عند الحدود

عند الحدود

‮«‬‭.... ‬أنا‭ ‬أمّكم‭ ‬بحميكم‭!‬‮»‬

إنّه‭ ‬عام‭ ‬1964م‭ ‬في‭ ‬شرق‭. ‬أشعّة‭ ‬الضّحى‭ ‬تتخللّ‭ ‬أوراق‭ ‬سدرة‭ ‬تظلّل‭ ‬جانبًا‭ ‬من‭ ‬ساحة‭ ‬روضة‭ ‬المهلّب‭. ‬فسيفساء‭ ‬الأغصان‭ ‬تنثر‭ ‬بقعًا‭ ‬ضوئيّةً‭ ‬على‭ ‬وجنتيّ‭ ‬بنت‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام،‭ ‬تتقدّم‭ ‬رتلًا‭ ‬قصيرًا‭ ‬من‭ ‬بنات‭ ‬تحت‭ ‬السّدرة‭. ‬تشرع‭ ‬ذراعيها‭ ‬الصّغيرتين،‭ ‬تحول‭ ‬بينهنّ‭ ‬ومن‭ ‬تمثّل‭ ‬ذئبًا‭ ‬يبرز‭ ‬مخالبه‭ ‬منشدًا‭ ‬قبالتهنّ‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬الذّيب‭ ‬باكلكم‭!‬‮»‬‭.‬

‭ ‬تضيق‭ ‬عيناها‭ ‬كلّما‭ ‬ضربت‭ ‬الأرض‭ ‬بقدم‭ ‬وردّت‭ ‬تنادي‭: ‬‮«‬وأنا‭ ‬أمّكم‭ ‬بحميكم‭!‬‮»‬‭.‬

‭ ‬يناورها‭ ‬الذّئب‭ ‬برقصة‭ ‬تتمايل‭ ‬يمنةً‭ ‬ويسرة،‭ ‬يغيّر‭ ‬الإيقاع،‭ ‬مشرئبًّا‭ ‬بإيماءة‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬الرّتل‭:‬

‮«‬عيني‭ ‬على‭ ‬ذيك‭ ‬الـ‭ ‬ورا‭.... ‬ذيك‭ ‬الـ‭ ‬ورا‮»‬

تخطو‭ ‬الأمّ‭ ‬نحوه،‭ ‬تحمي‭ ‬بناتها‭. ‬تهتف‭ ‬بلحنه‭ ‬في‭ ‬وجهه،‭ ‬لكن‭ ‬بنبرة‭ ‬أعلى‭:‬

‮«‬ارجع‭ ‬ورا‭.... ‬ارجع‭ ‬ورا‭.... ‬ارجع‭ ‬ورا‭!‬‮»‬

تتأهّب‭... ‬يهجم‭ ‬الذّئب‭.‬

 

‭***‬

 

بعد‭ ‬سبعة‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا‭.‬

توقّف‭ ‬المطر‭ ‬وانقشع‭ ‬الغيم‭ ‬وأنا‭ ‬أتخطّى‭ ‬بركةً‭ ‬صغيرةً‭ ‬إلى‭ ‬مدخل‭ ‬المسجد‭. ‬الستائر‭ ‬منسدلةٌ‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬ينفذ‭ ‬من‭ ‬شبّاكها‭ ‬ضوء‭ ‬العصر‭ ‬على‭ ‬‮«‬بوحسن‮»‬‭ ‬متربّعًا‭ ‬وحده‭ ‬في‭ ‬المصلّى‭ ‬يقرأ‭ ‬من‭ ‬المصحف‭. ‬قعدت‭ ‬بجواره،‭ ‬وضع‭ ‬الخيط‭ ‬بين‭ ‬صفحتين‭ ‬ملتفتًا‭ ‬إليَّ‭. ‬كان‭ ‬يغطّي‭ ‬رأسه‭ ‬بالشماغ‭ ‬ويلفّه‭ ‬على‭ ‬عنقه‭ ‬بإحكام‭ ‬من‭ ‬برد‭ ‬يناير‭. ‬نظر‭ ‬في‭ ‬عينيّ‭. ‬أشحت‭ ‬عنه‭ ‬أتمتم‭:‬

