قصة البوظة من القصور إلى العربات
سواء كانت تسمى الجيلاتي، أو الآيس كريم، أو البوظة، أو السوربيتو، أو الشربات، فإن هذه الحلوى الباردة لطالما أنعشت الناس على مدى قرون. وعلى الرغم من أن التبريد الحديث كما نعرفه اليوم يبدو لنا ضروريًا لصناعة هذه الحلوى المجمدة،
إلا أن البوظة كانت موجودة منذ آلاف السنين، إذ كانت معروفة لدى معظم الشعوب الذين عاشوا في أنحاء العالم القديم، من الصين إلى بلاد ما بين النهرين.
في بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة كانت المشروبات الممزوجة مع الثلج تقدم للأغنياء، وقد تم العثور على ما يمكن اعتباره أول كوب للبوظة في العالم في مقبرة بمصر تعود للأسرة المصرية الثانية (2700 قبل الميلاد)، حيث وِجد كوبان من الفضة أحدهما يستخدم للثلج، والآخر يستخدم لوضع الفاكهة المطبوخة. ومنذ 4000 عام كان الصينيون يتمتعون بنوع من الشراب المجمد. بعد ذلك بقرون عدة، أي في حوالي عام 400 قبل الميلاد، عُرفت االشرباتب كحلوى شعبية في الامبراطورية الفارسية، وكانت تصنع من الكرز والسفرجل والرمان ومن ثم تبرد باستخدم الثلج. ويقال إن تسمية حلوى السوربيتو، أي الفاكهة المثلجة التي اشتهرت لاحقًا في إيطاليا، تعود إلى كلمة اشرباتب الفارسية.
تقول الروايات التاريخية إن الإسكندر الأكبر، عندما غزا الإمبراطورية الفارسية في 330 قبل الميلاد، تذوق الثلج المنكه بالعسل ورحيق الأزهار، وإن الإغريق، وبعد ذلك الرومان، اعتمدوا عادة تبريد مشروباتهم، وإنه في السنوات الأولى من الإمبراطورية الرومانية، كان من المعروف أن الإمبراطور نيرون يحب تناول عصائر الفاكهة الممزوجة بالعسل والثلج التي كانت حاضرة دائمًا على مآدبه.
أما من ناحية دور العرب في انتشار البوظة عبر التاريخ، فقد كان العرب أول من أدخلها إلى أوربا عن طريق الغزو العربي لصقلية في القرن الثامن، وذلك بعدما غزوا الإمبراطورية الفارسية وأخذوا منها المرطبات الفارسية القديمة المعروفة بالشربات. كما أدخل العرب مع البوظة قصب السكر وابتكروا طريقة جديدة لتحلية الجليد باستخدام قصب السكر مكان العسل، مما أدى إلى مزيج أخف بكثير.
غرف الثلج
لم تكن هذه الأشكال القديمة للبوظة ممكنة إلا من خلال استجلاب الجليد من المناطق الجبلية الباردة أو البحيرات أو الأنهار المجمدة. فمن تلك الأماكن كان يتم اقتطاع قطع الجليد، التي كانت تغلف بالقش وأغصان الأشجار للحد من ذوبانها، ثم تنقل إلى المناطق الحضرية، حيث كانت تحفظ في كهوف ومغارات عميقة أو في غرف خالية من الحرارة والضوء وسط عوازل طبيعية من الأعشاب والقش ونشارة الخشب. لكن استجلاب الجليد كان عملية صعبة ومعقدة، مما جعله سلعة باهظة الثمن لم يكن يستطيع شراءها إلا الأشخاص الميسورون. ففي بلاد ما بين النهرين، التي وجد فيها أقدم غرف للثلج في العالم منذ 4000 عام بجانب نهر الفرات، كان يتم إرسال أقوى العدّائين الذين كانوا يسيرون لمئات الأميال للعثورعلى الثلج والجليد المطلوب لتبريد المشروبات التي كانت تقدم في الولائم الملكية. ولاحقًا في الأندلس كان يتم جلب الجليد من جبال سييرا نيفادا في غرناطة، لتقدم المشروبات الباردة في بلاط الخلفاء، بينما في دمشق كان يتم جلبه من جبل حرمون للغاية ذاتها. أما في العصور الوسطى، فكان الثلج لايزال يُنقل من الجبال إلى الغرف المخصصة لتخزينه في جميع أنحاء أوربا، وبحلول القرن السابع عشر كان لدى العديد من القصور غرف خاصة لتخزين الجليد، إلى أن تطور الأمر في نهاية القرن الثامن عشر إلى بناء بيوت جليدية كبيرة في البلدات والمدن، وكان الباعة المتنقلون يبيعون كتلًا كبيرة من الجليد للعامة. وقد ازداد عدد هؤلاء الباعة حتى صار هناك في نابولي وحدها في عام 1807 ما لا يقل عن 43 بائعًا للجليد.
