الفنانة السودانية كمالا إسحق: الفنّ نشاط إنساني مرتبط بتجليات المبدع... والرسم الجداري يُشعرني بالحريّة

الفنانة السودانية كمالا إسحق: الفنّ نشاط إنساني مرتبط بتجليات المبدع... والرسم الجداري يُشعرني بالحريّة

تظل رائدة الفن البصري الإفريقي الفنانة المخضرمة كمالا إبراهيم إسحق واحدة من أهم وأبرز رموز الفن التشكيلي ورواد الحداثة في السودان، وأول امرأة فيه تخوض غمار الاحترافية، وتقدّم مسيرة إبداعية نشيطة غنية بالإنجازات الفنية على مدى أكثر من نصف قرن، بصمت بها على عمارة الحداثة الفنية وريادة المرأة لفنّ التشكيل، باستحداثها أساليب فنية متعددة جديدة غير مألوفة، وبمشاركاتها في كثير من المعارض التشكيلية بالداخل والخارج، وإسهاماتها الطويلة في تدريس الفنون لكثير من الأجيال، مما جعلها قدوة مؤثرة وملهمة، ومثالًا يُحتذى يعزز ريادتها للفن النسوي، ورسوخ الفن المفاهيمي في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي بانبثاق مدرسة جمالية جديدة عُرفت بالكريستالية. 

 

 

 

 

مثلما‭ ‬كان‭ ‬اسم‭ ‬كمالا‭ ‬جديدًا‭ ‬وغريبًا‭ ‬على‭ ‬آذان‭ ‬السودانيين،‭ ‬جاءت‭ ‬رسوماتها‭ ‬تحمل‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬الجدة‭ ‬والغرابة،‭ ‬وكانا‭ ‬مصدر‭ ‬أسئلة‭ ‬مستفيضة‭ ‬وإدهاش‭ ‬للكثيرين،‭ ‬وكأنها‭ ‬تؤكد‭ ‬ما‭ ‬يُقال‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الاسم‭ ‬على‭ ‬مسمّاه‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬المولودة‭ ‬بمدينة‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ودرست‭ ‬فيها‭ ‬مراحلها‭ ‬التعليمية‭ ‬حتى‭ ‬التحقت‭ ‬مع‭ ‬طالبة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الخمسينيات‭ ‬بكلية‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬والتطبيقية،‭ ‬فكانت‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬سودانيتين‭ ‬التحقتا‭ ‬مباشرة‭ ‬وتخرّجتا‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬بدرجة‭ ‬البكالوريوس‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الستينيات،‭ ‬وتحقّق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أول‭ ‬امرأة‭ ‬تلج‭ ‬حقل‭ ‬تدريس‭ ‬الفنون‭ ‬بالكلية،‭ ‬وتبتعث‭ ‬لخارج‭ ‬السودان‭ ‬لإكمال‭ ‬رسالتها‭ ‬العلمية‭ ‬والتعليمية،‭ ‬توّجتها‭ ‬بابتداع‭ ‬أساليب‭ ‬فنية‭ ‬جديدة‭ ‬مذهلة،‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬فضاءات‭ ‬فنية‭ ‬فريدة،‭ ‬جمعت‭ ‬بين‭ ‬الإرث‭ ‬السوداني‭ ‬والأوربي،‭ ‬تركت‭ ‬أثرًا‭ ‬بالغًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬التشكيلي‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬وبصمات‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬ريادة‭ ‬المرأة‭ ‬للممارسة‭ ‬التشكيلية،‭ ‬وجعل‭ ‬لوحاتها‭ ‬محطّ‭ ‬أنظار‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬شاهدوها‭ ‬في‭ ‬المعارض‭ ‬داخل‭ ‬البلاد،‭ ‬أو‭ ‬خارجها‭ ‬سواءٌ‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬وأمريكا‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية،‭ ‬وصار‭ ‬بعضها‭ ‬مقتنيات‭ ‬لبعض‭ ‬المعارض‭ ‬والأفراد‭. ‬

لا‭ ‬تزال‭ ‬مبتدعة‭ ‬النهج‭ ‬‮«‬الكريستالي‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬البلّوري‮»‬‭ ‬تمارس‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬حركة‭ ‬التشكيل‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مزاولتها‭ ‬للرسم،‭ ‬ومشاركتها‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفني‭ ‬والثقافي،‭ ‬وممارسة‭ ‬توجيه‭ ‬وتحفيز‭ ‬الناشئة،‭ ‬مما‭ ‬أهّلها‭ ‬لتنال‭ ‬الجائزة‭ ‬الأولى‭ ‬لجناح‭ ‬السودان‭ ‬بينالي‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬والفوز‭ ‬أخيرًا‭ ‬بجائزة‭ ‬الأمير‭ ‬كلاوس‭ ‬لعام‭ ‬2019م‭ ‬بهولندا‭.‬

‮«‬العربي‮»‬‭ ‬زارت‭ ‬الفنانة‭ ‬كمالا‭ ‬إسحق‭ ‬في‭ ‬مرسمها‭ ‬لاستكناه‭ ‬رؤاها‭ ‬وأساليبها‭ ‬الفنية،‭ ‬وحاورتها‭ ‬عن‭ ‬تجربتها‭ ‬ودورها‭ ‬الطليعي‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬فن‭ ‬التشكيل‭ ‬والأجيال،‭ ‬وكانت‭ ‬البداية‭.‬

 

كمالا‭... ‬ونهرو

‭ ‬‭ ‬هناك‭ ‬مقولة‭ ‬شائعة‭ ‬‮«‬الاسم‭ ‬على‭ ‬مسمّاه‮»‬،‭ ‬وقالت‭ ‬العرب‭ ‬قديمًا‭ ‬في‭ ‬الأسماء‭ ‬‮«‬لكل‭ ‬امرئ‭ ‬من‭ ‬اسمه‭ ‬نصيب‮»‬‭... ‬فهل‭ ‬ثمّة‭ ‬عُرى‭ ‬بين‭ ‬غرابة‭ ‬الاسم‭ ‬وغرابة‭ ‬التوجه‭ ‬في‭ ‬الرسم؟‭!‬

‭- ‬نعم‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬اسم‭ ‬كمالا‭ ‬غريبًا‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني،‭ ‬وكثيرون‭ ‬يظنون‭ ‬أنه‭ ‬مؤنث‭ ‬لاسم‭ ‬كمال،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬صحيحًا،‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬كمالا‭ ‬كـول‭ (‬زوجة‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬للهند‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال،‭ ‬الزعيم‭ ‬السياسي‭ ‬جواهر‭ ‬لال‭ ‬نهرو‭)‬،‭ ‬وحدّثني‭ ‬أبي‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬معجبًا‭ ‬بتجربته‭ ‬الكفاحية‭ ‬في‭ ‬الهند،‭ ‬وقرأ‭ ‬عنه‭ ‬وما‭ ‬حوته‭ ‬كتبه،‭ ‬وعبارته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬كمالا‭ ‬ولا‭ ‬أكثر‮»‬‭ (‬To‭ ‬Kamala‭ ‬And‭ ‬No‭ ‬More‭)‬،‭ ‬وتيمّنًا‭ ‬بتلك‭ ‬المرأة‭ ‬المحبة‭ ‬الوفيّة‭ ‬أطلق‭ ‬عليّ‭ ‬هذا‭ ‬الاسم،‭ ‬أما‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الاسم‭ ‬بغرابة‭ ‬الرسم،‭ ‬فالملاحظة‭ ‬التي‭ ‬ذكرتها‭ ‬الآن‭ ‬لم‭ ‬تخطر‭ ‬على‭ ‬بالي‭ ‬نهائيًا،‭ ‬ولم‭ ‬أربط‭ ‬بين‭ ‬الغرابتين‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وربما‭ ‬يكون‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬مصادفة‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭ ‬ولا‭ ‬أقلّ‭.‬

