عند الحدود
«.... أنا أمّكم بحميكم!»
إنّه عام 1964م في شرق. أشعّة الضّحى تتخللّ أوراق سدرة تظلّل جانبًا من ساحة روضة المهلّب. فسيفساء الأغصان تنثر بقعًا ضوئيّةً على وجنتيّ بنت خمسة أعوام، تتقدّم رتلًا قصيرًا من بنات تحت السّدرة. تشرع ذراعيها الصّغيرتين، تحول بينهنّ ومن تمثّل ذئبًا يبرز مخالبه منشدًا قبالتهنّ: «أنا الذّيب باكلكم!».
تضيق عيناها كلّما ضربت الأرض بقدم وردّت تنادي: «وأنا أمّكم بحميكم!».
يناورها الذّئب برقصة تتمايل يمنةً ويسرة، يغيّر الإيقاع، مشرئبًّا بإيماءة إلى آخر الرّتل:
«عيني على ذيك الـ ورا.... ذيك الـ ورا»
تخطو الأمّ نحوه، تحمي بناتها. تهتف بلحنه في وجهه، لكن بنبرة أعلى:
«ارجع ورا.... ارجع ورا.... ارجع ورا!»
تتأهّب... يهجم الذّئب.
***
بعد سبعة وعشرين عامًا.
توقّف المطر وانقشع الغيم وأنا أتخطّى بركةً صغيرةً إلى مدخل المسجد. الستائر منسدلةٌ إلّا في زاوية ينفذ من شبّاكها ضوء العصر على «بوحسن» متربّعًا وحده في المصلّى يقرأ من المصحف. قعدت بجواره، وضع الخيط بين صفحتين ملتفتًا إليَّ. كان يغطّي رأسه بالشماغ ويلفّه على عنقه بإحكام من برد يناير. نظر في عينيّ. أشحت عنه أتمتم:
«ولد الصّبيح... أتى بالخبر!»
حوقل آسيًا يهزّ رأسه. رفع نظّارتيه إلى جبينه، فركَ ملتحمتيّ عينيه بسبّابته وإبهامه، كعادته كلّما حزبَه أمر. أعاد نظّارتيه على عينيه. كان صائمًا يابس الشّفتين. في النّور المتدفّق عليه من الشّباك، انتبهت إلى التماع الشّيب الذي ثار بلحيته في أشهر قليلة. سألني وهو يربّت على كتفي:
«أتعرّفت إليها؟»
أومأت برأسي إيجابًا:
«رآها ولد الصّبيح عند باب أخي ملفوفةً بلحاف، فأسرع يخبرني. طرتُ إليها وكشفت الغطاء».
عبثًا حاولت مقاومة انفعال تبدّى في ارتعاش صوتي:
«نهشوا ابنة أخي يا بوحسن... قطّعوها ورموها فجرًا تحت المطر على عتبة بيت أبيها».
استرجع، وفرك ملتحمتي عينيه مرةً أخرى من تحت نظّارتيه. تساءل:
«عسى تمكّنتم من استخراج شهادة الوفاة...».
«لهذا جئتك، لن نحملها من أجل ذلك إلى البصرة!»
نظر إلى ساعة جدار المحراب. أطبق الكتاب على كرسيّ المصحف الخشبيّ. نهض قائلًا:
«تعالَ معي».
***
«شلون لقيتوها؟»
سألنا النقيب الحاسر من خلف المكتب، وهو يدسّ سيجارته بمنفضة غصّت بالأعقاب ورماد لوّث قبّعّته الـ «بيريه» المرميّة بقربها.
«اختفت منذ شهرين، ولقيناها اليوم جدّام البيت».
أجبته مقتضبًا ففهم. خفض رأسه ينبش درج المكتب، ورفعه قائلًا:
«هسّه ماكو ورق عندي، روح للقادسيّـــة... هناك ينطوكم!»