مراحل تطور البوظة
من الصعب معرفة الزمن المحدد الذي تم فيه إدخال منتجات الألبان للمشروبات الباردة، حتى أصبحت البوظة التي نعرفها اليوم. يعتقد بعض مؤرخي الطعام أن ذلك حدث لأول مرة في آسيا، خلال عهدتأسرة تانجتالصينية، حيث ذُكر صناعة مشروب يتكون من الحليب المطبوخ بالدقيق والكافور، كان يوضع في حاويات حديدية، ويدفن في الجليد، وبعد قرون عدة أعيد تقديم ذلك المشروب إلى أوربا، من قبل الرحالة ماركو بولو، في أواخر القرن الثالث عشر، مع عودته إلى إيطاليا من أسفاره في الصين. ولكن ما هو معروف أن أول طريقة استخدمت لدمج الحليب والقشدة بشكل كامل، للحصول على مركب متجمد وسلس، كانت عملية تعرف بعملية ماصة للحرارة، إذ كان الطهاة يضعون مكونات البوظة في وعاء معدني، ومن ثم يقومون بوضع ذلك الوعاء داخل دلو مملوء بالثلج والملح الصخري، حيث يعمد الملح إلى تخفيض درجة التجمد للثلج الذي يمتص الطاقة بعد ذلك من أجل الذوبان، ومن ثم يساعد الثلج على سحب الحرارة من المزيج الكريمي الذي يتصلب بعد ذلك.
وقد ظهر أول دليل على استخدام هذه التقنية في أوربا في أطروحة نشرها عام 1550 الطبيب الإسباني المقيم في روما، بلاس دي فيلافرانكا Blas de Villafranca، الذي أكّد أن هذه التقنية كانت منتشرة في جميع أنحاء إيطاليا. ومن ثم قام المفكر والكاتب الإسباني جيامباتيستا ديلا بورتا Giambattista della Porta بتقديم وصف مفصل لهذه التقنية في عمله الصادر في 1558 بعنوان االسحر الطبيعيب Magia naturalis.
في نابولي، اجتمع المناخ والثقافة لترويج السوربيتو (البوظة الإيطالية الشهيرة) أكثر من أي مكان آخر في أوربا، وفي عام 1690 صدر أول كتاب عن السوربيتو في نابولي، بعنوان: االطرق الجديدة والسريعة والسهلة لتحضير جميع أنواع السوربيتوب، ولكن مكوناته كما وصفاته، كانت تدل على أن استخدامه تم في أسرة أرستقراطية. وبعد أعوام عدة صدر كتاب االمشرف الحديثب لصاحبه أنطونيو لاتيني، الذي كان يعمل لدى نائب الملك الإسباني في نابولي الذي قدم فيه دليلًا للطهي وإدارة المنزل، ولكنه تضمن أيضًا قسمًا عن المثلجات.
وعلى الرغم من أن كل تلك الأدلة تشير إلى اقتصار تحضير السوربيتو على الطبقة الأرستقراطية، إلا أن نابولي كانت المدينة الأولى في العالم التي انتشر فيها بيع حلوى السوربيتو للعامة. فمن جهة كان يمكن للأثرياء أن يتناولوا السوربيتو في المقاهي الفاخرة، ومن جهة أخرى كانت الطبقات الدنيا تتوافد إلى الباعة المتجولين الذين انتشروا في الشوارع لاسيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وغالبًا ما كان المسافرون إلى نابولي خلال تلك الحقبة يذكرون السوربيتو في مشاهداتهم للحياة بالمدينة. ففي عام 1839، كتبت الأديبة الإيرلندية الكونتيسة مارغريت غاردينر لتقول: اإن متعة شوارع نابولي في الليل لا مثيل لها... تزدحم محلات بيع المثلجات برواد من الطبقات الراقية، بينما يتجمع حول عربات الباعة في الشوارع أشخاص من العامة متحمسون لتذوق السوربيتو وعصير الليمونب.
