الجنون يليق بابن الهيثم

الجنون يليق بابن الهيثم

الحسن‭ ‬بن‭ ‬الهيثم‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬العلماء‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الرياضيات‭ ‬وعلوم‭ ‬الفلك،‭ ‬كان‭ ‬عالمًا‭ ‬جامعًا‭ ‬كعادة‭ ‬معظم‭ ‬العلماء‭ ‬العرب،‭ ‬ولكن‭ ‬حياته‭ ‬تعرضت‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬التقلبات،‭ ‬كان‭ ‬أخطرها‭ ‬هي‭ ‬علاقته‭ ‬بسلطان‭ ‬مصر‭ ‬الشهير‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬الفاطمي،‭ ‬كانت‭ ‬نموذجًا‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬الحاكم‭ ‬والعالم،‭ ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬المعضلة‭ ‬هي‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬نظريات‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع؟

هتف‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬مندهشًا‭: ‬يالها‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬وياله‭ ‬من‭ ‬نهر‭... ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬النيل‭ ‬يشبه‭ ‬دجلة‭ ‬ولا‭ ‬الفرات‭ ‬ولا‭ ‬أنهار‭ ‬الشام‭ ‬الصغيرة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كلها‭ ‬تملك‭ ‬قوة‭ ‬النيل‭ ‬وعنفوانه‭ ‬وهو‭ ‬يرتطم‭ ‬بجلاميد‭ ‬الصخر،‭ ‬ثم‭ ‬ينحسر‭ ‬ليكشف‭ ‬ما‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬نقوش‭ ‬فرعونية‭ ‬غامضة،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قضى‭ ‬عامًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كلفه‭ ‬الخليفة‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬بهذه‭ ‬المهمة‭ ‬المستحيلة،‭ ‬كان‭ ‬يحب‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يدعى‭ ‬أسوان‭ ‬والذي‭ ‬قالوا‭ ‬له‭ ‬إنه‭ ‬مركز‭ ‬العالم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يوجد‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬ويود‭ ‬أن‭ ‬يقضي‭ ‬فيه‭ ‬بقية‭ ‬عمره‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تغادرها‭ ‬الابتسامة،‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬الفشل‭ ‬كان‭ ‬يلاحقه،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬دافع‭ ‬ملح‭ ‬يجعله‭ ‬لا‭ ‬يستقر‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد،‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬البصرة‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬يشبع‭ ‬جوعه‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة،‭ ‬وهاجر‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬حيث‭ ‬توجد‭ ‬دار‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون،‭ ‬وهناك‭ ‬وجد‭ ‬ضالته،‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحلم‭ ‬بالتواجد‭ ‬فيه،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العلوم‭ ‬من‭ ‬اليونان‭ ‬وفارس‭ ‬والهند،‭ ‬ومترجمون‭ ‬لا‭ ‬يكفّون‭ ‬عن‭ ‬فك‭ ‬رموز‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭ ‬وشراح‭ ‬ومفسرون‭ ‬وعلماء‭ ‬في‭ ‬السمياء‭ ‬والكيمياء،‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬ويكتب‭ ‬ويكتشف‭ ‬الأخطاء‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الأولين،‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬إعادة‭ ‬كل‭ ‬العلوم‭ ‬وفق‭ ‬نسق‭ ‬عقلي‭ ‬خاص‭ ‬به،‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬ابن‭ ‬النسطوري،‭ ‬عليك‭ ‬اللعنة‭ ‬يابن‭ ‬النسطوري‭.‬

العالِم‭ ‬متهمًا

‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاء‭ ‬ولا‭ ‬كيف‭ ‬التفّ‭ ‬حوله‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأتباع‭ ‬المتحمّسين‭ ‬لدرجة‭ ‬القتل،‭ ‬وقف‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬مسجد‭ ‬بغداد‭ ‬وهو‭ ‬يرفع‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬مخطوط‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الهيئة‮»‬،‭ ‬أحد‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬ألّفها‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الفلك‭ ‬وهو‭ ‬يصيح‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬المتفلسف‭ ‬الملحد‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬أسرار‭ ‬الكون،‭ ‬وهو‭ ‬يرسم‭ ‬دوائر‭ ‬ويزعم‭ ‬أنها‭ ‬الأفلاك،‭ ‬فهل‭ ‬صعد‭ ‬وعاين،‭ ‬ولكنها‭ ‬طلاسم‭ ‬سحرية‭ ‬أو‭ ‬رجم‭ ‬بالغيب،‭ ‬إنها‭ ‬علامات‭ ‬على‭ ‬الزندقة‭ ‬والإلحاد‮»‬‭.‬

