الجنون يليق بابن الهيثم
الحسن بن الهيثم من أشهر العلماء العرب في مجال الرياضيات وعلوم الفلك، كان عالمًا جامعًا كعادة معظم العلماء العرب، ولكن حياته تعرضت للعديد من التقلبات، كان أخطرها هي علاقته بسلطان مصر الشهير الحاكم بأمر الله الفاطمي، كانت نموذجًا للصراع بين الحاكم والعالم، ماذا يريد كل منهما من الآخر، المعضلة هي كيف يمكن تحقيق نظريات العلم على أرض الواقع؟
هتف ابن الهيثم مندهشًا: يالها من بلد وياله من نهر... لم يكن النيل يشبه دجلة ولا الفرات ولا أنهار الشام الصغيرة، لم تكن كلها تملك قوة النيل وعنفوانه وهو يرتطم بجلاميد الصخر، ثم ينحسر ليكشف ما عليها من نقوش فرعونية غامضة، كان قد قضى عامًا في هذا المكان منذ أن كلفه الخليفة الحاكم بأمر الله بهذه المهمة المستحيلة، كان يحب هذا المكان الذي يدعى أسوان والذي قالوا له إنه مركز العالم دون أن يوجد دليل على ذلك، ويود أن يقضي فيه بقية عمره بين هذه الوجوه السمراء التي لا تغادرها الابتسامة، لولا أن الفشل كان يلاحقه، كان هناك دافع ملح يجعله لا يستقر في مكان واحد، نشأ في البصرة حيث لا يوجد ما يشبع جوعه إلى المعرفة، وهاجر إلى بغداد حيث توجد دار الحكمة التي أنشأها الخليفة المأمون، وهناك وجد ضالته، المكان الذي كان يحلم بالتواجد فيه، كتب في كل العلوم من اليونان وفارس والهند، ومترجمون لا يكفّون عن فك رموز اللغات الأخرى وشراح ومفسرون وعلماء في السمياء والكيمياء، وهو يقرأ ويكتب ويكتشف الأخطاء الموجودة في كتب الأولين، كان يريد إعادة كل العلوم وفق نسق عقلي خاص به، حتى جاء ابن النسطوري، عليك اللعنة يابن النسطوري.
العالِم متهمًا
لا يدري من أين جاء ولا كيف التفّ حوله كل هؤلاء الأتباع المتحمّسين لدرجة القتل، وقف الرجل في وسط مسجد بغداد وهو يرفع في يده مخطوط كتاب «الهيئة»، أحد الكتب التي ألّفها ابن الهيثم في علم الفلك وهو يصيح: «هذا المتفلسف الملحد يريد أن يشارك الله في معرفة أسرار الكون، وهو يرسم دوائر ويزعم أنها الأفلاك، فهل صعد وعاين، ولكنها طلاسم سحرية أو رجم بالغيب، إنها علامات على الزندقة والإلحاد».
لم يفهم المصلون من كل ما قيل غير كلمة الإلحاد، هي التي دفعتهم جميعًا للخروج من المسجد ورجم منزل ابن الهيثم بالأحجار، لم يعرف كيف يدافع عن نفسه، تهمة جاهزة لكل من يجرؤ على التفكير والخروج عن علوم الشرع. انتشر الخبر في كل بغداد، حاصروه في كل مكان يذهب إليه، لم يعد يستطيع الخروج لبيت الحكمة ولا المسجد ولا السوق، بغداد كلها لم تعد صالحة للعيش، لم يكن أمامه غير التسلل تحت جنح الظلام والسفر بعيدًا إلى الشام، لا يحمل إلا عدة مخطوطات، مؤلفاته التي اتهم بسببها والتي لا يستطيع التخلي عنها، لجأ إلى المسجد الأموي، ولكن ما أن جلس إلى أحد الأعمدة حتى التف حوله الطلبة وراغبو المعرفة، سبقته شهرته، ولم يكن أمثال ابن النسطوري موجودين، فشعر ببعض الحرية وبدأ يلتقط أنفاسه، لكن ذلك لم يدم طويلاً.
الرحيل إلى مصر
في صباح أحد الأيام وجد جنود السلطان يحيطون بالمسجد، وتقدم منه رجل ضخم يرتدي ملابس فاخرة، وقال له: انهض معي، السلطان الحاكم بأمر الله يريد مقابلتك. ظل ينظر لهم حائرًا، ماذا يمكن أن يريد من هارب مثله؟ لا توجد بقعة من الأرض إلا وعليها سلطان، وليس أمامه إلا أن يسير معهم، وفي خارج المسجد كان هناك المزيد من الجنود والخيول، سأل الرجل: أين سنذهب لمقابلة السلطان؟ قال الرجل ببساطة: في القاهرة طبعًا، سنسافر إلى مصر الآن.
