى لا نقول اليابانيين، رغم أصوله اليابانية، واحدًا من بين أهم الروائيين المعاصرين الذين كتبوا باللغة الإنجليزية أعمالًا لفتت إليه الأنظار، وحظي البعض منها بجوائز مهمة، مثلما هو الأمر مع روايته الشهيرة «بقايا اليوم»، التي نالت جائزة البوكر البريطانية سنة 1989، وروايته «الذي لا عزاء له» التي حصلت على جائزة شلتنهام. وقد أشاد بكتاباته كتّاب معروفون وذوو شهرة في عالَم الآداب، حيث اعتبرت أنيتا بروكنر، على سبيل المثال، أنه كتب رواية أصيلة متميزة حين أصدر روايته «الذي لا عزاء له» وقُل الأمر نفسه عن بقية رواياته الأخرى التي نذكر منها، إضافة إلى الروايتين السابقتين، روايات «منظر شاحب للتلال»، و«فنان من العالم الطليق»، و«عندما كنا يتامى»، و«لا تدعني أرحل».
نظرًا لأهمية رواية إيشيجورو «بقايا اليوم» التي ترجمها إلى اللغة العربية طلعت الشايب، ونشرها المركز القومي للترجمة بمصر في طبعتها الثانية سنة 2009، فإننا سنخصص لها هنا قراءة نوعية تركّز من جانب على تفكيك مفهوم الكرامة، كما يقدّمها بطل الرواية ستيفنس من وجهة نظره الخاصة، حسب تجربته الذاتية في الحياة ووفق مهنته كرئيس للخدم من جهة، وكما تراها بعض شخصيات الرواية الأخرى، لاسيما شخصية مستر هاري سميث وشخصية د. كارلسلي، ومن جانب آخر ستركّز هذه القراءة أيضًا على شعرية الدفء الإنساني وكيفية شعور شخصيات الرواية به، وتأثيره على نظرتها للعالم المحيط بها.
مفهوم الكرامة والتحولات السردية
ينبني المسار السردي في الرواية على توالي سلسلة من الأحداث التي تتأسس على تأويلات متباينة لبعض المفاهيم/ الأهواء الإنسانية التي تحدّد رؤية العديد من شخصيات الرواية إلى العوالم المحيطة بها.
ومن هنا، ووفق جوليان غريماس وجاك فونتاني في كتابهما المشترك سيميائية الأهواء، فإنّ هذه المفاهيم / الأهواء في حدّ ذاتها تتحول إلى عوامل فاعلة ومؤثرة، وهي بالتالي تشكّل قوى أساسية في مجريات الأمور وكيفية النظر إليها.
وفي مقدمة هذه المفاهيم/ الأهواء سنقف عند مفهوم «الكرامة» الذي شكّل عنصرًا أساسيًا في خلق توترات أهوائية لدى الشخصيات، وغيَّر في بعض الأحيان مساراتها السردية. ذلك أن الأهواء لها دور كبير في التأثير على المسار السردي للشخصيات.
في المسار السردي المتعلّق بالشخصية الرئيسية في هذه الرواية، شخصية رئيس الخدم ستيفنس، يرى أن عظمة الشخص ترتبط أساسًا بهذه الصفة.
ولكي يظل مرتبطًا بموضوعه الأثير عنده، أي الخدمة، فإنه يحوّل السؤال عن عظمة الشخص بشكل مطلق إلى العظمة التي قد يحوزها رئيس الخدم أمام أنداده من رؤساء الخدم الآخرين.
هكذا يطرح ستيفنس هذا السؤال: «ما هو رئيس الخدم العظيم؟ أتذكر أننا كنّا نجلس حول المدفأة في قاعة الخدم ونحن نتناقش حول ذلك بالساعات في نهاية يوم العمل.
لاحظ أنني أقول: «ما هو»، وليس «مَن هو» رئيس الخدم العظيم؟ إذ لم يكن هناك في واقع الأمر جدل كبير حول هويّة الرجال الذين وضعوا تلك المقاييس في جيلنا» (الرواية ص 59)، وبالرغم من كونه يُقرّ منذ البداية بأن الإجابة عن هذا السؤال تفوق مستواه، فإنّه يربطها بمسألة الكرامة.
