رهان التجديد في شعر ميخائيل نعيمة قراءة في قصيدة «إلى دودة»

رهان التجديد في شعر ميخائيل نعيمة  قراءة في قصيدة «إلى دودة»

أثمرت‭ ‬حركية‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬تيارًا‭ ‬شعريًّا‭ ‬تبنّى‭ ‬فلسفة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الذات،‭ ‬وسم‭ ‬بتسميات‭ ‬كثيرة‭ ‬كالتيار‭ ‬الوجداني‭ ‬والهروبي‭ ‬والذاتي‭ ‬والرومانسي،‭ ‬وقد‭ ‬ظهَر‭ ‬نتيجة‭ ‬المثاقَفة‭ ‬مع‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربيَّة،‭ ‬والتأثّر‭ ‬بالصّوفية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أظهر‭ ‬عند‭ ‬المهجريّين،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬اهتراء‭ ‬بنيات‭ ‬المجتمع،‭ ‬والتأثّر‭ ‬بالفكر‭ ‬الليبرالي‭ ‬الحرّ،‭ ‬والترجمة‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬الإنجليزي‭. ‬ولعلّ‭ ‬ما‭ ‬ميّز‭ ‬الرّومانسية‭ ‬بمدارسها‭ ‬المختلفة‭ ‬إعلاؤها‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الذات،‭ ‬وطرقها‭ ‬لمضامينَ‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬قَبيل‭ ‬التَّفلسف‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬والهروب‭ ‬إلى‭ ‬الطبيعة،‭ ‬والحنين‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭.‬

‭ ‬يعدّ‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعَيمَة‭ ‬رائدًا‭ ‬من‭ ‬روّاد‭ ‬الشّعر‭ ‬الرّومانسيّ،‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬تيَّار‭ ‬الرّابطة‭ ‬القلميّة،‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مبادئَ‭ ‬من‭ ‬بينها‭: ‬التَّمرّد‭ ‬على‭ ‬التّراث،‭ ‬ونشر‭ ‬المحبة،‭ ‬والتَّفلسف‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬والحلول‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬ويمثل‭ ‬نعيمة‭ ‬رائدَ‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬وناقدَها‭ ‬وفيلسوفَها‭.‬

يتَّسم‭ ‬عنوان‭ ‬النَّص‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬دودةٍ‮»‬‭ ‬بنوعٍ‭ ‬من‭ ‬الغرابة‭ ‬والغموض‭ ‬المسَبّب‭ ‬للحَيرة‭ ‬والتّساؤل،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬شبه‭ ‬جملة‭ ‬يتوَّجه‭ ‬بها‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬عنصر‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الطبيعة،‭ ‬ويوحي‭ ‬ضمنيًا‭ ‬برغبة‭ ‬الشَّاعر‭ ‬في‭ ‬البوح‭ ‬والهروب‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وفي‭ ‬العنوان‭ ‬حذف‭ ‬نقدّره‭ ‬بما‭ ‬يلي‭: ‬‮«‬خطاب‭/ ‬رسالة‭/ ‬بثّ‭/ ‬شكوى‭ ‬إلى‭ ‬دودةٍ‮»‬‭. ‬فما‭ ‬فَحوَى‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الشَّكوى؟‭ ‬وما‭ ‬سبَبها؟