تركناه فورًا إلى مخفر القادسيّة، حيث استخرجنا شهادة الوفاة. وفي جمدة الصّباح الباكر، أخرجنا ابنة أخي من ثلاجة مستشفى مبارك، وحملناها إلى مقبرة صبحان. كان رأسها المهشّم معصوبًا بشاش أبيض من قبل المستشفى. أنزلها أبوها في قبر أصاب حوافّه صقيع المربعانيّة، بثيابها كما هي، ملفوفةً بالبطانيّة، لتعانقها الأرض باحتضان أبديّ.
***
(يانا الذّيب... يانا الذّيب... عضّ الطـيّـب بعد الطّـيـب)
***
مشاتل الرّابية، ستّون يومًا قبل احتضان الأرض.
بلاط الممرّ تحتنا قاس وصقع. نحن مجرّدون إلّا من قمصاننا الدّاخليّة الملطّخة بالدّم وسراويلنا «المكسّرة» الطّويلة. برودة البلاط تسري إلى ألايانا تتغلغل منها إلى أحشائنا مستقرّةً في نخاع العظم، فتبعث فينا رجفةً ورغبةً متعذّرة بالنّوم. كلٌّ منّا مكبّلٌ بسلاسل من يديه وقدميه إلى «سلندر غاز» أسطوانيّ ثقيل بين رجليه يضطرّه إلى القرفصاء. على تلك الهيئة، في حالة بين الوعي وفقدانه، وجفناي يكادان يطبقان من برد وإعياء، رأيت جنديًّا يخرج ظلًاّ ناحلًا من حجرة الحبس الانفراديّ يدفعه من ظهره ناحيتنا في الممرّ المعتم. لم أميّز صاحب الظلّ، حتّى اقترب منّا يتخطّانا مقيّدين على الأرض، وتبيّنتها امرأةً تخاطب الجنديّ:
«حرام عليكم! ما تركتم أحدًا... أكلّ أولاء مقاومة؟».
«اخرسي أقول لك... اخرسي وامشي قدّامي!».
نهرها السّجّان يلكزها. لم يكن صوتها غريبًا. لكنّي لم أميّزها حتّى مرّت بمحاذاتي وانعكس ضوء اللّمبة الصّفراء واهنًا على وجهها. كانت هي؛ الصّوت المجهول الذي باغت العالم من مخبأ خليّتنا في «بيان» قبل أسابيع، صادحًا بإنجليزيّة فصيحة عبر شبكة التّلفزة الأمريكيّة: «إنّهم سبعمئة ألف مجنّد ينهبون ويعذّبون ويقتلون!». لكنّها تحوّلت إلى كومة جلد على عظم.
***
(يانا الذّيب... يانا الذّيب... خرّب في الدّيرة تخريب)
***
مشاتل الرّابية، ثلاث ليال قبل احتضان الأرض.
تكّ. تكّ. تكّ.
«أبو دوسة... حان أذان الفجر».
أوقظتني وهي تطرق صفيح الجدار الفاصل بيننا. نحن آخر من بقي في المشاتل بعد أن تفرّق رفاقنا؛ منّا مَن أعدم ومنّا من نُقل إلى معتقل آخر. كان العسكر يخلون المكان استعدادًا لبدء ضربة جويّة مرتقبة.
«صاحي إن شاء الله... صاحي».
تأتيني خشخشة تهيّؤها للصّلاة، وعربدة الجنود السّكارى تصطخب في آخر الممرّ. إنّي أشفق عليها من بطشهم. حينما أتوا بها قبل شهرين أو أكثر، قيّدوها إلى رجل طاولة في غرفة حبس انفراديّ، وضعوا الفاكس أمامها، وأمرها المحقّق بالاتّصال بالحكومة في الطّائف. ولمّا لم ترِد من الطّائف استجابةٌ، كان المحقّق يصفع قفا رأسها ويكمش شعرها صارخًا: «ليش ما يردّون؟ بينك وبينهم شفرة... ها؟»، ثمّ يدميها لكمًا وركلًا قبل صعقها بالكهرباء، حتّى يأتي بها جنديّان يجرجرانها بينهما، فيرميانها في الزّنزانة مغشيًّا عليها.