الكرامة حدٌّ فاصل
يقول في هذا الصدد ما يلي «ما هي العظمة بالضبط؟ وفيم توجد؟ أثق بأنَّ إجابة هذا السؤال تحتاج إلى عقل أكثر حكمة من عقلي» (ص. 58)، فإنّه سرعان ما يربط هذه العظمة بمفهوم الكرامة. فهو بعد أن يعود بعملية السرد إلى الوراء، وبعد أن يستحضر لنا من سِيَر بعض رؤساء الخدم الذين سمع بهم أو تعرّف إليهم، يرى أن «مسألة الكرامة» كانت أساسية في عملية التمييز بينهم وتفضيل البعض منهم عن البعض الآخر، حيث إنّ الكرامة كانت حدًا فاصلًا بين العظماء منهم وبين الجيدين فحسب في القيام بعملهم.
إنَّ السرد هنا هو الآخر يتحوّل عن مساره الخطّي لينهج مسارًا استرجاعيًا عن طريق الذاكرة. إن ستيفنس باعتباره الشخصية الرئيسة من جهة، وبكونه أيضًا ساردًا لهذه الرواية، يعتمد في عملية البناء السردي تارة على التسلسل الخطي، وتارة أخرى على عملية الاسترجاع السردي من حين لآخر، وهو ما قام به حين قدّم لنا مجموعة من سيَر بعض رؤساء الخدم، رابطًا إياها بما قد تحقق من «الكرامة» في سيرهم تلك.
وهو في هذا الصدد قد اعتبر أنّ أباه كان عظيمًا كرئيس سابق للخدم. يقول في هذا الجانب ما يلي: «أنا أعتقد أنه استطاع أن يحقق ذلك الطموح» (ص. 70).
وفي موقع آخر من الرواية، بعد أن سرد ما قام به أبوه حين كان رئيسًا للخدم من إنجازات تتعلّق بحرصه الشديد على نجاحه في القيام بعمله كما يجب، وكما يتطلّبه مفهوم الكرامة في نظره، يقول عنه: «بعد هاتين الحكايتين اللتين رويتهما عن عمل والدي، وكلاهما موثّق ومنقول بدقّة، أعتقد أنك ستوافق معي على أنّ والدي لا يمثّل الكرامة فقط، كما تصفها جمعية هايز، وإنما هو أيضًا تجسيد حيّ لكل ذلك» (ص. 77).
إن مفهوم الكرامة سيتحكم في المسار السردي لهذه الرواية بأكمله، فهو أيضًا سيحضر في النقاش الذي جرى بين بطل الرواية ستيفنس وبين مستر هاري سميث من جهة، وبينه وبين
د. كارلسلي من جهة أخرى.
مفهوم المواطنة والكرامة
في إجابة لبطل الرواية ستيفنس من لدُن أهل القرية التي حلّ بها في رحلته عن مميزات شخصية الجنتلمان، معتقدين بأنّه أحد الأشخاص المهمّين، من خلال السيارة الثمينة التي كان يركبها، وهي في الواقع سيارة مخدومه الحالي، مالك القصر الجديد السيد فراداي، حيث يشتغل ستيفنس، أجاب هذا الأخير بقوله: «من الصعب أن أحدد صفات قد تكون لديّ، وقد لا تكون، وبقدر ما يعبّر عنه هذا الموضوع، فإنّ المرء يمكنه أن يتصور أن الصفة التي تشيرون إليها يمكن أن تسمّى «الكرامة». (ص. 274).
لكن مستر هاري سميث، يردّ عليه بقوله: «انتبه يا سيدي، مع الاحترام والتقدير لما تقول، إلّا أن الكرامة ليست شيئًا موجودًا في الجنتلمان. الكرامة شيء يمكن أن يكافح أي شخص في هذا البلد، رجلًا كان أو امرأة من أجل تحقيقه» (ص. 275). ثم يضيف قائلًا: «هذا ما حاربنا من أجله وهذا ما ربحناه. ربحنا حقّ أن نكون مواطنين أحرارًا» (ص. 275).
أما رأي د. كارسلي في مفهوم الكرامة فهو يعبّر عنه بالشكل التالي: «هناك حدود فعلية لما يمكن أن يعرفه ويدركه كثير من الناس العاديين، وليس من الحكمة أن نطلب من كلّ منهم أن يسهم بآراء مهمة في قضايا البلاد الخلافية. ومن العبث على أية حال أن يحاول أحد تعريف كرامة المرء وفقًا لتلك الشروط». (ص. 287).
