أولوية الصحة النفسية لأبنائنا في ظل «كورونا»

أولوية الصحة النفسية لأبنائنا في ظل «كورونا»

في ظل تفشي وباء كورونا في شتى بقاع الأرض، وتوقّع موجة جديدة في الشتاء المقبل، وفق ما صرحت به منظمة الصحة العالمية، أصبح من الضروري التعاطي مع واقع الحجر الصحي الذي ألزمت الحكومات مواطنيها به حرصًا على صحتهم ومحاولة لاحتواء هذه الجائحة، وهو ما يجعل أوقات أبنائنا وروتين حياتهم يختلفان تمامًا عن الأوقات المعتادة، بما يفرض تقنين مساحات الترفيه من لعب بالخارج وزيارات عائلية وارتياد للمدرسة.

تبعت الحجر الصحي قرارات حكومية وصحية عنونت بـ «التباعد الاجتماعي/ الجسدي»، وهو ما أيّدته الدراسات التي بحثت تبعات هذا القرار، حيث قال باحثون في كلية الصحة العالمية بجامعة هارفارد إن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحمّل تبعات التباعد الاجتماعي المتقطع حتى عام 2022، وأضاف الباحثون، مستشهدين بكوريا الجنوبية وسنغافورة، أن التباعد الفعّال يمكن أن يخفف الضغوط عن أنظمة الرعاية الصحية في العالم، ويمكّن المختصين من رصد حالات الإصابة بـ «كورونا» وتتبُّع المخالطين.
وأكّد الباحثون أهمية تسطيح المنحنى، وهذا المصطلح يستخدم علميًا لإظهار عدد الأشخاص الذين أصيبوا بـ «كوفيد - 19» في وقت واحد، حيث إن انتشار الفيروس بسهولة يكون من خلال الاتصال الوثيق بالآخرين، ويصاب أشخاص عدة في الوقت ذاته، مما يجعل من الصعب على الأطباء والمستشفيات احتواء الأعداد، ويأتي التباعد الاجتماعي للحد من انتشار الفيروس أو تسطيح المنحنى، حيث سيصبح معدل العدوى أقل، وهو ما سيمنح فرصة لنظام الرعاية الصحية في أي دولة للعمل على استقبال الحالات والعناية بها.

الحلّ الأسرع
يؤكد الخبراء أن التباعد الاجتماعي هو الحلّ الأسرع لاحتواء وباء كورونا، عبر التقليل من عدد الإصابات، مما دفع معظم حكومات العالم لفرض إجراءات متعددة وبدرجات متفاوتة.
وفي دراسة أجريت بجامعة إمبريـال كوليدج في لندن، قال الباحثون إن التصرف المبكر والصارم للحكومات يمكنه أن يقلص الوفيات بالفيروس بنحو 95 في المئة.
ويتطلب التباعد الاجتماعي بقاء الناس في منازلهم، وإيقاف جميع الأنشطة والتجمعات، مما يعني إجبارهم على العمل من المنازل والدراسة عن بُعد.
وركزت دراسة تحليلية للأكاديمية الملكية في لندن على دور التدابير المطبقة في بريطانيا لجهة إبطاء انتشار الفيروس، وأكدت أنها ستؤدي إلى تقليل الطلب على نظام الرعاية الصحية بنسبة الثلثين.
كما بيّن الباحثون أن تقليل التواصل بين عموم السكان بنسبة 40 في المئة، وبين كبار السن والضعفاء بنسبة 60 في المئة، قد يؤدي إلى خفض عدد المصابين بمقدار النصف تقريبًا.
واقترحت الدراسة تخفيف الإجراءات عندما يكون عدد الحالات التي تحوّل للرعاية المركزة أقل من 100 حالة في الأسبوع، وعندما يقترب الرقم من 100 يتجدد تشديد إجراءات التباعد الاجتماعي والإغلاق.

التكيف مع المحيط
قد تستمر الحاجة إلى التباعد الاجتماعي أشهرًا عدة، حتى يتوافر اللقاح الشافي، وفقًا للباحثين، وهو ما يجعل أبناءنا بمختلف أعمارهم مرغمين على التكيف مع محيطهم بما هو متاح، وضمن نمط معيّن تخلقه بيئتهم والتكيف مع حدودهم المُغلقة التي فرضت عليهم هذه الفترة.
لكن العائق ما بين تكيفهم مع روتينهم الجديد ورفضه، يقع على كاهل الأهالي دون غيرهم، وبرغم تفهّمنا للضغوط النفسية التي يتعرّض لها الأهالي، نظرًا لتماسّهم المباشر مع الحدث وتداعياته والوضع المعيشي والمسؤوليات المزاحة لما بعد أزمة «كورونا»، فإن صحة أبنائنا النفسية أولوية لما يترتب عليها من أبعاد غير محمودة إذا تم التعامل معهم بإهمال أو تعنيف من أي نوع.
تقسّم الطبقات المجتمعية إلى أربع طبقات، هي الميسور ومتوسط الحال والفقير والأشد فقرًا، وتلك الطبقات المذكورة تملك أدوات خاصة ضمن قدراتها المالية توفر ما أمكن لأبنائها من مساحات الحريّة لتفريغ طاقاتهم والمحافظة على سلامة نمو صحتهم النفسية. وفي هذه الأوقات العصيبة يصبح الروتين ثقيل الظل على الأهالي والأبناء، وهو ما يجب أن يستغل بطريقة إيجابية، مع مراعاة الفئات العمرية للأبناء في كل منزل.
فلا نستطيع أن نتعامل مع المراهقين بحدّة أو تحدّ، أو تفريغ قلقنا من خلالهم، ولا نستطيع تحميلهم ذنب وجودهم بالمنزل وإغلاق المدارس، فهو واقع فُرض عليهم.
يسعى المراهق دائمًا إلى تضخيم كل ما يصيبه، ويشعر بالاضطهاد والظلم والتوتر من محيطه بطبيعة الحال، وهذه المشاعر ليست «دراما» مفتعلة، بل هي بحكم نموه وتدافع هرموناته التي تسبب له اضطرابات عدة.
وضمن ما هو متوافر اليوم، يجب على الأهالي إتاحة الفرصة أمام المراهقين بالحديث عن كل ما يشغلهم، ولو كان أمرًا يختلف عن القضية الأم الحاصلة (كورونا)، فتفريغ المشاعر من خلال الثرثرة يهدئ من روعهم ويمنحهم الشعور بالثقة، ويخفف من ضغوط حجرهم ويعوضهم عن محيطهم في الخارج.

