«الهروب من جزيرة أوستيكا»

«الهروب من جزيرة أوستيكا»

الحب محرّك الوجود، والمرأة بداية الأمل في الحياة، ونبوءة محققة لإشراقة شمس الصباح المؤجل... «الهروب من جزيرة أوستيكا» رواية الحب المستحيل، حب العربي الليبي المنفي والسجين سالم البراني، البطل الرئيس في الرواية، والإيطالية لورينزا، ليفرغا ما في جوفهما من هموم وعذابات، ويطلقا عصافير أحلامهما، وقد ضاقت بأقفاصها الصدئة... بل ويشعران أنهما فوق الأشياء قليلًا! في «الرواية»... التاريخ يتكلم بكل اللغات، وهو «المحكمة التي لا استئناف لحكمها»، كما يرى جون ديوي («الحرية والثقافة»، ص 174).

التاريخ نزيف الواقع الذي فوق الخيال، وهو يكتب ما هو أقسى في غفلة من رواته النمطيين، وخارج ذاكرتهم في معظم الأحيان... التاريخ سارد – ناصّ آخر من طراز رفيع، وحروفه يصعب على جدران الزمن محوها، حتى لو كتبت بقلم رصاص... وهو بلسان من أوراق شجر قسا عليها خريفها، وهو يترك مكانه مكرهًا للربيع، لسان لا يصمت، وإذا ما بدا للبعض صامتًا، فإن لصمته صوتًا وموسيقا صابين.
عام 1924 بداية السنوات المقيتة للاحتلال الإيطالي لليبيا البلد العربي... سنوات قاحلة أهدرت فيها أبسط حقوق الإنسان في الحياة، مع أن توماس جيفرسون يرى - وفق تنظيراته - أن «كلّ شيء متغير إلا حقوق الإنسان الذاتية فيه، والتي لا يجوز النزول عنها بحال من الأحوال»:
«لقد مضت على سالم البراني ورفاقه قبل هذا اليوم ست سنوات من السجن في منفى جزيرة أوستيكا ذات الصخور المحروقة» (ص 6).
في رواية «الهروب من جزيرة أوستيكا» (رواية صالح السنوسي – الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 2018)، يكتب الراوي/ البطل الرئيس التاريخ بأصابع مرتعشة، ورؤى متعثرة مراقبة، وهو يعيد كتابته بحروف أكثر ألمًا ومرارة وقهرًا.
سالم البراني، الراوي الأمثل والشخصية الرئيسة في الرواية، تم احتلال بلده ليبيا، وحُرم من أن يكمل حياته على شبر من تربته، وترابها من ذهب روحه. سجين من دون ذنب، سوى الانتماء لأرضه، ومنفي من دون تهمة غير حب الوطن، وحسب مالك حداد: «ليس بإمكان المنفى أن يلد سوى المرارة».
«الهروب من جزيرة أوستيكا» نزيف بوحٍ مضنٍ... وصفحات لا يقوى الزمن مهما قسا على محو حروفها، وشحوب حبرها، وهو بفوسفور الأرواح المعذبة، وهي تعيش الموت في الحياة، وتقاسي ويلات وعذابات المحتل البغيض، وانتهاك حقوق شعب أعزل، رغيفه الصلاة للوطن والحرية كإلهين، معابدهما في الروح، وسحرهما في اللامكان، وقبلتهما لا يمكن تغييرها... محتل متغطرس لا أنهار للفكر والحضارة تعرفها تربته، متكبر، مجنون في بناء صرح لسلطة زائلة لا محالة، فوق أرض لا تحمل من ملامحه المقيتة شيئًا، وهو لا أحد، وآيل للسقوط، رهان الإنسان المقاوم وهو في خطوات مسيح آخر. 
أبطال الرواية، السجناء المنفيون والمتحدثون عذابًا وظلمًا وقهرًا، وهم يجسدون في أبجدية قاسية في بلاغتها، حقيقة الحقيقة، والواقع الذي فوق الخيال، باسم شعبهم الليبي هم: سالم البراني، وخالد الكيلاني، وحامد الصافي، والحاج سليم محمود، وحسين الفضيل، والشيخ مسعود الحاج.
