قصة البوظة من القصور إلى العربات

قصة البوظة من القصور إلى العربات

سواء‭ ‬كانت‭ ‬تسمى‭ ‬الجيلاتي،‭ ‬أو‭ ‬الآيس‭ ‬كريم،‭ ‬أو‭ ‬البوظة،‭ ‬أو‭ ‬السوربيتو،‭ ‬أو‭ ‬الشربات،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الحلوى‭ ‬الباردة‭ ‬لطالما‭ ‬أنعشت‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرون‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬التبريد‭ ‬الحديث‭ ‬كما‭ ‬نعرفه‭ ‬اليوم‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬ضروريًا‭ ‬لصناعة‭ ‬هذه‭ ‬الحلوى‭ ‬المجمدة،‭ ‬
إلا‭ ‬أن‭ ‬البوظة‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬معروفة‭ ‬لدى‭ ‬معظم‭ ‬الشعوب‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬القديم،‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭. ‬

في‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين‭ ‬ومصر‭ ‬القديمة‭ ‬كانت‭ ‬المشروبات‭ ‬الممزوجة‭ ‬مع‭ ‬الثلج‭ ‬تقدم‭ ‬للأغنياء،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬أول‭ ‬كوب‭ ‬للبوظة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬بمصر‭ ‬تعود‭ ‬للأسرة‭ ‬المصرية‭ ‬الثانية‭ (‬2700‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬وِجد‭ ‬كوبان‭ ‬من‭ ‬الفضة‭ ‬أحدهما‭ ‬يستخدم‭ ‬للثلج،‭ ‬والآخر‭ ‬يستخدم‭ ‬لوضع‭ ‬الفاكهة‭ ‬المطبوخة‭. ‬ومنذ‭ ‬4000‭ ‬عام‭ ‬كان‭ ‬الصينيون‭ ‬يتمتعون‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الشراب‭ ‬المجمد‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بقرون‭ ‬عدة،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬عام‭ ‬400‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬عُرفت‭ ‬االشرباتب‭ ‬كحلوى‭ ‬شعبية‭ ‬في‭ ‬الامبراطورية‭ ‬الفارسية،‭ ‬وكانت‭ ‬تصنع‭ ‬من‭ ‬الكرز‭ ‬والسفرجل‭ ‬والرمان‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تبرد‭ ‬باستخدم‭ ‬الثلج‭. ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬تسمية‭ ‬حلوى‭ ‬السوربيتو،‭ ‬أي‭ ‬الفاكهة‭ ‬المثلجة‭ ‬التي‭ ‬اشتهرت‭ ‬لاحقًا‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬اشرباتب‭ ‬الفارسية‭. ‬

تقول‭ ‬الروايات‭ ‬التاريخية‭ ‬إن‭ ‬الإسكندر‭ ‬الأكبر،‭ ‬عندما‭ ‬غزا‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الفارسية‭ ‬في‭ ‬330‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬تذوق‭ ‬الثلج‭ ‬المنكه‭ ‬بالعسل‭ ‬ورحيق‭ ‬الأزهار،‭ ‬وإن‭ ‬الإغريق،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬الرومان،‭ ‬اعتمدوا‭ ‬عادة‭ ‬تبريد‭ ‬مشروباتهم،‭ ‬وإنه‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬الإمبراطور‭ ‬نيرون‭ ‬يحب‭ ‬تناول‭ ‬عصائر‭ ‬الفاكهة‭ ‬الممزوجة‭ ‬بالعسل‭ ‬والثلج‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬مآدبه‭. ‬

أما‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬دور‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬البوظة‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أدخلها‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الغزو‭ ‬العربي‭ ‬لصقلية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن،‭ ‬وذلك‭ ‬بعدما‭ ‬غزوا‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الفارسية‭ ‬وأخذوا‭ ‬منها‭ ‬المرطبات‭ ‬الفارسية‭ ‬القديمة‭ ‬المعروفة‭ ‬بالشربات‭. ‬كما‭ ‬أدخل‭ ‬العرب‭ ‬مع‭ ‬البوظة‭ ‬قصب‭ ‬السكر‭ ‬وابتكروا‭ ‬طريقة‭ ‬جديدة‭ ‬لتحلية‭ ‬الجليد‭ ‬باستخدام‭ ‬قصب‭ ‬السكر‭ ‬مكان‭ ‬العسل،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬مزيج‭ ‬أخف‭ ‬بكثير‭.‬