قصص طريفة
هناك قصص جميلة تتعلق بالبوظة واختراعها عبر التاريخ، إذ يـُـروى أن مهاجرًا سوريًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية يدعى آرنست حموي، كان يعمل ببـيـع الفطائــر فــي محلــه في مدينــة سانـت لويس الأمريكية، وخلال إقامة المعـرض الــدولي هناك عام 1904، حصل على ترخيص لبيع الزلابية، وهي كعكة رقيقة تقدم مع السكر في أطباق صغيرة. وفي الأيام الأولى لافتتاح المعرض، وعندما كان الصيف شديد الحرارة، أخذ آرنست يعبئ الزلابية الساخنة في أوراق يلفها على شكل قمع، حتى إذا بردت كان يضيف إليها ملعقة من البوظة، فما كان من هذا الابتكار إلا أن حقق نجاحًا كبيرًا، وأطلق عليه اسم اقمع كريمب المعروف اليوم بـابوري البوظةب. وهناك قصة أخرى تدور في فلك هذه الحلوى اللذيذة، تقول إنه خلال القرن السابع عشر كان الملك تشارلز الأول ملك إنجلترا يحب البوظة كثيرًا، حتى أنها كانت تتواجد بانتظام على مآدبه. وترويتالحكايات أن تشارلز الأول كان يدفع للطاهي الخاص به ما يساوي 500 جنيه إسترليني سنويًّا؛ من أجل إبقاء وصفة البوظة المفضلة لديه سرًّا عن بقية شعب إنجلترا، ولكنه عندما علم بأن ذلك الطاهي قام بإفشاء سر وصفة الآيس كريم للعامة أمر بقطع رأسه.
كما كانت البوظة هي السبب في إعطاء الجنسية الفرنسية للشيف الإيطالي بروكوبيو كوتو، الذي يُنسب إليه اختراع الجيلاتي اللذيذ الذي نعرفه اليوم عندما عمد إلى مزج المثلجات مع الحليب، والقشدة، والزبدة، والبيض، فكان الـاجيلاتيب الذي يعرف بالإيطالية بالـ اgelatoب. وعندما أسس كوتو المقهى الخاص به في باريس في عام 1686 الذي عرف بمقهى اCafé Procopeب، والذي يُعد أول وأقدم مقهى في باريس، قام بتقديم حلوى الجيلاتي هناك لأول مرة. ولما لاقت هذه الحلوى اللذيذة رواجًا كبيرًا حصل كوتو على الجنسية الفرنسية، وحصل أيضًا على ترخيص ملكي حصري صادر عن الملك لويس الرابع عشر، جعله في ذلك الوقت المنتج الوحيد لتلك الحلوى المجمدة في المملكة الفرنسية.
من جهة أخرى، هناك من كتب الشعر ليتغنى بملذاتها، إذ نجد لدى شاعر سلالة سونغ الصينية يانغ وانلي (1127-1206م) شعرًا خاصًا يصف فيه البوظة التي عرفتها الصين في تلك الفترة، فكتب يقول:
تبدو دهنية ولكن نسيجها هش
تبدو جامدة ولكنها تطفو
كما حجر الجاد تتفتت في قاع الطبق
وكما الثلج تذوب في ضوء الشمس
وهكذا هي قصة البوظة، مع بعض رواياتها الممتعة وطرق تطورها وسبل انتشارها، التي انتقلت في رحلتها المتعرجة بين التاريخ والجغرافيا من القصور إلى عربات الباعة في الشوارع، وهكذا تطورت من كونها حلوى للنخبة ورمزًا للمكانة بين الأرستقراطيين إلى طعام للعامة ومتعة يتلذّذ بها الجميع■
الآيس كريم في فرنسا