رهان التجديد في شعر ميخائيل نعيمة قراءة في قصيدة «إلى دودة»
أثمرت حركية الشعر العربي الحديث في القرن العشرين تيارًا شعريًّا تبنّى فلسفة التعبير عن الذات، وسم بتسميات كثيرة كالتيار الوجداني والهروبي والذاتي والرومانسي، وقد ظهَر نتيجة المثاقَفة مع الحضارة الغربيَّة، والتأثّر بالصّوفية الذي كان أظهر عند المهجريّين، إضافة إلى اهتراء بنيات المجتمع، والتأثّر بالفكر الليبرالي الحرّ، والترجمة عن الشعر الإنجليزي. ولعلّ ما ميّز الرّومانسية بمدارسها المختلفة إعلاؤها من شأن الذات، وطرقها لمضامينَ جديدة من قَبيل التَّفلسف في الوجود، والهروب إلى الطبيعة، والحنين إلى الوطن.
يعدّ ميخائيل نعَيمَة رائدًا من روّاد الشّعر الرّومانسيّ، ينتمي إلى تيَّار الرّابطة القلميّة، الذي يقوم على مبادئَ من بينها: التَّمرّد على التّراث، ونشر المحبة، والتَّفلسف في الوجود، والحلول في الطبيعة، ويمثل نعيمة رائدَ هذه المدرسة وناقدَها وفيلسوفَها.
يتَّسم عنوان النَّص «إلى دودةٍ» بنوعٍ من الغرابة والغموض المسَبّب للحَيرة والتّساؤل، وهو عبارة عن شبه جملة يتوَّجه بها الشاعر إلى عنصر من عناصر الطبيعة، ويوحي ضمنيًا برغبة الشَّاعر في البوح والهروب من عالم الإنسان إلى عالم الطبيعة، وفي العنوان حذف نقدّره بما يلي: «خطاب/ رسالة/ بثّ/ شكوى إلى دودةٍ». فما فَحوَى هذا الخطاب أو تلك الشَّكوى؟ وما سبَبها؟
ينقل لنا الشَّاعر ما يجيش بداخله من تناقضاتٍ وتقلّبات نفسيّةٍ، حيث إنَّه لا يستقرّ على حال؛ فتارةً يجري خلف نعشه، وتارة أخرى يتعثَّر بأنقاض آماله، وثالثةً يشتكي من عبث الزمان، وهو في كلّ هذا يتطلَّع إلى الإيمان والتخلَّص من الألم والاستسلام لحكمة الله، لكنَّ الشَّك يمنعه، وللتَّخفيف من حدَّة الألم والمعاناة يلجأ إلى مخاطبة الدّودة، مما يعني أنّه فقد التَّواصل مع بني جلدته مقارنًا بينها وبينه؛ فهي حُرَّة طليقة، في حين هو سجين مقيَّد، وتصل معاناة الشَّاعر مداها عندما يصل إلى حقيقة أنَّ سرَّ الكون وكُنهَ الوجود وجوهر الحياة تستعصي على الباحث والطالب، مما يعمّق من غربته النَّفسيَّة والوجودية، ويجعله يوقن أنّ كشف أسرار الوجود هو ضرب من الوهم.
تجديد المضمون
يظهر التجديد المضموني في مخاطبة عنصرٍ من عناصر الطبيعة، والتفلسف في الوجود بنوعٍ من الصّوفية، لكنّ الحكم بالتجديد ينبغي ألّا يَصـرفنا عن القول أنّ الشّعر القديم لم يشهد تعبيرًا عن الطبيعة أو تفلسفًا في الوجود، بل نجد ذلك حاضرًا عند شعراء من قبيل ابن خفاجة وابن الرومي في وصف الطبيعة، والمعرّي والمتنبّي في التفلسف، لكنَّ الاختلاف كامن في طريقة التَّناول والمعالجة والرّؤية والمقصديّة والمنطلَق الفكريّ.
يَعكس معجم النصّ ما تعانيه ذات الشَّاعر من صراع وتقلّبٍ، ويمكن تصنيفه إلى حَقلين دلاليين؛ الأوَّل دالّ على «ذات الشاعر»، وتنضوي تحته العبارات والألفاظ التالية: «جسميَ الفاني، راكضًا متعثّرًا، أشتكي، مستسلمًا...»، والحقل الثَّاني دالّ على «عالَم الدودة» وينضوي تحته ما يلي: «يا دودة الثرى، دبيبك، تدبين، فها أنت عمياء...»، ومن جردنا للحقلين نلحظ أنّ كفَّة الحقل الدّال على ذات الشاعر رجحت على كفّة الحقل الدالّ على الدّودة، ويعود ذلك إلى أنّ الشّاعر إنَّما يعبّر عن صراعه الدّاخليّ وضياعه الوجوديّ، وفيما يخُصّ العلاقة بين الحقلين فهي قائمة على السَّبَبيَّة؛ ذلك أنّ معاناةَ الشاعر الذاتيَّة هي التي جعلته يخاطب الدودة ويتفلسف في الوجود.