ينقل‭ ‬لنا‭ ‬الشَّاعر‭ ‬ما‭ ‬يجيش‭ ‬بداخله‭ ‬من‭ ‬تناقضاتٍ‭ ‬وتقلّبات‭ ‬نفسيّةٍ،‭ ‬حيث‭ ‬إنَّه‭ ‬لا‭ ‬يستقرّ‭ ‬على‭ ‬حال؛‭ ‬فتارةً‭ ‬يجري‭ ‬خلف‭ ‬نعشه،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬يتعثَّر‭ ‬بأنقاض‭ ‬آماله،‭ ‬وثالثةً‭ ‬يشتكي‭ ‬من‭ ‬عبث‭ ‬الزمان،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬يتطلَّع‭ ‬إلى‭ ‬الإيمان‭ ‬والتخلَّص‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬والاستسلام‭ ‬لحكمة‭ ‬الله،‭ ‬لكنَّ‭ ‬الشَّك‭ ‬يمنعه،‭ ‬وللتَّخفيف‭ ‬من‭ ‬حدَّة‭ ‬الألم‭ ‬والمعاناة‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬مخاطبة‭ ‬الدّودة،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنّه‭ ‬فقد‭ ‬التَّواصل‭ ‬مع‭ ‬بني‭ ‬جلدته‭ ‬مقارنًا‭ ‬بينها‭ ‬وبينه؛‭ ‬فهي‭ ‬حُرَّة‭ ‬طليقة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬هو‭ ‬سجين‭ ‬مقيَّد،‭ ‬وتصل‭ ‬معاناة‭ ‬الشَّاعر‭ ‬مداها‭ ‬عندما‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬أنَّ‭ ‬سرَّ‭ ‬الكون‭ ‬وكُنهَ‭ ‬الوجود‭ ‬وجوهر‭ ‬الحياة‭ ‬تستعصي‭ ‬على‭ ‬الباحث‭ ‬والطالب،‭ ‬مما‭ ‬يعمّق‭ ‬من‭ ‬غربته‭ ‬النَّفسيَّة‭ ‬والوجودية،‭ ‬ويجعله‭ ‬يوقن‭ ‬أنّ‭ ‬كشف‭ ‬أسرار‭ ‬الوجود‭ ‬هو‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الوهم‭.‬

 

تجديد‭ ‬المضمون

يظهر‭ ‬التجديد‭ ‬المضموني‭ ‬في‭ ‬مخاطبة‭ ‬عنصرٍ‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الطبيعة،‭ ‬والتفلسف‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬بنوعٍ‭ ‬من‭ ‬الصّوفية،‭ ‬لكنّ‭ ‬الحكم‭ ‬بالتجديد‭ ‬ينبغي‭ ‬ألّا‭ ‬يَصـرفنا‭ ‬عن‭ ‬القول‭ ‬أنّ‭ ‬الشّعر‭ ‬القديم‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬الطبيعة‭ ‬أو‭ ‬تفلسفًا‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬حاضرًا‭ ‬عند‭ ‬شعراء‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬ابن‭ ‬خفاجة‭ ‬وابن‭ ‬الرومي‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬الطبيعة،‭ ‬والمعرّي‭ ‬والمتنبّي‭ ‬في‭ ‬التفلسف،‭ ‬لكنَّ‭ ‬الاختلاف‭ ‬كامن‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬التَّناول‭ ‬والمعالجة‭ ‬والرّؤية‭ ‬والمقصديّة‭ ‬والمنطلَق‭ ‬الفكريّ‭.‬

يَعكس‭ ‬معجم‭ ‬النصّ‭ ‬ما‭ ‬تعانيه‭ ‬ذات‭ ‬الشَّاعر‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬وتقلّبٍ،‭ ‬ويمكن‭ ‬تصنيفه‭ ‬إلى‭ ‬حَقلين‭ ‬دلاليين؛‭ ‬الأوَّل‭ ‬دالّ‭ ‬على‭ ‬‮«‬ذات‭ ‬الشاعر‮»‬،‭ ‬وتنضوي‭ ‬تحته‭ ‬العبارات‭ ‬والألفاظ‭ ‬التالية‭: ‬‮«‬جسميَ‭ ‬الفاني،‭ ‬راكضًا‭ ‬متعثّرًا،‭ ‬أشتكي،‭ ‬مستسلمًا‭...‬‮»‬،‭ ‬والحقل‭ ‬الثَّاني‭ ‬دالّ‭ ‬على‭ ‬‮«‬عالَم‭ ‬الدودة‮»‬‭ ‬وينضوي‭ ‬تحته‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬‮«‬يا‭ ‬دودة‭ ‬الثرى،‭ ‬دبيبك،‭ ‬تدبين،‭ ‬فها‭ ‬أنت‭ ‬عمياء‭...‬‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬جردنا‭ ‬للحقلين‭ ‬نلحظ‭ ‬أنّ‭ ‬كفَّة‭ ‬الحقل‭ ‬الدّال‭ ‬على‭ ‬ذات‭ ‬الشاعر‭ ‬رجحت‭ ‬على‭ ‬كفّة‭ ‬الحقل‭ ‬الدالّ‭ ‬على‭ ‬الدّودة،‭ ‬ويعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الشّاعر‭ ‬إنَّما‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬صراعه‭ ‬الدّاخليّ‭ ‬وضياعه‭ ‬الوجوديّ،‭ ‬وفيما‭ ‬يخُصّ‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الحقلين‭ ‬فهي‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬السَّبَبيَّة؛‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬معاناةَ‭ ‬الشاعر‭ ‬الذاتيَّة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يخاطب‭ ‬الدودة‭ ‬ويتفلسف‭ ‬في‭ ‬الوجود‭.‬