شهود التاريخ الذي فاقوا في بلاغاتهم رواته، وقد جمع بهم الشقاء أكثر من الفرح الذي لا يعرفون له طعمًا ولا اسمًا. كل واحد من هؤلاء السجناء المنفيين، يجسد بطريقته أساليب المحتل في الإذلال والإهانة والظلم لشعب أعزل، والمحتل بكامل غطرسته وجبروته هو المحتل! والمستعمر بكل خرائطه التوسعية الأخطبوطية هو المستعمر! وقناة هؤلاء المواطنين المنفيين قسرًا، الشعر الشعبي (المحكي) والشعر الفصيح، الوثيقة الوحيدة التي لا يصل إليها المحتل، وهي تؤرخ لنضال شعب عابد للحرية، ولجبروت وطغيان المحتل، وهو متوّج بأساليب بشاعته... الشعر قناتهم الإعلامية الممنوع بثها المباشر، وهي تجسد بحروف من ضوء أبشع صور الاحتلال من قهر وجوع ومرض وموت، والعالم ليس في قوانينه إلا صفحات صفراء، ونصوص لعدالة عرجاء.
«يوقظون العشرين سجينًا في الساعة السادسة صباحًا، ومَن يجدونه نائمًا ينال عقابه من الجلد بالسوط أو الحبس الانفرادي، مع توالي الأيام والشهور أخذت مقاومة أجسام معظمهم تسقط تحت قسوة الحياة في معتقل مصمم من أجل أن يموت فيه كل مَن يدخله، بدلًا من إصلاحه وخروجه منه حيًّا، فانتشرت بينهم أمراض السل وفقر الدم والفشل الكلوي ونقص المناعة، وازدادت حالات الوفاة» (ص 11).
وسالم البراني البطل الأمثل في سرد، بوح البوح، الراوي لمفارقات وعذابات عالم «ليس سوى متاهة، يستحيل الهرب منها»، حسب تعبير بورخيس.
وهو يجد نفسه أسير عطر نافذة كانت منسية، ومغلقة حتى أذن الله القدير بفتحها، بأصابع ملائكية، ودعاء قلب متعب، وذبذبات جسد منهك، من خلال حكاية الحكاية، وهي تفرض نفسها متحدية كل طقوس المكان والزمان، بل هي مولود في غير مكانه وغير زمنه، حكاية الأنثى التي أسَرته، وأيقظت في عيونه الهلكى حلمًا معتقلًا.
كتابة تاريخ جديد لمواطن، يجد نفسه كل يوم غيابًا ولا أحد... حكاية الحب الطارئ بين سالم البراني (الليبي السجين المنفي) ولورينزا (الإيطالية المواطنة العاملة ضمن الإداريين في سجن أوستيكا):
«ذات مساء يدخل سالم صائحًا: لقد ابتسمت لي عصر هذا اليوم... نعم لقد ابتسمت لي... كانت ابتسامتها خجلى، لكنها صافية تألقت معها عيناها الخضراوان، وازداد وجهها الطفولي براءة» (ص 20).
 في «الوقائع المفقودة من سيرة المجوس» يقول إبراهيم الكوني: «إن المخلوق إذا عشق مخلوقًا، ارتفع المعشوق، وابتعد إلى برزخ الخيال» (ص 8).
وبفقه السرد، وحكمة الرواية، وإنجيل الحياة، فإن الحبَّ/ الحرية/ الخلاص، لا يبدو خطيئة أبدًا، بل وليمة أحاسيس... إنجيل الحب الذي بدت قراءة مزاميره فاتحة أمل لعلاقات إنسانية في مكان يعاني جغرافية التصحر والذبول والموت البطيء، وسالم في خفقة قلب طرب، تتوسع علاقاته الحميمة مع العاملين في المزارع من السجناء الإيطاليين السياسيين، ينال رضاهم وإعجابهم، حيث ترتفع وتطغى لغة الحب والألفة بين الإنسان وأخيه الإنسان، من دون النظر إلى اللون والجنس والهوية والعقيدة، فقط الإنسان رأسمال الحياة، ومعبودته الحرية... وحلمه عالَم آمن.
وحسب فلسفة برتراند راسل «الحبّ حكمة»... والمعشوقة نافذة الحرية والأمل والخلاص، الأنثى/ عطر المكان، لورينزا، مَن يعبّد الطريق إلى الأمل... إلى الحياة، أمام المواطن/ اللا أحد سالم البراني، السجين المنفي عن أرضه قسرًا وظلمًا.