‭ ‬لم‭ ‬يفهم‭ ‬المصلون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬غير‭ ‬كلمة‭ ‬الإلحاد،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬دفعتهم‭ ‬جميعًا‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬المسجد‭ ‬ورجم‭ ‬منزل‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬بالأحجار،‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسه،‭ ‬تهمة‭ ‬جاهزة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬والخروج‭ ‬عن‭ ‬علوم‭ ‬الشرع‭. ‬انتشر‭ ‬الخبر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بغداد،‭ ‬حاصروه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬يذهب‭ ‬إليه،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يستطيع‭ ‬الخروج‭ ‬لبيت‭ ‬الحكمة‭ ‬ولا‭ ‬المسجد‭ ‬ولا‭ ‬السوق،‭ ‬بغداد‭ ‬كلها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صالحة‭ ‬للعيش،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمامه‭ ‬غير‭ ‬التسلل‭ ‬تحت‭ ‬جنح‭ ‬الظلام‭ ‬والسفر‭ ‬بعيدًا‭ ‬إلى‭ ‬الشام،‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬إلا‭ ‬عدة‭ ‬مخطوطات،‭ ‬مؤلفاته‭ ‬التي‭ ‬اتهم‭ ‬بسببها‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬التخلي‭ ‬عنها،‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬الأموي،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬جلس‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬الأعمدة‭ ‬حتى‭ ‬التف‭ ‬حوله‭ ‬الطلبة‭ ‬وراغبو‭ ‬المعرفة،‭ ‬سبقته‭ ‬شهرته،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمثال‭ ‬ابن‭ ‬النسطوري‭ ‬موجودين،‭ ‬فشعر‭ ‬ببعض‭ ‬الحرية‭ ‬وبدأ‭ ‬يلتقط‭ ‬أنفاسه،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يدم‭ ‬طويلاً‭.‬

الرحيل‭ ‬إلى‭ ‬مصر

‭ ‬في‭ ‬صباح‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬وجد‭ ‬جنود‭ ‬السلطان‭ ‬يحيطون‭ ‬بالمسجد،‭ ‬وتقدم‭ ‬منه‭ ‬رجل‭ ‬ضخم‭ ‬يرتدي‭ ‬ملابس‭ ‬فاخرة،‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬انهض‭ ‬معي،‭ ‬السلطان‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬يريد‭ ‬مقابلتك‭. ‬ظل‭ ‬ينظر‭ ‬لهم‭ ‬حائرًا،‭ ‬ماذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يريد‭ ‬من‭ ‬هارب‭ ‬مثله؟‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬بقعة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬إلا‭ ‬وعليها‭ ‬سلطان،‭ ‬وليس‭ ‬أمامه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬معهم،‭ ‬وفي‭ ‬خارج‭ ‬المسجد‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬والخيول،‭ ‬سأل‭ ‬الرجل‭: ‬أين‭ ‬سنذهب‭ ‬لمقابلة‭ ‬السلطان؟‭ ‬قال‭ ‬الرجل‭ ‬ببساطة‭: ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬طبعًا،‭ ‬سنسافر‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬الآن‭.‬

سقط‭ ‬قلبه‭ ‬في‭ ‬قدميه‭: ‬ماذا؟‭... ‬سيذهب‭ ‬بقدميه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬المرعب،‭ ‬الذي‭ ‬يستحل‭ ‬قتل‭ ‬رعاياه‭ ‬دون‭ ‬سبب،‭ ‬لقد‭ ‬أفلت‭ ‬من‭ ‬مصيدة‭ ‬ليقع‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬بلا‭ ‬مدى،‭ ‬ولكن‭ ‬الجنود‭ ‬يحيطون‭ ‬به،‭ ‬وقافلة‭ ‬تقف‭ ‬لتقوده‭ ‬عبر‭ ‬الصحراء،‭ ‬ساروا‭ ‬به‭ ‬جميعًا،‭ ‬قدموا‭ ‬له‭ ‬الطعام‭ ‬والماء‭ ‬البارد،‭ ‬أعطوه‭ ‬الحلوى‭ ‬والفاكهة‭ ‬وأسكنوه‭ ‬في‭ ‬خيمة‭ ‬فاخرة،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يشعر‭ ‬بالأمان،‭ ‬كانت‭ ‬أمنية‭ ‬عمره‭ ‬أن‭ ‬يزور‭ ‬مصر،‭ ‬أعظم‭ ‬مدائن‭ ‬الإسلام،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬السلطان،‭ ‬نام‭ ‬واستيقظ‭ ‬وصهرته‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬متاهتها،‭ ‬ولكن‭ ‬السير‭ ‬تواصل‭ ‬حتى‭ ‬تراجعت‭ ‬الرمال‭ ‬وظهرت‭ ‬الأرض‭ ‬الخضراء،‭ ‬عبروا‭ ‬النهر‭ ‬وبدت‭ ‬القاهرة‭ ‬بأسوارها‭ ‬ومساجدها‭ ‬وقصورها‭ ‬وأسبلتها‭ ‬وأسواقها،‭ ‬القاهرة‭ ‬بكل‭ ‬بهائها،‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬بعد‭ ‬بؤسها،‭ ‬لم‭ ‬يأخذوه‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬قصر‭ ‬السلطان،‭ ‬أخذوه‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬كبير‭ ‬مشيد‭ ‬بالأحجار‭ ‬ويطل‭ ‬على‭ ‬النهر،‭ ‬قال‭ ‬الرجل‭: ‬هنا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الحكمة‭ ‬سيقابلك‭ ‬السلطان‭.‬

‭ ‬تلفت‭ ‬حوله‭ ‬مندهشًا،‭ ‬تجول‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬البيت،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مكتبة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬وعدد‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬والدارسين‭ ‬وأجهزة‭ ‬كثيرة‭ ‬للقياس‭ ‬والمناظير‭ ‬ومراقبة‭ ‬النجوم‭ ‬وآلات‭ ‬للجراحة‭ ‬وهناك‭ ‬معمل‭ ‬كامل‭ ‬للكيمياء،‭ ‬كأن‭ ‬فردوسه‭ ‬المفقود‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬قد‭ ‬تبدل‭ ‬بخير‭ ‬منه،‭ ‬توقف‭ ‬لاهثًا،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬مخطئًا،‭ ‬حاكم‭ ‬يقوم‭ ‬بعمل‭ ‬هذا‭ ‬المجمع‭ ‬العلمي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سفاحًا،‭ ‬يشاهد‭ ‬خريطة‭ ‬غريبة‭ ‬للعالم‭ ‬معلقة‭ ‬على‭ ‬الحائط،‭ ‬يقترب‭ ‬ليتأملها‭ ‬ولكنه‭ ‬يجد‭ ‬شخصًا‭ ‬واقفًا‭ ‬في‭ ‬طريقه،‭ ‬شخص‭ ‬قصير‭ ‬القامة‭ ‬مكتنز‭ ‬الجسم‭ ‬لحيته‭ ‬مدببة‭ ‬وعيناه‭ ‬نافذتان،‭ ‬يتأمل‭ ‬حركته‭ ‬وعلى‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬خفيفة،‭ ‬أدرك‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬أنه‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬السلطان،‭ ‬أسرع‭ ‬بالانحناء‭ ‬أمامه،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬يده،‭ ‬ولم‭ ‬يمدها‭ ‬السلطان،‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬يسيرا‭ ‬سويًا،‭ ‬قال‭ ‬ببساطة‭: ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أقابلك‭ ‬هنا‭ ‬حتى‭ ‬ترى‭ ‬بعينيك‭ ‬مدى‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالعلماء‭.‬