‮«‬ولد‭ ‬الصّبيح‭... ‬أتى‭ ‬بالخبر‭!‬‮»‬‭     

حوقل‭ ‬آسيًا‭ ‬يهزّ‭ ‬رأسه‭. ‬رفع‭ ‬نظّارتيه‭ ‬إلى‭ ‬جبينه،‭ ‬فركَ‭ ‬ملتحمتيّ‭ ‬عينيه‭ ‬بسبّابته‭ ‬وإبهامه،‭ ‬كعادته‭ ‬كلّما‭ ‬حزبَه‭ ‬أمر‭. ‬أعاد‭ ‬نظّارتيه‭ ‬على‭ ‬عينيه‭. ‬كان‭ ‬صائمًا‭ ‬يابس‭ ‬الشّفتين‭. ‬في‭ ‬النّور‭ ‬المتدفّق‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الشّباك،‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬التماع‭ ‬الشّيب‭ ‬الذي‭ ‬ثار‭ ‬بلحيته‭ ‬في‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭. ‬سألني‭ ‬وهو‭ ‬يربّت‭ ‬على‭ ‬كتفي‭:‬

‮«‬أتعرّفت‭ ‬إليها؟‮»‬

أومأت‭ ‬برأسي‭ ‬إيجابًا‭: ‬

‮«‬رآها‭ ‬ولد‭ ‬الصّبيح‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬أخي‭ ‬ملفوفةً‭ ‬بلحاف،‭ ‬فأسرع‭ ‬يخبرني‭. ‬طرتُ‭ ‬إليها‭ ‬وكشفت‭ ‬الغطاء‮»‬‭.‬

عبثًا‭ ‬حاولت‭ ‬مقاومة‭ ‬انفعال‭ ‬تبدّى‭ ‬في‭ ‬ارتعاش‭ ‬صوتي‭: ‬

‮«‬نهشوا‭ ‬ابنة‭ ‬أخي‭ ‬يا‭ ‬بوحسن‭... ‬قطّعوها‭ ‬ورموها‭ ‬فجرًا‭ ‬تحت‭ ‬المطر‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬بيت‭ ‬أبيها‮»‬‭.‬

استرجع،‭ ‬وفرك‭ ‬ملتحمتي‭ ‬عينيه‭ ‬مرةً‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬نظّارتيه‭. ‬تساءل‭:‬

‮«‬عسى‭ ‬تمكّنتم‭ ‬من‭ ‬استخراج‭ ‬شهادة‭ ‬الوفاة‭...‬‮»‬‭.‬

‮«‬لهذا‭ ‬جئتك،‭ ‬لن‭ ‬نحملها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬البصرة‭!‬‮»‬

نظر‭ ‬إلى‭ ‬ساعة‭ ‬جدار‭ ‬المحراب‭. ‬أطبق‭ ‬الكتاب‭ ‬على‭ ‬كرسيّ‭ ‬المصحف‭ ‬الخشبيّ‭. ‬نهض‭ ‬قائلًا‭:‬

‮«‬تعالَ‭ ‬معي‮»‬‭. ‬

‭***‬

‮«‬شلون‭ ‬لقيتوها؟‮»‬

سألنا‭ ‬النقيب‭ ‬الحاسر‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬المكتب،‭ ‬وهو‭ ‬يدسّ‭ ‬سيجارته‭ ‬بمنفضة‭ ‬غصّت‭ ‬بالأعقاب‭ ‬ورماد‭ ‬لوّث‭ ‬قبّعّته‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬بيريه‮»‬‭ ‬المرميّة‭ ‬بقربها‭.‬

