«حواديت الأراجوز» مسرحية تنادي باحترام الآخر

«حواديت الأراجوز» مسرحية تنادي باحترام الآخر

هناك عناصر أساسية يجب أن يتوفّر عليها العمل المسرحي، والعروض المسرحية للأطفال أكثر صعوبة في شروطها، وطريقة تنفيذها، والآليات التي تتبعها في إنتاج رؤية معيّنة تفيد الطفل والأسرة، فهي تحمل إلى جانب المتعة البصرية؛ رسالة أو رسائل تساهم في التربية الإيجابية بما تتضمنه من إرشادات للصغار، معتمدةً في ذلك على غرس مجموعة من القيم والمعاني الإنسانية عن الوطن، والتعايش، والتعاون.
ومحاولة تحميل العرض المسرحي بهذه القيم والمعاني يجب ألّا تتم بصورة مباشرة أو مقحمة؛ تجعل من يشاهدها ينفر منها ويأبى تقبّلها، إنما يتم بطرائق إبداعية وموضوعية تجعل الطفل يحبها ويتفاعل معها.

تعتمد الأعمال الفنية الموجهة للأطفال، وخاصة الأعمال المسرحية، على البناء الجمالي في المقام الأول، لما يشتمل عليه من عناصر جذب وتشويق تقوم على توظيف السينوغرافيا بشكل رئيس، وتكون مسؤولة عن إنتاج المرئي البصري، الذي يمتزج أثناء العرض المسرحي بعنصرَي الصوت والإضاءة، ويحمل الأول تنوعًا كبيرًا من موسيقى، وحوار درامي، وأصوات حيوانات، وإشارات متنوعة... إلخ.
ويلعب الآخر دورًا مهمًا، سواء في إسقاطه بدرجات معيّنة على بقعة محددة من المسرح، أو تأثيره على الأحداث بانعكاساته المختلفة وقدرته على اختصار عنصر الحوار الدرامي بين الشخصيات. والعناصر المسرحية تكمل بعضها بعضًا من أجل الوصول إلى رؤية معينة، وهذا ما يميز العرض المسرحي عن النص المكتوب.
وتقام في الكويت والأردن وتونس وبعض المدن العربية مهرجانات سنوية لمسرح الطفل العربي، إيمانًا بأهمية هذا الاتجاه في المسرح الحديث. ويتسم مسرح الأطفال في الوطن العربي بسمات عدة تختلف فيما بينها وفق رؤية المخرجين، وخلال فصل الصيف تم عرض عدة عروض مسرحية للأطفال في عدد من مسارح الدولة بمصر، ولاقت إقبالًا كبيرًا، ومن هذه العروض: «فركش لما يكشّ»، و«القطط»، و«ليلة في المدينة العجيبة»، و«حواديت الأراجوز» التي نتوقف عندها كنموذج لمسرح الطفل، يوائم بين الرواية المسرحية في اتكائها على الخيال، وبين تنمية القيم الإنسانية لدى الأطفال، ومحاولة صنع مواقف ومآزق يتعلم من خلالها الأطفال معاني إنسانية.    
    
تنمية القيم الإيجابية
في مسرحية «حواديت الأراجوز»، التي اختتمت أخيرًا عروضها على خشبة المسرح القومي للطفل (المتروبول سابقًا)، التابع للبيت الفني للمسرح، تبرز بعض السمات التي تمنح العرض المسرحي للطفل أبعادًا أخرى تضاف إلى شروط العرض المسرحي، أهمها عدم وجود البطل الأوحد، (البطولة لمجموعة من الفنانين)، مما يساهم، بطريقة ما، في غرس فكرة التعاون والتكامل في شخصية الطفل، الذي يجب أن يُدرك أنّ لكل إنسان دوره في الحياة.
أما فكرة البطل الأوحَد الذي تتركز عليه الأضواء طوال الوقت؛ فقد تؤدي إلى غرس بعض القيم السلبية، مثل غريزة حب النفس، وبدلًا من أن تعيننا الأعمال الإبداعية على ترسيخ وتنمية قيم إيجابية؛ تجعل السلوك السويّ يستحيل إلى سلوك آخر ناتج عن الإحساس بتضخم «الأنا» تارة، أو الإحساس بالغبن تارة أخرى، فالإنسان يتأثر بالـمُثُل، والطفل يميل عادة إلى تقليد الشخصيات المميزة والمشهورة. 
على هذا الأساس تسير المسرحية في «مسرَحة» حالات إنسانية تنمّي القيم الإيجابية، وتحفز الخيال، وتثري العقل بمعلومات عامة عن الأشجار والحيوانات.
    