‭ ‬

غرف‭ ‬الثلج‭ ‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬الأشكال‭ ‬القديمة‭ ‬للبوظة‭ ‬ممكنة‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استجلاب‭ ‬الجليد‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬الجبلية‭ ‬الباردة‭ ‬أو‭ ‬البحيرات‭ ‬أو‭ ‬الأنهار‭ ‬المجمدة‭. ‬فمن‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬اقتطاع‭ ‬قطع‭ ‬الجليد،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تغلف‭ ‬بالقش‭ ‬وأغصان‭ ‬الأشجار‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬ذوبانها،‭ ‬ثم‭ ‬تنقل‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬الحضرية،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تحفظ‭ ‬في‭ ‬كهوف‭ ‬ومغارات‭ ‬عميقة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الحرارة‭ ‬والضوء‭ ‬وسط‭ ‬عوازل‭ ‬طبيعية‭ ‬من‭ ‬الأعشاب‭ ‬والقش‭ ‬ونشارة‭ ‬الخشب‭. ‬لكن‭ ‬استجلاب‭ ‬الجليد‭ ‬كان‭ ‬عملية‭ ‬صعبة‭ ‬ومعقدة،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬سلعة‭ ‬باهظة‭ ‬الثمن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يستطيع‭ ‬شراءها‭ ‬إلا‭ ‬الأشخاص‭ ‬الميسورون‭. ‬ففي‭ ‬بلاد‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬النهرين،‭ ‬التي‭ ‬وجد‭ ‬فيها‭ ‬أقدم‭ ‬غرف‭ ‬للثلج‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬منذ‭ ‬4000‭ ‬عام‭ ‬بجانب‭ ‬نهر‭ ‬الفرات،‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬إرسال‭ ‬أقوى‭ ‬العدّائين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يسيرون‭ ‬لمئات‭ ‬الأميال‭ ‬للعثورعلى‭ ‬الثلج‭ ‬والجليد‭ ‬المطلوب‭ ‬لتبريد‭ ‬المشروبات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬الولائم‭ ‬الملكية‭. ‬ولاحقًا‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬جلب‭ ‬الجليد‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬سييرا‭ ‬نيفادا‭ ‬في‭ ‬غرناطة،‭ ‬لتقدم‭ ‬المشروبات‭ ‬الباردة‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬الخلفاء،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬جلبه‭ ‬من‭ ‬جبل‭ ‬حرمون‭ ‬للغاية‭ ‬ذاتها‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬فكان‭ ‬الثلج‭ ‬لايزال‭ ‬يُنقل‭ ‬من‭ ‬الجبال‭ ‬إلى‭ ‬الغرف‭ ‬المخصصة‭ ‬لتخزينه‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬أوربا،‭ ‬وبحلول‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬كان‭ ‬لدى‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القصور‭ ‬غرف‭ ‬خاصة‭ ‬لتخزين‭ ‬الجليد،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تطور‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬بيوت‭ ‬جليدية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬البلدات‭ ‬والمدن،‭ ‬وكان‭ ‬الباعة‭ ‬المتنقلون‭ ‬يبيعون‭ ‬كتلًا‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الجليد‭ ‬للعامة‭. ‬وقد‭ ‬ازداد‭ ‬عدد‭ ‬هؤلاء‭ ‬الباعة‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬نابولي‭ ‬وحدها‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1807‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬43‭ ‬بائعًا‭ ‬للجليد‭.‬