‮«‬اختفت‭ ‬منذ‭ ‬شهرين،‭ ‬ولقيناها‭ ‬اليوم‭ ‬جدّام‭ ‬البيت‮»‬‭.‬

أجبته‭ ‬مقتضبًا‭ ‬ففهم‭. ‬خفض‭ ‬رأسه‭ ‬ينبش‭ ‬درج‭ ‬المكتب،‭ ‬ورفعه‭ ‬قائلًا‭:‬

‮«‬هسّه‭ ‬ماكو‭ ‬ورق‭ ‬عندي،‭ ‬روح‭ ‬للقادسيّـــة‭... ‬هناك‭ ‬ينطوكم‭!‬‮»‬

تركناه‭ ‬فورًا‭ ‬إلى‭ ‬مخفر‭ ‬القادسيّة،‭ ‬حيث‭ ‬استخرجنا‭ ‬شهادة‭ ‬الوفاة‭. ‬وفي‭ ‬جمدة‭ ‬الصّباح‭ ‬الباكر،‭ ‬أخرجنا‭ ‬ابنة‭ ‬أخي‭ ‬من‭ ‬ثلاجة‭ ‬مستشفى‭ ‬مبارك،‭ ‬وحملناها‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬صبحان‭. ‬كان‭ ‬رأسها‭ ‬المهشّم‭ ‬معصوبًا‭ ‬بشاش‭ ‬أبيض‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المستشفى‭. ‬أنزلها‭ ‬أبوها‭ ‬في‭ ‬قبر‭ ‬أصاب‭ ‬حوافّه‭ ‬صقيع‭ ‬المربعانيّة،‭ ‬بثيابها‭ ‬كما‭ ‬هي،‭ ‬ملفوفةً‭ ‬بالبطانيّة،‭ ‬لتعانقها‭ ‬الأرض‭ ‬باحتضان‭ ‬أبديّ‭.‬

 

‭***‬

‭(‬يانا‭ ‬الذّيب‭... ‬يانا‭ ‬الذّيب‭... ‬عضّ‭ ‬الطـيّـب‭ ‬بعد‭ ‬الطّـيـب‭)‬

 

‭***‬

مشاتل‭ ‬الرّابية،‭ ‬ستّون‭ ‬يومًا‭ ‬قبل‭ ‬احتضان‭ ‬الأرض‭.‬

بلاط‭ ‬الممرّ‭ ‬تحتنا‭ ‬قاس‭ ‬وصقع‭. ‬نحن‭ ‬مجرّدون‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬قمصاننا‭ ‬الدّاخليّة‭ ‬الملطّخة‭ ‬بالدّم‭ ‬وسراويلنا‭ ‬‮«‬المكسّرة‮»‬‭ ‬الطّويلة‭. ‬برودة‭ ‬البلاط‭ ‬تسري‭ ‬إلى‭ ‬ألايانا‭ ‬تتغلغل‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬أحشائنا‭ ‬مستقرّةً‭ ‬في‭ ‬نخاع‭ ‬العظم،‭ ‬فتبعث‭ ‬فينا‭ ‬رجفةً‭ ‬ورغبةً‭ ‬متعذّرة‭ ‬بالنّوم‭. ‬كلٌّ‭ ‬منّا‭ ‬مكبّلٌ‭ ‬بسلاسل‭ ‬من‭ ‬يديه‭ ‬وقدميه‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬سلندر‭ ‬غاز‮»‬‭ ‬أسطوانيّ‭ ‬ثقيل‭ ‬بين‭ ‬رجليه‭ ‬يضطرّه‭ ‬إلى‭ ‬القرفصاء‭. ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الهيئة،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬بين‭ ‬الوعي‭ ‬وفقدانه،‭ ‬وجفناي‭ ‬يكادان‭ ‬يطبقان‭ ‬من‭ ‬برد‭ ‬وإعياء،‭ ‬رأيت‭ ‬جنديًّا‭ ‬يخرج‭ ‬ظلًاّ‭ ‬ناحلًا‭ ‬من‭ ‬حجرة‭ ‬الحبس‭ ‬الانفراديّ‭ ‬يدفعه‭ ‬من‭ ‬ظهره‭ ‬ناحيتنا‭ ‬في‭ ‬الممرّ‭ ‬المعتم‭. ‬لم‭ ‬أميّز‭ ‬صاحب‭ ‬الظلّ،‭ ‬حتّى‭ ‬اقترب‭ ‬منّا‭ ‬يتخطّانا‭ ‬مقيّدين‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬وتبيّنتها‭ ‬امرأةً‭ ‬تخاطب‭ ‬الجنديّ‭:‬