‭ ‬وأوضح‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬سعادته‭ ‬بذلك،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬رحلته،‭ ‬قال‭ ‬السلطان‭: ‬مكانك‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدار،‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أستدعك‭ ‬لهذا‭ ‬السبب،‭ ‬استدار‭ ‬نحوه‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬جدية‭ ‬بالغة‭: ‬استدعيتك‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬قلته‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نزيد‭ ‬من‭ ‬الاستفادة‭ ‬منه،‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬هو‭ ‬روح‭ ‬مصر،‭ ‬ولكنه‭ ‬متقلب،‭ ‬أحيانًا‭ ‬يفيض‭ ‬فيغرق‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ويغيض‭ ‬أحيانًا‭ ‬فيجف‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬أربعة‭ ‬وعشرون‭ ‬عامًا‭ ‬وأنا‭ ‬أحكم‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬ولم‭ ‬أفهم‭ ‬سبب‭ ‬تقلبات‭ ‬هذا‭ ‬النهر،‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬السبب،‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬طريقة‭ ‬لمنع‭ ‬هذه‭ ‬التقلبات‭ ‬المميتة؟

‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭: ‬سمعت‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬العظيم‭ ‬كثيرًا،‭ ‬ولكن‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬أراه‭.‬

‭ ‬قال‭ ‬السلطان‭: ‬سأجهّز‭ ‬لك‭ ‬سفينة‭ ‬صغيرة‭ ‬فيها‭ ‬أمهر‭ ‬الصنّاع‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وستبحرون‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تراه‭ ‬مناسبًا،‭ ‬وسأمدك‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يلزمك‭ ‬من‭ ‬مواد‭.‬

الرحيل‭ ‬مع‭ ‬النهر

‭ ‬عرض‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬رفضه،‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬يفكر،‭ ‬لم‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬تتاح‭ ‬له‭ ‬الفرصة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬السلطان،‭ ‬لم‭ ‬يرتح‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً،‭ ‬أخذ‭ ‬لمحة‭ ‬سريعة‭ ‬عن‭ ‬القاهرة،‭ ‬لكن‭ ‬استعدادات‭ ‬الرحلة‭ ‬كانت‭ ‬تتم‭ ‬بسرعة،‭ ‬ويقوم‭ ‬السلطان‭ ‬بنفسه‭ ‬بالإشراف‭ ‬عليها،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬حانت‭ ‬لحظة‭ ‬الرحيل‭ ‬كان‭ ‬السلطان‭ ‬في‭ ‬وداعهم،‭ ‬مؤكد‭ ‬أن‭ ‬مشكلة‭ ‬النهر‭ ‬كانت‭ ‬تهمه،‭ ‬ومؤكد‭ ‬أيضًا‭ ‬أنه‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يريه‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬حكمه،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬رحلة‭ ‬السفينة‭ ‬سهلة،‭ ‬كان‭ ‬النهر‭ ‬غائضًا‭ ‬وكانوا‭ ‬يبحرون‭ ‬عكس‭ ‬التيار‭ ‬مدفوعين‭ ‬بقوة‭ ‬الريح،‭ ‬ولكنها‭ ‬أحيانًا‭ ‬ما‭ ‬تخذلهم‭ ‬وتكف‭ ‬عن‭ ‬الهبوب‭ ‬لأيام‭ ‬عدة،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬مخاضات‭ ‬من‭ ‬الطين‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يتجنبوها،‭ ‬ولكن‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬كان‭ ‬مبهورًا‭ ‬بالنهر‭ ‬والخضرة‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬الضفاف‭ ‬والقرى‭ ‬المتراصة‭ ‬والوجوه‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬تطل‭ ‬عليهم‭ ‬وأيديهم‭ ‬التي‭ ‬ترتفع‭ ‬بالتحية‭.‬