سقط قلبه في قدميه: ماذا؟... سيذهب بقدميه إلى هذا الرجل المرعب، الذي يستحل قتل رعاياه دون سبب، لقد أفلت من مصيدة ليقع في فخ بلا مدى، ولكن الجنود يحيطون به، وقافلة تقف لتقوده عبر الصحراء، ساروا به جميعًا، قدموا له الطعام والماء البارد، أعطوه الحلوى والفاكهة وأسكنوه في خيمة فاخرة، ولكنه لم يكن يشعر بالأمان، كانت أمنية عمره أن يزور مصر، أعظم مدائن الإسلام، لكن ليس في وجود هذا السلطان، نام واستيقظ وصهرته الصحراء في متاهتها، ولكن السير تواصل حتى تراجعت الرمال وظهرت الأرض الخضراء، عبروا النهر وبدت القاهرة بأسوارها ومساجدها وقصورها وأسبلتها وأسواقها، القاهرة بكل بهائها، لم ير بعد بؤسها، لم يأخذوه مباشرة إلى قصر السلطان، أخذوه إلى مبنى كبير مشيد بالأحجار ويطل على النهر، قال الرجل: هنا في بيت الحكمة سيقابلك السلطان.
تلفت حوله مندهشًا، تجول في أنحاء البيت، كانت هناك مكتبة أكبر من الموجودة في بغداد، وعدد أكبر من العلماء والدارسين وأجهزة كثيرة للقياس والمناظير ومراقبة النجوم وآلات للجراحة وهناك معمل كامل للكيمياء، كأن فردوسه المفقود في بغداد قد تبدل بخير منه، توقف لاهثًا، ربما كان مخطئًا، حاكم يقوم بعمل هذا المجمع العلمي لا يمكن أن يكون سفاحًا، يشاهد خريطة غريبة للعالم معلقة على الحائط، يقترب ليتأملها ولكنه يجد شخصًا واقفًا في طريقه، شخص قصير القامة مكتنز الجسم لحيته مدببة وعيناه نافذتان، يتأمل حركته وعلى وجهه ابتسامة خفيفة، أدرك ابن الهيثم على الفور أنه يقف في حضرة السلطان، أسرع بالانحناء أمامه، لم يكن يريد أن يقبل يده، ولم يمدها السلطان، أشار إليه أن يسيرا سويًا، قال ببساطة: أردت أن أقابلك هنا حتى ترى بعينيك مدى اهتمامي بالعلماء.
وأوضح ابن الهيثم سعادته بذلك، كان هذا أفضل ما في رحلته، قال السلطان: مكانك الطبيعي في هذه الدار، ولكني لم أستدعك لهذا السبب، استدار نحوه وهو يقول في جدية بالغة: استدعيتك بسبب ما قلته على النيل وكيف يمكن أن نزيد من الاستفادة منه، هذا النهر هو روح مصر، ولكنه متقلب، أحيانًا يفيض فيغرق كل شيء، ويغيض أحيانًا فيجف كل شيء، أربعة وعشرون عامًا وأنا أحكم هذا البلد ولم أفهم سبب تقلبات هذا النهر، أريد أن أعرف السبب، وهل هناك طريقة لمنع هذه التقلبات المميتة؟
قال ابن الهيثم: سمعت عن هذا النهر العظيم كثيرًا، ولكن لابد أن أراه.
قال السلطان: سأجهّز لك سفينة صغيرة فيها أمهر الصنّاع في مصر، وستبحرون إلى المكان الذي تراه مناسبًا، وسأمدك بكل ما يلزمك من مواد.
الرحيل مع النهر
عرض لا يمكن رفضه، هكذا كان ابن الهيثم يفكر، لم يتصور أن تتاح له الفرصة في هذا البلد ومع هذا السلطان، لم يرتح إلا قليلاً، أخذ لمحة سريعة عن القاهرة، لكن استعدادات الرحلة كانت تتم بسرعة، ويقوم السلطان بنفسه بالإشراف عليها، وحتى عندما حانت لحظة الرحيل كان السلطان في وداعهم، مؤكد أن مشكلة النهر كانت تهمه، ومؤكد أيضًا أنه أراد أن يريه الوجه الآخر من حكمه، لم تكن رحلة السفينة سهلة، كان النهر غائضًا وكانوا يبحرون عكس التيار مدفوعين بقوة الريح، ولكنها أحيانًا ما تخذلهم وتكف عن الهبوب لأيام عدة، كانت هناك أيضًا مخاضات من الطين عليهم أن يتجنبوها، ولكن ابن الهيثم كان مبهورًا بالنهر والخضرة التي على الضفاف والقرى المتراصة والوجوه السمراء التي تطل عليهم وأيديهم التي ترتفع بالتحية.