حوار الكائنات الأخرى
يحقق توظيف الخيال، سواء عن طريق الخرافة، أو الحوار بين الكائنات الأخرى كالأشجار، أو الحيوانات؛ أثرًا شديد الأهمية في صياغة العرض المسرحي الموجّه للطفل، وهو ما سارت عليه مسرحية «حواديت الأراجوز» من إخراج محسن العزب، وتأليف راندا إبراهيم، واستطاعت المسرحية أن تكتسب أرضًا جديدة باتجاه كل أفراد الأسرة لا الطفل فحسب، فكل من شاهد العرض تفاعل مع أحداثه وشخصياته.
تبرز في العرض سمات التعاون والتكامل بين الممثلين، ويتضافر ذلك مع الفرقة الاستعراضية وانتشار أعضائها على خشبة المسرح، وهو ما يلخّص أحد أهداف العرض بطريقة غير مباشرة وبعيدة عن الفجاجة. 
فهناك أدوار محددة وموزعة بدقة على كل شخصية؛ بدءًا من عم زمان (الراوي) الذي جسّد شخصيته الفنان عادل خلف، وحتى أعضاء الفرقة الاستعراضية الذين شغلوا خشبة المسرح بحيوية وبدقة حركاتهم وتعبيراتهم الجسدية، وقد أضفت رقصاتهم جوًا من البهجة والمتعة على الأحداث... ومرورًا بجميع الممثلين؛ محمود عامر، وراندا قطب، ومجدي عبيد، وعادل الكومي، ومصطفى عبدالفتاح، وراندا إبراهيم، ومحمد البسيوني، وفوزي المليجي، وخالد نبيل، وحمزة عبدالله، وعادل ماضي، فقد أدوا أدوارهم بإتقان وجاء أداؤهم مميزًا وعلى درجة عالية من الصدق الفني والإحساس بالشخصية، وخاصة الفنان محمود عامر الذي جسّد شخصية عم منصور، الرجل الطيب راعي الغنم الذي لا يملك سوى العنزة مندورة.

عمل راقِ 
استطاع المخرج أن يقدمَ عملًا راقيًا يمتلك مقومات الفُرجة الشَّعبية بما تضمنه من توظيف للحوار الدرامي الدالّ، واستغلال الفضاء المسرحي من خلال حركة الممثلين على الخشبة، وتوظيف جسم الممثل بشكل موائم للأحداث، فعلى الرغم من صغر خشبة المسرح - المخصصة لمسرح الأطفال - وكثرة عدد الممثلين المشاركين، ووجود فرقة استعراضية؛ وثبات مكان بيت الأراجوز في كل المشاهد المسرحية كجزء من الأحداث ورابط أساسي بين المَـشاهد؛ فإن المتفرج لا يشعر بازدحام على المسرح. 
كأن ثمة تقسيمًا لكل مساحة على خشبة المسرح، حيث جرت تمرينات وفق نظام محدد، فيتحرك الممثل خلال تلك المساحة المخصصة له دون أن يتجاوزها إلى مساحة غيره من الممثلين، وأقصد - على سبيل المثال - المشاهد التي جمعت عددًا من الممثلين، مثل المشهد الذي جمع الأشجار، ودار حديث بينها عن أهم الفوائد، كذلك مشهد محاكمة الطفل يوسف الذي أصاب شجرة الزيتون بسلوك غير مناسب.
ويأتي توظيف فن الأراجوز كأحد أشكال المسرح الشعبي، ويؤدي تضفيره مع الأحداث إلى تأكيد هذا الاتجاه المعني بمسرح الفرجة أو المسرح الشعبي، ولجأ بعض المخرجين المسرحيين في مصر والوطن العربي إلى توظيف أشكال من المسرح الشعبي، بهدف تراكم عناصر الفرجة المسرحية، فبعيدًا عن مسرح الأطفال، يوظف كثير من المسرحيين العرب «خيال الظل»، أو «الأراجوز»، أو «الحكواتي» في بعض العروض المسرحية، لإضفاء هذا الطابع (العربي)، وفضلًا عن أن توظيف أشكال المسرح الشعبي داخل العروض المسرحية يجذب الجمهور، فإنه أيضًا يلقى حفاوة النقاد في الوطن العربي.