 
الرواية مغامرة البحث عن الحرية
والحب/ الحرية وحده الذي يزيل صدأ أقفال السجون، وظلمتها، وهو مَن يبدل لياليها الموحشة نهاراتٍ ضوؤها من كريستال، وساعاتها البطيئة العقارب صباحات بعطر ربيع لا ينفد، ويرتب أمام العاشق والمعشوق نوافذ لحياة جديدة، لا يطالها الصدأ، ولا تستقبل سوى النسمات الطازجة والعصافير والربيع والمطر.
«حينما تلتقي مشاعر الظلم والاضطهاد والظمأ مع الحنان والبراءة والاشتهاء، يتحرّر الحب من كل القيود والحدود» (ص 24).
ويعظم الحب/ الحرية/ الحياة بين سالم البراني ولورينزا، حين تعلو لغة الجسد، وتتوالى نداءاته، ويحل وقت الصلاة إلى ديونيسيوس، إله الرغبة والنشوة والعربدة، وأبجدية هذه اللغة الفاتنة المارقة هي الشهوة (أعلى سلطة في الجسد)، حسب تعبير سارتر.
«ولكن هذه المرة بعد أن سقطا فوق السرير، أخذتهما الرغبة والعاطفة، فلم يسمعا طرقات كارلا» (ص 25).
«الهروب من جزيرة أوستيكا» وسرد التاريخ الذي لا يبدو إلا صورة «السياسة الماضية»، حسب تعبير جون ديوي.
بادوليو الساعد الأيمن لموسيليني يُعَينُ واليًا على طرابلس وبرقة، وهو أعلى رتبة عسكرية في إيطاليا، فقط ليقود حربًا ضروسًا ضدّ المقاوم الليبي الشرس عمر المختار، بعد أن فشل كل المارشالات الذين يعيّنهم الفاشي موسيليني في قهر روح المقاومة لدى الليبي الذي صلاته الأرض، وتسبيحاته الوطن، وضوؤهُ الحرية... وهو يذوق ويلات الاحتلال، والعالم والكون والزمان والمكان شهود أزليون على صلاته الشرعية/ المقاومة التي لا تصير قضاء أو نفلًا، ولا يمكن تأجيلها كما الحرية، كما الأحلام، حقيقة الحقيقة التي نطق بها العربي والإيطالي الشريف، وشغلت العالم والناس أجمع، غيرت في لون البحار، وسيرت الجبال، وأوجدت للأرض تضاريس أخرى.
وقضية احتلال إيطاليا لليبيا/ الوطن، وحق شعبه في الحرية والحياة والعيش الكريم، حوّله الروائي السنوسي ببراعة السارد الجاد إلى بورتريه مثير، بألوان وخطوط مستفزة، بدت الرواية فسيفساء باهرة، وهي تجسد أيضًا التضامن الروحي/ الإنساني/ المصيري بين العربي المنفي عن أرضه وأهله، والإيطالي المقهور فوق أرضه، والمسلوب حق المواطنة:
«يقول السنيوري كابيلي: نحن وأنتم يجمع بيننا مصير واحد، فالفاشيست بعثوا بنا جميعًا إلى هذه الجزيرة ليتخلصوا منّا، ولكن ينبغي علينا أن نقاوم، وهم سينتهون قريبًا، ويتخلص منهم العرب والإيطاليون» (ص 40).

بوح ببلاغة ومجاز وتقنية المزامير
قلق سارد كل مفردة منسكبة من أعماق روحه برائحة تراب الأرض، ونسمات الوطن، والقلق «جزء لا يتجزأ من حياتنا، وبأنه أساسي في تكوين طبيعة الوجود الإنساني»، وفق تنظيرات مارتن هايدجر.
والروائي السنوسي يوظف قلقه شاهدًا... نصًّا متمردًا في قلب التاريخ، يحاكمه وهو يجعل منه مسلة تعاند في صخرها ونقوشها رعونة وصلف الأزمان.