فجوة عاطفية
يجب أيضًا أن نكون بوصلة توجه اهتماماتهم، ولا ننتظر منهم المبادرة بإشغال أنفسهم، حيث إن هذه الأجيال بطبيعتها اتّكالية، وهو أمر طبيعي يتوافق مع عصرهم الافتراضي الذي اعتادوا من خلال أجهزتهم الذكية أن يصلوا إلى ما يريدونه بكبسة زرّ، دون أن يتكبدوا عناء البحث في العالم الحقيقي، لذلك يكون الجهد بالتعاطي معهم مضاعفًا للأهالي ومجهدًا أحيانًا. يجب الحرص على إعادة التعريف بالانتماء الأسري، خاصة بين الإخوة، حيث إن عوالمهم الإلكترونية خلقت فجوة عاطفية بينهم، وكأنهم يعيدون ترتيب أبجديات التعامل مع شخوص موجودين معهم، وإعادة بناء العلاقة الأسرية بينهم، فلا داعي للانزعاج كلما اختلف الإخوة معًا، بل الأولى أن تتركوا لهم فرصة للتعرف إلى شخصياتهم من خلال المناكفات.
وهذه فرصة مهمة للأهالي بإحياء الحسّ العائلي و«الّلمة» التي بدأت تبتعد عن كل منزل، بسبب انشغال أرباب البيوت بالعمل، وانشغال الأبناء بالتكنولوجيا.
أما بخصوص الأطفال، فلا بدّ أن ندع لهم المساحة الكافية للعب والصراخ والضحك والتخريب، دون وضع قيود على حركتهم، حيث إن نسبة النساء العاملات كبيرة جدًا، وهو ما يجعل الأمهات في ضيق لتعاملهم 24 ساعة مع فوضى الأطفال، لكن لا بدّ من تحمُّل هذه المرحلة وخلق مساحة آمنة لهم للعب، والمحافظة على روتين نومهم وطعامهم ما أمكن، وإرجاء الأعمال المنزلية إلى حين نومهم، حتى لا تشعر الأم بضغوط هائلة.

توعية وإرشاد
تعد هذه الفترة رغم قسوتها وصعوبتها فرصة لإعادة بناء علاقاتنا مع أبنائنا واحتوائهم والتعرف إليهم، ويجب على الأهالي أن يؤثروا على أنفسهم، وألا يشاركوا مخاوفهم مع أبنائهم، فمن المهم أن يعي أرباب الأسر أن الأطفال والمراهقين يملكون مخيلة خصبة وواسعة جدًا، إذا أطلقوا العنان لها سندخل في مشاكل نفسية نحن في غنى عنها، وستؤثر مستقبلًا على شخصياتهم وسلوكهم مع محيطهم، فنتمنى ألا يتم ترديد عبارات أمامهم مثل (نهاية العالم / العالم يموت / وباء قاتل/ أطفال يصابون بالفيروس)، واستبدالها بقصص توضح أن هذه الأزمات حدثت سابقًا وتجاوزت الشعوب تبعاتها.
الشعور بالخوف صحي، لكن لا تشاركه مع أبنائك، وواجب الأهالي اليوم هو التوعية بالوقاية وإرشادهم لطرق يفرغون بها طاقاتهم، والسماح لهم بالتعبير عن مشاعرهم من خلال القراءة والكتابة والرسم والدراسة والنقاش وإبداء الرأي، وتمكينهم من التواصل مع أصدقائهم عبر قنوات الاتصال المتاحة بكل منزل، وتحمّل تقلبات مزاجهم والحفاظ على علاقتنا معهم، الصداقة قبل الحس التربوي هي أكثر ما يحتاج إليه أبناؤنا اليوم.
الصحة النفسية لأبنائنا أولوية، وفي هذه المرحلة من المهم الخروج بقيمة اجتماعية تتغلب على المصاعب من خلال تعاطينا مع مشاعرهم، ليتوارثوا من خلالنا التجربة الناجحة في التعاطي مع الأزمات، وتصدير السلوك السليم لأبنائهم في المستقبل ■