‮«‬حرام‭ ‬عليكم‭! ‬ما‭ ‬تركتم‭ ‬أحدًا‭... ‬أكلّ‭ ‬أولاء‭ ‬مقاومة؟‮»‬‭.‬

‮«‬اخرسي‭ ‬أقول‭ ‬لك‭... ‬اخرسي‭ ‬وامشي‭ ‬قدّامي‭!‬‮»‬‭.‬

نهرها‭ ‬السّجّان‭ ‬يلكزها‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صوتها‭ ‬غريبًا‭. ‬لكنّي‭ ‬لم‭ ‬أميّزها‭ ‬حتّى‭ ‬مرّت‭ ‬بمحاذاتي‭ ‬وانعكس‭ ‬ضوء‭ ‬اللّمبة‭ ‬الصّفراء‭ ‬واهنًا‭ ‬على‭ ‬وجهها‭. ‬كانت‭ ‬هي؛‭ ‬الصّوت‭ ‬المجهول‭ ‬الذي‭ ‬باغت‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬مخبأ‭ ‬خليّتنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬بيان‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬أسابيع،‭ ‬صادحًا‭ ‬بإنجليزيّة‭ ‬فصيحة‭ ‬عبر‭ ‬شبكة‭ ‬التّلفزة‭ ‬الأمريكيّة‭: ‬‮«‬إنّهم‭ ‬سبعمئة‭ ‬ألف‭ ‬مجنّد‭ ‬ينهبون‭ ‬ويعذّبون‭ ‬ويقتلون‭!‬‮»‬‭. ‬لكنّها‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬كومة‭ ‬جلد‭ ‬على‭ ‬عظم‭.‬

 

‭***‬

‭(‬يانا‭ ‬الذّيب‭... ‬يانا‭ ‬الذّيب‭... ‬خرّب‭ ‬في‭ ‬الدّيرة‭ ‬تخريب‭)‬

 

‭***‬

مشاتل‭ ‬الرّابية،‭ ‬ثلاث‭ ‬ليال‭ ‬قبل‭ ‬احتضان‭ ‬الأرض‭.‬

تكّ‭. ‬تكّ‭. ‬تكّ‭.‬

‮«‬أبو‭ ‬دوسة‭... ‬حان‭ ‬أذان‭ ‬الفجر‮»‬‭.‬

أوقظتني‭ ‬وهي‭ ‬تطرق‭ ‬صفيح‭ ‬الجدار‭ ‬الفاصل‭ ‬بيننا‭. ‬نحن‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬المشاتل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تفرّق‭ ‬رفاقنا؛‭ ‬منّا‭ ‬مَن‭ ‬أعدم‭ ‬ومنّا‭ ‬من‭ ‬نُقل‭ ‬إلى‭ ‬معتقل‭ ‬آخر‭. ‬كان‭ ‬العسكر‭ ‬يخلون‭ ‬المكان‭ ‬استعدادًا‭ ‬لبدء‭ ‬ضربة‭ ‬جويّة‭ ‬مرتقبة‭.‬

‮«‬صاحي‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭... ‬صاحي‮»‬‭.‬

تأتيني‭ ‬خشخشة‭ ‬تهيّؤها‭ ‬للصّلاة،‭ ‬وعربدة‭ ‬الجنود‭ ‬السّكارى‭ ‬تصطخب‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الممرّ‭. ‬إنّي‭ ‬أشفق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬بطشهم‭. ‬حينما‭ ‬أتوا‭ ‬بها‭ ‬قبل‭ ‬شهرين‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬قيّدوها‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬طاولة‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬حبس‭ ‬انفراديّ،‭ ‬وضعوا‭ ‬الفاكس‭ ‬أمامها،‭ ‬وأمرها‭ ‬المحقّق‭ ‬بالاتّصال‭ ‬بالحكومة‭ ‬في‭ ‬الطّائف‭. ‬ولمّا‭ ‬لم‭ ‬ترِد‭ ‬من‭ ‬الطّائف‭ ‬استجابةٌ،‭ ‬كان‭ ‬المحقّق‭ ‬يصفع‭ ‬قفا‭ ‬رأسها‭ ‬ويكمش‭ ‬شعرها‭ ‬صارخًا‭: ‬‮«‬ليش‭ ‬ما‭ ‬يردّون؟‭ ‬بينك‭ ‬وبينهم‭ ‬شفرة‭... ‬ها؟‮»‬،‭ ‬ثمّ‭ ‬يدميها‭ ‬لكمًا‭ ‬وركلًا‭ ‬قبل‭ ‬صعقها‭ ‬بالكهرباء،‭ ‬حتّى‭ ‬يأتي‭ ‬بها‭ ‬جنديّان‭ ‬يجرجرانها‭ ‬بينهما،‭ ‬فيرميانها‭ ‬في‭ ‬الزّنزانة‭ ‬مغشيًّا‭ ‬عليها‭. ‬