 

بُعد‭ ‬رمزي

يتَّضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دراسة‭ ‬معجم‭ ‬النَّصّ‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬القصيدة‭ ‬تتَّسم‭ ‬بنوعٍ‭ ‬من‭ ‬اللين‭ ‬الذي‭ ‬نفتقده‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الإحيائيّين‭ ‬المتميّز‭ ‬بجزالة‭ ‬الألفاظ‭ ‬ومتانة‭ ‬التركيب،‭ ‬كما‭ ‬تتميّز‭ ‬بطابعها‭ ‬الفلسفيّ‭ ‬والصّوفيّ‭ ‬الذي‭ ‬منحها‭ ‬عمقًا‭ ‬دلاليًا‭ ‬وبُعدًا‭ ‬رمزيًا،‭ ‬وهذا‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التَّجديد‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬القصيدة‭ ‬الرّومانسيَّة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬اللغة‭. ‬

‭ ‬وإذا‭ ‬عرَّجنا‭ ‬ناحية‭ ‬الإيقاع‭ ‬الخارجيّ‭ ‬وجدنا‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعَيمة‭ ‬قد‭ ‬بنى‭ ‬قصيدته‭ ‬بناءً‭ ‬تقليديًا‭ ‬وركب‭ ‬بحر‭ ‬الطَّويل‭ ‬الذي‭ ‬يتميَّز‭ ‬باتساع‭ ‬مساحته‭ ‬وامتداد‭ ‬تفعيلاته،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أعطاه‭ ‬فرصَة‭ ‬التّعبير‭ ‬الطَّليق‭ ‬عن‭ ‬صراعه‭ ‬الداخليّ‭ ‬وغربته‭ ‬الوجوديَّة،‭ ‬وفيما‭ ‬يخص‭ ‬القافية‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬مطلقة‭ ‬مردفة‭ ‬بألف‭ ‬‮«‬فاني‮»‬،‭ ‬وتكررت‭ ‬بنفس‭ ‬الطَّريقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬القصيدة‭ (/‬0‭/‬0‭)‬،‭ ‬ممَّا‭ ‬أعطى‭ ‬لنهاية‭ ‬الأبيات‭ ‬انتظامًا‭ ‬إيقاعيًا‭ ‬وتجانسًا‭ ‬نغميًّا‭ ‬وهندسة‭ ‬موسيقيّة‭ ‬بالغَةَ‭ ‬الدّقَّة؛‭ ‬تمثَّلت‭ ‬في‭ ‬وقوع‭ ‬الحركات‭ ‬والسّكنات‭ ‬في‭ ‬الموقع‭ ‬نفسه‭ ‬زمنيًا‭ ‬ومكانيًا،‭ ‬وعليه‭ ‬أدَّت‭ ‬القافية‭ ‬وظيفة‭ ‬صوتيّة‭ ‬وأخرى‭ ‬معنوية‭ ‬وثالثة‭ ‬نفسيَّة،‭ ‬أمّا‭ ‬الرويّ‭ ‬فقد‭ ‬جاءَ‭ ‬نونًا‭ ‬مكسورة‭ ‬مشبّعة‭ ‬بياء‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬القصيدة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أعطى‭ ‬لنهاية‭ ‬الأبيات‭ ‬جرسًا‭ ‬إيقاعيًا‭ ‬تهفو‭ ‬له‭ ‬النفوس‭ ‬وتطمئن،‭ ‬وتطرب‭ ‬له‭ ‬الآذان‭ ‬وتتَشوّف،‭ ‬ويدلّ‭ ‬كسر‭ ‬حرف‭ ‬الرَّويّ‭ ‬على‭ ‬انكسار‭ ‬نفسيَّة‭ ‬الشَّاعر‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬صراعًا‭ ‬داخليًا‭ ‬وقلقًا‭ ‬فكريًا،‭ ‬ونجد‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬القصيدة‭ ‬ظاهرة‭ ‬التَّصريع،‭ ‬ذلك‭ ‬أنَّ‭ ‬عَروض‭ ‬البيت‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬ميَلفاني‭ = ‬مفاعيلن‮»‬،‭ ‬شابهت‭ ‬الضرب‭ (‬وأكفاني‭ = ‬مفاعيلن‭) ‬في‭ ‬الزيادة،‭ ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬ما‭ ‬يضفيه‭ ‬هذا‭ ‬التماثُل‭ ‬النغمي‭ ‬على‭ ‬مطلع‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬جرس‭ ‬ونبض‭. ‬

وإذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬ناحيَة‭ ‬الإيقاع‭ ‬الدَّاخلي‭ ‬وجدنا‭ ‬الشّاعر‭ ‬يوَظّف‭ ‬توازيًا‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬السّادس،‭ ‬ونبيّنه‭ ‬في‭ ‬الآتي‭: ‬

‭ ‬فأترك‭ - ‬وأترك‭ (‬حرف‭ ‬عطف‭ + ‬فعل‭ ‬وفاعل‭).‬

‭ ‬أفكاري‭ - ‬أحزاني‭ (‬مفعول‭ ‬به‭).‬

‭ ‬تذيع‭ - ‬تكفّن‭ (‬فعل‭ ‬وفاعل‭).‬

غرورها‭ - ‬أحزاني‭ (‬مفعول‭ ‬به‭ ‬ومضاف‭ ‬إليه‭).‬

وهو‭ ‬توازٍ‭ ‬أفقيّ‭ ‬أحاديّ،‭ ‬نحوي،‭ ‬نسبي‭ ‬لم‭ ‬يتمَّه‭ ‬الشاعر‭ ‬حفاظًا‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬القافيةّ‭ ‬والرويّ‭ ‬ومن‭ ‬ثمّةَ‭ ‬على‭ ‬الإيقاع‭ ‬العامّ،‭ ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬النَّاظر‭ ‬ما‭ ‬أضفاه‭ ‬هذا‭ ‬التوازي‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬من‭ ‬جرسٍ‭ ‬إيقاعيٍّ‭ ‬ونغَم‭ ‬موسيقي‭ ‬بديع‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬ضخّ‭ ‬دماء‭ ‬الحيوية‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬وانتشال‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬جو‭ ‬التَّفلسف‭ ‬والصّراع‭ ‬الدَّاخليّ‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬رتيبةً‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحيان‭. ‬

 