‭ ‬لماذا‭ ‬اخترتِ‭ ‬عالم‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيه‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬يُشكّل‭ ‬اهتمامًا‭ ‬للسودانيين‭ ‬عامة،‭ ‬والمرأة‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة؟

‭ - ‬كنت‭ ‬عاشقة‭ ‬للفنون‭ ‬منذ‭ ‬الصغر،‭ ‬وحببني‭ ‬فيها‭ ‬مشاهداتي‭ ‬لجداتي‭ (‬حبوباتي‭)‬،‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬وخمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وهنّ‭ ‬يقمن‭ ‬بالتطريز‭ ‬والخياطة‭ ‬والأعمال‭ ‬الفلكلورية،‭ ‬من‭ ‬نسيج‭ ‬للطباق‭ ‬وأشغال‭ ‬السعف‭ ‬من‭ ‬السّلال‭ ‬والبروش‭ ‬بتفانٍ‭ ‬واهتمام،‭ ‬فنشأ‭ ‬لديّ‭ ‬حب‭ ‬غير‭ ‬طبيعي‭ ‬لما‭ ‬يصنعنه‭ ‬من‭ ‬بدائع،‭ ‬وانزرع‭ ‬في‭ ‬دواخلي‭ ‬عشق‭ ‬خاص‭ ‬لهذه‭ ‬الفنون،‭ ‬بجانب‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أستمع‭ ‬إليهن‭ ‬وهن‭ ‬يقصصن‭ ‬علينا‭ ‬الأحاجي‭ ‬والقصص‭ ‬الشعبية‭ ‬بشكل‭ ‬مشوق،‭ ‬مما‭ ‬كوّن‭ ‬لديّ‭ ‬مخزونًا‭ ‬تعبيريًا‭ ‬وخياليًا‭ ‬وافرًا،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الأثر‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬نزوعي‭ ‬للفنون‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬باكرة‭.‬

ولما‭ ‬التحقت‭ ‬بمدرسة‭ ‬أم‭ ‬درمان‭ ‬الثانوية،‭ ‬وجدت‭ ‬معلّمة‭ ‬الفنون‭ ‬الأستاذة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬جريزلدا‭ (‬أرملة‭ ‬العلّامة‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬خير‭ ‬مُعين‭ ‬لي‭ ‬بتشجيعي‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬قدراتي،‭ ‬حتى‭ ‬أنهيت‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬وحُزت‭ ‬نتيجة‭ ‬تمكنني‭ ‬من‭ ‬الالتحاق‭ ‬بكلية‭ ‬الطب‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬لكنّ‭ ‬رغبتي‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الفنون‭ ‬كانت‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ورغم‭ ‬اعتراض‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة،‭ ‬فإن‭ ‬الوالد،‭ ‬يرحمه‭ ‬الله،‭ ‬ترك‭ ‬لي‭ ‬حريّة‭ ‬الاختيار،‭ ‬وشدّ‭ ‬أزري،‭ ‬بل‭ ‬رافقني‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬الفنون،‭ ‬والتقينا‭ ‬بعميدها‭ ‬وقتذاك‭ ‬الفنان‭ ‬الشهير‭ ‬بسطاوي‭ ‬بغدادي،‭ ‬وحدّثه‭ ‬عن‭ ‬اهتماماتي‭ ‬بالرسم،‭ ‬وعرضت‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬بحوزتي‭ ‬من‭ ‬رسومات،‭ ‬فأثارت‭ ‬اهتمامه‭ ‬ووافق‭ ‬على‭ ‬قبولي‭ ‬بالكلية،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الرسومات‭ ‬بمنزلة‭ ‬اختبار‭ ‬قدرات‭ (‬الموهبة‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬الشرط‭ ‬الأهم‭ ‬للقبول‭ ‬في‭ ‬الكلية،‭ ‬وحقيقة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬دراستي‭ ‬للتشكيل‭ ‬اختيارًا،‭ ‬وإنما‭ ‬نزوع‭ ‬لهذا‭ ‬الفن،‭ ‬وكلّ‭ ‬ميسَّر‭ ‬لما‭ ‬خُلق‭ ‬له‭.‬

 

مغامرة‭ ‬نسائية

‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬رؤية‭ ‬المجتمع‭ - ‬آنذاك‭ - ‬وتقبّله‭ ‬للمغامرة‭ ‬النسائية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وماذا‭ ‬عن‭ ‬الأجواء‭ ‬داخل‭ ‬الكلية،‭ ‬ومدى‭ ‬تأقلمك‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬مسارب؟

‭- ‬كنت‭ ‬والطالبة‭ ‬نادية‭ ‬مرسي‭ ‬أول‭ ‬بنتين‭ ‬تم‭ ‬قبولهما‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬المدارس‭ ‬الثانوية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬وقتذاك‭ ‬مَن‭ ‬يقصدن‭ ‬دراسة‭ ‬الفنون،‭ ‬لكن‭ ‬عند‭ ‬دخولنا‭ ‬الكلية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1959م‭ ‬وجدنا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المعلمات‭ ‬المبتعثات‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬للدراسة‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬دبلوم‭ ‬الثلاثة‭ ‬أعوام،‭ ‬لتدريس‭ ‬الفنون‭ ‬بالمدارس‭ ‬الثانوية،‭ ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬معاناة‭ ‬تُذكر،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬الكلية،‭ ‬بيد‭ ‬أننا‭ ‬كنّا‭ ‬متحفّظات‭ ‬جدًا،‭ ‬لأننا‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬نجالس‭ ‬العنصر‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬واحد،‭ ‬وفي‭ ‬قاعة‭ ‬درس‭ ‬واحدة،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬الأمر‭ ‬عاديًا‭ ‬بالاستمرارية‭ ‬ومرور‭ ‬الزمن‭.‬