‭ ‬

مراحل‭ ‬تطور‭ ‬البوظة‭ ‬

من‭ ‬الصعب‭ ‬معرفة‭ ‬الزمن‭ ‬المحدد‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬فيه‭ ‬إدخال‭ ‬منتجات‭ ‬الألبان‭ ‬للمشروبات‭ ‬الباردة،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬البوظة‭ ‬التي‭ ‬نعرفها‭ ‬اليوم‭. ‬يعتقد‭ ‬بعض‭ ‬مؤرخي‭ ‬الطعام‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬حدث‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬آسيا،‭ ‬خلال‭ ‬عهدتأسرة‭ ‬تانجتالصينية،‭ ‬حيث‭ ‬ذُكر‭ ‬صناعة‭ ‬مشروب‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬الحليب‭ ‬المطبوخ‭ ‬بالدقيق‭ ‬والكافور،‭ ‬كان‭ ‬يوضع‭ ‬في‭ ‬حاويات‭ ‬حديدية،‭ ‬ويدفن‭ ‬في‭ ‬الجليد،‭ ‬وبعد‭ ‬قرون‭ ‬عدة‭ ‬أعيد‭ ‬تقديم‭ ‬ذلك‭ ‬المشروب‭ ‬إلى‭ ‬أوربا،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الرحالة‭ ‬ماركو‭ ‬بولو،‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬مع‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬من‭ ‬أسفاره‭ ‬في‭ ‬الصين‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬طريقة‭ ‬استخدمت‭ ‬لدمج‭ ‬الحليب‭ ‬والقشدة‭ ‬بشكل‭ ‬كامل،‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬مركب‭ ‬متجمد‭ ‬وسلس،‭ ‬كانت‭ ‬عملية‭ ‬تعرف‭ ‬بعملية‭ ‬ماصة‭ ‬للحرارة،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الطهاة‭ ‬يضعون‭ ‬مكونات‭ ‬البوظة‭ ‬في‭ ‬وعاء‭ ‬معدني،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يقومون‭ ‬بوضع‭ ‬ذلك‭ ‬الوعاء‭ ‬داخل‭ ‬دلو‭ ‬مملوء‭ ‬بالثلج‭ ‬والملح‭ ‬الصخري،‭ ‬حيث‭ ‬يعمد‭ ‬الملح‭ ‬إلى‭ ‬تخفيض‭ ‬درجة‭ ‬التجمد‭ ‬للثلج‭ ‬الذي‭ ‬يمتص‭ ‬الطاقة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الذوبان،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يساعد‭ ‬الثلج‭ ‬على‭ ‬سحب‭ ‬الحرارة‭ ‬من‭ ‬المزيج‭ ‬الكريمي‭ ‬الذي‭ ‬يتصلب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

وقد‭ ‬ظهر‭ ‬أول‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬أطروحة‭ ‬نشرها‭ ‬عام‭ ‬1550‭ ‬الطبيب‭ ‬الإسباني‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬روما،‭ ‬بلاس‭ ‬دي‭ ‬فيلافرانكا‭ ‬Blas de‭ ‬Villafranca،‭ ‬الذي‭ ‬أكّد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التقنية‭ ‬كانت‭ ‬منتشرة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬إيطاليا‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬المفكر‭ ‬والكاتب‭ ‬الإسباني‭ ‬جيامباتيستا‭ ‬ديلا‭ ‬بورتا‭ ‬Giambattista della‭ ‬Porta‭ ‬بتقديم‭ ‬وصف‭ ‬مفصل‭ ‬لهذه‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬1558‭ ‬بعنوان‭ ‬االسحر‭ ‬الطبيعيب‭ ‬Magia naturalis‭.‬