حضور‭ ‬بارز‭ ‬للتَّكرار

إلى‭ ‬جانب‭ ‬التَّوازي،‭ ‬نجد‭ ‬حضورًا‭ ‬بارزًا‭ ‬للتَّكرار؛‭ ‬حيث‭ ‬كرَّر‭ ‬الشَّاعر‭ ‬بعضَ‭ ‬الصَّوائت‭ (‬الياء‭ ‬الطويلة‭ ‬والكسرة‭) ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬انكسارًا‭ ‬داخليًا،‭ ‬كما‭ ‬كرّر‭ ‬بعض‭ ‬الصّوامت،‭ ‬مثل‭ (‬النون‭ ‬والراء‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬تنوّع‭ ‬إيقاعيّ‭ ‬وغِنَى‭ ‬نغَميّ،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬تكرار‭ ‬بعض‭ ‬الألفاظ‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ (‬أترك،‭ ‬أحزاني‭) ‬والجناس‭ ‬الاشتقاقيّ‭ (‬تدبين،‭ ‬دبّ،‭ ‬دبيبك‭)‬،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬التَّكرار‭ ‬العروضيَّ،‭ ‬ممثَّلًا‭ ‬في‭ ‬تَكرار‭ ‬البحر‭ ‬نفسه‭ ‬والقافيّة‭ ‬والرَّويّ‭. ‬

نلاحظ‭ ‬من‭ ‬دراستنا‭ ‬لإيقاع‭ ‬القصيدة‭ ‬أن‭ ‬الشّاعر‭ ‬لم‭ ‬يقطع‭ ‬صلته‭ ‬بالتّراث،‭ ‬بل‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬الإيقاعيّة‭ ‬نفسها‭ ‬للقصيدة‭ ‬القديمة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬حفاظه‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الشَّطرين‭ ‬ووحدة‭ ‬القافية‭ ‬والرَّويّ‭ ‬واعتماد‭ ‬التّصريع،‭ ‬وركوب‭ ‬بحر‭ ‬من‭ ‬أبحر‭ ‬الخليل‭.‬

ولأنَّ‭ ‬الصّور‭ ‬الشّعرية‭ ‬تهَب‭ ‬القصيدة‭ ‬روحَها‭ ‬وإشعاعها،‭ ‬وتضفي‭ ‬عليها‭ ‬الرّونق‭ ‬والجمالية‭ ‬والفنّية،‭ ‬وترتقي‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬مدارج‭ ‬الشّعريّة،‭ ‬فإنّ‭ ‬الشاعر‭ ‬استنجد‭ ‬بها‭ ‬بكثرة،‭ ‬حتّى‭ ‬يعطيَ‭ ‬لها‭ ‬بعدًا‭ ‬تخييليًا‭ ‬رائقًا،‭ ‬ويضفي‭ ‬عليها‭ ‬جمالية‭ ‬ورواء‭ ‬ومائيةً،‭ ‬وهكذا‭ ‬وظَّف‭ ‬الاستعارة‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬أشتكي‭ ‬إذا‭ ‬عبثت‭ ‬كفّ‭ ‬الزّمان‭ ‬ببنياني‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬استعار‭ ‬الكفَّ‭ ‬للزمان‭ ‬وأسندها‭ ‬إليه،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬للإنسان،‭ ‬حاذفًا‭ ‬بذلك‭ ‬المستعار‭ ‬منه‭ (‬الإنسان‭)‬،‭ ‬ورامزًا‭ ‬إليه‭ ‬بالقرينة‭ (‬كفّ‭) ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الاستعارة‭ ‬المكنية،‭ ‬ونجد‭ ‬استعارة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬‮«‬أترك‭ ‬أحزاني‭ ‬تكفّن‭ ‬أحزاني‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬جعل‭ ‬الأحزان‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التكفين‭ ‬مسندًا‭ ‬إليها‭ ‬فعلًا‭ ‬إنسانيًّا،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الاستعارة‭ ‬المكنية‭ ‬التَّبعية‭ ‬لوقوعها‭ ‬في‭ ‬الفعل‭.‬

وتبرز‭ ‬هذا‭ ‬الاستعارة‭ ‬رغبة‭ ‬ملحّة‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الأحزان،‭ ‬وتعبّر‭ ‬هذه‭ ‬الاستعارة‭ ‬عن‭ ‬استمرارية‭ ‬الحزن‭ ‬الذي‭ ‬يتناسل‭ ‬ولا‭ ‬ينقطع،‭ ‬فكلّما‭ ‬ماتت‭ ‬أحزان‭ ‬وُلدت‭ ‬أخرى،‭ ‬ليصير‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬دوّامة‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬وفي‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬متعثّرًا‭ ‬بأنقاض‭ ‬آمالي‮»‬‭ ‬استعارة‭ ‬بديعة‭ ‬تتمثّل‭ ‬في‭ ‬جعله‭ ‬الآمال‭ ‬‮«‬بناءً‭ ‬ينهدم‮»‬‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬وصوله‭ ‬حافة‭ ‬اليأس،‭ ‬وهي‭ ‬استعارة‭ ‬مكنية‭. ‬