رؤية بصرية
تمتزج في العرض الرؤية البصرية بكل مكوناتها من ديكور وأزياء وحركة للممثلين، مع الحوار الدرامي والاستعراضات الفنية الراقصة في منظومة فنية تتخللها ثلاث حكايات من ثلاثة عوالم مختلفة: عالم الأشجار، وعالم الحيوانات، والعلاقات الإنسانية.
وتجمع الحواديت الثلاث بين المعلومة والنُصح والتوجيه من جهة، والمتعة البصرية والعقلية من جهة أخرى. ويتضح أن مدلولات الحكايات الثلاث تصب جميعًا في حياة الإنسان وعلاقاته اليومية، وقد أخذت الحكايات عن كتاب «كليلة ودمنة» وبعض القصص المعاصرة. 
تربط شخصية «عم زمان» (عادل خلف) بين محاورته للأراجوز وتقديم القصص الثلاث التي يقوم عليها العرض، فهو الراوي والشخصية الوحيدة الواقعية داخل العرض، وبالتالي همزة الوصل بين القصص الثلاث (على خشبة المسرح) والجمهور (الصالة)، حيث يقدّم قصصًا من المكتبة أو شجرة المعرفة (بحسب العرض)، فيخرج الطفل يوسف (أحمد عصام) مشتبكًا مع عوالم الحكايات بخيالاتها المحلّقة لتداعب وعيَ الجمهور، فتضفي حالة من المتعة والبهجة والمعرفة.

حكايات عن الأشجار والحيوان
العرض محمّل بكثير من المعلومات العامة والقيم الأخلاقية والتربوية التي تناسب أفراد الأسرة، وعلى رأسها ترسيخ مفهوم الانتماء، ولذلك تُستهل المسرحية بالسلام الوطني، وتدعو إلى احترام الآخر المتمثل في كل الأشياء المحيطة بالإنسان وعناصر الحياة المختلفة: مثل البيئة، والقانون، واحترام الجيران وتقديرهم والوقوف إلى جانب المحتاج منهم. 
وفي الحكاية الأولى التي تدور حول أشجار الفاكهة، يكون التركيز على قيم التسامح، واحترام القانون، والحفاظ على البيئة، ويجسّد الممثلون في أدوارهم أشجار البرتقال، والتفاح، والنخيل، والزيتون، والصبار، فيحمل الحوار الدرامي معلومات أساسية عن كل شجرة من هذه الأشجار، وأهميتها وفوائدها للإنسان ووجوب المحافظة عليها. 
وتحمل الحكاية الثانية مواقف وحوارات كوميدية معبّرة عن الخداع والذكاء والثقة وعدم تكرار الوقوع في الخطأ، وتحمِل بعض المعلومات الخفيفة عن الحيوانات، وخاصة الأسد، والثعلب، والحمار.
أما الحكاية الثالثة «عم منصور والعنزة مندورة»، فتدور حول الرضا بما قسمه الله وتحثّ على القيم الإنسانية، وترتكز الحدوتة على الوقوف بجانب المحتاج والمعاملة الحسنة للزوجة.
وتذهب المسرحية في هذا الجزء على توظيف الخرافة الشعبية من خلال إناء سحري يوضع به الخبز، فيتحول إلى بطّ مطهي، أو توضع به حبوب القمح، فتتحول إلى فواكه من كل نوع تُستغل في مساعدة المحتاج.