بُعد رمزي
يتَّضح من خلال دراسة معجم النَّصّ أن لغة القصيدة تتَّسم بنوعٍ من اللين الذي نفتقده في شعر الإحيائيّين المتميّز بجزالة الألفاظ ومتانة التركيب، كما تتميّز بطابعها الفلسفيّ والصّوفيّ الذي منحها عمقًا دلاليًا وبُعدًا رمزيًا، وهذا مظهر من مظاهر التَّجديد في شكل القصيدة الرّومانسيَّة على مستوى اللغة.
وإذا عرَّجنا ناحية الإيقاع الخارجيّ وجدنا ميخائيل نعَيمة قد بنى قصيدته بناءً تقليديًا وركب بحر الطَّويل الذي يتميَّز باتساع مساحته وامتداد تفعيلاته، وهو ما أعطاه فرصَة التّعبير الطَّليق عن صراعه الداخليّ وغربته الوجوديَّة، وفيما يخص القافية فقد جاءت مطلقة مردفة بألف «فاني»، وتكررت بنفس الطَّريقة في كل القصيدة (/0/0)، ممَّا أعطى لنهاية الأبيات انتظامًا إيقاعيًا وتجانسًا نغميًّا وهندسة موسيقيّة بالغَةَ الدّقَّة؛ تمثَّلت في وقوع الحركات والسّكنات في الموقع نفسه زمنيًا ومكانيًا، وعليه أدَّت القافية وظيفة صوتيّة وأخرى معنوية وثالثة نفسيَّة، أمّا الرويّ فقد جاءَ نونًا مكسورة مشبّعة بياء في كلّ القصيدة، وهو ما أعطى لنهاية الأبيات جرسًا إيقاعيًا تهفو له النفوس وتطمئن، وتطرب له الآذان وتتَشوّف، ويدلّ كسر حرف الرَّويّ على انكسار نفسيَّة الشَّاعر الذي يعاني صراعًا داخليًا وقلقًا فكريًا، ونجد في بداية القصيدة ظاهرة التَّصريع، ذلك أنَّ عَروض البيت الأول «ميَلفاني = مفاعيلن»، شابهت الضرب (وأكفاني = مفاعيلن) في الزيادة، ولا يخفى ما يضفيه هذا التماثُل النغمي على مطلع القصيدة من جرس ونبض.
وإذا انتقلنا ناحيَة الإيقاع الدَّاخلي وجدنا الشّاعر يوَظّف توازيًا في البيت السّادس، ونبيّنه في الآتي:
فأترك - وأترك (حرف عطف + فعل وفاعل).
أفكاري - أحزاني (مفعول به).
تذيع - تكفّن (فعل وفاعل).
غرورها - أحزاني (مفعول به ومضاف إليه).
وهو توازٍ أفقيّ أحاديّ، نحوي، نسبي لم يتمَّه الشاعر حفاظًا على وحدة القافيةّ والرويّ ومن ثمّةَ على الإيقاع العامّ، ولا يخفى على النَّاظر ما أضفاه هذا التوازي على البيت من جرسٍ إيقاعيٍّ ونغَم موسيقي بديع أسهم في ضخّ دماء الحيوية في البيت، وانتشال القصيدة من جو التَّفلسف والصّراع الدَّاخليّ الذي جعلها رتيبةً في غالب الأحيان.
حضور بارز للتَّكرار
إلى جانب التَّوازي، نجد حضورًا بارزًا للتَّكرار؛ حيث كرَّر الشَّاعر بعضَ الصَّوائت (الياء الطويلة والكسرة) التي تعكس انكسارًا داخليًا، كما كرّر بعض الصّوامت، مثل (النون والراء)، وهو ما أسهم في خلق تنوّع إيقاعيّ وغِنَى نغَميّ، دون أن ننسى تكرار بعض الألفاظ من قبيل (أترك، أحزاني) والجناس الاشتقاقيّ (تدبين، دبّ، دبيبك)، أضف إلى ذلك التَّكرار العروضيَّ، ممثَّلًا في تَكرار البحر نفسه والقافيّة والرَّويّ.
نلاحظ من دراستنا لإيقاع القصيدة أن الشّاعر لم يقطع صلته بالتّراث، بل حافظ على البنية الإيقاعيّة نفسها للقصيدة القديمة، وهذا ما نجده في حفاظه على نظام الشَّطرين ووحدة القافية والرَّويّ واعتماد التّصريع، وركوب بحر من أبحر الخليل.
ولأنَّ الصّور الشّعرية تهَب القصيدة روحَها وإشعاعها، وتضفي عليها الرّونق والجمالية والفنّية، وترتقي بها في مدارج الشّعريّة، فإنّ الشاعر استنجد بها بكثرة، حتّى يعطيَ لها بعدًا تخييليًا رائقًا، ويضفي عليها جمالية ورواء ومائيةً، وهكذا وظَّف الاستعارة في قوله: «أشتكي إذا عبثت كفّ الزّمان ببنياني»، حيث استعار الكفَّ للزمان وأسندها إليه، هي في الحقيقة للإنسان، حاذفًا بذلك المستعار منه (الإنسان)، ورامزًا إليه بالقرينة (كفّ) على سبيل الاستعارة المكنية، ونجد استعارة أخرى في «أترك أحزاني تكفّن أحزاني»، حيث جعل الأحزان قادرة على التكفين مسندًا إليها فعلًا إنسانيًّا، على سبيل الاستعارة المكنية التَّبعية لوقوعها في الفعل.