الرهان في الرواية رابح بتسابيح الحب الذي: «في عقلي يفكر»، حسب تعبير دانتي. الضمير المستتر وتقديره الحياة، الضمير المبني على الأمل/ الحرية/ الوطن... أداة من أدوات مقاومة المحتل، لا يبتعد كثيرًا في تأثيره وقلقه عن رصاص المقاوم عمر المختار، والحب بحكمة الرواية، الرد الوحيد على زمن الطغيان والاحتلال والاستعمار... نسيج حضارة وإنسانية ونور... والاستعمار والطغيان تخلّف وجهل وظلمة... وذلك هو فقه السرد المتقن والمثير.
والمحب والعاشق الأسطوري سالم البراني والمعشوقة ساحرته لورينزا في مأمن من الحراس، وهما يحفران فوق جدران زمنهما العنيد المراوغ حكاية الحب، بل حكاياته فوق أرض أوستيكا القاحلة، وقد تعددت، وبزغت شمس المكان تحية له، وسماء الحب قد أمطرت في مزارع أوستيكا لآلئ من حكاياته، وقد أضاءت كل ركن رطب مظلم فيها، بنور من كريستال، مادام الجميع قد اختاروا الحب إكسيرًا للحياة، والسيدة الطيبة كارلا رسول الحب، بل والراعي الرسمي للعاشقين، ومملكتهم الجديدة التي فاقت كل ممالك الأرض فرحًا وحياة ورغدًا:
«لقد أصبح هو ولورينزا يقضيان وقتًا طويلًا دون خوف من الحراس، الذين لا يمرون إلا نادرًا بالقرب من المخزن الذي صار عشًا للعاشقين» (ص 45).
وحبّ البراني ولورينزا إنجيل صدق ووفاء، صفحاته بإمضاء القلب والعقل معًا، حبّ أفروديتي بامتياز، وليس «إحدى حيل غريزة التناسل»، كما تنص فلسفة شوبنهاور، بل محرر للوجود، وصانع الحياة والأمل... والعاشقان المتيمان، وفراشات الأمل والسعادة تحرس نومهما، يعيشان حلمًا آسرًا، حياة الحياة... وحرية الحرية.

رواية الحُلم المتلوّ بيقظة جارحة مؤلمة!
وليس إلا الأحلام زاد الأمل الذي لا يمكن تأخيره أو الاستغناء عنه... والجميل في كيمياء الحلم أنه «ينفلت من قبضة الرقابة»، كما يقول فرويد، وبفقه السرد فإنه شكل من أشكال التعبير الإنساني الأخرى/ أحلام اليقظة... وحلم لورينزا المهدد بمفاجآت قادمة غامضة، هو الهروب بجنينها العربي، والأب السجين المنفي، البراني، المغضوب عليه في حيرة مزمنة، والرغبة في الهروب معها مضطربة، ولم تكتمل تفاصيلها الآمنة بعدُ، لكن قرار الخلاص تتصارع فيه كائنات الحياة والموت... والهروب مع لورينزا حياة، ولا بدّ من المغامرة، فإما حياة تطيل شجرة الحب، أو موت يضيف للزمن الإنساني معنى وعمقًا، وينصب للتاريخ محكمة أخرى:
«قالت كارلا: هذا المشروع إذا نجح، فإنكما تحققان حريتكما وخلاصكما، لكن يجب أن تعلما أنه مغامرة، وقد لا تنجح، وفي هذه الحالة ستكون عواقبها خطيرة، ولا سيما بالنسبة إلى سالم، فالفاشيست مجرمون وقتلة» (ص 54).
والبراني ولورينزا يخططان معًا بجدية للهروب، تنتابهما هواجس فرح غارق بالقلق، وكارلا الباب الواسع لهذه المغامرة الشاقة العذبة، بكل ما يحيط بتفاصيلها من غموض وخطورة، و«رابطة الشعوب المضطهدة» الوسيط الموثوق به، بمعرفة كارلا ومساعدة موريتي ممثل الرابطة، ومركب الهروب الآمن الذي يتحدى أمواج البحر، وظلمة ورطوبة الموانئ الباردة هو الحب/ الضمير المستتر المبني على الأمل والفرح والحياة المؤجلين.