كانت‭ ‬الأجواء‭ ‬داخل‭ ‬الكلية‭ ‬أجواء‭ ‬إبداع‭ ‬وحراك‭ ‬ثقافي‭ ‬وفنّي‭ ‬نشط،‭ ‬وشهدنا‭ ‬في‭ ‬ساحاتها‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الندوات‭ ‬الفكرية‭ ‬والأدبية‭ ‬والفعاليات‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬النظام‭ ‬الدراسي‭ ‬دقيقًا‭ ‬ومرتبًا‭ ‬يبدأ‭ ‬بالسنّة‭ ‬الأولى‭ ‬إعدادي،‭ ‬حيث‭ ‬يمرّ‭ ‬الدارس‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأقسام،‭ ‬بدءًا‭ ‬بدراسة‭ ‬تاريخ‭ ‬الفنون،‭ ‬والتلوين،‭ ‬والرسم،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬التخصص‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثانية،‭ ‬وأنا‭ ‬تخصصت‭ ‬في‭ ‬التلوين‭ ‬والنحت‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬جوهر‭ ‬الدراسة‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬جدّ‭ ‬مختلف،‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬إشباع‭ ‬وإمتاع‭ ‬وثراء‭ ‬فني‭ ‬جمالي‭ ‬عريض،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬الخلّاقين‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬الحركة‭ ‬التشكيلية‭ ‬الناهضة‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬عالم‭ ‬الآثار،‭ ‬المُلوِن،‭ ‬والناقد‭ ‬الفني‭ ‬البريطاني‭ ‬الجنسية‭ ‬دينيس‭ ‬وليامز،‭ ‬وهو‭ ‬مبتدع‭ ‬تسمية‭ ‬‮«‬مدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬التشكيلية‮»‬،‭ ‬ودرسنا‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬تاريخ‭ ‬الفنون‭ ‬عامًا‭ ‬واحدًا،‭ ‬ثم‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬ودرست‭ ‬التلوين،‭ ‬وتخصصت‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الفنان‭ ‬العالمي‭ ‬إبراهيم‭ ‬الصلحي،‭ ‬والأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬الحسن‭ ‬الشايقي،‭ ‬والفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬والسينمائي‭ ‬حسين‭ ‬شريف‭ (‬أستاذ‭ ‬زائر‭)‬،‭ ‬ودرّسني‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬المنسوجات‭ ‬الفنان‭ ‬مجذوب‭ ‬رباح،‭ ‬أما‭ ‬الخزف‭ ‬فدرسته‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الأساتذة‭ ‬نصيف‭ ‬إسحق،‭ ‬ومحمد‭ ‬أحمد‭ ‬عبدالله،‭ ‬وصديق‭ ‬النجومي،‭ ‬كما‭ ‬درست‭ ‬النحت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أستاذ‭ ‬بريطاني‭ ‬لا‭ ‬أستحضر‭ ‬اسمه،‭ ‬وكانت‭ ‬دراسة‭ ‬التصميم‭ ‬الجرافيكي‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬البروفيسور‭ ‬أحمد‭ ‬محمد‭ ‬شبرين‭.‬

وتخرّجت‭ ‬وزميلتي‭ ‬نادية‭ ‬بقسم‭ ‬‮«‬الخزف‭ ‬والخط‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1963م،‭ ‬وكنّا‭ ‬أول‭ ‬سودانيتين‭ ‬نالتا‭ ‬درجة‭ ‬البكالوريوس‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفنون،‭ ‬وفور‭ ‬تخرّجي‭ ‬استُوعبت‭ ‬للتدريس‭ (‬معيدة‭) ‬بقسم‭ ‬التلوين‭ ‬في‭ ‬الكلية،‭ ‬وبعد‭ ‬عام‭ ‬واحد‭ ‬ابتُعثت‭ ‬لإنجلترا‭ ‬للدراسة‭ ‬بالكلية‭ ‬الملكية‭ ‬بلندن،‭ (‬Royal‭ ‬College‭ ‬of‭ ‬Art‭) ‬مدة‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬كأول‭ ‬سودانية‭ ‬تُبتعث‭ ‬لدراسة‭ ‬الفنون‭ ‬خارج‭ ‬السودان،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬سبقني‭ ‬زمرة‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

 

ابتداع‭ ‬أساليب‭ ‬جديدة

‭ ‬تلاحظ‭ ‬خلال‭ ‬مسيرتك‭ ‬الفنية‭ ‬الطويلة‭ ‬امتزاج‭ ‬مصادر‭ ‬الإلهام‭ ‬الأولى‭ ‬الغائصة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬التراث‭ ‬السوداني،‭ ‬مع‭ ‬التجربة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬كيف‭ ‬استفدت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الامتزاج‭ ‬في‭ ‬ابتداع‭ ‬أساليب‭ ‬فنية‭ ‬جديدة،‭ ‬وتحقيق‭ ‬رؤية‭ ‬بصرية‭ ‬مختلفة؟

‭- ‬غالبية‭ ‬رسوماتي‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬البيئة‭ ‬السودانية،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬اليدوية‭ ‬التي‭ ‬ابتدعنها‭ ‬الجدات‭ (‬الحبوبات‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬موروث‭ ‬القصص‭ ‬والحكايات‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬يروينها‭ ‬لنا،‭ ‬وكلها‭ ‬كانت‭ ‬منابع‭ ‬غنية‭ ‬موحية،‭ ‬تفتح‭ ‬الأذهان‭ ‬لعوالم‭ ‬أخرى‭.‬

ولا‭ ‬أذيع‭ ‬سرًا‭ ‬إن‭ ‬قلت‭ ‬لك‭ ‬إنني‭ ‬كتبت‭ ‬القصة‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬سنّ‭ ‬باكرة‭ ‬جدًا،‭ ‬وكنت‭ ‬أستقيها‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الموروث،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬تكتب‭ ‬لي‭ ‬الاستمرارية‭.‬

  ‬ولمّا‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬تخصصت‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الجداريات‭ ‬الكبيرة‭ ‬مدة‭ ‬عامين‭ ‬
‭(‬1964 ‭- ‬1966م‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الكلية‭ ‬الملكية‭ ‬كلّفني‭ ‬أستاذ‭ ‬الفنون‭ ‬البروفيسور‭ ‬إيفيسي‭ ‬بعمل‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬والفنان‭ ‬الرسام‭ ‬الإنجليزي‭ ‬وليم‭ ‬بليك،‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬وأوائل‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬خاصة‭ ‬أنّ‭ ‬لديه‭ ‬اعتقادًا‭ ‬بأن‭ ‬ثمّة‭ ‬أرواحًا‭ ‬تتقمصه،‭ ‬وتملي‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬من‭ ‬أشعاره‭ ‬رسومات‭ ‬مشابهة،‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬البحث‭ ‬ذكرت‭ ‬للأستاذ‭ ‬أن‭ ‬لدينا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬ممارسة‭ ‬تسمّى‭ ‬‮«‬الزار‮»‬،‭ ‬شبيهة‭ ‬بما‭ ‬يحدث‭ ‬للفنان‭ ‬بليك،‭ ‬وهو‭ ‬وجود‭ ‬أرواح‭ ‬تتقمص‭ ‬أو‭ ‬تتلبّس‭ ‬بعض‭ ‬النساء‭ ‬وتسيطر‭ ‬عليهن،‭ ‬ثمّ‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬علاج‭ ‬أمراضهن‭ ‬التي‭ ‬عجز‭ ‬الطب‭ ‬عن‭ ‬مداواتها‭.‬

لما‭ ‬راقت‭ ‬الفكرة‭ ‬لأستاذي‭ ‬طلب‭ ‬منّي‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬مدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬لعمل‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الزار‮»‬‭ ‬وطقوسه،‭ ‬وكنت‭ ‬أدخل‭ ‬ذاك‭ ‬الدهليز‭ ‬الغريب‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وخلال‭ ‬طوافي‭ ‬على‭ ‬أماكن‭ ‬انعقاد‭ ‬جلساته‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬لحفلات‭ ‬الزار‭ ‬نظامًا‭ ‬مُحكمًا،‭ ‬يسمح‭ ‬فيه‭ ‬للنساء‭ ‬أن‭ ‬يقمن‭ ‬ببعض‭ ‬الممارسات‭ ‬لإرضاء‭ ‬الجنّ‭ (‬الأسياد‭)‬،‭ ‬وأنّ‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬روح‭ ‬ملابس‭ ‬معيّنة،‭ ‬وعطورًا‭ ‬وأبخرة‭ ‬وغناء‭ ‬معيّنًا‭ ‬ومترجَمًا،‭ ‬ورقصًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬متناغمًا‭ ‬مع‭ ‬الإيقاع،‭ ‬مما‭ ‬جعلني‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬تسجيل‭ ‬كل‭ ‬شاردة‭ ‬وواردة‭ ‬بجهاز‭ ‬التسجيل‭.‬