ورغم طول الرحلة لم يجد المكان الذي يبحث عنه إلا في أسوان، هناك وجد النقطة التي يتسع فيها النهر كثيرًا ثم يضيق ليصبح أشبه بعنق زجاجة بفعل جلاميد الصخر، تأمل المكان ثم واتته فكرة عمل السد عند هذا العنق، سيخزن خلفه كمية كبيرة من الماء حتى وقت الحاجة، ويمكن عمل فتحات يحصل منها على الماء اللازم، فكرة جبارة ولكنها تحتاج إلى مجهود جبار أيضًا، من حسن الحظ أن النهر كان منحسرًا، والأرض الصخرية ظاهرة، شعر أنه يسابق الزمن، أمر بإحضار الأحجار والأخشاب اللازمة، كان معه مندوب من بيت المال، يدفع دون نقاش ثمن كل ما يحتاج إليه، قام ابن الهيثم بعمل القياسات اللازمة واستشار البنائين الموجودين معه وجلب عمالًا من القرى المجاورة، وبدأ العمل، بدا النهر هادئًا فوق العادة، مستسلمًا لهم، لم يلحظ ابن الهيثم - لقلة خبرته بالنيل - أن لون المياه قد تغير وأصبح أكثر حمرة، وأن كوكب الشعري يبدو لامعًا ومتألقًا في عرض السماء، وأن هناك صوتًا كوجيب القلب يسري بين مويجات المياه، وذات ليلة نام واستيقظ ليجد أن الفيضان قد جرف كل شيء، تغير هدوء النهر الخادع فجأة، وبدا على حقيقته جبارًا عاتيًا، جاء الفيضان حيث لا يقدر أي سد على الوقوف في سبيله، توقف ابن الهيثم وقد أدرك أن إخضاع مثل هذا النهر أكبر من إمكاناته، أكبر من إمكانية كل البنائين والمعماريين، هؤلاء الذين بنوا كل هذه المعابد والمساجد عجزوا عن ترويض هذا النهر، لم يكن هناك مفر من العودة إلى القاهرة، وقال له مندوب بيت المال مرعوبًا: سيكون الحاكم رحيمًا معنا إذا اكتفى فقط بقتلنا.
الهروب والاختباء
شعر بالهزيمة، كان قد أنفق الكثير على هذا الفشل، وربما لن يغفر له الحاكم أبدًا أنه خيّب أمله، ماذا يفعل وهو غريب في بلد غريب، ظل صامتًا طوال الرحلة، وفور وصول السفينة تسلل منها إلى الجامع الأزهر، ربما كان هذا المكان الآمن الوحيد، سيبقى مختبئًا به حتى يجد طريقة للهروب من هذا البلد، هل يجازف الحاكم ويقتحم المسجد للقبض عليه؟ لم يرد أن يعرف الجواب، كان ينام بجانب أحد الأعمدة، ويأكل من خبز الجراية، ومن الطعام الذي يحضره بعض المحسنين، ولم يكن يملك مالا ليشتري جوادًا أو ليلتحق بإحدى القوافل، ليس أمامه إلا الانتظار، ولكنه ذات يوم فوجئ بالحاكم بأمر الله وهو يقف أمامه، ليس فخمًا ولا مزينًا بالذهب، ولكن في ثياب متواضعة، قال: هل تعتقد أنك هكذا سوف أعجز عن القبض عليك؟ قلب عينيه كأنه لا يرى شيئًا وأخذ يصيح كأنه يهذي: الماء... الماء... الفيضان... الفيضان. قال الحاكم: وتتظاهر بالجنون أيضًا؟ صاح ابن الهيثم: الصخور، الصخور... قال الحاكم: لا يخيل علي ادعاؤك بالجنون، الحراس عند الباب وأستطيع أن أستدعيهم بإشارة، ولكني لا أريد أن أشوّه سمعة المسجد الذي بناه أجدادي، ولكن ابن الهيثم ظل مصرًا: السماء السماء... الهواء الهواء... قال الحاكم: لا بأس... داوم على ذلك، كان من الممكن أن تصبح أعظم علماء المسلمين، ولكنك منذ الآن ستعيش على خبز الجراية، وتركه ومضى.
لم يعش ابن الهيثم على خبز الجراية طويلًا، فقد تدخلت الأقدار وقتل الحاكم بأمر الله فوق صخور جبل المقطم، ولم يعثر على جثته أبدًا، ومازال البعض يعتقد أنه على قيد الحياة، ولكنها كانت فرصة لابن الهيثم ليغادر المسجد ويفلت بحياته بعيدًا عن ظل الحاكم ■