من‭ ‬الجدار‭ ‬أدنيت‭ ‬أذني‭ ‬أسألها‭: ‬‮«‬متى‭ ‬سيأخذونك؟‮»‬‭.‬

‮«‬قالوا‭: ‬كوني‭ ‬جاهزة‭ ‬عند‭ ‬السّادسة‭ ‬صباحًا‭!‬‮»‬

يوم‭ ‬أمس‭ ‬أخذها‭ ‬الحارس‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬عمر‮»‬‭ ‬مدير‭ ‬استخبارات‭ ‬المشاتل‭. ‬وجدته‭ ‬منتصبًا‭ ‬بجانب‭ ‬رجل‭ ‬ينتظرها‭ ‬على‭ ‬أريكة‭ ‬مفردة،‭ ‬متأنّقًا‭ ‬ببدلة‭ ‬قاتمة‭ ‬يطلّ‭ ‬منديل‭ ‬حرير‭ ‬من‭ ‬جيبها‭ ‬العلويّ‭. ‬قال‭ ‬لها‭ ‬واضعًا‭ ‬رجلًا‭ ‬على‭ ‬أخرى‭: ‬

‮«‬يابه‭ ‬أنا‭ ‬جاي‭ ‬من‭ ‬سيدي‭ ‬الرّئيس‭ ‬مخصوص‭ ‬على‭ ‬شانك‮»‬‭.‬

شدّ‭ ‬عقدة‭ ‬ربطة‭ ‬عنقه‭ ‬مردفًا‭:‬

‮«‬أنت‭ ‬هواية‭ ‬ذكيّة‭ ‬وشاطرة‭. ‬تعالي‭ ‬معي‭ ‬لبغداد‭... ‬نوفّر‭ ‬لك‭ ‬سكن‭ ‬وراتب‭ ‬ما‭ ‬تحلمين‭ ‬به‮»‬‭. ‬

انتظرته‭ ‬حتّى‭ ‬أنهى‭ ‬عرضه‭. ‬ولمّا‭ ‬سكت،‭ ‬تبسّمت‭ ‬بازدراء‭: ‬‮«‬حامض‭ ‬على‭ ‬بوزك‭ ‬أنت‭ ‬ورئيسك‭!‬‮»‬

هزّ‭ ‬رأسه‭ ‬يائسًا،‭ ‬ثمّ‭ ‬أومأ‭ ‬إلى‭ ‬الحارس‭ ‬ليعيدها‭ ‬إلى‭ ‬الحبس‭. ‬وفي‭ ‬اللّيل،‭ ‬أتاها‭ ‬ضابطٌ‭ ‬يخبرها‭ ‬بأنّها‭ ‬ستنقل‭ ‬صباحًا‭ ‬إلى‭ ‬البصرة،‭ ‬لإجراء‭ ‬محاكمة‭ ‬صوريّة‭ ‬يُفرج‭ ‬عنها‭ ‬بعدها‭ ‬بكفالة‭.‬

استلقيت‭ ‬بعد‭ ‬الصّلاة‭. ‬طلعت‭ ‬الشّمس‭ ‬ولم‭ ‬يأت‭ ‬أحدٌ‭ ‬يأخذها‭. ‬‮«‬تأخّروا‮»‬،‭ ‬تبرّمت‭. ‬‮«‬استرخي‭ ‬قليلًا‮»‬،‭ ‬حاولت‭ ‬التّخفيف‭ ‬عنها‭. ‬وضحىً‭ ‬سمعت‭ ‬قرقعةَ‭ ‬باب‭ ‬زنزانتها‭ ‬تفتح‭. ‬فسحبتُ‭ ‬برغيًّا‭ ‬من‭ ‬ثقب‭ ‬في‭ ‬صفيح‭ ‬الجدار‭ ‬لأنظر‭. ‬رأيتها‭ ‬تدوّن‭ ‬بأمر‭ ‬الضّابط‭ ‬عنوان‭ ‬بيت‭ ‬أهلها‭ ‬على‭ ‬ورقة‭ ‬زوّدها‭ ‬بها‭.‬

‮«‬يا‭ ‬الله‭ ‬قومي‭ ‬هسّه‭...‬‮»‬‭.‬

همّت‭ ‬تأخذ‭ ‬لحافها‭ ‬المربوط‭ ‬بحبل،‭ ‬ومشطها‭ ‬البلاستيكيّ،‭ ‬وّزجاجة‭ ‬عطر‭ ‬صغيرة،‭ ‬وقلمًا‭ ‬مع‭ ‬أوراق‭ ‬لها‭.   