كما‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬الخاصة‭ ‬بالطقوس،‭ ‬مما‭ ‬ساعدني‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الرسومات،‭ ‬غير‭ ‬أنني‭ ‬أدركت‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يتقمص‭ ‬المرء‭ ‬جسمًا‭ ‬أو‭ ‬روحًا‭ ‬غريبًا‭ ‬ويفرض‭ ‬عليه‭ ‬أمرًا‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬أن‭ ‬يتعالج‭ ‬أو‭ ‬ينتج‭ ‬نتاجًا‭ ‬فنيًا،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الشاعر‭ ‬بليك‭.‬

المهم‭ ‬أكملت‭ ‬البحث‭ ‬وقدّمته‭ ‬للكلية،‭ ‬وقد‭ ‬وجد‭ ‬تفهّمًا‭ ‬طيبًا،‭ ‬وكان‭ ‬مقاربة‭ ‬وجدت‭ ‬الإشادة‭ ‬والاهتمام،‭ ‬مما‭ ‬حدا‭ ‬بالأستاذ‭ ‬إيفيسي‭ ‬إلى‭ ‬تقديمه‭ ‬في‭ ‬محاضرة‭ ‬بقسم‭ ‬الأنثربولوجي‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬لندن‭ ‬مع‭ ‬عرض‭ ‬اللوحات‭ ‬مجال‭ ‬البحث،‭ ‬ومن‭ ‬ثمًّ‭ ‬تسنّى‭ ‬لي‭ ‬رسم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬تبرز‭ ‬الظاهرة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتسبت‭ ‬مهارة‭ ‬وخبرة‭ ‬تقنية‭ ‬جيدة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صنع‭ ‬الصورة‭.‬

 

رؤية‭ ‬موازية

‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬مدى‭ ‬استطعتِ‭ ‬أن‭ ‬تقدّمي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللون‭ ‬رؤية‭ ‬بصرية‭ ‬موازية‭ ‬لتاريخ‭ ‬المرأة‭ ‬والواقع‭ ‬السوداني‭ ‬بتعقيداته‭ ‬الميتافيزيقية‭ ‬والنفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والبيئية‭ ‬وخلافه؟

‭- ‬طبعًا‭ ‬الإنسان‭ ‬وليد‭ ‬بيئته‭ ‬ومجتمعه،‭ ‬وأنا‭ ‬عشت‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬متباين‭ ‬الأعراق‭ ‬والثقافات،‭ ‬مليء‭ ‬بالحكايات‭ ‬والقصص‭ ‬والأساطير‭ ‬والموروثات‭ ‬الشعبية،‭ ‬فمثلًا‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أسكن‭ ‬مدينة‭ ‬أم‭ ‬درمان،‭ ‬عرفنا‭ ‬ونحن‭ ‬طالبات‭ ‬أن‭ ‬صاحب‭ ‬أحد‭ ‬المنازل‭ ‬التي‭ ‬نمرّ‭ ‬بجوارها‭ ‬متزوج‭ ‬من‭ ‬جنيّة،‭ ‬وأن‭ ‬أطفالهما‭ ‬معلّقون‭ ‬في‭ ‬أشجار‭ ‬المنزل،‭ ‬ولأنّ‭ ‬أبوابه‭ ‬مغلقة‭ ‬طوال‭ ‬السنة‭ (‬مهجور‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كنّا‭ ‬نجري‭ ‬بأقصى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬عندما‭ ‬نحاذيه،‭ ‬حتى‭ ‬نبتعد‭ ‬عنه،‭ ‬وقد‭ ‬ظلت‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬معشعشة‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وهي‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الرسومات‭ (‬اللوحات‭) ‬ولديّ‭ ‬لوحة‭ ‬تحكي‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المعارض‭ ‬بأمريكا،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬اقتناء‭ ‬لوحات‭ ‬عديدة‭ ‬بهذا‭ ‬النمط،‭ ‬لذا‭ ‬تجدني‭ ‬لم‭ ‬أدع‭ ‬تنوّع‭ ‬الموروث‭ ‬السوداني‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أستقي‭ ‬منه‭ ‬شيئًا،‭ ‬ولديّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬أعمالًا‭ ‬فنية‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولعلّ‭ ‬اتجاهي‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬ميدانيًا‭ ‬في‭ ‬ظاهرة‭ ‬الزار‭ ‬فيه‭ ‬تصوير‭ ‬لحال‭ ‬المرأة‭ ‬والواقع‭ ‬السوداني‭ ‬وما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تباينات،‭ ‬كما‭ ‬استفدت‭ ‬من‭ ‬انتدابي‭ ‬للمتحف‭ ‬القومي‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬المعابد‭ ‬ورسومات‭ ‬الكنائس‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬الجذور،‭ ‬وهي‭ ‬ينابيع‭ ‬حقيقية‭ ‬لتجسيد‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬والعملية‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬بعضها،‭ ‬فكل‭ ‬ما‭ ‬عشته‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬صوّرته‭ ‬كما‭ ‬جادت‭ ‬القريحة‭.‬

‭ ‬هل‭ ‬تعملين‭ ‬على‭ ‬تصوير‭ ‬الواقع‭ ‬كما‭ ‬هو؟

‭- ‬لا‭... ‬لا‭... ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬بالضبط‭... ‬لكنّني‭ ‬أستعيد‭ ‬الفكرة،‭ ‬ثم‭ ‬أعمل‭ ‬عملي‭ ‬وأنثر‭ ‬إبداعي‭.‬

 

ترجمة‭ ‬الأحاسيس

‭ ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬أتجول‭ ‬في‭ ‬مرسمك‭ ‬لاحظت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الجداريات‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البورتريهات‭ ‬المشوّهة،‭ ‬والأشكال‭ ‬غير‭ ‬المألوفة‭... ‬لماذا‭ ‬اختيار‭ ‬هذه‭ ‬الأحجام؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬الينابيع‭ ‬التي‭ ‬فجّرت‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الإبداع؟‭ ‬

‭ - ‬تخصصي‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الجداريات‭ ‬لا‭ ‬لشيء،‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬تجعلني‭ ‬أتحرّك‭ ‬في‭ ‬مساحات‭ ‬كبيرة،‭ ‬وهذا‭ ‬يُشعرني‭ ‬بالراحة‭ ‬وبالحرية،‭ ‬وحقيقة‭ ‬لم‭ ‬أدرس‭ ‬هذا‭ ‬التخصص‭ ‬وحده،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬قضيت‭ ‬العامين‭ ‬الأوّلين،‭ ‬رجعت‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬للتدريس‭ ‬في‭ ‬الكلية،‭ ‬وبعد‭ ‬عام‭ ‬رجعت‭ ‬إلى‭ ‬إنجلترا‭ ‬لدراسة‭ ‬تصميم‭ ‬المطبوعات‭ ‬والمجلات،‭ ‬ثم‭ ‬عدت‭ ‬للتدريس‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬ثم‭ ‬ذهبت‭ ‬للمرة‭ ‬الرابعة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1968م‭ ‬لاستكمال‭ ‬دراستي‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الجرافيك‭ ‬مدة‭ ‬عام،‭ ‬وبعدها‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬الكلية‭. ‬