نضج فني
استطاع مخرج العرض أن يقدم عملًا مسرحيًا مائزًا، ساعدته في ذلك العناصر المسرحية التي وظّفها بإتقان، ومنها النص المسرحي للمؤلفة راندا إبراهيم التي طرحت نصًا على درجة كبيرة من النضج الفني، يحمل حكايات مشوّقة من جهة، ويحمل المعلومات ويرسخ لقيم وأبعاد إنسانية وتربوية من جهة أخرى.
ولا يكتمل العرض المسرحي على الخشبة بالنص الجيد فحسب، فقد ساعد عنصرا الديكور والأزياء لإيمان الشيخ على إبراز الرؤية المسرحية، وجاء الديكور بسيطًا وكوميديًا، كما في مشهد المحاكمة، حيث تميّز هذا المشهد بالانتشار الجيد للممثلين وشغْل الحيّز المسرحي بصورة مناسبة، كما جاءت الملابس خاصة في الحدوتة الأولى مبهجة ومعبرة، فقد ارتدى الممثلون ملابس تدل على نوع شجرة الفاكهة التي يجسّدونها، وأثارت أشكالهم إعجاب الجمهور. 
كما ساهمت فرقة أشرف فؤاد الاستعراضية بنادي الشمس في إضفاء حالة من البهجة والمتعة بالرقصات التي قام فتيان الفرقة وفتياتها بأدائها، إذ شغلوا المسرح بتعبيرات جسدية راقية أعجب بها الجمهور، ومثلت اللوحات البصرية التي قدموها بين المشاهد فواصل رائعة في الانتقال بين الحواديت الثلاث. 

الأشعار والموسيقى
لا شك في أن أشعار خميس عز العرب وموسيقى خالد جودة كانت لهما آثار واضحة على جودة العرض وخروجه بهذا الشكل. 
أما لغة الحوار بين الشخصيات فقد تميّزت بالبساطة والسهولة وعدم التعقيد، واتسمت بقربها من اللهجة العادية التي تتحدث بها الأسرة المصرية، ولا يؤخذ على اللغة المستخدمة، سواء لغة الراوي أو لغة الشخصيات أي مأخذ، حتى في استخدام بعض الكلمات الغريبة مثل: يزيّط، ويحوّر، على اعتبار أن أصل هذه الكلمات من اللغة الفصيحة. 
لكن يؤخذ على المسرحية فكرة الإناء المسحور، إذ إن عم منصور لا يمتلك هذا الإناء، وقد وجده فجأة يتدلى من أعلى، فحصل عليه وذهب به إلى زوجته، والسؤال الذي سيتبادر إلى ذهن المتفرج هو: من الذي يدلّي الإناء؟ وكان الأجدر أن يكون الإناء أصلًا في بيت عم منصور، ثم يباغت بتحوّله إلى إناء مسحور لأي سبب. 
كانت «حواديت الأراجوز» قد أنتجت عام 2014، وعرضت لخمسة مواسم متتالية، وشاركت في مهرجان مسرح الطفل بتونس، ثم أعيد إنتاجها مرة أخرى عام 2019، وكانت آخر عروضها في الفترة الماضية.
وللمخرج محسن العزب عديد من الأعمال المسرحية والتلفزيونية، وصرح لنا بعد العرض الأخير من «حواديت الأراجوز» بأنه بصدد التجهيز لعرض مسرحي للأطفال عن قواعد النحو وأهمية اللغة العربية في حياتنا، وذلك من أجل الحفاظ على لغتنا؛ لغة الضاد ■

حكايات مشوقة ومعلومات ترسخ القيم وأبعاد إنسانية وتربوية يتعلمها الأطفال