والعاشقان المغامران بجهود كارلا وشهادة الصديقين إدريس ورمضان يوقّعان عقدًا صوريًا لزواج شرعي، ستتم تفاصيله في مدينة درنة الليبية/ أرض الحلم، بعد نجاح مغامرة الهروب من جزيرة أوستيكا:
«أبدى الشاب أنتونيو موريتي استعداده للمشاركة في تنفيذ الفكرة التي يرى أنها تستحق المحاولة، لما تحمله من معان إنسانية وسياسية» (ص 57).
«الواقع بالنسبة إلى الروائي هو المجهول واللامرئي، هو ما رآه بمفرده، وما يبدو له أنه أول من يستطيع رصده» (ناتالي ساروت)!
و«الهروب من جزيرة أوستيكا» رواية الواقع الذي فاق في تفاصيله ومفارقاته كل فنون الخيال، والكاتب السنوسي، وفق تقنية السرد المفتون بنفسه، وضوء فوسفور حروفه، قد رصد الواقع في درجته الصفر، حسب تعبير رولان بارت.
فالحكومة الإيطالية الفاشيستية عام 1931 لا تفرّق في سياستها القمعية، وأسلوب الإرهاب والإذلال والتنكيل، بين العربي المنفي من أرضه ظلمًا وقسرًا، والإيطالي مواطنها الطامح للحرية والحياة الكريمة فوق أرضه، وقد انتزعت منه أبسط حقوقه في الحياة وحرية الفكر والحلم والتأمل:
«أولفيتي المحامي والنقابي اليساري الذي ألقى به الفاشيست مع عدد من رفاقه في سجن أوستيكا منذ سنوات، قد أصيب بمرض السل، ولم يحظ بالعلاج الكافي والعناية الصحية، فتدهورت حالته خلال شهور، ونتجت عنها مضاعفات أخرى... ترك رسالة يكشف فيها عن قراره بوضع حد لحياة الألم والمعاناة والإذلال والمهانة... كان انتحار أولفيتي صدمة كبيرة لرفاقه» (ص 71).
والفرق واضح بين أولفيتي المواطن الإيطالي الإنسان، وبين دانادوني المواطن الإيطالي الطاغي والمستبد... الأول يؤمن بأحقية الإنسان في الحياة والعيش الرغيد، بغضّ النظر عن لونه وجنسه وهويته وفكره وعقيدته، والثاني عنجهي متوحش طاغٍ، لا يرى غير نفسه وأمثاله في مرآة واقعه المهشمة. 
إن رعونة المحتلين الإيطاليين، نسل الفاشي موسيليني وأساليب حروبهم لشعب حر أعزل، تقابلها قوة الإيمان، وصلابة الروح، وصدق الانتماء للأرض والوطن، وهما يبدوان عقيدة ومعبودًا آخر:
«إن تعليمات القيادة العليا للجيش الإيطالي تقضي بقتل الأسرى والجرحى، بعد استخلاص المعلومات منهم» (ص 77).
«إن الكتابة الروائية عملية بحث دائم، وهذا البحث يسعى إلى تعرية واقع المجهول، وإلى إيجاد هذا الواقع المجهول» (ناتالي ساروت).
السجناء المنفيون الليبيون، ورغيفهم ذكريات الوطن المصادر، سكنهم الذي غادروه قسرًا، وظل حلمًا، يصعب اعتقاله أو تأجيله، يأخذ شكل النبوءة، في أبجدية شاحبة الحروف، لرسم صورة الآتي البعيد الغامض، وغيومه لا تمطر إلا حسرات وأحزانًا... والحياة وقد بدت تشكو من الحياة، والأحلام الآسرة أضحت كوابيس نهارية/ ليلية... فالعقوبات عبر قوانين يسنّها الفاشي دانادوني ضد الليبيين المنفيين، لا تنص عليها لوائح العقوبات في السجون، كالحرمان من الأكل والنوم على سبيل المثال لا الحصر:
«عندما أنزل الماجوري دانادوني عقوبة الحرمان من الأكل لمدة يوم وليلة على المنفيين العرب، كانت قد مرت بضعة أشهر على وصول السجناء الإيطاليين إلى سجن أوستيكا، وبداية العلاقة بينهم وبين المنفيين العرب» (ص 92).