‭ ‬أما‭ ‬فيما‭ ‬يخصّ‭ ‬أنماط‭ ‬الرسم‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬محضَ‭ ‬مصادفة،‭ ‬وإنما‭ ‬أفكار‭ ‬تنبجس‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى،‭ ‬ومحاولة‭ ‬لعدم‭ ‬الانكفاء‭ ‬على‭ ‬الذات،‭ ‬وترجمة‭ ‬للأحاسيس‭ ‬للإتيان‭ ‬بجديد،‭ ‬وهذا‭ ‬دَيدني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الممارسة،‭ ‬وأذكر‭ ‬وقتها‭ ‬حينما‭ ‬كنت‭ ‬أدرس‭ ‬رسم‭ ‬الجداريات‭ ‬بلندن،‭ ‬تصادف‭ ‬وجود‭ ‬أحد‭ ‬الأساتذة،‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬اسمه‭ ‬الآن،‭ ‬لديه‭ ‬رسومات‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬غريب،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬بشكل‭ ‬الإنسان‭ ‬المتعارف‭ ‬أو‭ ‬المألوف‭ ‬لدينا،‭ ‬كنت‭ ‬أراقب‭ ‬رسوماته،‭ ‬وقد‭ ‬أدهشتني‭ ‬فكرته،‭ ‬كما‭ ‬لاحظت‭ ‬وأنا‭ ‬أستقل‭ ‬قطار‭ ‬الأنفاق‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬عندما‭ ‬يدخل‭ ‬القطار‭ ‬النفق‭ ‬أن‭ ‬الصور‭ ‬المعكوسة‭ ‬على‭ ‬زجاج‭ ‬النوافذ‭ ‬لا‭ ‬تعطي‭ ‬الإنسان‭ ‬الشكل‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وأن‭ ‬الوجوه‭ ‬مشوّهة‭ ‬غير‭ ‬مألوفة،‭ ‬وكنت‭ ‬معجبة‭ ‬بهذه‭ ‬الفكرة‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬كبير،‭ ‬ودار‭ ‬في‭ ‬خلدي‭ ‬أن‭ ‬أجرّب‭ ‬الرسم‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النمط،‭ ‬وذهبت‭ ‬فيه‭ ‬مذهبًا‭ ‬أرضى‭ ‬طموحاتي،‭ ‬ودفعني‭ ‬للمشاركة‭ ‬بالعرض‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬كامدن‭ ‬للفنون‭ ‬بلندن‭ ‬عام‭ ‬1969‭ ‬مع‭ ‬الأستاذين‭ ‬الصلحي،‭ ‬والشايقي‭. ‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬رجعت‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬وانتُدبت‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬القومي،‭ ‬اتجهت‭ ‬اتجاهات‭ ‬إبداعية‭ ‬أخرى،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الكنائس‭ ‬وخلافه‭.‬

 

مخزون‭ ‬الطفولة‭ ‬الباكرة

‭ ‬رغم‭ ‬أنك‭ ‬تخصصت‭ ‬في‭ ‬النحت‭ ‬والتصميم،‭ ‬فإن‭ ‬الرسم‭ ‬ظلّ‭ ‬هو‭ ‬الشغل‭ ‬الشاغل‭.‬

‭ - ‬عملت‭ ‬في‭ ‬التصميم‭ ‬كهواية،‭ ‬وصممت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬أغلفة‭ ‬المجلات‭ ‬والكتب،‭ ‬منها‭ ‬ديوان‭ ‬‮«‬الشرافة‭ ‬والهجرة‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬المجذوب،‭ ‬كما‭ ‬مارست‭ ‬النحت،‭ ‬ولي‭ ‬منحوتات‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬تماثيل‭ ‬الطين‭ ‬والخزف،‭ ‬وأعمال‭ ‬القرع‭. ‬لكن‭ ‬التلوين‭ ‬ظل‭ ‬يأخذ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬وقتي‭. ‬

‭ ‬وكيف‭ ‬ترسم‭ ‬الفنانة‭ ‬كمالا،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬الدهشة‭ ‬في‭ ‬رسوماتك؟

‭ - ‬عندما‭ ‬تأتي‭ ‬اللحظة‭ ‬المواتية،‭ ‬أضع‭ ‬اللوحة‭ ‬أو‭ ‬الجدارية‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬أبعادها،‭ ‬ثم‭ ‬أشرع‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬منذ‭ ‬بدايتها‭ ‬حتى‭ ‬نهايتها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تحضير‭ ‬أو‭ ‬تخطيط‭ ‬مُسبق،‭ ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاته‭ ‬مصدر‭ ‬دهشة‭ ‬للكثيرين،‭ ‬وكان‭ ‬محلّ‭ ‬استغراب‭ ‬لزملائي‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬الملكية،‭ ‬إذ‭ ‬كانوا‭ ‬دائمًا‭ ‬يسألونني‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬آتي‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار،‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يعلمون‭ ‬أنه‭ ‬مخزون‭ ‬الطفولة‭ ‬الباكرة‭ ‬من‭ ‬الأقاصيص‭ ‬والحكايات،‭ ‬وجملة‭ ‬المشاهدات‭ ‬التي‭ ‬عايشتها،‭ ‬وهذا‭ ‬الرصيد‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والصور‭ ‬المخزونة‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬ساعدني‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬أعمالي‭ ‬من‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬دون‭ ‬تفكير‭ ‬فيما‭ ‬أودّ‭ ‬عمله،‭ ‬وإنما‭ ‬تتداعى‭ ‬الأفكار‭ ‬بصورة‭ ‬تلقائية‭ ‬وتنساب‭ ‬الفرشاة‭ ‬ببساطة،‭ ‬وغير‭ ‬هذا‭ ‬تجدني‭ ‬لا‭ ‬أحبس‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬محدد‭ ‬أو‭ ‬أسلوب‭ ‬معيّن‭ ‬مدة‭ ‬طويلة،‭ ‬وإنما‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الجديد‭ ‬دائمًا‭. ‬

وهذا‭ ‬فتح‭ ‬لي‭ ‬أبواب‭ ‬المعارض‭ ‬بصورة‭ ‬كبيرة،‭ ‬منها‭ ‬غاليري‭ ‬بقاعة‭ ‬أخناتون‭ ‬بالقاهرة‭ ‬1970م،‭ ‬ثم‭ ‬غاليري‭ ‬كارولين‭ ‬هيل‭ ‬بنيويورك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1981م‭ ‬بعنوان‭ (‬8‭ ‬نساء‭ ‬من‭ ‬العالم‭) ‬وكنّ‭ ‬من‭ ‬قارات‭ ‬مختلفة،‭ ‬وكنت‭ ‬الوحيدة‭ ‬من‭ ‬قارة‭ ‬إفريقيا،‭ ‬ثم‭ ‬عرضت‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬مرّات‭ ‬عدة،‭ ‬وكان‭ ‬أبرزها‭ ‬مشاركتي‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينيات‭ ‬بمعرض‭ ‬لكل‭ ‬النساء‭ ‬العربيات،‭ ‬حيث‭ ‬طفنا‭ ‬به‭ ‬مدنًا‭ ‬إنجليزية‭ ‬عدة،‭ ‬وكان‭ ‬برعاية‭ ‬حاكم‭ ‬الشارقة‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬القاسمي‭. ‬