من الجدار أدنيت أذني أسألها: «متى سيأخذونك؟».
«قالوا: كوني جاهزة عند السّادسة صباحًا!»
يوم أمس أخذها الحارس إلى مكتب «أبو عمر» مدير استخبارات المشاتل. وجدته منتصبًا بجانب رجل ينتظرها على أريكة مفردة، متأنّقًا ببدلة قاتمة يطلّ منديل حرير من جيبها العلويّ. قال لها واضعًا رجلًا على أخرى:
«يابه أنا جاي من سيدي الرّئيس مخصوص على شانك».
شدّ عقدة ربطة عنقه مردفًا:
«أنت هواية ذكيّة وشاطرة. تعالي معي لبغداد... نوفّر لك سكن وراتب ما تحلمين به».
انتظرته حتّى أنهى عرضه. ولمّا سكت، تبسّمت بازدراء: «حامض على بوزك أنت ورئيسك!»
هزّ رأسه يائسًا، ثمّ أومأ إلى الحارس ليعيدها إلى الحبس. وفي اللّيل، أتاها ضابطٌ يخبرها بأنّها ستنقل صباحًا إلى البصرة، لإجراء محاكمة صوريّة يُفرج عنها بعدها بكفالة.
استلقيت بعد الصّلاة. طلعت الشّمس ولم يأت أحدٌ يأخذها. «تأخّروا»، تبرّمت. «استرخي قليلًا»، حاولت التّخفيف عنها. وضحىً سمعت قرقعةَ باب زنزانتها تفتح. فسحبتُ برغيًّا من ثقب في صفيح الجدار لأنظر. رأيتها تدوّن بأمر الضّابط عنوان بيت أهلها على ورقة زوّدها بها.
«يا الله قومي هسّه...».
همّت تأخذ لحافها المربوط بحبل، ومشطها البلاستيكيّ، وّزجاجة عطر صغيرة، وقلمًا مع أوراق لها.
«خلّي أغراضك... نروح لـ أبو عمر بالأوّل، بعدين ترجعين تأخذيها».
نهضت وأنا أنظر إليها. بالتفاتة خاطفة ألقت نظرةً نحوي قبل أن تخرجَ إلى الممرّ الموحش. أغلق باب الزّنزانة. انتظرت. حلّ المساء، ولم ترجع لتأخذ أشياءها المصفوفة على الأرض.
***
تقاطع مشرف وبيان، اثنان وسبعون يومًا قبل احتضان الأرض.
الشّمس تنحدّر غربًا خلف غيمة رماديّة. أوقفت سيّارتي للسّيطرة، وسحبت ناقل الحركة إلى وضعيّة الحياد. ثمّةَ توتّرٌ غير معتاد بين الجنود. أحدهم يقترب. أنزلت زجاج نافذتي حين أخفض رأسه بمحاذاتي. فمه محجوبٌ تحت شاربين كثّين اضطربا:
«هويتك!»
مددت إليه هويّتي المزيّفة، أخذها يتفحّصها، تعرّقت يداي على المقود، وعيناه تتردّدان بيني والبطاقة. التفت وراءه ينادي «علّاوي جيب الصّورة عندك». أتى الآخر، أزاح رفيقه ليحدّق بي، ثمّ نقّل نظرته بين البطاقة بحوزة رفيقه، وورقة في يده شفّ ظهرها عن صورة مثبّتة بمشبك. اعترض سيّارتي بضعة جنود.
من رفيقه تناول بطاقتي. خفض رأسه يطلّ عليّ ثانيةً:
«اسمك؟»
«سارة... مكتوب عندك!»