هكذا سيتعمق النقاش حول مفهوم المواطنة والكرامة بين شخصيات أهل القرية، مما يمنح للرواية أبعادًا بوليفونية، بتعبير ميخائيل باختين، حيث تتكامل أصوات هذه الشخصيات الروائية تارة وتختلف تارات أخرى دون تدخُّل من الكاتب الذي يترك لسارد الرواية والشخصية الرئيسية فيها نقل هذه التعددية الأصواتية دون تدخّل مباشر منه.
أهواء الشخصيات والدفء الإنساني
تتعدد أهواء الشخصيات في هذه الرواية، وإن كانت تقدّم من وجهة نظر واحدة هي وجهة نظر بطل الرواية ستيفنس، حيث نرى أنه يحرص دائمًا على ربطها بالعمل والنظر إليها من خلاله، فهو يرى مثلًا أن بعض الخدم يقيمون علاقات بينهم قد لا تكون في مصلحة القيام بعملهم على الوجه الأكمل، وبالتالي فهي حتمًا ستؤثر على مسارهم المهني، وتحول بينهم وبين الوصول إلى المكانة الرفيعة فيه.
يقول في هذا الصدد: «مس كنتون ووالدي كانا قد جاءا إلى القصر في الوقت نفسه تقريبًا، أي في ربيع عام 1922، وكان مجيئهما نتيجة لفقداني - بضربة واحدة - مدبّرة القصر السابقة ومساعد رئيس الخدم.
وكان ذلك قد حدث نتيجة أن الشخصين الأخيرين قررا الزواج وتركا المهنة (ص. 88)، ثم يضيف قائلًا: «ولكن الأكثر مدعاة للقلق والإزعاج هم أولئك الأشخاص - ومدبرات البيوت والقصور هُنَّ المذنبات هنا على نحو خاص - الذين ليس لهم أيّ التزام حقيقي بالمهنة، والذين ينتقلون من مكان لآخر بحثًا عن القصص الغرامية» (ص. 88).
من هنا، فقد ظلّ حريصًا بشكل قوي على كبت عواطفه وعدم البوح بها لأيّ كان. حتى المرأة التي أحبّها، والتي لم تكن سوى مدبّرة القصر السابقة، مس كنتون، لم يستطع أن يبوح لها بهذا الحب حتى لا يتزوج بها، خوفًا من تأثير الزواج على مساره المهني.
وبالرغم من أنها قد حاولت مرارًا أن تلفت نظره إلى اهتمامها به، فإنّه كان يعاملها ببرودة أثارت غضبها، ودفعتها في النهاية إلى الزواج من غيره والرحيل عن قصر دار لنجتون هول، حيث كانا يشتغلان معًا. هكذا نرى أنّها حين زارته في غرفته وهي تحمل مزهرية مليئة بالزهور وتقول له مبتسمة: «أعتقد أن هذا سيُضفي بعض البهجة على غرفتك يا مستر ستيفنس» (ص. 90).
لم يستجب لها، وسرعان ما أعلن عدم رغبته بزيارتها له في غرفته بقوله: «مس كنتون، أشكر لك اهتمامك، لكنّها ليست غرفة للترفيه، وأنا سعيد لأنها ليست مكتظة بأشياء كثيرة قد تشتّت ذهني» (ص. 90).
لحظة حاسمة
شكّل هذا الرد الجاف لحظة حاسمة في تطوّر العلاقة بين كل من ستيفنس ومس كنتون التي حاولت مرارًا أن تبيّن له بطريقتها الخاصة مدى اهتمامها به، لكنّه ظل مُصرًا على كبت عواطفه تجاهها وعدم البوح بها لها أو لأيّ شخص آخر.
وهو ما دفع في النهاية مس كنتون للارتباط بشخص آخر والزواج به، وترك العمل في هذا القصر. وبعد مرور سنوات عديدة على زواجها، تلقى ستيفنس منها رسالة تخبره فيها بالأيام الجميلة التي قضتها في قصر دار لنجتون هول وهي تشتغل معه، مما أعاده إلى استحضار كل اللحظات التي قضياها معًا والخلافات التي كانت تقع له معها حول مجموعة من الأمور المرتبطة بالعمل.
لقد تمنّى أن تعود إلى القصر من جديد لتشتغل فيه بالقرب منه، لاسيما أن القصر محتاج لخبرتها في تسيير الأمور. وفي رحلته السياحية التي قام بها، بعد أن شجّعه عليها مخدومه الجديد الأمريكي السيد فراداي، التقى بها، وحين تجاذبا أطراف الحديث باحت له بأنّها كانت تتمنّى الزواج منه، فباح لها هو الآخر بذلك، لكن بعد فوات الأوان.