ورغم‭ ‬طول‭ ‬الرحلة‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يبحث‭ ‬عنه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أسوان،‭ ‬هناك‭ ‬وجد‭ ‬النقطة‭ ‬التي‭ ‬يتسع‭ ‬فيها‭ ‬النهر‭ ‬كثيرًا‭ ‬ثم‭ ‬يضيق‭ ‬ليصبح‭ ‬أشبه‭ ‬بعنق‭ ‬زجاجة‭ ‬بفعل‭ ‬جلاميد‭ ‬الصخر،‭ ‬تأمل‭ ‬المكان‭ ‬ثم‭ ‬واتته‭ ‬فكرة‭ ‬عمل‭ ‬السد‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬العنق،‭ ‬سيخزن‭ ‬خلفه‭ ‬كمية‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬حتى‭ ‬وقت‭ ‬الحاجة،‭ ‬ويمكن‭ ‬عمل‭ ‬فتحات‭ ‬يحصل‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬اللازم،‭ ‬فكرة‭ ‬جبارة‭ ‬ولكنها‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مجهود‭ ‬جبار‭ ‬أيضًا،‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬أن‭ ‬النهر‭ ‬كان‭ ‬منحسرًا،‭ ‬والأرض‭ ‬الصخرية‭ ‬ظاهرة،‭ ‬شعر‭ ‬أنه‭ ‬يسابق‭ ‬الزمن،‭ ‬أمر‭ ‬بإحضار‭ ‬الأحجار‭ ‬والأخشاب‭ ‬اللازمة،‭ ‬كان‭ ‬معه‭ ‬مندوب‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬المال،‭ ‬يدفع‭ ‬دون‭ ‬نقاش‭ ‬ثمن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه،‭ ‬قام‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬بعمل‭ ‬القياسات‭ ‬اللازمة‭ ‬واستشار‭ ‬البنائين‭ ‬الموجودين‭ ‬معه‭ ‬وجلب‭ ‬عمالًا‭ ‬من‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة،‭ ‬وبدأ‭ ‬العمل،‭ ‬بدا‭ ‬النهر‭ ‬هادئًا‭ ‬فوق‭ ‬العادة،‭ ‬مستسلمًا‭ ‬لهم،‭ ‬لم‭ ‬يلحظ‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ - ‬لقلة‭ ‬خبرته‭ ‬بالنيل‭ - ‬أن‭ ‬لون‭ ‬المياه‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬وأصبح‭ ‬أكثر‭ ‬حمرة،‭ ‬وأن‭ ‬كوكب‭ ‬الشعري‭ ‬يبدو‭ ‬لامعًا‭ ‬ومتألقًا‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬السماء،‭ ‬وأن‭ ‬هناك‭ ‬صوتًا‭ ‬كوجيب‭ ‬القلب‭ ‬يسري‭ ‬بين‭ ‬مويجات‭ ‬المياه،‭ ‬وذات‭ ‬ليلة‭ ‬نام‭ ‬واستيقظ‭ ‬ليجد‭ ‬أن‭ ‬الفيضان‭ ‬قد‭ ‬جرف‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬تغير‭ ‬هدوء‭ ‬النهر‭ ‬الخادع‭ ‬فجأة،‭ ‬وبدا‭ ‬على‭ ‬حقيقته‭ ‬جبارًا‭ ‬عاتيًا،‭ ‬جاء‭ ‬الفيضان‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬أي‭ ‬سد‭ ‬على‭ ‬الوقوف‭ ‬في‭ ‬سبيله،‭ ‬توقف‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬وقد‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬إخضاع‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬النهر‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬إمكاناته،‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬إمكانية‭ ‬كل‭ ‬البنائين‭ ‬والمعماريين،‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬بنوا‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المعابد‭ ‬والمساجد‭ ‬عجزوا‭ ‬عن‭ ‬ترويض‭ ‬هذا‭ ‬النهر،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬مندوب‭ ‬بيت‭ ‬المال‭ ‬مرعوبًا‭: ‬سيكون‭ ‬الحاكم‭ ‬رحيمًا‭ ‬معنا‭ ‬إذا‭ ‬اكتفى‭ ‬فقط‭ ‬بقتلنا‭.‬