 

وظيفة‭ ‬تعبيريّة

والملاحظ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الاستعارات‭ ‬وغيرها‭ ‬أنّها‭ ‬أدّت‭ ‬وظيفة‭ ‬تعبيريّة‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬حيث‭ ‬عبَّر‭ ‬الشّاعر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عن‭ ‬معاناته‭ ‬وصراعه‭ ‬الداخليّ‭ ‬وضياعه‭ ‬الوجودي،‭ ‬كما‭ ‬أدت‭ ‬وظيفة‭ ‬تزيينية‭ ‬بإضفائها‭ ‬جمالية‭ ‬على‭ ‬أرجاء‭ ‬القصيدة‭ ‬وإنقاذها‭ ‬من‭ ‬النّثرية‭ ‬وجو‭ ‬الكآبة‭ ‬المخيّم‭ ‬عليها،‭ ‬زد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الوظيفة‭ ‬الإمتاعية‭ ‬والتشخيصيّة؛‭ ‬إذ‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬صورة‭ ‬المشهد‭ ‬المعبّر‭ ‬عنه،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬الشاعر‭ ‬وتشخيصه‭ ‬للأحزان‭ ‬وهي‭ ‬تكفّن‭ ‬الأحزان،‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬الإنسان‭ ‬بالإنسان،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬الاستعارة‭ ‬نجد‭ ‬التشبيه‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬لك‭ ‬الأرض‭ ‬مهد‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬شبَّه‭ ‬الأرض‭ ‬بالمهد،‭ ‬وهو‭ ‬تشبيه‭ ‬بليغ‭ ‬يبيّن‭ ‬الحياة‭ ‬الهنيئة‭ ‬الحرة‭ ‬التي‭ ‬تحياها‭ ‬الدّودة،‭ ‬ويعكس‭ ‬في‭ ‬عمقه‭ ‬رغبة‭ ‬دفينة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬الحريّة‭ ‬والانفلات‭ ‬من‭ ‬ربقَة‭ ‬الهموم‭ ‬والغموم‭.‬

نوَّع‭ ‬الشّاعر‭ ‬في‭ ‬صوره‭ ‬هادفًا‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬تجربته،‭ ‬والملاحظ‭ ‬فيها‭ ‬أنَّها‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬ذاتيَّة،‭ ‬وغير‭ ‬مستقاة‭ ‬من‭ ‬الذّاكرة‭ ‬الشّعرية،‭ ‬وعليه،‭ ‬فإنَّ‭ ‬ميخائيل‭ ‬نعيمة‭ ‬جدَّد‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬صوره‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تعبيره‭ ‬عن‭ ‬ذاته،‭ ‬لكنّه‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬نوعية‭ ‬الصّور‭ ‬نفسها‭ ‬المتمثّلة‭ ‬في‭ ‬الاستعارة‭ ‬والتشبيه‭. ‬