 

مدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬التشكيلية

‭ ‬ما‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يستغرقه‭ ‬رسم‭ ‬الجدارية‭ ‬أو‭ ‬اللوحة؟

‭- ‬هذا‭ ‬يتوقّف‭ ‬على‭ ‬الفكرة‭ ‬والجدارية‭ ‬نفسها،‭ ‬فثمّة‭ ‬أعمال‭ ‬قد‭ ‬تستغرق‭ ‬عدة‭ ‬أشهر،‭ ‬وأخرى‭ ‬قد‭ ‬تتجاوز‭ ‬العام،‭ ‬وهذا‭ ‬يرتبط‭ ‬بالمزاج‭ ‬والمكان‭ ‬والبيئة‭ ‬النفسية،‭ ‬وغير‭ ‬هذا‭ ‬عندما‭ ‬أعمل‭ ‬لا‭ ‬أحصر‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الجدارية‭ ‬وحدها،‭ ‬فقد‭ ‬تعوّدت‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬بجانبها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لوحة‭ ‬صغيرة،‭ ‬أو‭ ‬أرسم‭ ‬على‭ ‬القرع،‭ ‬أو‭ ‬أصمم‭ ‬أعمالًا‭ ‬أخرى‭ ‬عدة‭.‬

‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬اللوحات‭ ‬مغطاة‭ ‬باللونين‭ ‬الأخضر‭ ‬والكبدي‭ (‬Hepatic‭)!‬

‭- ‬هذا‭ ‬أيضًا‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬اللوحة،‭ ‬والمزاج‭ ‬أو‭ ‬الحالة‭ ‬النفسية‭.‬

‭ ‬نعلم‭ ‬أنّك‭ ‬من‭ ‬روّاد‭ ‬مدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬التشكيلية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬للعلن‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لكن‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬أعمالك‭ ‬تخالف‭ ‬توجهاتها‭.‬

‭- ‬في‭ ‬البداية‭ ‬تم‭ ‬تصنيفي،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬النقاد،‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬مدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬التشكيلية،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أثناء‭ ‬وجودي‭ ‬طالبة‭ ‬في‭ ‬الكلية‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬أعضاء‭ ‬مدرسة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬صارت‭ ‬لي‭ ‬طرائقي‭ ‬التعبيرية‭ ‬الخاصة‭.‬

ومن‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬يهتمّ‭ ‬الناس‭ ‬بمسألة‭ ‬المدارس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اللازم؟‭ ‬وفي‭ ‬رأيي،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬المبدعين‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تصنيفهم،‭ ‬فهذا‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬أنه‭ ‬يسهّل‭ ‬عمل‭ ‬النقاد‭.‬

عمومًا،‭ ‬الفن‭ ‬ليس‭ ‬مدارس‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شاكل‭ ‬ذلك،‭ ‬إنّما‭ ‬نشاط‭ ‬إنساني‭ ‬مرتبط‭ ‬بتجليات‭ ‬المبدع‭ ‬وفق‭ ‬أحاسيسه‭. ‬وفكرة‭ ‬المدرسة‭ ‬ليست‭ ‬مهمّة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬لأن‭ ‬الأصل‭ ‬هو‭ ‬العمل‭ ‬الفني،‭ ‬وثمة‭ ‬رسامون‭ ‬مبدعون‭ ‬ليسوا‭ ‬منتمين‭ ‬لأي‭ ‬مدرسة،‭ ‬ولا‭ ‬منضوين‭ ‬تحت‭ ‬أي‭ ‬مسمّى،‭ ‬وأعمالهم‭ ‬جميلة‭ ‬بالغة‭ ‬الدهشة،‭ ‬مثل‭ ‬الفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬السوداني‭ ‬حسن‭ ‬موسى‭.‬

 

نهج‭ ‬جديد

‭ ‬وماذا‭ ‬عن‭ ‬المدرسة‭ ‬الكريستالية‭ ‬أو‭ ‬البلّورية‭ ‬التي‭ ‬شكّلت‭ ‬نهجًا‭ ‬إبداعيًّا‭ ‬جديدًا‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬التشكيل‭ ‬بالسودان؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أهدافها؟

‭- ‬انبثق‭ ‬اسم‭ ‬المدرسة‭ ‬من‭ ‬لوحة‭ ‬رسمتها‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬السبعينيات،‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬15‭ ‬كرة‭ ‬زجاجية‮»‬،‭ ‬وتتضمن‭ ‬نباتات‭ ‬وأناسًا‭ ‬في‭ ‬كرات‭ ‬زجاجية‭ ‬شفافة،‭ ‬ولمّا‭ ‬عرضتُها‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬معرض‭ ‬للفنون‭ ‬الحديثة‭ ‬بالمتحف‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1973م،‭ ‬سار‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬تلامذتي‭ ‬على‭ ‬ذات‭ ‬النسق‭ ‬الذي‭ ‬انتهجته،‭ ‬مع‭ ‬استحداث‭ ‬إضافات‭ ‬جديدة‭ ‬خاصة‭ ‬بهم،‭ ‬وساروا‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬الرسومات‭ ‬الشفافة،‭ ‬وهم‭ ‬مَن‭ ‬أطلقوا‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬المدرسة‭ ‬البلّورية‭ ‬أو‭ ‬الكريستالية‮»‬،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬التسمية‭ ‬من‭ ‬التلميذة‭ ‬نايلة‭ ‬الطيب،‭ ‬وكتب‭ ‬بيان‭ ‬أو‭ ‬مانفستو‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1978م‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬حامد‭ ‬شداد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كانت‭ ‬اللوحة‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تؤرّخ‭ ‬لها‭. ‬أما‭ ‬أهداف‭ ‬المدرسة‭ ‬فكتبت‭ ‬بلغة‭ ‬نظرية‭ ‬في‭ ‬‮«‬البيان‭ ‬الكريستالي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬غلبت‭ ‬عليه‭ ‬الفلسفة‭ ‬الزائدة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬يعنى‭ ‬بفكرة‭ ‬الرسم‭.‬

وبالمناسبة‭ ‬كنت‭ ‬معترضة‭ ‬على‭ ‬تسمية‭ ‬المدرسة،‭ ‬لأني‭ - ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬لك‭ - ‬لديّ‭ ‬رأي‭ ‬في‭ ‬هذا،‭ ‬ولي‭ ‬قناعة‭ ‬بأنّ‭ ‬كلّ‭ ‬فرد‭ ‬لديه‭ ‬طريقة‭ ‬عمل‭ ‬إبداعي‭ ‬ينفرد‭ ‬بها،‭ ‬ولا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬نأخذ‭ ‬الرسم‭ ‬كعمل‭ ‬فني،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬يقدّم‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬رؤية‭ ‬بصرية‭.‬

 

15‭ ‬كرة‭ ‬زجاجية

‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬الباعث‭ ‬لجدارية‭ ‬‮«‬15‭ ‬كرة‭ ‬زجاجية‮»‬،‭ ‬ولماذا‭ ‬هذا‭ ‬العدد؟‭ ‬وإلى‭ ‬أيّ‭ ‬مدى‭ ‬أفدت‭ ‬من‭ ‬صلة‭ ‬الطرفين‭ ‬‮«‬الإنسان‭ ‬والنبات‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬تصبح‭ ‬الفكرة‭ ‬نفسها‭ ‬لاحقًا‭ ‬محور‭ ‬اهتمامك؟‭ ‬