الهروب‭ ‬والاختباء

‭ ‬شعر‭ ‬بالهزيمة،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أنفق‭ ‬الكثير‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفشل،‭ ‬وربما‭ ‬لن‭ ‬يغفر‭ ‬له‭ ‬الحاكم‭ ‬أبدًا‭ ‬أنه‭ ‬خيّب‭ ‬أمله،‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬وهو‭ ‬غريب‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬غريب،‭ ‬ظل‭ ‬صامتًا‭ ‬طوال‭ ‬الرحلة،‭ ‬وفور‭ ‬وصول‭ ‬السفينة‭ ‬تسلل‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬الآمن‭ ‬الوحيد،‭ ‬سيبقى‭ ‬مختبئًا‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬يجد‭ ‬طريقة‭ ‬للهروب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬هل‭ ‬يجازف‭ ‬الحاكم‭ ‬ويقتحم‭ ‬المسجد‭ ‬للقبض‭ ‬عليه؟‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الجواب،‭ ‬كان‭ ‬ينام‭ ‬بجانب‭ ‬أحد‭ ‬الأعمدة،‭ ‬ويأكل‭ ‬من‭ ‬خبز‭ ‬الجراية،‭ ‬ومن‭ ‬الطعام‭ ‬الذي‭ ‬يحضره‭ ‬بعض‭ ‬المحسنين،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يملك‭ ‬مالا‭ ‬ليشتري‭ ‬جوادًا‭ ‬أو‭ ‬ليلتحق‭ ‬بإحدى‭ ‬القوافل،‭ ‬ليس‭ ‬أمامه‭ ‬إلا‭ ‬الانتظار،‭ ‬ولكنه‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬فوجئ‭ ‬بالحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬وهو‭ ‬يقف‭ ‬أمامه،‭ ‬ليس‭ ‬فخمًا‭ ‬ولا‭ ‬مزينًا‭ ‬بالذهب،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬ثياب‭ ‬متواضعة،‭ ‬قال‭: ‬هل‭ ‬تعتقد‭ ‬أنك‭ ‬هكذا‭ ‬سوف‭ ‬أعجز‭ ‬عن‭ ‬القبض‭ ‬عليك؟‭ ‬قلب‭ ‬عينيه‭ ‬كأنه‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬شيئًا‭ ‬وأخذ‭ ‬يصيح‭ ‬كأنه‭ ‬يهذي‭: ‬الماء‭... ‬الماء‭... ‬الفيضان‭... ‬الفيضان‭. ‬قال‭ ‬الحاكم‭: ‬وتتظاهر‭ ‬بالجنون‭ ‬أيضًا؟‭ ‬صاح‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭: ‬الصخور،‭ ‬الصخور‭... ‬قال‭ ‬الحاكم‭: ‬لا‭ ‬يخيل‭ ‬علي‭ ‬ادعاؤك‭ ‬بالجنون،‭ ‬الحراس‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ ‬وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أستدعيهم‭ ‬بإشارة،‭ ‬ولكني‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أشوّه‭ ‬سمعة‭ ‬المسجد‭ ‬الذي‭ ‬بناه‭ ‬أجدادي،‭ ‬ولكن‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬ظل‭ ‬مصرًا‭: ‬السماء‭ ‬السماء‭... ‬الهواء‭ ‬الهواء‭... ‬قال‭ ‬الحاكم‭: ‬لا‭ ‬بأس‭... ‬داوم‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬أعظم‭ ‬علماء‭ ‬المسلمين،‭ ‬ولكنك‭ ‬منذ‭ ‬الآن‭ ‬ستعيش‭ ‬على‭ ‬خبز‭ ‬الجراية،‭ ‬وتركه‭ ‬ومضى‭. 

لم‭ ‬يعش‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬على‭ ‬خبز‭ ‬الجراية‭ ‬طويلًا،‭ ‬فقد‭ ‬تدخلت‭ ‬الأقدار‭ ‬وقتل‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله‭ ‬فوق‭ ‬صخور‭ ‬جبل‭ ‬المقطم،‭ ‬ولم‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬جثته‭ ‬أبدًا،‭ ‬ومازال‭ ‬البعض‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬فرصة‭ ‬لابن‭ ‬الهيثم‭ ‬ليغادر‭ ‬المسجد‭ ‬ويفلت‭ ‬بحياته‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬ظل‭ ‬الحاكم ■