‮«‬خلّي‭ ‬أغراضك‭... ‬نروح‭ ‬لـ‭ ‬أبو‭ ‬عمر‭ ‬بالأوّل،‭ ‬بعدين‭ ‬ترجعين‭ ‬تأخذيها‮»‬‭.‬

نهضت‭ ‬وأنا‭ ‬أنظر‭ ‬إليها‭. ‬بالتفاتة‭ ‬خاطفة‭ ‬ألقت‭ ‬نظرةً‭ ‬نحوي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تخرجَ‭ ‬إلى‭ ‬الممرّ‭ ‬الموحش‭. ‬أغلق‭ ‬باب‭ ‬الزّنزانة‭. ‬انتظرت‭. ‬حلّ‭ ‬المساء،‭ ‬ولم‭ ‬ترجع‭ ‬لتأخذ‭ ‬أشياءها‭ ‬المصفوفة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

 

‭***‬

تقاطع‭ ‬مشرف‭ ‬وبيان،‭ ‬اثنان‭ ‬وسبعون‭ ‬يومًا‭ ‬قبل‭ ‬احتضان‭ ‬الأرض‭. ‬

الشّمس‭ ‬تنحدّر‭ ‬غربًا‭ ‬خلف‭ ‬غيمة‭ ‬رماديّة‭. ‬أوقفت‭ ‬سيّارتي‭ ‬للسّيطرة،‭ ‬وسحبت‭ ‬ناقل‭ ‬الحركة‭ ‬إلى‭ ‬وضعيّة‭ ‬الحياد‭. ‬ثمّةَ‭ ‬توتّرٌ‭ ‬غير‭ ‬معتاد‭ ‬بين‭ ‬الجنود‭. ‬أحدهم‭ ‬يقترب‭. ‬أنزلت‭ ‬زجاج‭ ‬نافذتي‭ ‬حين‭ ‬أخفض‭ ‬رأسه‭ ‬بمحاذاتي‭. ‬فمه‭ ‬محجوبٌ‭ ‬تحت‭ ‬شاربين‭ ‬كثّين‭ ‬اضطربا‭:‬

‮«‬هويتك‭!‬‮»‬

مددت‭ ‬إليه‭ ‬هويّتي‭ ‬المزيّفة،‭ ‬أخذها‭ ‬يتفحّصها،‭ ‬تعرّقت‭ ‬يداي‭ ‬على‭ ‬المقود،‭ ‬وعيناه‭ ‬تتردّدان‭ ‬بيني‭ ‬والبطاقة‭. ‬التفت‭ ‬وراءه‭ ‬ينادي‭ ‬‮«‬علّاوي‭ ‬جيب‭ ‬الصّورة‭ ‬عندك‮»‬‭. ‬أتى‭ ‬الآخر،‭ ‬أزاح‭ ‬رفيقه‭ ‬ليحدّق‭ ‬بي،‭ ‬ثمّ‭ ‬نقّل‭ ‬نظرته‭ ‬بين‭ ‬البطاقة‭ ‬بحوزة‭ ‬رفيقه،‭ ‬وورقة‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬شفّ‭ ‬ظهرها‭ ‬عن‭ ‬صورة‭ ‬مثبّتة‭ ‬بمشبك‭. ‬اعترض‭ ‬سيّارتي‭ ‬بضعة‭ ‬جنود‭. ‬

من‭ ‬رفيقه‭ ‬تناول‭ ‬بطاقتي‭. ‬خفض‭ ‬رأسه‭ ‬يطلّ‭ ‬عليّ‭ ‬ثانيةً‭:    