وفيما‭ ‬يخصّ‭ ‬أساليبَ‭ ‬القصيدة،‭ ‬فقد‭ ‬هيمن‭ ‬الأسلوب‭ ‬الخبريّ،‭ ‬وذلك‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬غاية‭ ‬الشّاعر‭ ‬تدور‭ ‬حولَ‭ ‬البوح‭ ‬وبثّ‭ ‬الألم‭ ‬والشّكوى،‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الحيرة‭ ‬والضياع‭ ‬والتقلّب‭ ‬النفسيّ‭ ‬والصّراع‭ ‬الداخلي،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬طبَعيًّا‭ ‬أن‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬نظيره‭ ‬الإنشائي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬محتشمًا‭ ‬تارةً‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬النداء‭ ‬‮«‬يا‭ ‬دودة‮»‬،‭ ‬أخرى‭ ‬ممَثّلًا‭ ‬في‭ ‬القسَم‭ (‬لعمرك‭)‬،‭ ‬ويعكس‭ ‬هذان‭ ‬الأسلوبان‭ ‬رغبةً‭ ‬في‭ ‬البَوح‭ ‬وتعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬حقيقيَّة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مخاطبة‭ ‬عنصر‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الطبيعة‭.‬

 

صراع‭ ‬داخليّ

وفيما‭ ‬يخصّ‭ ‬الضمائر،‭ ‬فقد‭ ‬هيمن‭ ‬ضمير‭ ‬المتكلّم‭ (‬أجري،‭ ‬أجتاز‭...) ‬وذلك‭ ‬راجع‭ ‬إلى‭ ‬تعبير‭ ‬الشاعر‭ ‬عن‭ ‬ذاته،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬انتشارًا‭ ‬كثيفًا‭ ‬للأفعال،‭ ‬سواء‭ ‬منها‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬أو‭ ‬الذات،‭ ‬معَ‭ ‬هيمنة‭ ‬أفعال‭ ‬الحركة‭ (‬أجري‭ - ‬أجتاز‭ - ‬أزحف‭ - ‬تذيع‭...)‬،‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬الصّراع‭ ‬الداخليّ‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬الشاعر‭ ‬فكريًا‭ ‬وروحيًا،‭ ‬وتعكس‭ ‬واقعه‭ ‬النّفسيّ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬راحة‭ ‬وسكونًا،‭ ‬وقد‭ ‬وهبت‭ ‬هذه‭ ‬الأفعال‭ ‬بنوعيها‭ ‬للقصيدة‭ ‬حركيّةً،‭ ‬ديناميّةً‭ ‬وحيوية‭ ‬انتشلتها‭ ‬من‭ ‬جو‭ ‬الكآبة‭ ‬والحيرة‭ ‬والتّفلسف‭. ‬

‭ ‬اتَّخذ‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬التَّعبير‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬موضوعًا‭ ‬لقصيدته،‭ ‬حيث‭ ‬راهن‭ ‬على‭ ‬التَّفلسف‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬معبّرًا‭ ‬عن‭ ‬الصّراع‭ ‬الداخليّ‭ ‬والتقلّب‭ ‬النفسي‭ ‬والحيرة‭ ‬الوجودية،‭ ‬وظَّف‭ ‬لذلك‭ ‬معجمًا‭ ‬ذا‭ ‬طابع‭ ‬فلسفيٍّ،‭ ‬وصورًا‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬التّجربة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وأسلوبًا‭ ‬خبريًا‭ ‬ساعده‭ ‬على‭ ‬التّعبير‭ ‬والبوح،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬إيقاع‭ ‬يتَّسم‭ ‬بالتناغم،‭ ‬والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬جدَّد‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬من‭ ‬النَّاحيتين‭ ‬المضمونيّة‭ ‬والتّصويريّة،‭ ‬محافظًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬الإيقاعية‭ ‬التراثية،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬تجديده‭ ‬نسبيًّا،‭ ‬والظاهر‭ ‬أنّ‭ ‬نعيمة‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬التَّعبير‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬وتمثيل‭ ‬تيار‭ ‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬الذي‭ ‬تميّز‭ ‬بالتأمّل‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬النّفس‭ ‬والحلول‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬والتّفلسف‭ ‬في‭ ‬الوجود‭. ‬وقد‭ ‬اقتصر‭ ‬التجديد‭ ‬الشكليّ‭ ‬على‭ ‬الصورة‭ ‬واللغة‭ ‬والرؤية،‭ ‬وبقي‭ ‬الوفاء‭ ‬للإيقاع‭ ‬القديم‭ ‬قائمًا‭ ‬مفروضًا ■