لقد تغيّرت حياتها، وبالرغم من خصامها مع زوجها من فترة لأخرى، فقد رأت أنّ من مصلحتها ومصلحة أسرتها أن تكمل بقية حياتها مع الزوج الذي اختارها. هكذا دار الحديث بينهما على هذا الشكل.
تقول مس كنتون، أو بالأحرى، مسز بن الآن، بعد أن حملت لقب زوجها، مخاطبة ستيفنس: «أعتقد أنّ عليّ أن أجيب عن تساؤلك يا مستر ستيفنس، وكما تقول، فنحن قد لا نلتقي قبل سنوات.
نعم أنا أحب زوجي بالفعل. في البداية لم يكن الأمر كذلك، ولبعض الوقت كنت لا أحبه عندما تركت دار لنجتون هول كل تلك السنوات لم أشعر أبدًا بأنني سأتركها.
بداية جديدة
أعتقد أنني فكرت في ذلك كحيلة أخرى يا مستر ستيفنس لكي أغيظك. كانت صدمة لي أن آتي إلى هنا وأجد نفسي وقد تزوجت. بقيت غير سعيدة فترة طويلة... لم أكن سعيدة بالمرة في الحقيقة. بعد ذلك مرّت السنوات، وكانت الحرب وكبرت كاترين (ابنتها)، وذات يوم اكتشفت أنني أحبّ زوجي» (ص 347).
ثم تقول في صراحة «أنا مثلًا كنتُ أفكر في حياة كان يجب أن أعيشها معك يا مستر ستيفنس، على أية حال عقارب الساعة لا تدور إلى الوراء، ولا يمكن أن يظلّ المرء دائمًا يفكر فيما كان ينبغي أن يكون. لا بُدّ أن يدرك أنه أفضل من كثيرين... وأن يكون شاكرًا لذلك» (ص 348).
لحظتها لم يجد ستيفنس من كلمات سوى أن اعترف بقوله لها: «أنت محقة تمامًا يا مسز بن، وكما تقولين، فإنّ الوقت قد فات ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء...» (ص 348).
هكذا تنتهي قصة الحب هذه قبل أن تبتدئ، لأنَّ عملية كبت المشاعر حالت دون إتمامها في الوقت المناسب لها. وهكذا ضيّع ستيفنس، هذا الخادم المتفاني في عمله إلى حدّ الهوس به، فرصة بناء أسرة سعيدة مع التي أحبّها بعمق دون أن يصرّح لها في يوم ما بحبّه هذا، وتركها رغم حبها له تتزوج واحدًا غيره وتغادر القصر دون رغبة حقيقية لها في ذلك.
وحين أراد استعادة الزمن الضائع وجد أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء. لكن مع كل نهاية، هناك بداية جديدة لحياة أخرى، فأحلى الأزمنة هو وقت المساء، أي «بقايا اليوم» الذي على الإنسان أن يعرف كيف يقضيه في الترفيه عن نفسه ومنحها السعادة التي تستحقها، وهو ما اكتشفه ستيفنس أخيرًا وعزم على القيام به مباشرة بعد عودته إلى القصر، قصر دار لنجتون هول، ولقائه بمخدومه السيد فراداي بعد انقضاء هذه الرحلة التي قضاها في التأمل بحياته الماضية، ومكّنته من إعادة اكتشاف هذه الحياة من جديد، وبرؤية مختلفة عن السابق.
على سبيل الختام
تتميز هذه الرواية بقوة سرديّة كبيرة يهيمن عليها ضمير المتكلم بشكل قوي، لكنّها، وعن طريق لعبة الاستذكارات، تدفعه للانفتاح على ضميرَي الغائب والمخاطب معًا، فاسحة المجال لظهور أصوات سردية أخرى تحمل رؤى متعددة للحياة، وتمنح لبقية الشخصيات حريّة التعبير عن هواجسها وأفكارها بكل حريّة.
كما أن الرواية في جانبها التيماتي تنفتح على أبعاد إنسانية مؤثّرة تتجلى سواء في لقاءات الشخصيات فيما بينها وسبر عميق لأغوارها، بالرغم مما تحاول التظاهر به من جفاء أو قسوة، وهو ما جعل هذه الرواية تحقق مستوى عاليًا في رصد هذه الأبعاد الإنسانية في تنوّعها وتعدديتها ■