وأساليب المحتل والمستعمر هي هي، وتفتقد كل شروط الإنسانية والقيم الحضارية، وتتنصل من فقه الأديان والعقائد والشرائع، فقط لتأكيد الوجود الهش الزائل لا محالة، وهو أصلًا دون وجود في قراءة فكر الإنسان المقاوم الباحث عن الحرية والخلاص، ودفاعًا عن الحياة والإنسان والوطن:
«لكن عندما اكتشفوا أن بعضنا نيام، سلطوا عليهم الإضاءة، وأيقظوهم ضربًا بالسياط، ثم ساقونا مكبلين، وكل خمسة أشخاص مربوطين في سلسلة واحدة، فإذا تعثّر وسقط الشخص الأمامي، سقط الذي يليه، وقد يدوس عليهما بقية مَن يتبعونهما، فينهال عليهم الحراس بالسياط في حلكة الظلام، دون تمييز» (ص 101).
ولأن الشخصيات في السرد الروائي: «تتمرّد باستمرار، وتفعل ما يناسبها، وليس ما يحلو للرواية»، حسب تعبير جان ديفاسا، نيام، فإن لحظات الهيام والغرام بين العربي الليبي المنفي سالم البراني والإيطالية الفاقدة حق المواطنة لورينزا قد مهدت لقرار الهروب الذي لا رجعة فيه، وهما يعيشان تفاصيله عبْر زمن ولحظات قاسية، أقلقت مضاجع هذين الحالمين الكبيرين، لكن بزوغ شمس الحرية قد قرُب إثر جرعات الأمل التي تفيض بها تقاطيع وجه كارلا البهيجة، وهي تقرب ربيع الحياة المنسي إلى هذين العاشقين، وباليرمو محطة الأمان الأخيرة:
«يفاجئها أنتونيو موريتي: يجب أن تكون لورينزا وسالم في باليرمو ظهر يوم الخميس» – (ص 112).
يكتشف حراس السجن هروب السجين الليبي سالم البراني، الذي يدفع فاتورة هذا الهروب البالغة الثمن صديقاه الحميمان إدريس التايب ورمضان الجالي، اللذان أنكرا معرفتهما بما أقدم عليه البراني، وطال دفع الثمن بقية السجناء العرب المنفيين، بكل أشكال التعذيب والحرمان من الطعام والنوم والهواء، حيث تزداد أوامر الفاشي دانادوني قسوة ورعبًا، وقد اتهموا جميعًا بعلمهم بالهروب. 
في الوقت الذي اقترب فيه الزوجان العاشقان من الحدود السويسرية، المحطة الأخيرة للخلاص والحرية، وبرعاية «منظمة الشعوب المضطهدة»، متمثلة بأنتونيو موريتي، كانت الحكومة الإيطالية الفاشيستية في سعير البحث الجاري على قدم وساق عنهما، وقد تتبعوا أثرهما في دوريات منظمة للقبض عليهما حتى الحدود السويسرية. 
كانت خطط الحكومة الفاشية جارية لإعاقة هروب الزوجين العاشقين، بإطلاق الرصاص عليهما، من قبل دورية البحث، وقد أصابا قدم البراني، ثم اخترقت رصاصة أخرى قاتلة  كتفه وقهرته، والزوجة المغدورة في زوجها ووطنها معًا في حالة إغماء بين الحياة والموت، بين الوجود المضني وعدمه... وتنتهي حياة العربي الليبي المنفي سالم البراني على يد حكومة الفاشيست، وهو المواطن/ الإنسان الباحث عن الحرية هبة الخالق العظيم لكل البشر، مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وعقائدهم، والبراني يعرف أن ثمنها باهظ، وهو حياته التي حاول أن يعيد لها الدماء في مفاصلها المعطلة، ويرتبها، ويجملها بلحظات حب لورينزا، وقد انتزعها من أنياب زمن قاس بلا ذاكرة... لم يحصل على حريته لا فوق أرضه، ولا خارجها، وهو نموذج للإنسان الذي استعبدته الحرية المعبودةـ، وكان شهيدها الأمثل، ولم يكن آخر الشهداء:
«ولم يكن بإمكان الدورية القبض عليهما، قبل عبور الحدود، بسبب بعد المسافة بينها وبينهما، ولهذا لم يكن أمام الدورية سوى التعامل معهما، فأصيب الرجل إصابة أودت بحياته، أما المرأة فلم تُصب، لكنها في حالة إغماءة» (ص 142).