في‭ ‬نابولي،‭ ‬اجتمع‭ ‬المناخ‭ ‬والثقافة‭ ‬لترويج‭ ‬السوربيتو‭ (‬البوظة‭ ‬الإيطالية‭ ‬الشهيرة‭) ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1690‭ ‬صدر‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬السوربيتو‭ ‬في‭ ‬نابولي،‭ ‬بعنوان‭: ‬االطرق‭ ‬الجديدة‭ ‬والسريعة‭ ‬والسهلة‭ ‬لتحضير‭ ‬جميع‭ ‬أنواع‭ ‬السوربيتوب،‭ ‬ولكن‭ ‬مكوناته‭ ‬كما‭ ‬وصفاته،‭ ‬كانت‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬استخدامه‭ ‬تم‭ ‬في‭ ‬أسرة‭ ‬أرستقراطية‭. ‬وبعد‭ ‬أعوام‭ ‬عدة‭ ‬صدر‭ ‬كتاب‭ ‬االمشرف‭ ‬الحديثب‭ ‬لصاحبه‭ ‬أنطونيو‭ ‬لاتيني،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬لدى‭ ‬نائب‭ ‬الملك‭ ‬الإسباني‭ ‬في‭ ‬نابولي‭ ‬الذي‭ ‬قدم‭ ‬فيه‭ ‬دليلًا‭ ‬للطهي‭ ‬وإدارة‭ ‬المنزل،‭ ‬ولكنه‭ ‬تضمن‭ ‬أيضًا‭ ‬قسمًا‭ ‬عن‭ ‬المثلجات‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأدلة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬اقتصار‭ ‬تحضير‭ ‬السوربيتو‭ ‬على‭ ‬الطبقة‭ ‬الأرستقراطية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نابولي‭ ‬كانت‭ ‬المدينة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬انتشر‭ ‬فيها‭ ‬بيع‭ ‬حلوى‭ ‬السوربيتو‭ ‬للعامة‭. ‬فمن‭ ‬جهة‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬للأثرياء‭ ‬أن‭ ‬يتناولوا‭ ‬السوربيتو‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬الفاخرة،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬الطبقات‭ ‬الدنيا‭ ‬تتوافد‭ ‬إلى‭ ‬الباعة‭ ‬المتجولين‭ ‬الذين‭ ‬انتشروا‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬والتاسع‭ ‬عشر‭. ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬المسافرون‭ ‬إلى‭ ‬نابولي‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬يذكرون‭ ‬السوربيتو‭ ‬في‭ ‬مشاهداتهم‭ ‬للحياة‭ ‬بالمدينة‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1839،‭ ‬كتبت‭ ‬الأديبة‭ ‬الإيرلندية‭ ‬الكونتيسة‭ ‬مارغريت‭ ‬غاردينر‭ ‬لتقول‭: ‬اإن‭ ‬متعة‭ ‬شوارع‭ ‬نابولي‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬لها‭... ‬تزدحم‭ ‬محلات‭ ‬بيع‭ ‬المثلجات‭ ‬برواد‭ ‬من‭ ‬الطبقات‭ ‬الراقية،‭ ‬بينما‭ ‬يتجمع‭ ‬حول‭ ‬عربات‭ ‬الباعة‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬أشخاص‭ ‬من‭ ‬العامة‭ ‬متحمسون‭ ‬لتذوق‭ ‬السوربيتو‭ ‬وعصير‭ ‬الليمونب‭.‬

‭ ‬

قصص‭ ‬طريفة‭ ‬

‭ ‬هناك‭ ‬قصص‭ ‬جميلة‭ ‬تتعلق‭ ‬بالبوظة‭ ‬واختراعها‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬إذ‭ ‬يـُـروى‭ ‬أن‭ ‬مهاجرًا‭ ‬سوريًا‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬يدعى‭ ‬آرنست‭ ‬حموي،‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬ببـيـع‭ ‬الفطائــر‭ ‬فــي‭ ‬محلــه‭ ‬في‭ ‬مدينــة‭ ‬سانـت‭ ‬لويس‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وخلال‭ ‬إقامة‭ ‬المعـرض‭ ‬الــدولي‭ ‬هناك‭ ‬عام‭ ‬1904،‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬ترخيص‭ ‬لبيع‭ ‬الزلابية،‭ ‬وهي‭ ‬كعكة‭ ‬رقيقة‭ ‬تقدم‭ ‬مع‭ ‬السكر‭ ‬في‭ ‬أطباق‭ ‬صغيرة‭. ‬وفي‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬لافتتاح‭ ‬المعرض،‭ ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬الصيف‭ ‬شديد‭ ‬الحرارة،‭ ‬أخذ‭ ‬آرنست‭ ‬يعبئ‭ ‬الزلابية‭ ‬الساخنة‭ ‬في‭ ‬أوراق‭ ‬يلفها‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قمع،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬بردت‭ ‬كان‭ ‬يضيف‭ ‬إليها‭ ‬ملعقة‭ ‬من‭ ‬البوظة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الابتكار‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬حقق‭ ‬نجاحًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬وأطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬اقمع‭ ‬كريمب‭ ‬المعروف‭ ‬اليوم‭ ‬بـابوري‭ ‬البوظةب‭. ‬وهناك‭ ‬قصة‭ ‬أخرى‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬هذه‭ ‬الحلوى‭ ‬اللذيذة،‭ ‬تقول‭ ‬إنه‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬كان‭ ‬الملك‭ ‬تشارلز‭ ‬الأول‭ ‬ملك‭ ‬إنجلترا‭ ‬يحب‭ ‬البوظة‭ ‬كثيرًا،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تتواجد‭ ‬بانتظام‭ ‬على‭ ‬مآدبه‭. ‬وترويتالحكايات‭ ‬أن‭ ‬تشارلز‭ ‬الأول‭ ‬كان‭ ‬يدفع‭ ‬للطاهي‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬ما‭ ‬يساوي‭ ‬500‭ ‬جنيه‭ ‬إسترليني‭ ‬سنويًّا؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إبقاء‭ ‬وصفة‭ ‬البوظة‭ ‬المفضلة‭ ‬لديه‭ ‬سرًّا‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬شعب‭ ‬إنجلترا،‭ ‬ولكنه‭ ‬عندما‭ ‬علم‭ ‬بأن‭ ‬ذلك‭ ‬الطاهي‭ ‬قام‭ ‬بإفشاء‭ ‬سر‭ ‬وصفة‭ ‬الآيس‭ ‬كريم‭ ‬للعامة‭ ‬أمر‭ ‬بقطع‭ ‬رأسه‭. ‬