وتبرز هذا الاستعارة رغبة ملحّة في التخلص من الأحزان، وتعبّر هذه الاستعارة عن استمرارية الحزن الذي يتناسل ولا ينقطع، فكلّما ماتت أحزان وُلدت أخرى، ليصير الشاعر في دوّامة لا تنتهي، وفي قوله «متعثّرًا بأنقاض آمالي» استعارة بديعة تتمثّل في جعله الآمال «بناءً ينهدم» دلالة على وصوله حافة اليأس، وهي استعارة مكنية.
وظيفة تعبيريّة
والملاحظ في هذه الاستعارات وغيرها أنّها أدّت وظيفة تعبيريّة في الدرجة الأولى، حيث عبَّر الشّاعر من خلالها عن معاناته وصراعه الداخليّ وضياعه الوجودي، كما أدت وظيفة تزيينية بإضفائها جمالية على أرجاء القصيدة وإنقاذها من النّثرية وجو الكآبة المخيّم عليها، زد على ذلك الوظيفة الإمتاعية والتشخيصيّة؛ إذ أسهمت في رسم صورة المشهد المعبّر عنه، خاصة في تصوير الشاعر وتشخيصه للأحزان وهي تكفّن الأحزان، كما يفعل الإنسان بالإنسان، وإلى جانب الاستعارة نجد التشبيه في قوله «لك الأرض مهد»، حيث شبَّه الأرض بالمهد، وهو تشبيه بليغ يبيّن الحياة الهنيئة الحرة التي تحياها الدّودة، ويعكس في عمقه رغبة دفينة في نفس الشاعر في الحريّة والانفلات من ربقَة الهموم والغموم.
نوَّع الشّاعر في صوره هادفًا إلى التعبير عن تجربته، والملاحظ فيها أنَّها نابعة من تجربة ذاتيَّة، وغير مستقاة من الذّاكرة الشّعرية، وعليه، فإنَّ ميخائيل نعيمة جدَّد في طبيعة صوره من حيث تعبيره عن ذاته، لكنّه حافظ على نوعية الصّور نفسها المتمثّلة في الاستعارة والتشبيه.
وفيما يخصّ أساليبَ القصيدة، فقد هيمن الأسلوب الخبريّ، وذلك راجع إلى أنَّ غاية الشّاعر تدور حولَ البوح وبثّ الألم والشّكوى، والتعبير عن الحيرة والضياع والتقلّب النفسيّ والصّراع الداخلي، لذلك كان طبَعيًّا أن يهيمن على نظيره الإنشائي الذي جاء محتشمًا تارةً في صيغة النداء «يا دودة»، أخرى ممَثّلًا في القسَم (لعمرك)، ويعكس هذان الأسلوبان رغبةً في البَوح وتعبيرًا عن معاناة حقيقيَّة من خلال مخاطبة عنصر من عناصر الطبيعة.
صراع داخليّ
وفيما يخصّ الضمائر، فقد هيمن ضمير المتكلّم (أجري، أجتاز...) وذلك راجع إلى تعبير الشاعر عن ذاته، كما نجد انتشارًا كثيفًا للأفعال، سواء منها الدالة على الحركة أو الذات، معَ هيمنة أفعال الحركة (أجري - أجتاز - أزحف - تذيع...)، التي تكشف عن الصّراع الداخليّ الذي يعيشه الشاعر فكريًا وروحيًا، وتعكس واقعه النّفسيّ الذي لا يعرف راحة وسكونًا، وقد وهبت هذه الأفعال بنوعيها للقصيدة حركيّةً، ديناميّةً وحيوية انتشلتها من جو الكآبة والحيرة والتّفلسف.
اتَّخذ الشاعر من التَّعبير عن الذات موضوعًا لقصيدته، حيث راهن على التَّفلسف في الوجود معبّرًا عن الصّراع الداخليّ والتقلّب النفسي والحيرة الوجودية، وظَّف لذلك معجمًا ذا طابع فلسفيٍّ، وصورًا نابعة من التّجربة الذاتية، وأسلوبًا خبريًا ساعده على التّعبير والبوح، إضافة إلى إيقاع يتَّسم بالتناغم، والملاحظ أن الشاعر جدَّد في قصيدته من النَّاحيتين المضمونيّة والتّصويريّة، محافظًا في الوقت نفسه على البنية الإيقاعية التراثية، وهكذا كان تجديده نسبيًّا، والظاهر أنّ نعيمة نجح في التَّعبير عن ذاته وتمثيل تيار الرابطة القلمية الذي تميّز بالتأمّل في أعماق النّفس والحلول في الطبيعة والتّفلسف في الوجود. وقد اقتصر التجديد الشكليّ على الصورة واللغة والرؤية، وبقي الوفاء للإيقاع القديم قائمًا مفروضًا ■