‮«‬اسمك؟‮»‬

‮«‬سارة‭... ‬مكتوب‭ ‬عندك‭!‬‮»‬

نظر‭ ‬في‭ ‬عينيّ‭. ‬بغتةً‭ ‬انعقد‭ ‬حاجباه‭ ‬وانتهرني‭ ‬بملامح‭ ‬احتقنت‭:‬

‮«‬سارة‭ ‬لو‭ ‬أسرار؟‮»‬‭ ‬

في‭ ‬المرآة‭ ‬الجانبيّة‭ ‬رأيتً‭ ‬جنودًا‭ ‬يقتربون‭. ‬

 

‭***‬

رأس‭ ‬الخفجيّ‭ ‬السّعوديّة،‭ ‬تسعون‭ ‬ليلةً‭ ‬قبل‭ ‬احتضان‭ ‬الأرض‭.‬

تقف‭ ‬في‭ ‬بلكونة‭ ‬حجرة‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬الجزيرة‮»‬‭ ‬المطلّة‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬يعكس‭ ‬ليلةً‭ ‬مقمرة‭. ‬الأجواء‭ ‬هادئة‭. ‬لم‭ ‬يمض‭ ‬على‭ ‬عبورها‭ ‬الحدود‭ ‬غير‭ ‬ساعات‭. ‬

ملأت‭ ‬رئتيها‭ ‬من‭ ‬نسمة‭ ‬بحريّة‭ ‬هبّت‭. ‬الخطّة‭ ‬أن‭ ‬تتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬الطّائف‭ ‬استعدادًا‭ ‬لابتعاثها؛‭ ‬ستكون‭ ‬صوت‭ ‬بلدها‭ ‬المحتلّ‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭. ‬بصيص‭ ‬المدينة‭ ‬يلوح‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬رأس‭ ‬السالميّة‭ ‬على‭ ‬الضّفّة‭ ‬البعيدة‭ ‬من‭ ‬الخليج‭. ‬ضجّ‭ ‬رنين‭ ‬الهاتف‭ ‬يهزّ‭ ‬سكون‭ ‬الحجرة‭. ‬دخلت‭ ‬ترفع‭ ‬السّمّاعة‭. ‬أتاها‭ ‬الصّوت‭ ‬قلقًا‭ ‬من‭ ‬الطّائف‭:‬

‮«‬ما‭ ‬تحركت‭ ‬إلى‭ ‬الآن؟‮»‬‭.‬

‮«‬أخوي‮»‬

‮«‬جواز‭ ‬سفرك‭ ‬الخاصّ‭ ‬جاهز‭. ‬خذيه‭ ‬من‭ ‬الرّياض‭ ‬في‭ ‬طريقك‭ ‬إلينا‮»‬

‮«‬اسمعني‮»‬

منفعلًا‭ ‬أكمل‭:‬

‮«‬الشّيخ‭ ‬سعد‭ ‬يتوقّع‭ ‬قدومك‭ ‬اللّيلة‭...‬‮»‬‭.‬

قاطعته‭:‬

‮«‬عدنان‭... ‬لن‭ ‬آتي‭!‬‮»‬

ران‭ ‬الصّمت‭ ‬برهة‭. ‬سأل‭ ‬بخيبة‭ ‬أمل‭: 

‮«‬أختي‭... ‬ليش؟‮»‬

‮«‬عدنان‭... ‬أبوي‭ ‬وأهلي‭ (‬ما‭ ‬أقدر‭ ‬أخلّيهم‭...)‬‮»‬

حاول‭ ‬يثنيها‭ ‬عن‭ ‬عزمها‭:‬

‮«‬لكن‭ ‬بوفهد‭ ‬في‭ ‬الطّائف‭... ‬ينتظرك‭!‬‮»‬

‮«‬سامحوني‭...‬‮»‬

نادى‭ ‬جازعًا‭:‬

‮«‬أسرار‭!‬‮»‬

تهدّج‭ ‬صوتها‭:‬

‮«‬تعذّر‭ ‬لوليّ‭ ‬العهد‭ ‬عنّي‭... ‬سامحني‭ ‬يا‭ ‬أخوي‭... (‬لازم‭ ‬أعود‭)‬‮»‬‭.‬