الموت «حياة أخرى» بفلسفة أفلاطون
موت سالم البراني ولادة لشعبٍ آثرَ الكرامة والحرية، كمعبودين مقدسين محرابهما في اللازمان واللامكان! وللرواية حكمتها، كما يرى ميلان كونديرا.
وكان لي - ومعي القارئ المفتون بالسرد المثير والهادف - أمنيات بنجاح هروب البطل الرئيس في الرواية، سالم البراني، لا ليعيش حياة أخرى فحسب، بل ليحكي عن الموت في الحياة، وإمكانية العشق في تجميل الحياة، بل وصنع حياة الحياة... لو نجح في الهروب، عبر لعبة الكلمات أداة السرد/ الضدّ لكان القناةَ الإنسانية الباذخة والفاضحة، الجريئة البث في كل فضاءات العالم، للحديث وكشف كل ممارسات وأساليب المحتل والمستعمر الغربي الطامع والتوسعي، وهو يكره الإنسان والحرية، قدر حبه للظلم والعدالة، ويسخر من آيات النور، قدر عشقه للظلام!
حياة البراني، حتى لو على سبيل المجاز، فقط لينتصر الحب على الكراهية والظلم واللاعدالة. الحب أسمى ما يمتلك الإنسان، وهو رمز خلوده، وما يبقي على ذاكرته محصنة من صدأ النسيان... حياة البراني واقعًا وخيالًا، حلمًا وحقيقة، هي تتويج للمقاومة الشرسة المستمرة التي كان عليها أبناء شعبه، وقد اختاروها صلاة مفروضة لا تصير قضاء، وهم يضعون تعريفًا جديدًا للحرية من خلال كتاب المقاومة الذي سطروه حرفًا حرفًا، وجملة جملة، ببلاغة القوة التي لا تعرف ألفاظها الترهل والخواء. وقد ألهبت نيران براكينها كل ركن في إيطاليا الفاشستية، بل في العالم الواهن الخطى، حتى خروج آخر جندي إيطالي، لتعود ليبيا عربية حرة مسلمة، وليست شاطئًا رابعًا لإيطاليا.
الروائي الليبي الكبير د. صالح السنوسي في «الهروب من جزيرة أوستيكا» (2018) وما سبقه من أعمال روائية متميزة في الفضاء السردي العربي، بداية من «متى يفيض الوادي» (1980)، ومرورًا بـ «متى تزورنا الخيول» (1982)، و«سيرة آخر بني هلال» (1999)، و«حلق الريح» (2003)، وانتهاء بـ «يوميات زمن الحشر» (2012)، وهو يؤسس لأسلوب متميز في السرد الليبي والعربي، أسلوب كتابة الواقع المعيش، عبر تقنية «السهل الممتنع»، وكان بارعًا في رسم بورتريهات مستفزة في ألوانها وخطوطها، لا يطمح لتغيير الواقع، بل «تغيير العيون التي ترى الواقع»، حسب تعبير كازنتزاكي، وبحنكة واقتدار في عمله الأخير «الهروب من جزيرة أوستيكا» استطاع تقمص شخصية بطله الرئيس سالم البراني، عاطفة وفكرًا، فقط «ليتسنى له الدخول إلى أعماقها»، حسب بول فوكا، وقد كان له ذلك.
وتلك ميزات السرد المفتون بذاته الذي لا يكتفي بتصوير الواقع أو كشفه، بل يكون الواقع نفسه، عبر لغة سهلة، بمنزلة سكنه الدافئ، مؤثرة، جارحة، تأملية، الكلمات فيها تلد الكلمات، تسابق إيقاعها المجازي إلى الواقعي/ الإنساني.
السرد لدى السنوسي مشاهد ومواقف، عبر تقنية سينمائية، تشاهد بالعين والقلب معًا، وهو ينتقل بقارئه عبر لغة وأسلوب «السهل الممتنع» من «المكتوب» و«المنطوق» إلى «البصري» المرئي الصادم، لتبدو الرواية عملًا نثريًا خرافيًا، يُحكى ويُشاهد، وهو «مجموعة أحداث متسلسلة في الزمن»، حسب تعبير هنري كوليت ■