نظر في عينيّ. بغتةً انعقد حاجباه وانتهرني بملامح احتقنت:
«سارة لو أسرار؟»
في المرآة الجانبيّة رأيتً جنودًا يقتربون.
***
رأس الخفجيّ السّعوديّة، تسعون ليلةً قبل احتضان الأرض.
تقف في بلكونة حجرة «بيت الجزيرة» المطلّة على البحر يعكس ليلةً مقمرة. الأجواء هادئة. لم يمض على عبورها الحدود غير ساعات.
ملأت رئتيها من نسمة بحريّة هبّت. الخطّة أن تتوجّه إلى الطّائف استعدادًا لابتعاثها؛ ستكون صوت بلدها المحتلّ في واشنطن. بصيص المدينة يلوح لها من رأس السالميّة على الضّفّة البعيدة من الخليج. ضجّ رنين الهاتف يهزّ سكون الحجرة. دخلت ترفع السّمّاعة. أتاها الصّوت قلقًا من الطّائف:
«ما تحركت إلى الآن؟».
«أخوي»
«جواز سفرك الخاصّ جاهز. خذيه من الرّياض في طريقك إلينا»
«اسمعني»
منفعلًا أكمل:
«الشّيخ سعد يتوقّع قدومك اللّيلة...».
قاطعته:
«عدنان... لن آتي!»
ران الصّمت برهة. سأل بخيبة أمل:
«أختي... ليش؟»
«عدنان... أبوي وأهلي (ما أقدر أخلّيهم...)»
حاول يثنيها عن عزمها:
«لكن بوفهد في الطّائف... ينتظرك!»
«سامحوني...»
نادى جازعًا:
«أسرار!»
تهدّج صوتها:
«تعذّر لوليّ العهد عنّي... سامحني يا أخوي... (لازم أعود)».
ودّعته. وأغلقت الخطّ.
***
رجلان من الجهراويّة ينتظرانها في وانيت تويوتا-هايلكس حمراء بقُمرة مفردة، يدوّي محرّكها أمام «بيت الجزيرة»، ويشعّ مصباحاها كعينيّ قطّ الرّمال بين كثبان ليلة مقمرة.
خرجت ترتدي العباءة، والبرقع الأسود مرفوعًا إلى رأسها مثل امرأة بدويّة. نزل المرافق بسلاحه. وقبل أن تركب، أخرجت من تحت عباءتها رخصة القيادة، تتحقّق من هويّتها المفبركة: سارة مبارك محمّد.
قال المرافق المسلّح لمّا استقرّت بينهما في قمرة القيادة وتحرّكوا:
«أنا بوسارة، وهذا بوسعود... أي شي تبين حنّا إخوانك».
ردّت حين بان منفذ النّويصيب:
«إذا مسكونا، قل لهم أنا أختك من أمّك، وّخّلّ الباقي عليّ!»
نظرت ناحية البحر، تراءت لها الـ «ثلاثة تضوي من بعيد». تجاوزوا المركز الحدوديّ تسلّلًا، واهتزّت السّيّارة بهم وهي تعبر وعورة صحراء الجنوب، منطلقةً تجاه أضواء الكويت * ■
* إلى أسرار القبنديّ، وجميع من قُتل أو اعتقل، في المشاتل وغيرها من معتقلات الاحتلال العراقيّ، في الكويت وخارجها. النصّ مدينٌ للسّيّدة نوريّة السّداني، مؤلّفة: «أسرار الكويت» (1992).
* عنوان القصّة والمقاطع بيْن (قوْسيْن) من قصائد فائق عبدالجليل الغنائيّة التي كتبها أثناء الاحْتلال العراقيّ، قبْل أسره في يناير 1991. دُفن عبدالجليل بالكويت في يونيو 2006، بعْد العثور على رفاته في مقْبرةٍ جماعيّةٍ للأسْرى الكويْتيّين في الصّحراء العراقيّة.