ودّعته‭. ‬وأغلقت‭ ‬الخطّ‭.‬

‭***‬

رجلان‭ ‬من‭ ‬الجهراويّة‭ ‬ينتظرانها‭ ‬في‭ ‬وانيت‭ ‬تويوتا‭-‬هايلكس‭ ‬حمراء‭ ‬بقُمرة‭ ‬مفردة،‭ ‬يدوّي‭ ‬محرّكها‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬الجزيرة‮»‬،‭ ‬ويشعّ‭ ‬مصباحاها‭ ‬كعينيّ‭ ‬قطّ‭ ‬الرّمال‭ ‬بين‭ ‬كثبان‭ ‬ليلة‭ ‬مقمرة‭. ‬

خرجت‭ ‬ترتدي‭ ‬العباءة،‭ ‬والبرقع‭ ‬الأسود‭ ‬مرفوعًا‭ ‬إلى‭ ‬رأسها‭ ‬مثل‭ ‬امرأة‭ ‬بدويّة‭. ‬نزل‭ ‬المرافق‭ ‬بسلاحه‭. ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تركب،‭ ‬أخرجت‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬عباءتها‭ ‬رخصة‭ ‬القيادة،‭ ‬تتحقّق‭ ‬من‭ ‬هويّتها‭ ‬المفبركة‭: ‬سارة‭ ‬مبارك‭ ‬محمّد‭. 

قال‭ ‬المرافق‭ ‬المسلّح‭ ‬لمّا‭ ‬استقرّت‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬قمرة‭ ‬القيادة‭ ‬وتحرّكوا‭:‬

‮«‬أنا‭ ‬بوسارة،‭ ‬وهذا‭ ‬بوسعود‭... ‬أي‭ ‬شي‭ ‬تبين‭ ‬حنّا‭ ‬إخوانك‮»‬‭.‬

ردّت‭ ‬حين‭ ‬بان‭ ‬منفذ‭ ‬النّويصيب‭: 

‮«‬إذا‭ ‬مسكونا،‭ ‬قل‭ ‬لهم‭ ‬أنا‭ ‬أختك‭ ‬من‭ ‬أمّك،‭ ‬وّخّلّ‭ ‬الباقي‭ ‬عليّ‭!‬‮»‬‭      

نظرت‭ ‬ناحية‭ ‬البحر،‭ ‬تراءت‭ ‬لها‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬ثلاثة‭ ‬تضوي‭ ‬من‭ ‬بعيد‮»‬‭. ‬تجاوزوا‭ ‬المركز‭ ‬الحدوديّ‭ ‬تسلّلًا،‭ ‬واهتزّت‭ ‬السّيّارة‭ ‬بهم‭ ‬وهي‭ ‬تعبر‭ ‬وعورة‭ ‬صحراء‭ ‬الجنوب،‭ ‬منطلقةً‭ ‬تجاه‭ ‬أضواء‭ ‬الكويت‭ ‬‭*‬‭ ■‬

 

‭*‬‭ ‬إلى‭ ‬أسرار‭ ‬القبنديّ،‭ ‬وجميع‭ ‬من‭ ‬قُتل‭ ‬أو‭ ‬اعتقل،‭ ‬في‭ ‬المشاتل‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬معتقلات‭ ‬الاحتلال‭ ‬العراقيّ،‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬وخارجها‭. ‬النصّ‭ ‬مدينٌ‭ ‬للسّيّدة‭ ‬نوريّة‭ ‬السّداني،‭ ‬مؤلّفة‭: ‬‮«‬أسرار‭ ‬الكويت‮»‬‭ (‬1992‭).‬

‭*‬‭ ‬عنوان‭ ‬القصّة‭ ‬والمقاطع‭ ‬بيْن‭ (‬قوْسيْن‭) ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬فائق‭ ‬عبدالجليل‭ ‬الغنائيّة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬أثناء‭ ‬الاحْتلال‭ ‬العراقيّ،‭ ‬قبْل‭ ‬أسره‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1991‭. ‬دُفن‭ ‬عبدالجليل‭ ‬بالكويت‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬2006،‭ ‬بعْد‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬رفاته‭ ‬في‭ ‬مقْبرةٍ‭ ‬جماعيّةٍ‭ ‬للأسْرى‭ ‬الكويْتيّين‭ ‬في‭ ‬الصّحراء‭ ‬العراقيّة‭. ‬