‭- ‬نبع‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬15‭ ‬كرة‭ ‬زجاجية‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الرسم،‭ ‬وفرض‭ ‬تصميم‭ ‬اللوحة‭ ‬عددية‭ ‬الكرات،‭ ‬إذ‭ ‬إنني‭ ‬اخترت‭ ‬القماش‭ (‬الكمفس‭) ‬بطول‭ ‬3‭ ‬أمتار‭ ‬وعرض‭ ‬مترين،‭ ‬وزّعتها‭ ‬على‭ ‬3‭ ‬صفوف،‭ ‬كل‭ ‬صف‭ ‬فيه‭ ‬5‭ ‬كرات‭. ‬أما‭ ‬فكرتها‭ ‬فهي‭ ‬نابعة‭ ‬عن‭ ‬الصلة‭ ‬المباشرة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والنبات،‭ ‬وديمومتها‭ ‬لأجل‭ ‬استمرارية‭ ‬دورة‭ ‬حياة،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬ذاك،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يتغذّى‭ ‬على‭ ‬النبات،‭ ‬وعندما‭ ‬يموت‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬سماد‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬نموّ‭ ‬النبات،‭ ‬وكانت‭ ‬كيفية‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الصلة‭ ‬جماليًا‭ ‬تمثّل‭ ‬لي‭ ‬ضرورة‭ ‬ملحّة،‭ ‬وحالما‭ ‬أتممت‭ ‬العمل‭ ‬وجد‭ ‬استحسانًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والمهتمين،‭ ‬وهذا‭ ‬جعل‭ ‬صلتي‭ ‬بالنبات‭ ‬وطيدة‭ ‬جدًا‭ ‬بلغت‭ ‬درجة‭ ‬الاحترام‭ ‬واللطف‭ ‬والمحبة،‭ ‬وله‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬نشاطي‭ ‬الفني‭ ‬ومنبع‭ ‬خصب‭ ‬من‭ ‬منابع‭ ‬الإبداع،‭ ‬لذا‭ ‬لا‭ ‬تستغرب‭ ‬إن‭ ‬وجدتني‭ ‬أتكلّم‭ ‬مع‭ ‬النباتات‭ ‬المزروعة‭ ‬في‭ ‬منزلي،‭ ‬وأشذّبها‭ ‬وأداعبها،‭ ‬وأحيّيها‭ ‬صباحًا‭ ‬ومساء،‭ ‬وبالطبع‭ ‬ثمّة‭ ‬من‭ ‬يسخر‭ ‬أو‭ ‬يضحك‭ ‬أو‭ ‬يصف‭ ‬هذا‭ ‬بالجنون،‭ ‬وكلّ‭ ‬حرٌّ‭ ‬في‭ ‬رأيه،‭ ‬وهو‭ ‬محل‭ ‬تقدير‭. ‬

وتأكد‭ ‬لي‭ ‬بالمعايشة‭ ‬اللصيقة‭ ‬أن‭ ‬النبات‭ ‬يزدهر‭ ‬بالملاطفة‭ ‬ويتفتح‭ ‬ويورق‭ ‬بشكل‭ ‬مبهج،‭ ‬فهو‭ ‬كائن‭ ‬مثلي‭ ‬لديه‭ ‬أحاسيس‭ ‬يفرح‭ ‬ويتألم،‭ ‬يفرهد‭ ‬ويذبل،‭ ‬وهكذا،‭ ‬ووقفت‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬بعض‭ ‬النباتات‭ ‬تموت‭ ‬بموت‭ ‬زارعها‭ ‬وراعيها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تجد‭ ‬رعاية‭ ‬ممّن‭ ‬يخلف‭ ‬الراحل،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنها‭ ‬أشياء‭ ‬متكاملة‭ ‬ومرتبطة‭ ‬بعضها‭ ‬مع‭ ‬البعض،‭ ‬وتدعو‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬والتفكّر‭ ‬والتذكر‭ ‬بعظمة‭ ‬الخالق‭.‬

 

مدرسة‭ ‬الكريستالية

‭ ‬ما‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ (‬الجدارية‭) ‬في‭ ‬مسارك‭ ‬الإبداعي؟‭ ‬خاصة‭ ‬فيها‭ ‬خروج‭ ‬عن‭ ‬النمط‭ ‬السائد‭ ‬بحركة‭ ‬التشكيل‭ ‬في‭ ‬السودان؟

‭- ‬بعد‭ ‬عرض‭ ‬الجدارية‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬القومي،‭ ‬أحدثت‭ ‬جلبة‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الفنية،‭ ‬وكانت‭ ‬البداية‭ ‬لأسلوب‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الممارسة‭ ‬الإبداعية‭ ‬مارسه‭ ‬من‭ ‬بعدي‭ ‬بعض‭ ‬تلامذتي،‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬لك‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1977‭ ‬سافرت‭ ‬اللوحة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا،‭ ‬وتم‭ ‬عرضها‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬الفن‭ ‬الإفريقي‭ ‬المعاصر‭ ‬بواشنطن،‭ ‬وبموافقتي‭ ‬أهدتها‭ ‬سفارة‭ ‬السودان‭ ‬فيها‭ ‬لمشفى‭ ‬أمريكي‭ ‬خاص‭ ‬بعلاج‭ ‬قادة‭ ‬الجيوش‭ ‬في‭ ‬الدول،‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬مقتنياته،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬المهمة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬لأنها‭ ‬أول‭ ‬لوحة‭ ‬لي‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬والمضمون،‭ ‬وهي‭ ‬تؤرخ‭ ‬لمدرسة‭ ‬الكريستالية،‭ ‬كما‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬فرصة‭ ‬أول‭ ‬عرض‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭.‬

‭ ‬‭ ‬ألم‭ ‬تكن‭ ‬المدرسة‭ ‬البلورية‭ ‬تحديًّا‭ ‬وخروجًا‭ - ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬الكثيرون‭ - ‬عن‭ ‬مدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬التشكيلية؟

‭- ‬لا‭... ‬لا‭... ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬روّج‭ ‬له‭ ‬البعض،‭ ‬وهذا‭ ‬الزعم‭ ‬يدحضه‭ ‬تاريخ‭ ‬عرض‭ ‬جدارية‭ ‬15‭ ‬كرة‭ ‬زجاجية‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬القومي،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالعام‭ ‬الذي‭ ‬كُتب‭ ‬فيه‭ ‬بيان‭ ‬المدرسة‭ ‬البلورية،‭ ‬لكنّني‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬صممت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لي‭ ‬شخصيتي‭ ‬الفنية‭ ‬والأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يميّزني،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭ ‬وحال‭ ‬غالبية‭ ‬المبدعين‭ ‬الذين‭ ‬انضووا‭ ‬تحت‭ ‬لواء‭ ‬المدارس‭ ‬الفنية،‭ ‬وبرزوا‭ ‬بشكل‭ ‬متفرّد،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬استحدثوا‭ ‬أساليب‭ ‬خاصة‭ ‬بهم،‭ ‬ما‭ ‬عادوا‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭. ‬لذا‭ ‬تجدني‭ ‬لا‭ ‬أضيق‭ ‬بإبداع‭ ‬الآخر‭ ‬حتى‭ ‬أنصرف‭ ‬لتحديه‭. ‬وبالمناسبة،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬النقاد،‭ ‬تم‭ ‬إرجاعي‭ ‬أخيرًا‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬الخرطوم‭.‬