كما‭ ‬كانت‭ ‬البوظة‭ ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية‭ ‬للشيف‭ ‬الإيطالي‭ ‬بروكوبيو‭ ‬كوتو،‭ ‬الذي‭ ‬يُنسب‭ ‬إليه‭ ‬اختراع‭ ‬الجيلاتي‭ ‬اللذيذ‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬اليوم‭ ‬عندما‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬مزج‭ ‬المثلجات‭ ‬مع‭ ‬الحليب،‭ ‬والقشدة،‭ ‬والزبدة،‭ ‬والبيض،‭ ‬فكان‭ ‬الـاجيلاتيب‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬بالإيطالية‭ ‬بالـ‭ ‬اgelatoب‭. ‬وعندما‭ ‬أسس‭ ‬كوتو‭ ‬المقهى‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1686‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬بمقهى‭ ‬اCafé‭ ‬Procopeب،‭ ‬والذي‭ ‬يُعد‭ ‬أول‭ ‬وأقدم‭ ‬مقهى‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬قام‭ ‬بتقديم‭ ‬حلوى‭ ‬الجيلاتي‭ ‬هناك‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭. ‬ولما‭ ‬لاقت‭ ‬هذه‭ ‬الحلوى‭ ‬اللذيذة‭ ‬رواجًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬حصل‭ ‬كوتو‭ ‬على‭ ‬الجنسية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وحصل‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬ترخيص‭ ‬ملكي‭ ‬حصري‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬الملك‭ ‬لويس‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬جعله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬المنتج‭ ‬الوحيد‭ ‬لتلك‭ ‬الحلوى‭ ‬المجمدة‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬الفرنسية‭.‬

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬الشعر‭ ‬ليتغنى‭ ‬بملذاتها،‭ ‬إذ‭ ‬نجد‭ ‬لدى‭ ‬شاعر‭ ‬سلالة‭ ‬سونغ‭ ‬الصينية‭ ‬يانغ‭ ‬وانلي‭ (‬1127-1206م‭) ‬شعرًا‭ ‬خاصًا‭ ‬يصف‭ ‬فيه‭ ‬البوظة‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬فكتب‭ ‬يقول‭:‬

تبدو‭ ‬دهنية‭ ‬ولكن‭ ‬نسيجها‭ ‬هش‭ ‬

تبدو‭ ‬جامدة‭ ‬ولكنها‭ ‬تطفو

كما‭ ‬حجر‭ ‬الجاد‭ ‬تتفتت‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬الطبق

وكما‭ ‬الثلج‭ ‬تذوب‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الشمس

وهكذا‭ ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬البوظة،‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬رواياتها‭ ‬الممتعة‭ ‬وطرق‭ ‬تطورها‭ ‬وسبل‭ ‬انتشارها،‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬في‭ ‬رحلتها‭ ‬المتعرجة‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬من‭ ‬القصور‭ ‬إلى‭ ‬عربات‭ ‬الباعة‭ ‬في‭ ‬الشوارع،‭ ‬وهكذا‭ ‬تطورت‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬حلوى‭ ‬للنخبة‭ ‬ورمزًا‭ ‬للمكانة‭ ‬بين‭ ‬الأرستقراطيين‭ ‬إلى‭ ‬طعام‭ ‬للعامة‭ ‬ومتعة‭ ‬يتلذّذ‭ ‬بها‭ ‬الجميع‭■‬

‬الآيس‭ ‬كريم‭ ‬في‭ ‬فرنسا