 

نقطة‭ ‬تحوّل

‭ ‬إذن‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬نقطة‭ ‬التحول‭ ‬المهمة‭ ‬والأبرز‭ ‬في‭ ‬مسيرتك‭ ‬الطويلة؟

‭ - ‬كان‭ ‬انتدابي‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬القومي‭ ‬عام‭ ‬1970م،‭ ‬للتحضير‭ ‬لافتتاحه،‭ ‬نقطة‭ ‬تحوّل‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬الفنية،‭ ‬وفترة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬البحث‭ ‬والقراءة‭ ‬المستمرة‭ ‬التي‭ ‬هيأتها‭ ‬لي‭ ‬الظروف،‭ ‬فقد‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬مكتبة‭ ‬المتحف‭ ‬مطالعة‭ ‬الكتب‭ ‬والوثائق‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والفنون‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬البدائي‭ ‬إلى‭ ‬الحديث،‭ ‬وتصادف‭ ‬أن‭ ‬أحضروا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬الآثار‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬فوقفت‭ ‬عند‭ ‬تركيب‭ ‬المعابد‭ ‬والكنائس‭ ‬وتأمّلتها‭ ‬ونقلتها‭ ‬رسومات‭ ‬لأجل‭ ‬حفظها،‭ ‬ثم‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬ترميم‭ ‬بعضها،‭ ‬كما‭ ‬قمت‭ ‬بأعمال‭ ‬فنية‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬حفظها‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬ومهددات‭ ‬الطبيعة‭. ‬

‭ ‬وكان‭ ‬لي‭ ‬أيضًا‭ ‬شرف‭ ‬رسم‭ ‬جداريتين‭ ‬كبيرتين‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬طول‭ ‬الواحدة‭ ‬10‭ ‬أمتار‭ ‬وعرض‭ ‬2‭ ‬متر‭ ‬تقريبًا،‭ ‬ما‭ ‬زالتا‭ ‬معلّقتين‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬المتحف،‭ ‬تصوِّران‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬القديم‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬البدائي‭ ‬المروي‭ ‬والمسيحي،‭ ‬أما‭ ‬العصر‭ ‬النبتي‭ ‬فقد‭ ‬رسمه‭ ‬في‭ ‬جداريتين‭ ‬أخريين‭ ‬الأستاذ‭ ‬موسى‭ ‬الخليفة،‭ ‬ورسمت‭ ‬عن‭ ‬الفترة‭ ‬المسيحية‭ ‬لوحة‭ ‬المدونة،‭ ‬نقلًا‭ ‬عن‭ ‬اللوحة‭ ‬الأصلية،‭ ‬وكانت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬عملًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬جدًا‭ ‬في‭ ‬حياتي‭.‬

لستُ‭ ‬منحازة

‭ ‬لمسنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أعمالك‭ ‬الفنية‭ ‬أنك‭ ‬أكثر‭ ‬انحيازًا‭ ‬للمرأة،‭ ‬مع‭ ‬ملاحظة‭ ‬أنها‭ ‬أصبحت‭ ‬تشكّل‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬حضورًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬التشكيلي‭ ‬يقابله‭ ‬انحسار‭ ‬واضح‭ ‬للعنصر‭ ‬الذكوري؟

‭- ‬لا‭... ‬لا‭... ‬أنا‭ ‬لست‭ ‬منحازة‭ ‬لأيّ‭ ‬عنصر،‭ ‬يهمّني‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬فقط،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬وجوده،‭ ‬وحضور‭ ‬المرأة‭ ‬بأعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التشكيل‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنهن‭ ‬الأحسن،‭ ‬وإنما‭ ‬لأنهن‭ ‬الأكثر‭ ‬تعدادًا‭ ‬بأمر‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وهذه‭ ‬الملاحظة‭ ‬تجدها‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الكليات‭ ‬الجامعية‭ ‬الأخرى،‭ ‬بل‭ ‬حيثما‭ ‬كنت،‭ ‬وتشير‭ ‬الإحصاءات‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬المواليد‭ ‬من‭ ‬الإناث‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬نسبة‭ ‬الذكور‭.‬

●‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬مدى‭ ‬أثّرت‭ ‬المتغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬عقب‭ ‬الاستقلال‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التشكيل؟

‭- ‬بالتأكيد‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬سالب‭ ‬على‭ ‬الفنون‭ ‬عامة،‭ ‬وخاصة‭ ‬فن‭ ‬التشكيل‭ ‬من‭ ‬نحت‭ ‬وخزف‭ ‬وخلافه،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬تضرّر‭ ‬النحت‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المتغيرات‭ ‬بالأفكار‭ ‬المتطرفة،‭ ‬وحدثت‭ ‬عوائق‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تحدُث،‭ ‬مما‭ ‬دفعني‭ ‬لتقديم‭ ‬استقالتي‭ ‬من‭ ‬الكلية‭ ‬ومغادرتها‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1991م،‭ ‬وأنا‭ ‬رئيسة‭ ‬قسم‭ ‬التلوين‭ ‬والأستاذة‭ ‬الوحيدة‭ ‬الموجودة‭ ‬فيها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬سافرت‭ ‬إلى‭ ‬مسقط‭ ‬بسلطنة‭ ‬عمان،‭ ‬وبقيت‭ ‬فيها‭ ‬أمارس‭ ‬عملي‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬شاركت‭ ‬خلالها‭ ‬في‭ ‬معارض‭ ‬مختلفة‭ ‬بدول‭ ‬العالم،‭ ‬منها‭ ‬معرض‭ ‬متحف‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬عام‭ ‬1994،‭ ‬ومعرض‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬بنيويورك‭ ‬ضمن‭ ‬الفنانات‭ ‬الأكبر‭ ‬سنًّا‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬كما‭ ‬شاركت‭ ‬بالعرض‭ ‬فرديًا‭ ‬وجماعيًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الشارقة،‭ ‬والكويت،‭ ‬ومصر،‭ ‬ولبنان،‭ ‬وتونس،‭ ‬وباكستان،‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬واليونان،‭ ‬والبرازيل‭ ‬ونيجيريا‭.‬

‭ ‬حدثينا‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬وثورة‭ ‬ديسمبر‭ ‬الأخيرة‭.‬

‭ - ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬زمرة‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات‭ ‬قدّموا‭ ‬أعمالًا‭ ‬تشكيلية‭ ‬فريدة‭ ‬ومدهشة،‭ ‬فيها‭ ‬تجسيد‭ ‬حقيقي‭ ‬للثورة‭ ‬الديسمبرية‭ ‬وشهدائها،‭ ‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬أحزنني‭ ‬هو‭ ‬مسح‭ ‬تلك‭ ‬اللوحات،‭ ‬ونسعى‭ ‬حاليًا‭ ‬مع‭ ‬أولئك‭ ‬الشباب‭ ‬المبدعين‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬تلك‭ ‬الرسومات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التوثيق‭ ‬التصويري‭ ‬

ولك‭ ‬أن‭ ‬تتأمل‭ ‬